2011/12/29

هل تحكم حكومة الأكثرية.. بخصومها؟

لم يكن النقاش الذي استثاره التصويت على مشروع الوزير شربل نحاس الثوري للأجور وليد ساعته، وإن يكن مفاجئاً تصرف رئيس الحكومة المستهجِن للتصويت وكأنه أمر "خطير" يُخرج مجلس الوزراء عن سلطته باعتباره "صاحب السيادة"، وفي هذا الأمر ما يفاجئ، باعتبار لبنان بلد ديمقراطي ونظامه برلماني وتتمثل في حكومته أحزاب سياسية وكتل برلمانية منتخبة، وليس "مشيخة ملكية" لا تقيم وزناً للإرادة الشعبية، يأمر فيها رئيس الورزاء مجموعة من معاونيه وعليهم واجب الطاعة، وتعد القرارات الحكومية "مكرمة" يمنّ بها الحاكم على "رعاياه".
من المعروف في علم السياسة، أن السلطة السياسية في الأنظمة الديمقراطية، تستمد سلطتها وشرعيتها من أكثرية شعبية فوّضتها لتمثيلها، واختارتها من خلال انتخابات دورية تجري كل أربع أو ست سنوات، كما أنها تخضع لمبدأ تداول السلطة، حيث إن أي تبدل في اتجاهات وتصويت الأكثرية الشعبية يفترض تبدلاً موازياً في الحكم باسم الشعب.
وبالرغم من اعتماد "دولة لبنان" نصوصاً دستورية ديمقراطية الطابع والمضمون، واعتماد النظام البرلماني كأساس للحكم، تراوحت التجربة اللبنانية في الحكم الديمقراطي بين المقبول والأسوأ على الإطلاق وهو الذي كرّسته الحريرية السياسية، التي أدخلت الفساد إلى جميع مرافق الدولة ومفاصلها، وكرّست نظام "المشيخة" المستنسخ من حكم بعض البلاد العربية التي رعت سعد الحريري وأسلافه من قبله.
وتفاقم الوضع، خصوصاً بعد اغتيال رفيق الحريري، حيث تكرست المشيخة علناً باسم "الشهيد"، وبات على البشر والحجر والمرافق العامة والإدارات أن تتكرس للحريرية وباسمها ولها كأملاك خاصة، وترفع العصا لمن تجرأ وعصى.
وقد كان الأمل كبيراً باستئصال حكم المشيخة بعد وصول الرئيس ميقاتي إلى الحكم، لكن رئيس الحكومة يتصرف وكأنه سليل وراثي لتلك المشيخة، متذرعاً بطائفته تارة، ومتخوفاً من "غضب الشيخ وحاشيته" طوراً، بما يظهر أنه استساغ حكم "المشيخة" على حكم الشعب، متناسياً أن الحريرية السياسية واستئثارها كانت حكم استثنائي للبنان المتعدد، فرضته وساهمت في ترسيخه، ظروف ومعطيات إقليمية ومحلية، واستطاعت الحريرية فرضه على اللبنانيين بعد أن تشاطرت الفساد وتبادلت المنافع والخدمات مع داعميها الإقليميين والدوليين على حساب الشعب اللبناني وأمنه واستقراره.
واليوم، في وقت يتعرض وزراء في الحكومة للتهديد والوعيد والتخوين، لا نسمع لرئيس الوزراء رأياً في الموضوع، ولا دفاعاً عن حكومته، بينما نقرأ عن مصادره ومقربين منه تسريبات بأنه لن يسمح من الآن فصاعداً بتمرير أي بند على جدول الأعمال دون رغبته وإرادته، ودون معرفته المسبقة أن التصويت سيكون لصالحه، كما يدأب رئيس الحكومة يومياً ومنذ التصويت الشهير على مشروع قانون تصحيح الأجور المقدم من وزير العمل شربل نحاس، على أن يبدي عدم ارتياحه إلى "الأجواء السياسية" التي سادت جلسة التصويت تلك، وأنه وافق على طرح مشروع نحاس على التصويت لأنه كان يتوقع سلفاً إسقاطه في مجلس الوزراء.
إن ما يقوم به الرئيس ميقاتي مستغرَب من رئيس وزراء يفترض أنه رئيس حكومة كل لبنان، وأنه يرأس حكومة "أكثرية" من حقها أن تمارس الحكم وفق برنامج محدد وضعتها لنفسه، ويفترض أنها سوف تُحاسب عليه من قبل الشعب في الانتخابات المقبلة، كما تبدو التسريبات بممارسة "حقه" في احتكار إعداد جدول أعمال الحكومة، إلا بما يتناسب مع مزاجه وآرائه وضمان التصويت لصالحه، رداً مباشراً على رغبة الأكثرية الموجودة في الحكومة المباشرة بالإصلاح وبناء أسس جديدة لدولة حديثة في لبنان، كما وفيه تعطيل للدولة وشؤون المواطنين الذين يأملون من هذه الحكومة الالتفات إلى أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وعدم تأجيل بتّ القضايا الملحة، والمباشرة بإصلاح ما هدمته الحريرية السياسية وأفسدته خلال الأعوام الماضية، وإقرار الموازنة، وكشف كل قضايا الفساد والهدر وسرقة المال العام التي حصلت.

