2020/06/30

سيناريوهات نجاح "استراتيجية التجويع" في لبنان


تزداد الأزمة الاقتصادية في لبنان حدّة، وتزداد بالتوازي حدّة السجالات السياسية الداخلية والتوترات الأمنية التي تشي بوجود نار تحت الرماد، يخشى أن ينفجر في أي وقت من الأوقات.

ولا يخفى على أي مراقب أن هناك من يدفع الأمور دفعًا نحو التوتر بهدف استدراج مشاكل أمنية داخلية أو تكرار سيناريو 7 أيار لجرّ حزب الله الى الشارع أو دفعه الى استخدام قوته في الداخل، وما إغلاق طريق الجنوب يوم الجمعة الماضي لمدة سبع ساعات، ورشق سيارات المارة بالحجارة والكرّ والفرّ مع الجيش اللبناني سوى نموذج عن محاولات بعض الأطراف لإشعال فتنة مذهبية في لبنان.

وفي خضّم سياسات التصعيد المتبادل، يمكن القول أن سياسة "الضغوط القصوى" التي تمارسها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على لبنان والتي قضت على الستاتيكو السابق (القائم على تقاسم نفوذ أميركي - إيراني واقعي) تبدو سياسة محفوفة بالمخاطر العالية يمكن أن تؤدي الى أحد السيناريوهات التالية:

1- السيناريو الأول: أن تنجح الاستراتيجية تلك في دفع لبنان الى تقديم التنازلات التي حددها مساعد وزير الخارجية الأميركي شينكر ووزير الخارجية الأميركي بومبيو في تصريحاتهما، منها القبول بالتصور الأميركي لترسيم الحدود البحرية بين لبنان و "اسرائيل"، والسير بقانون "قيصر" والمساهمة في الضغط على سوريا وحكومة بدون حزب الله، وغيرها... وهو أمر صعب التحقق، فالشروط تعجيزية ولن يقبل أي مسؤول لبناني التخلي عن الغاز في المتوسط لاسرائيل، والمساهمة في حصار سوريا تعني حصار لبنان، ولن يقبل حزب الله بحكومة من دونه خاصة وأنها شرط أميركي معلن..

2- السيناريو الثاني: فشل تلك الاستراتيجية:

إن الضغط على لبنان للوصول الى حدّ تجويع اللبنانيين وانهيار الوضع الاقتصادي اللبناني ما سيدفع اللبنانيين ومعهم اللاجئين السوريين والفلسطينيين الى مستويات أدنى من خط الفقر بكثير، وهذا قد يؤدي الى انفلات الوضع الأمني  نتيجة خسارة الاستقرار الاقتصادي والأمن الغذائي والاجتماعي.

وهنا تكون الخشية من أن يقوم الاميركيين بالتسبب بانهيار لبنان ثم ينفضون يدهم منه ويتركونه لمصيره كما جرت العادة في حالات ممثالة في بلدان أخرى.

هذا الوضع سيسبب أزمات كبرى، قد تدفع الامور الى وضع لا تستطيع معه السلطات اللبنانية إيقاف الراغبين بالهجرة الى أوروبا، أو سيدفع الأمور الى فتنة داخلية (يتم التحريض عليها) سيضطر معها حزب الله الى النزول الى الشارع (كما أعلن أمينه العام) وعندها سيتغير ميزان القوى لغير صالح الأميركيين والخليجيين وحلفائهم في لبنان.

كما سيرتد سلبًا على النفوذ الخليجي في لبنان، في ظل إعلان السعوديين عدم اهتمامهم بلبنان وأنه أصبح في آخر سلم أولوياتهم، الأمر الذي سيدفع قوى إقليمية أخرى لسدّ هذا الفراغ الذي سيتركه انسحاب الخليجيين من الساحة لصالح كل من تركيا وايران. واليوم، نشهد دخولاً تركيًا قويًا الى الساحة السنية في العديد من المناطق اللبنانية، وهذا النفود سوف يأتي على حساب النفوذ السعودي التقليدي في تلك الساحات.

هذه الضغوط القصوى الأميركية ومنع "العالم" من مساعدة لبنان إذا لم تتحقق الشروط الأميركية (كما أعلن بومبيو) سيؤدي لدخول كل من روسيا والصين على خط المواجهة، وبالتالي قد لا يجد اللبناني مفرًا من التوجه شرقًا حين لا يكون أمامه سوى الجوع أو الشرق. وحينها تكون السياسة الأميركية نفسها هي التي أدخلت شركاء دوليين لها الى لبنان.

3- السيناريو الثالث: التسوية

أن تصل الأمور الى نقطة ما قبل الانفجار، فتحصل تسوية ما تعيد خلط الأوراق وتعيد ترتيب الأوراق الاقليمية وخريطة النفوذ في لبنان. العقدة هنا أن من يمتلك رفاهية الوقت والصبر يربح، ومن ليس لديه القدرة الكافية للصمود وللاستمرار في سياسة عضّ الأصابع، سيكون الخاسر الأكبر في هذا السيناريو.

2020/06/29

لماذا تستعجل "اسرائيل" التنقيب عن الغاز قرب حدود لبنان؟

في ظل التصاعد المتزايد للأزمة الاقتصادية اللبنانية، والتصعيد الأمني والسياسي والدبلوماسي الذي يطغى على الساحة اللبنانية، برز خبر جديد أمس عن قرار الحكومة "الاسرائيلية" بمنح تراخيص التنقيب عن الغاز في البلوك الذي يحاذي البلوك 9 اللبناني، والذي يمكن أن يشكّل مادة جديدة لتفجير الأوضاع في المنطقة في حال تمّ بالفعل الاعتداء على السيادة اللبنانية وسرقة الغاز اللبناني.

وقد أوردت وسائل الاعلام أن وزير الطاقة "الاسرائيلي"  وقّع قرار فتح المناقصة في البلون "ألون د" محددًا المهلة القصوى لتلقي العروض في الخامس من آب2020 ، وفضّ العروض وإعلان الفائز في 23 آب، وتقدم الكفالات في مهلة قصوى في 23 أيلول ليبدأ العمل في 26 تشرين الأول في الموقع المذكور.

فما الهدف من قيام اسرائيل بهذه الخطوة، ولما الاستعجال في ظل انهيار اسعار النفط العالمي؟

بداية، يجب القول أن الحديث عن ضرورة فتح جبهة للقتال على الحدود لحماية الغاز اللبناني أو أن اسرائيل تدفع الأمور الى حرب يبدو مستبعدًا، بدليل الموقع الذي حددته "اسرائيل" للتنقيب في البحر الفلسطيني المحتل هو محازِ للحدود اللبنانية ولا يدخل ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان المتنازع عليها، والتي يريد الاسرائيلي أن يقرصنها بمساعدة من الأميركيين.

لذلك، لا يبدو واضحًا أي رغبة "اسرائيلية" بحرب حاليًا،  أولاً لأن أن "الاسرائيلي" يدرك أن إعلانه عن التنقيب في أراضٍ متنازع عليها لن يشجع الشركات على التقدم للمناقصة. وثانيًا، لأن التوتر العسكري قد يكون في مصلحة محور المقاومة في وقت تتعرض فيه كل من سوريا ولبنان وإيران لضغوط اقتصادية قصوى.
وعليه، وبما أن الحرب مستبعدة حاليًا، وإنطلاقًا من كل الاحتمالات الواردة والتي تدفع الاسرائيلي للترخيص بالتنقيب عن الغاز في محيط محاذٍ للبنان، يمكن القول ان الموضوع قد يرتبط بأمرين:

الاول: زيادة الضغط على لبنان في ظل أزمة اقتصادية خانقة للقبول بالجلوس الى طاولة المفاوضات، وتطبيق "التصور" الأميركي الذي تحدث عنه مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر. وهنا من المهم لفت النظر الى أن الاستعجال الأميركي والضغوط الحثيثة يمكن أن تكون مرتبطة بالوعود التي كان قد أعطاها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لنتنياهو بحلّ هذه القضية قبل انتهاء ولايته.
كان واضحًا من حديث شينكر الأسبوع الماضي، اعتباره أن الكرة في ملعب لبنان، وربط بين حلّ الأزمة المالية التي يواجهها لبنان، والتنقيب عن الغاز في البلوكين رقم 9 و10، واعتبر ان موافقة لبنان على "التصور" الأميركي لحلّ القضية يمكّن اللبنانيين من الاستفادة من الغاز في المتوسط ويمكّنه من حلّ أزمته الاقتصادية.
والتصور الأميركي الذي يتحدث عنه شينكر هو ما يسمى بترسيم الحدود البحرية بحسب "خط هوف". هذا الخط هو عبارة عن تسوية اقترحها الموفد الأميركي فيدريك هوف، المكلّف بوساطة لحلّ النزاع الحدودي البحري بين الجانبين عام 2012، والذي اكتشف أن "اسرائيل" تحاول أن تقرصن الغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة في الجنوب اللبناني، فاقترح "تسوية" تقضي بإعطاء "اسرائيل" 40 بالمئة من البلوك اللبناني رقم 9 (310 كلم2)، وأن يحصل لبنان على 60 % (860 كلم2). الأكيد أن الجانب اللبناني رفض الأمر وأصرّ على الاستحصال على كامل حقوقه في نفطه ومياهه.


الثاني: زيادة الضغوط الخارجية على لبنان تزامنًا مع الضغوط الداخلية التي تتجلى بارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة، وأزمة الرغيف، والتوترات الأمنية والسياسية وإقفال الطرق وإشغال القوى الأمنية وإنهاكها، والدفع نحو فتنة مذهبية سنية شيعية الخ... ويبدو أن الهدف من هذه الضغوط هو ما أعلن عنه شينكر في مقابلته الاعلامية، وما حدده وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بأن الأميركيين و"العالم" مستعد لمساعدة لبنان اقتصاديًا بشرط قيام حكومة "غير مرتهنة لحزب الله"، وبشرط " إصلاح حقيقي وتغيير حقيقي وابتعاد جوهري عن حزب الله كسلطة حاكمة داخل لبنان".
في المحصلة، كل ما يبدو من الصورة الاجمالية في المحيط الاقليمي اليوم، أن اسرائيل دخلت طرفًا في استراتيجية ممارسة "الضغوط القصوى" التي تعتمدها إدارة الرئيس ترامب في المنطقة، والهدف دفع لبنان لتقديم تنازلات سواءً في ملف ترسيم الحدود البحرية الذي يجب أن ينتهي قبل نهاية ولاية ترامب (تمامًا كما ضمّ الضفة)، والسير بمشروع "قيصر" لحصار سوريا، أو تعديل ميزان القوى السياسي اللبناني، بإخراج حزب الله من الحكومة والمجيء بحكومة "أميركية الهوى" توافق على ما سبق.

2020/06/23

هل يستفيد لبنان من السياسة الهجومة الصينية؟


في خطابه الأخير، دعا السيد حسن نصرالله اللبنانيين الى مواجهة العقوبات الأميركية التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية على لبنان، عبر تنويع خياراتهم الاقتصادية والتوجه نحو كل الدول الصديقة التي يمكن أن تساعد لبنان، عبر اعتماد العملات المحلية أو عبر خيار التبادلية، أو سواها من الخيارات، كما دعا الى التعاون مع الصين وايران وسواها.

وبالرغم من ردّ السفارة الصينية الترحيبي عبر بيان رسمي، وإعلانها اهتمام الشركات الصينية بحث " فرص التعاون في البنية التحتية والمجالات الأخرى في لبنان"، إلا أن العديد من السياسيين والصحفيين اللبنانيين شككوا بالموضوع معتبرين أن الصين لن تدخل في اشتباك مع الولايات المتحدة من أجل لبنان، وهو ما تثبت الوقائع عدم صحته.
بالمبدأ، وقبل جائحة كورونا، كانت الصين دائمًا تعتمد في سياساتها الخارجية على براغماتية شديدة مستمدة من وزير خارجية الصين الشيوعي الأول "تشو إن لاي" الذي دعا إلى تكوين أكبر عدد ممكن من الأصدقاء للبلاد وتجنب صنع الأعداء.  ولقد استُكملت هذه السياسة خلال عهد "الاصلاح" أي فترة "دنغ شياو بينغ" والتي تختصر بعبارته "تحفيز وقتنا ورعاية قوتنا" أي القيام بما يجعل الصين تحافظ على مكانة دولية منخفضة من أجل التركيز على النمو الاقتصادي.