بالطبع، وانطلاقاً من احترامها لمبادئ العمل الديمقراطي، لم تفرض الأكثرية الحالية التزامات على الرئيس ميقاتي حين اختارته كرئيس لحكومتها، لكنها بالتأكيد لم تكن تعرف أنه سيتعامل وكأنه امتداد لحكم المشيخة الحريرية، لا بل على الأكيد، أنها لم تكن تدرك أنه سيأخذ منها باليد اليسرى ما امتنعت أن تعطيه للحريري باليد اليمنى، فكانت "تهريبة" تمويل المحكمة الدولية، وكانت التعيينات التي لم تُستكمل لغاية الآن، وكانت حماية الموظفين المحسوبين على الحريري، والذين أفسدوا وتمرّدوا على وزرائهم، ولا حول ولا قوة لأكثرية لم تستطع أن تمرر مشروعاً إصلاحياً للأجور إلا بعد مخاض عسير لم يستطع بلعه رئيس الحكومة العتيد.
لكل هذا، لا تستطيع الأكثرية الحالية أن تغض النظر أكثر عما يجري في رئاسة مجلس الوزراء، ولا عن الطريقة التي تدار في أمور الدولة، فالحساب الديمقراطي مع الشعب قادم عام 2013، ويجب ألا تسمح للرئيس ميقاتي أن يخسّرها مصداقيتها مع جمهورها، في وقت يتحضّر الخصم لتلك المعركة، ويُعدّ لها العدة الإعلامية والسياسية والمالية والطائفية والمذهبية.