وبالفعل، ومنذ أعلن الصينيون عن مبادرة طريق الحرير الجديد، اعتمدوا في مقارباتهم الاستثمارية الخارجية في البلدان الأخرى، على معايير ثلاث: دراسة الجدوى، الاستقرار الأمني، والاستقرار السياسي الذي يسمح باستثمارات طويلة الأجل بدون أن يظهر معارضون  سياسيون في الدولة ويعيدون النظر بالاتفاقيات الجارية.
وعلى هذا الأساس، رُسمت خرائط طريق الحرير مرارًا وتنوعت وتبدلت بحسب المعايير الثلاث الآنفة الذكر.  وبالفعل، حاول الصينيون تجنّب استفزاز الولايات المتحدة  وتحدّيها بشكل صارخ، وحاذروا الدخول الى الساحات التي اعتبروا ان "الأميركيين مستعدين للقتال" فيها.

لكن، وبسبب أهمية الصراع الدائر مع الولايات المتحدة وتأثيره على قدرة الصين على كسب الوقت لزيادة قوتها الاقتصادية، قامت الصين - في السنوات السابقة- بمساعدة الاقتصادين الروسي والايراني.
ففي العام 2014، وبعد إعلان الاميركيين والاوروبيين العقوبات على روسيا بسبب ضمّها للقرم، أعلنت الصين عن استثمارات هائلة في قطاع النفط الروسي والبنى التحتية تصل الى مئات مليارات الدولارات. وفي العام 2019، وبعد أزمة كبرى عاناها الاقتصاد الايراني نتيجة العقوبات التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد خروجه من الاتفاق النووي الايراني، تمّ الاعلان عن أن الصين تعتزم استثمار 280 مليار دولار في قطاعات النفط والغاز والبتروكيماويات الإيرانية، وهي القطاعات الأكثر تضررًا جراء العقوبات الأميركية.

ومع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب حربًا اقتصادية على الصين، وقيامه بتحميل الصين المسؤولية الكاملة عن انتشار فيروس كورونا، وحديثه عن تحميلها المسؤولية وفرض عقوبات بمثابة تعويضات، وانتشار مشاعر "الصينوفوبيا" في الولايات المتحدة بنتيجة التحريض والشعبوية.... كان لا بد للصينيين من الخروج من دائرة " الدبلوماسية المنخفضة" والهروب من المشاكل الى المواجهة المباشرة.

وهكذا، بدأت الحروب الكلامية والبيانات التصعيدية من الدبلوماسيين الصينيين بعد تعليمات أصدرها الرئيس شي جين بينغ في مذكرة الى الدبلوماسيين دعا فيها إلى إظهار المزيد من "الروح القتالية". كما تخلى الصينيون عن الصبر الذي استخدموه في التعامل مع الاحتجاجات في هونغ كونغ، فأعلنوا عن مشروع القانون الأمني الجديد الذي "يشمل إنشاء مكتب جديد للأمن القومي خاص بهونغ كونغ لجمع معلومات المخابرات والتعامل مع الجرائم التي تمس الأمن القومي" والذي أثار حفيظة كل من الولايات المتحدة والغرب.

وهكذا، فرضت الظروف الدولية المستجدة على الصينيين تبديل الآليات التي يستخدمونها في سياساتهم الخارحية، وهي تنطلق من شعار الزعيم المؤسس ماو تسي تونغ "لن نهاجِم ما لم نهاجَم.. لكن إذا تعرضنا لهجوم، فسنقوم بالتأكيد بهجوم ساحق". وعليه، على اللبنانيين التحلي بالشجاعة، وعدم الاتكال على طرف واحد لمساعدة لبنان، بل تنويع خياراتهم والاستفادة من أي ظرف مؤاتٍ سواء كان رغبة صينية في المساعدة، أو إحراج يعانيه ترامب في الداخل أو سواها.          

2020/06/22

سيناريوهات الحرب... الاحتمالات والنتائج


في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها لبنان، تسري أخبار يومية في وسائل الاعلام وعلى مواقع التواصل تتحدث عن خيارات سيئة وسيناريوهات كارثية، منها الحروب (حرب داخلية، حرب اسرائيلية) ومنها ما هو أسوأ (حرب شاملة في المنطقة).

وفي تحليل لكل سيناريو من السيناريوهات، يمكننا التعليق بما يلي:

- الحرب الداخلية:

سرت في الأسابيع الماضية، الكثير من التهويلات والأحاديث وانتشرت فيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي تستعير مفردات الحرب الأهلية، وتحرّض اللبنانيين على بعضهم البعض، دفعًا لحرب أهلية!.

والحقيقة أن جزءًا من أسباب هذه الحملة، قد يكون كلام السيد حسن نصرالله في مقابلته مع الاعلامية بثينة علّيق حين لمّح بأن "فوبيا" حزب الله هي الحرب الأهلية، وبأن الحزب مستعد للتراجع في معركة مكافحة الفساد وغيرها إذا ما كان الثمن هو الحرب الداخلية.

ويمكن أن يكون هذا الأمر شكّل عاملاً مشجعًا للبعض في الداخل والخارج للتهويل بالحرب الأهلية طمعًا بمكاسب أو تنازلات من هنا وهناك.

لهذا السبب، استدرك السيد نصرالله الأمر في خطابه الأخير، معتبرًا أن الثنائي الشيعي مستعد للنزول الى الشارع في حال كان هناك تهديد بفتنة أو تعكير للسلم الأهلي. وقد يكون هذا الحديث معطوف على حديث له في بداية انتفاضة 17 تشرين، حين أعتبر أن القرار بالنزول الى الشارع ليس سهلاً، وأنهم حين ينزلون لن يخرجوا من الشارع إلا وقد حققوا الأهداف التي نزلوا من أجلها.

وعليه، وبعد هذا الكلام الذي يتضمن تهديدًا وتوضيحًا في آن، سنشهد تراجعًا كبيرًا في الحديث عن الحرب الأهلية، وسيتراجع مؤشر التحريض المذهبي والطائفي الذي يعيد اللبنانيين الى ذكريات الحرب الأهلية التي لم تكن لتحصل بالأساس.

- الحرب الاسرائيلية على لبنان التي يتحدث البعض أنها محتملة وقريبة، علمًا ان الاسرائيليين محرجين في التعامل مع ضمّ الضفة الغربية التي تدفع إليها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وحيث هاجمت الصحف الاسرائيلين السفير الأميركي في "اسرائيل" الذي يضغط لحصول الضمّ رغمًا عن إرادة معظم الاسرائيليين (30 بالمئة فقط يؤيدون الضم) معتبرة أنه يريد أن ينصّب نفسه رئيس وزراء ثالث (إضافة الى نتنياهو وبيني غانتس).

بالأساس، تعاني اسرائيل من صعوبات داخلية من جرّاء جائحة كورونا، ومن الخلافات السياسية التي فرضت إعادة الانتخابات لأكثر من مرة. هذا بالإضافة الى أن دروس وعبر حرب تموز (تقرير فينوغراد) بالاضافة الى إمتلاك حزب الله لصواريخ دقيقة، واكتسابه خبرة عملية في حروب المدن والحروب الهجينة من جرّاء انخراطه في الحرب السورية... كلها تجعل من المغامرة الاسرائيلية بالحرب على لبنان غير مضمونة النتائج، وبالتالي أقرب الى الجنون والتهور.

- ويبقى سيناريو الحرب الشاملة في المنطقة والتي يعتقد البعض أنها باتت حاجة لمحور المقاومة بعدما وصلت الضغوط الأميركية الى حد الإفقار والتجويع لكل من لبنان وسوريا والعراق وإيران.

عادة، قد يكون من مصلحة المأزوم أن يدفع الأمور الى التوتر وذلك أملاً بتخفيف الحصار والضغوط القصوى التي تُمارس عليه. ولكن، من المتعارف عليه أيضًا، أن كل ّ طرف يحاول أن يجرّ الخصم الى اللعب في ملعبه، أو يقوم بدفع الامور الى وضع يمتلك فيه الأدوات الأقوى. ومن هذا المنطق، قامت إدارة الرئيس الأميركي باستعمال الضغوط الاقتصادية والعقوبات باعتبارها السلاح الأفعل والأقوى التي تملكه الولايات المتحدة ويجعلها تضغط على أعدائها بأقل الخسائر (نسبيًا).

منطقيًا، في حال أرادت قوى المقاومة أن تستخدم السيناريو الحربي لدفع خيار الجوع، فإن من مصلحتها استخدام الحرب بالوكالة، واستنزاف القوى المعادية في معركة يتقنونها ويملكون فيها الأدوات اللازمة. لذا فإن القرار بالتصعيد العسكري لتخفيف الضغوط الاقتصادية(إذا أتُخذ) لن يكون الى حدّ الوصول الى التسبب بحرب شاملة لن تفيد "المحور" ولن يكون له اليد الأعلى فيها، بل تكون بضربات موجهة وبأماكن موجعة للخصم لا تؤدي الى تدحرج الأمور الى ظرف لا يمكن السيطرة على نتائجه.

وهكذا، يمكن القول أن السيناريوهات العسكرية الآنفة لا تبدو متوفرة لمن يريدها أو يدفع إليها. علمًا أنه لا يبدو أن هناك انفراجًا سريعًا في الأزمة الاقتصادية التي تضرب منطقة المشرق بأكمله، والتي تحتاج الى صبر وإرادة صمود، لتمر هذه الأزمة كما مرت سابقاتها.

2020/06/16

ضم الضفة الغربية: أين أصوات مسيحيي المشرق؟


كشفت القناة العبرية الـ “12” عن وثيقة سريّة جرى بحثها من قبل أجهزة الأمن الاسرائيلية، حول كيفية التعاطي مع استعدادات ضم أجزاء من الضفة الغربية الذي من المقرر أن يقوم به نتنياهو في الأول من شهر تموز/ يوليو المقبل.
وبالرغم من التحذيرات المتعددة من خطورة القيام بعملية الضم، إلا أنه من المرجح أن يقوم نتنياهو بهذه الخطوة لأسباب عدّة أهمها:
أولاً، لأن الأصوات العربية والدولية المعارضة عاجزة عن اتخاذ أي موقف مؤثر أو موجع للاسرائيليين، خاصة بعد تجربة إعلان القدس عاصمة لإسرائيل.
ثانيًا: الضوء الأخضر الذي يتلقاه نتنياهو من إدارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب، لذا هو يخشى أن يفقد هذا الدعم المفتوح لقضم الأراضي في حال خسر ترامب  الانتخابات في تشرين الثاني / نوفمبر المقبل.
ثالثًا: استعجال ترامب على أن يقوم نتنياهو بالضم وتوسيع الأراضي الإسرائيلية قبل موعد الانتخابات الأميركية، وذلك لكي "يبيع" هذه القضية الى الكنائس الانجيلية الأميركية مقابل أصوات إنتخابية، وذلك لإيمان هؤلاء بأن قيام اسرائيل الكبرى سيسهم في عودة المسيح مرة ثانية.
وهنا، ولأن الموضوع يأخذ أحيانًا عنوانًا مسيحيًا غربيًا داعمًا لما تقوم به اسرائيل في حق الفلسطينيين وفي القدس، لا بد من إعادة توجيه شاملة لمسيحيي المشرق لرفع الصوت، وهم الذين كانوا السباقين في لفت النظر الى قضية فلسطين وأهمية الحفاظ على القدس والتصدي لمؤامرة تهويدها.
وبالرغم من كل ما حصل خلال الحرب الأهلية اللبنانية، من تعامل بعض المسيحيين مع اسرائيل، لا شكّ أنه من المفيد التذكير بالمواقف المسيحية المشرّفة حيال القضية ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ميشال شيحا الذي دافع عن القضية الفلسطينية من منطلق الدفاع عن لبنان، واعتبر أن "اسرائيل هي "سوبر دولة" تدعمها قوى عالمية كبرى، ولا يمكن أن تكون الا دولة توسعية، وان نموّها سيتم على حساب جيرانها، مؤكدًا أن الصراع بين اسرائيل والعرب، وفي مقدمهم لبنان، هو صراع وجود وحدود معًا.
ويمكن أن نضيف الدبلوماسي اللبناني شارل مالك، الذي اعتبر عام 1949 أن مرحلة إعلان "دولة اسرائيل"  هي توطئة للمرحلة التكميلية التالية التي تهدف الى استعمار واستعباد العالم العربي".
نذكر هذين المثالين، بالرغم من وجود العديد من الوجوه المسيحية المدنية والدينية البارزة الرافضة للإحتلال، لنقول إنه -حتى-  أعتى عتاة دعاة "القومية اللبنانية" والانتماء المسيحي أدركوا مبكرًا خطورة المشروع التوسعي الاسرائيلي على المنطقة برمتها، وعلى لبنان بشكل خاص.
وعليه، بات من المنطقي أن يهبّ المسيحيين - كتابًا ومفكرين وسياسيين- للدفاع عن فلسطين وعن القدس في مواجهة أساطير توراتية غربية، تكرّس النظرة الصهيونية لفلسطين وتباركها.
لا يمكن لمسحيي المشرق الوقوف مكتوفي الأيدي تجاه ما يروّج من ذرائع ومبررات لتهويد القدس وإنهاء القضية الفلسطينية. وهذا يتطلب اقتناعًا لدى المسيحيين المشرقيين بإن الضعف ليس سمة دائمة وليس هو موروث جيني، وإنما القوة تكتسب اكتسابًا عندما يتوافر مشروع فكري مقاوم وتتوافر الدوافع الأولى للتحريك، وعندها يدركون أن القوة نسبية واحتمالية وعناصرها تختلف من جهة لأخرى وبين واقع وآخر، وهم يملكون هذه القوة.

2020/06/15

لبنان... الفقر وخطوط الانتحار المذهبية

كما كان متوقعًا، عادت الاحتجاجات والتظاهرات الى الشارع اللبناني بعد غياب قسري للمتظاهرين بسبب جائحة كورونا. نقول متوقعًا، لأن الأسباب التي دفعت الناس الى الشارع ما زالت هي نفسها، ولأن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ما انفكت تضغط على اللبنانيين، حتى باتت في شهر حزيران 2020 أسوأ مما كانت عليه في تشرين الاول 2019 حين بدء الاحتجاجات.
ويمكن القول أن هناك مركَزَي قوى ما زال مستمرًا بمعركة "كسر عظم" حتى لو أدى الأمر الى إحراق لبنان برمته، وهما:
- الأول: حزب المصارف، وعلى رأسه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والذي تبين انه كان وراء المضاربة بالعملة والذي أوصل الأمور الى ما وصلت اليه من انهيار دراماتيكي أواخر الأسبوع المقبل... وكان النائب حسن فضل الله قد كشف أن التحقيقات التي أجريت أظهرت "أنه من آب ٢٠١٩ هناك من يعمل على سحب الدولارات بكميات ضخمة من السوق وإرسالها إلى خارج الأراضي اللبنانية... وأن اعترافات الموقوفين لدى القضاء أكدت أنه منذ آب ٢٠١٩ لغاية أيار ٢٠٢٠ حصل الجمع والتهريب، وكانوا يأخذون من البنك المركزي كميات من الليرات اللبنانية، وتجميعها كان يصبّ في مصرف سوسيتيه جنرال، إلى أن استُدعي المدير في المصرف كريم خوري إلى التحقيق" وأضاف إن "الليرة اللبنانية كانت تخرج من المصرف المركزي إلى مصارف عدة، منها مصرف سوسيتيه جنرال ومصارف أخرى. المصرف يعطي المال اللبناني لشبكة من الصرافين، ما أدى إلى تراكم الشح بالدولار، وفي 20 أيار استدعي المشتبه فيهم، وفي 21 أيار أفرج عنهم"!.
ووقد اتهم فضل الله السفارة الأميركية في منع شحن الدولار الى لبنان، لكن لم يقل لنا النائب فضل الله مَن مارس الضغوط على القضاء للإفراج عنهم؟ وإذا كان من المتعذر على النيابة العامة المالية أن تستمر بالتحقيق وتوقيف المتورطين، لماذا لم تقم السلطة السياسية بالضغط على هؤلاء للتعهد بالتوقف عن المضاربة بالعملة مقابل الافراج عنهم؟.
- الطرف الثاني هو الطبقة السياسية التي استمرت تنهب اللبنانيين منذ 30 عامًا، والتي تبدو مستعدة للاندفاع الى حرب أهلية إذا شعرت بأن سلطتها على المحك.
لقد عاش اللبنانيون خلال الاسبوعين الماضيين كل مظاهر الحرب الأهلية وعادت بهم الذاكرة الى عشية 1975، حين تقاذفت الطبقة السياسية التهم، واستجلبت التدخلات الخارجية للحفاظ على مصالحها الضيقة تحت عنوان "الحفاظ على الطائفة والوجود".
وهكذا، عادت المتاريس المذهبية؛ وبات أمام اللبناني - المهدد بلقمة عيشه والذي ينحدر بسرعة الى ما تحت خط الفقر- أن يختار على أي خط مذهبي يريد أن ينتحر ويسفك دمه ودم أولاده؛ فهناك عنوان "الاقتتال السنّي السنّي" الذي ينخرط فيه الأخوين الحريري (سعد- بهاء) والوزير السابق أشرف ريفي الذي يحاول أن يستجلب الدعم التركي مقابل نفوذ تاريخي تقليدي للخليجيين في تلك البيئة. وهناك عنوان "الصراع السنّي الشيعي"، الذي يتم تغذيته تحت عنوان "استباحة بيروت التي عمّرها رفيق الحريري"، وهناك عنوان " الاقتتال المسيحي الاسلامي" والذي يتم تحفيزه في مناطق خطوط التماس السابقة، ويشترك فيه أمراء الحرب والميليشيات المسيحية، تحت عنوان "نزع سلاح حزب الله"، والتسلح لـ"حماية مناطقنا".
النتيجة، يبدو أن لبنان مصاب بلعنة أبدية لن ينجو منها؛ طبقة سياسية عفنة بلا قلب ولا ضمير، كرّست نفسها بعد الطائف "دولة عميقة" تعيث فسادًا وإفسادًا، ومستعدة لإحراق الهيكل وتدميره على من فيه حماية لمصالحها وتكديسًا لثرواتها.

2020/06/09

حركة السود وفضائح التاريخ المزيف


لقد أضاءت حركات الاحتجاج ضد العنصرية في الولايات المتحدة الأميركية على الكثير من التاريخ المسكوت عنه في الغرب، والتي تبدأ بالعنصرية في أميركا وتمتد الى القضاء على السكان الأصليين، لتصل الى تزوير وتجميل سيرة القادة الغربيين وخاصة قادة الحربين العالميتين الاولى والثانية.

عادةً ما تركّز الكتب التاريخية حول الحرب العالمية الثانية، على المجازر التي قام بها هتلر، وعلى تاريخ ستالين "الدموي"، على السياسات الفاشية لموسوليني وغيرهم... وبينما تتحدث بتعظيم عن القادة الغربيين، وتشير "بحيادية" الى ما قام به الأميركيون من رمي لقنابل ذريّة على اليابان وقتل الملايين، وكأنها خبر حربي عادي.

ولا شكّ أن معظم طلاب العلاقات الدولية، ودراسي التاريخ والقانون الدولي، يعرفون الرئيس الأميركي ويدرو ويلسون، والمبادئ 14 التي أعلنها عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى.

كان ويلسون صاحب نظرية "حق الشعوب في تقرير مصيرها" ونادى بحق الأقليات والشعوب التي كانت تحت الاستعمار، لحكم نفسها ولتقرير مصيرها بنفسها.

وفي الخطاب الذي ألقاه ويلسون أمام الكونغرس الأميركي في 8 كانون الثاني / يناير 1918، تحدث ويلسون بمثالية مفرطة عما اعتبره أسبابًا للحرب، فدعا الى إلغاء المعاهدات السرية، والحدّ من التسلّح، وتحجيم المطالبات الاستعمارية لصالح الشعوب الأصلية، وإزالة الحواجز الاقتصادية بين الدول، وحق تقرير المصير للأقليات،  بالإضافة الى إقامة منظمة عالمية تضمن الاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية للدول الكبيرة والصغيرة على حد سواء.

لقد ألهم هذا الخطاب، أصحاب الطروحات المثالية في العلاقات الدولية، لكن ما لم تكتبه كتب التاريخ هو أن ويلسون نفسه هو من أكثر الرؤساء الأميركيين عنصرية ضد السود داخل بلاده.

كانت العنصرية متجذرة في فكر ويلسون القادم من الجنوب، ففي كتبه الأكاديمية التي كتبها قبل وصوله الى البيت الابيض، تعاطف ويلسون ع حركة "ك ك ك" العنصرية، وتحدث عن "القضية المفقودة"، معيدًا توصيف الحرب الأهلية بأن "الولايات الجنوبية لم تكن انفصالية يحكمها متعصبون بيض (كما يتمّ الترويج له)، بل هم مجموعة من المزارعين كانوا يحاولون الحفاظ على أسلوب حياة زراعي لائق بوجه الصناعيين في الشمال".

وبوصول ويلسون الى البيت الأبيض وإدارته التي احتوت الكثير من الجنوبيين العنصريين، حُرم السود من كثير من الانجازات التي حققوها سابقًا، ومنها التوظيف الحكومي، وبدءًا بالعام 1914، أخذت الحكومة الفيدرالية تطلب صورة مرفقة مع طلب التوظيف لإستثناء السود.

لقد كرّس ويلسون - الرئيس الفصل العنصري بين البيض والسود داخل المؤسسات الفيدرالية، وطرد 15 من 17 موظفًا أسود في المؤسسات الفيدرالية واستبدلهم برجال بيض.

وامتدت عنصرية ويلسون الى السياسة الخارجية، فنقض العرف الأميركي السائد بتعيين سفراء من البشرة السوداء الى كل من هايتي وجمهورية الدومينكان، كما أسقط - في مؤتمر فرساي عام 1919 - مشروع قرار ياباني للدعوة الى اتفاقية دولية لتكريس مبدأ "المساواة العرقية".

ودافع ويلسون عن الفصل العنصري الذي طبقته إدارته، بطرد الوفد الذي تقدم له بعريضة وشكوى ضد سياسة الفصل، والذي ترأسه زعيم حملة الحقوق المدنية وليم تروتر، معتبرًا (ويلسون) أن "الفصل ليس إهانة ولكنه فائدة، ويجب أن تنظر إليه كذلك".

إذًا، لقد أظهرت الحقائق إن ويلسون ملهم المثالية الليبرالية في العالم، هو مجرد حاكم عنصري آخر داخل الولايات المتحدة الأميركية!.. وبالفعل، تحفل كتب التاريخ والعلاقات الدولية بالكثير من قصص الحروب والقادة، والتي كتبت بمعظمها من قبل المنتصرين في تلك الحروب.

وهكذا، يصح القول دائمًا، بأن المنتصر يكتب التاريخ، ويسنّ القانون، ويقيم المحاكمات للمهزومين، ويدّعي التفوق الأخلاقي.

2020/06/08

من يتحمل مسؤولية عودة خطوط التماس؟


نهاية الأسبوع المنصرم، عاش اللبنانيون فصلاً جديدًا من فصول الحرب الأهلية، وعادت التوترات الأمنية الى الشوارع في مشهد ينبئ بأن الحرب بات على قاب قوسين أو أدنى، وأن كل الترقيعات الكلامية السابقة، والحديث عن دروس وعبر، كان مجرد شعارات إنشائية فارغة، وأن الحرب لم تنتهِ في النفوس ولا في عقول السياسيين، وأن أدوات القتل والانتحار الجماعي جاهزة للإستخدام كل يوم.

لقد أفشلت الفتنة المتنقلة التي أطلت برأسها يوم السبت، كل رومانسية "الثورة" وصيحات التغيير في الساحات، علمًا أن المدّعين بأن ما حصل مفاجأة، وغير محضّر مسبقًا، إنما يكذبون على أنفسهم بالدرجة الأولى، وعلى الناس بالدرجة الثانية.

قبل أسبوع من تظاهرة 6 حزيران، انتشرت على مجموعات الواتساب وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، فيديوهات تحريضية تعود الى زمن الحرب الأهلية، وتمّ تعبئة "الشوارع" المذهبية كافة (بدون استثناء)، فمن حماية الطائفة، الى حماية السلاح، الى حماية الأشرفية... تمت تعبئة شباب متحمس بأن "الآخر" قادم للقتال، وبات عليكم الاستعداد للدفاع عن النفس.

الجميع يتحمل المسؤولية بالتأكيد، كل مَن شارك في التحريض والتعبئة والتحشيد، واستقدام الغوغاء بهدف إثارة الفتنة والقيام بأعمال التخريب... لكن، بالدرجة الأولى، تتحمل الطبقة السياسية المسؤولية الأولى والأخيرة عن كل ما حصل وسيحصل في المستقبل، علمًا أن السبت  -بالمناسبة- هو مجرد "بروفة"، لما يجب أن يعتاد عليه اللبنانيون.

تتحدث بعض مجموعات "الثورة" أن الدعوة المشبوهة الى نزع سلاح حزب الله والى انتخابات مبكرة، هي من أفشلت عودة الحياة الى حراك 17 تشرين، وهي التي حوّلت الثورة الى فتنة متنقلة تجوب بين أزقّة الفقر في العاصمة.

وفي هذا الإطار، يهمنا أن ندرج بعض الملاحظات:

أولاً؛ إن الداعين الى نزع سلاح حزب الله، يدركون أن هذا الأمر يحتاج الى أكثر من اعتراض أو مظاهرة، بل يحتاج الى استراتيجية دفاعية يتوافق عليها اللبنانيون، وتؤدي الى حماية لبنان من التهديدات الاسرائيلية، فما الهدف من طرحه؛ هل هو الضغط على الحزب، أو تقديم أوراق اعتماد للسفيرة الأميركية، أو الاثنين معًا؟.

ثانيًا؛ يدرك الجميع أن الثورات في العالم أجمع، لم تنجح إلا بعدما طرحت عناوين عريضة يتوافق عليها جميع المعارضين للسلطة، وتنتفي معها الاختلافات الحزبية، فهل كان الداعون الى هذه المظاهرات تحت تلك العناوين يريدون ضرب السلطة فعليًا أو تقويض الثورة وإنهائها؟.

ثالثًا؛ هل يمكننا أن نفكر - ولو للحظة- أن حديث السيد نصرالله في مقابلته الأخيرة مع الاعلامية بثينة عليق، الذي اعطى الإنطباع بأن "هاجس حزب الله منع الحرب الأهلية والتقسيم وأن هذا الأمر يعتبر أولوية للحزب تتقدم على أولوية معركة مكافحة الفساد"، قد دفع البعض الى الاعتقاد ان التهديد بالحرب وبالفتنة المذهبية، قد يؤدي الى تنازلات سياسية يقدمها الحزب في موضوع الفساد أو في مواضيع سياسية أخرى!!  هل يمكن الاعتقاد، بأن الفاسدين والطامحين الى الرئاسة الذين يريدون تقديم أوراق اعتماد للأميركيين، قد أعطيوا بعد حديث السيد نصرالله، ورقة هامّة يلوحون بها ويستخدمونها للابتزاز عنوانها "الحرب الأهلية التي تخشونها"!!

في النتيجة، لقد صحّ كلام السيد موسى الصدر بالفعل، حين وصف الطبقة السياسية اللبنانية بأنها "بلا قلب، ...وليس لديها مشكلة أن تذهب الى حرب أهلية لتحمي امتيازاتها" كما نقل عنه السيد نصرالله في مقابلته الأخيرة. بالفعل، لقد رأينا يوم السبت المنصرم، حقيقة تلك الطبقة، التي عبثت بأمن اللبنانيين واستقرارهم، لإرسال رسائل سياسية واستدراج الخارج، وكأن لا جوع يضرب لبنان ولا أزمة اقتصادية، ولا من يحزنون.

2020/06/03

هل يستطيع ترامب النجاة؟


طغت التظاهرات الأميركية على المشهد العالمي، وغطت على أخبار كورونا وأعداد الاصابات والوفيات حول العالم عامة، وفي الولايات المتحدة خاصة التي ضربها الوباء بشكل أكبر من باقي العالم.

وفي خضّم الأحداث المتطورة دراماتيكيًا، تتجه الأنظار مع كل حدث أو أزمة في الولايات المتحدة لقياس قدرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على استغلال الأحداث لمصلحته وبالتالي التجديد لولاية ثانية، ومن أبرزها:

1- وباء كورونا والأزمة الاقتصادية التي ضربت الاقتصاد الأميركي والمرشحة للتفاقم، وارتفاع أعداد العاطلين عن العمل، وقيام الاعلام بتحميل الرئيس مسؤولية ارتفاع الاصابات بالوباء، واتهامه بعدم القدرة على التعامل بشكل جيد مع الوباء.

وفي هذا الإطار، تتضارب الآراء حول قدرة الديمقراطيين على هزيمة ترامب استنادًا الى هذه الأسباب فقط، في ظل قدرته على الهجوم المضاد وتحميل الصين المسؤولية، وتمسك الجمهوريين بالرئيس وتماسك قاعدته الانتخابية مقابل مرشح ديمقراطي ضعيف نوعًا ما.

وفي مراجعة تاريخية لتأثير انتشار الاوبئة على الانتخابات الأميركية، نجد أن الأوبئة يمكن ان يتم استثمارها في الانتخابات، ففي ربيع 1918 ضرب وباء الانفلونزا الولايات المتحدة، ثم أتت موجة ثانية في تشرين الاول / أكتوبر  من العام نفسه، الأمر الذي أرخى بظلاله على انتخابات التجديد النصفي للكونغرس بمجلسيه.

كان إقبال الناخبين ضعيفًا جدًا بسبب الخوف من الانفلونزا. وأتت النتيجة مفاجئة إذ سيطر الجمهوريون على المجلسين، وكانت المرة الأولى التي يسيطر فيها الجمهوريون على كل من مجلس النواب ومجلس الشيوخ منذ عام 1908.

2- المظاهرات التي تعمّ أرجاء البلاد، ردًا على قيام شرطي أميركي بقتل رجل أسود. وبغض النظر عن الاتهامات التي يسوقها الديمقراطيون والجمهوريون لأطراف خارجية بالتدخل لإثارة النزاعات، وبالرغم من محاولة جميع الأطراف إدانة قتل جورج فلويد، إلا أنه من الواضح أن ترامب يحاول أن يستفيد من مشاهد السرقة والحرق وأعمال النهب والدمار، لإبراز نفسه كبطل "القانون والنظام"، وهو ما عكسه في إحدى تغريداته بعد أيام على بدء المظاهرات (يوم الاثنين).

فعليًا، يحاول ترامب أن يكرر تجربة نجاح المرشح الجمهوري ريشارد نيكسون عام 1968. في تلك السنة، تحدث نيكسون عن "الأغلبية الصامتة"، وسوّق نفسه منقذًا للبلاد بعد أن زادت الجريمة، وانتشرت المظاهرات وأعمال الشغب، وازداد الانقسام المجتمعي بسبب حرب فيتنام، وحملة مارتن لوثر كينغ للحقوق المدنية... وفي خضم كل تلك الأزمات، استطاع نيكسون أن يحقق انتصارًا على الديمقراطيين.

تتباين تقديرات الخبراء الأميركيين حول قدرة ترامب على الاستفادة من المظاهرات العارمة وأعمال الشغب المرافقة لها لإعادة انتخابه، ولكن تجدر الملاحظة أن إطلاق نيسكون جملته الشهيرة كانت في معرض انتقاد المسؤولين، ولم يكن هو نفسه رئيسًا.

من المتوافق عليه في السياسة، أنه من الأسهل على المعارضين اتهام السلطة بالتقصير وعدم فعل ما يلزم لكبح الجريمة وحفظ الأمن والنظام، ولكن ترامب - وبالرغم من محاولته اتهام حكام الولايات الديمقراطيين بالتقصير- إلا أنه كرئيس للولايات المتحدة فهو مسؤول عن الأحداث والتطورات (السلبية والايجابية) التي تحصل في عهده.

في المحصلة، يبدو - لغاية الآن- أنه من المبكر الحكم على قدرة ترامب على التجديد في ظل التداعيات السلبية لكورونا وما تلاها، وفي ظل تمسك قاعدته الانتخابية به لأسباب عاطفية وغرائزية وشعبوية. ويبقى بلا شكّ، أن العالم أجمع ينظر باهتمام بالغ الى الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، وكأنها أمر خاص تتأثر به كل دولة في الكرة الأرضية.

2020/06/01

لبنان... بناء الدولة بدون استعارات الحرب


في موقف مستغرب ولافت، عاد بعض الإطراف في لبنان الى الحديث عن التقسيم والفيدرالية، واستعارة مفردات الحرب الأهلية، وارتفع سعار الحديث المذهبي والطائفي، وعاد التهويل بالحرب الأهلية في مفارقة غير مفهومة وغير طبيعية.

وفي تحليل هذا الوضع، نجد أن هذا التحريض وطفو استعارات الحرب وشعاراتها، قد يكون نابع من أحد أمرين:

- أن يكون الفاسدون والمفسدون وناهبو المال العام قد أرادوا التعمية عن مكافحة الفساد، والانتقال من الدفاع الى الهجوم، فتمّ تحويل القضية الوطنية حول بناء الدولة وسيادة القانون، الى استعارة مفردات الحرب، والتهديد بالتقسيم، والادعاء بـ "عدم قدرة العيش مع الآخر" ، وبأن "مناطق معينة" تدفع الضرائب بينما الباقون خارج القانون وسواها...

- أن يكون الأمر، مجرد نوع من "الضغط والابتزاز" من قبل بعض الأطراف السياسية، لأطراف أخرى لتحقيق مكاسب سياسية، أو لدفعها على الموافقة على بعض الأمور التي لم تكن لتوافق عليها إلا من خلال التهويل بالحرب الأهلية أو ممارسة الضغط المذهبي والطائفي.

وبغض النظر عن الأسباب التي أعادت تلك المفردات الى الواجهة، لا شكّ أنها تدفع الى التشاؤم بقدرة اللبنانيين على بناء دولة مستفيدين من تجارب مرّة وصعبة خاضوها ومن المفترض أن تعلموا منها الكثير.

وفي هذا الإطار، ولكي لا ننجر لما يريده الفاسدون أو سواهم من المحرّضين على استرجاع مفردات الحرب وقذارتها، لا بد لنا أن نعيد النقاش الى جوهره، وهو ضرورة "بناء الدولة" في لبنان، أي بناء "الدولة المدنية" التي يعيش أبناؤها متمتعين بالحقوق والواجبات بدون تمييز بينهم.

تاريخيًا، بدأت مشكلة اللبنانيين الحقيقية، حين بدأ تشكيل الوعي اللبناني على فكرة "الحماية الاجنبية" للطوائف، والتي قامت على فكرة التدخل في شؤون الدولة العثمانية أو ما سمي "الرجل المريض". ثم باتت أكثر حدّة حين تمّ تطوير عقيدة سياسية "ملبننة" تقول بأن الديمقراطية في لبنان لا يمكن أن تكون ديمقراطية مبنية على حرية الفرد، بل على المساواة السياسية بين الطوائف، على أن تكون الدولة مجرّد حَكَم في صراع الطوائف فيما بينها، وهو في النتيجة والواقع العملي  “صراع الدول الحامية لتلك الطوائف”.

وهكذا، تمّ تغييب دور الدولة على مرّ السنين، وتمّ وضع اليد على مقدّراتها، من أجل توظيفها  ضمن دائرة المصالح الفئويّة والشخصيّة والمحسوبية، وباتت الطائفة هي "المعبر الوحيد" المتوفر للمواطن لممارسة حقوقه، والحصول على التوظيف والتعليم وغيرها وصولاً الى الخيار السياسي.

وعليه، لا يمكن للبنان الخروج من هذا النفق المظلم، وهذه الدوامة من عدم الاستقرار واستجلاب التدخلات الخارجية، إلا بإعادة مفهوم الدولة الى أصله، وهي التعبير عن إرادة اللبنانيين الحرّة في عقد اجتماعي يرتضونه وينظّم الاختلافات بينهم.

والحلّ يكون من خلال بدء مسيرة التأسيس لدولة مدنية، توفّر الحماية الاجتماعية والأمن للأفراد، وتمكّنهم من ممارسة حرياتهم وحقوقهم، وتكرّس قيم المساواة بينهم بدون تمييز على أساس الدين أو الطائفة أو الجنس الخ.

هذه الدولة المنشودة، تستمد مشروعيتها من "حكم القانون" الذي يعني تطبيق القانون على جميع أفراد المجتمع - حكام ومحكومين- دون تمييزٍ أو استثناء.

قد يكون الطريق طويلاً، ولكن لا شيء يمنع من البدء بمسيرة الألف ميل الآن، على أمل أن نؤسس لأولادنا أو لأحفادنا، القدرة على العيش في "وطن" لا "مزرعة".