-          استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

2011/12/23

دور سعودي لما بعد الانسحاب الاميركي من العراق؟

الثبات- الخميس 22 كانون الاول 2011      
بعد الفشل الذي مُني به المشروع الغربي في سورية، وبعد الانسحاب الأميركي من العراق، والذي سيؤرّخ لمرحلة جديدة في منطقة الشرق الاوسط والخليج، بسبب الفراغ الأمني والسياسي الذي سيتركه، خصوصاً لما كان للوجود الأميركي في العراق من قوة عسكرية يرفد بها الحلفاء الخليجيين الذين يرتبطون بمصالح واتفاقيات مشتركة مع واشنطن، بدأت خريطة جديدة في المنطقة في التبلور، ومن منطقة الخليح بالذات هذه المرة، من خلال إعلان الكيان الموحد لمجلس التعاون الخليجي.لقد أتى الانسحاب الأميركي من العراق ليؤشر إلى فشل الأهداف الأميركية من احتلال هذا البلد، فبعد أن كانت الولايات المتحدة تتوقع أن يكرّس احتلالها للعراق بقاءها فيه عقود عديدة، وتحويل العراق إلى ما يشبه الدولة - الحاجز في وجه انتشار النفوذ الإيراني في المنطقة، وبعد الوعود بجعله "دولة ديمقراطية نموذجية" في الشرق الأوسط، تُلهم الدول الأخرى بتبني نظامها ونموذجها، وتسمح بتكريس نظرية الدومينو التي تعني وقوع جميع الدول في الشرق الأوسط تحت السيطرة الأميركية، تبدو النتيجة عكسية اليوم، فبعد إنهاء الأميركيين ما يقارب سنوات تسع من الاحتلال العسكري المباشر، يبدو العراق دولة متهالكة تنخرها الطائفية والمذهبية، والصراعات الداخلية بين قوى سياسية فاسدة.
يبدو العراق اليوم على شفير أزمة سياسية كبرى، تغذيها العصبيات المذهبية والسياسية، وتختلط فيها المصالح الإقليمية، وتذكّر بما حصل في الجبل اللبناني غداة انسحاب الصهاينة منه عام 1983، والمجازر التي حصلت آنذاك، وما يُحكى عن سعي "إسرائيلي" لها، من خلال الانسحاب فجأة من منطقة تغذيها الأحقاد والعصبيات المذهبية والطائفية.
وبعد إدراك الجميع بعدم قدرة التدخل العسكري في سورية، أو إسقاط نظام الأسد بالقوة، وبعدما تبيّن أن من نتائج الحراك الذي حصل في المنطقة عام 2011، ازدياد النفوذ الإيراني في المنطقة بشكل عام، لاسيما بعد ما أظهرته من تفوق عسكري وتكنولوجي، ونجاح غير متوقع في الحرب الإلكترونية، وبعد فشل الحلم التركي باستعادة دور إمبراطوري كان قد فقده في بداية القرن العشرين، تبرز اليوم إلى الواجهة رغبة أميركية شديدة باحتواء إيران ونفوذها المتعاظم في المنطقة بعد الانسحاب، وذلك من خلال محاولة استعادة الدور السعودي، وإعطائه دوراً بارزاً في هذه العملية من خلال ما يلي:
- تحوّل دول مجلس التعاون الخليجي إلى "كيان واحد"، تلبية للدعوة التي وجهها العاهل السعودي الملك عبد الله إلى دول مجلس التعاون الخليجي؛ بتجاوز مرحلة التعاون إلى الاتحاد، والتي تبنتها دول المجلس في قمة مجلس التعاون الخليجي.. وإذا تحققت هذه الخطوة، وقام هذا الكيان الخليجي بنجاح، فسيكون للسعودية سيطرة واضحة على مقرراته، لما لها من قوة اقتصادية، وبسبب مساحتها الجغرافية التي تعطيها وزناً لا يستهان به بالنسبة إلى الدول الصغيرة المحيطة بها.
- إضعاف العراق ومنعه من التحول إلى دولة إقليمية وازنة، من خلال إثارة الانقسامات المذهبية، وإدخاله في أزمة سياسية كبرى، على أثر الانسحاب الأميركي منه، خصوصاً بعد الدور الذي حاول أن يلعبه في الأزمة السورية، من خلال الوساطة التي كان يحاول القيام بها، والوقوف علناً في وجه المشاريع العربية الهادفة إلى عزل سورية.
- ما يُحكى عن دور سعودي في الحراك السياسي العراقي المستجد بعد الانسحاب، وذلك من خلال تحريض المحافظات ذات الغالبية السُّنية على المطالبة بالتحول إلى أقاليم ذات استقلال ذاتي، وبالتالي تحويل العراق إلى دولة فيدرالية ضعيفة مقسّمة على أساس طائفي.
- ازدياد النفوذ السعودي في اليمن، بعد نجاح مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي في اليمن، والتي تمثلت في إقناع الرئيس اليمني علي عبد الله صالح بالتنحي.
- دعم خليجي واضح في المجالات السياسية والأمنية والتنموية لكل من مملكة البحرين وسلطنة عمان، وفي ذلك رسالة واضحة بأن الحراك الشعبي ممنوع في تلك الدول، وأنه لن يتم التهاون مع التحركات الشعبية التي تتهم دول الخليج إيران بتغذيتها، وبهذا الإعلان تحاول السعودية ودول الخليج استخدام سياسة "العصا الغليظة" تجاه التحركات الشعبية في دولهم، وضد كل ما يعتبرونه تدخلات خارجية - وتحديداً إيرانية - في شؤون دول الخليج.
وعلى ما يبدو، فإن السعودية اليوم من خلال سياستها المعلنة تجاه التحركات الشعبية التي حصلت في الخليج، ومن خلال إعلان "الكيان الواحد" الذي حصل في قمة كجلس التعاون الخليجي، تسعى لتطبق مع إيران في الخليج ما يشبه مبدأ "مونرو" الذي اعتمدته الولايات المتحدة الأميركية عام 1832 مع أوروبا، والذي انطلق من قاعدة أساسية مفادها أن "أي محاولة من قبل الدول الأوروبية للتدخل في شؤون القارة الأميركية، تشكّل خطراً على سلم وأمن الولايات المتحدة"، ما يعني حق الولايات المتحدة بالتحرك للدفاع لدى تهديد سيادة أي دولة من دول أميركا اللاتينية من قبل الأوروبيين، ويأتي في هذا السياق تصريح سعود الفيصل حول توازن الردع النووي، للغمز من قناة النووي الإيراني المهدد للمنطقة.
في النهاية، لا بد من الإشارة إلى أن الاتحاد بين دول عربية متجاورة ومتعاونة على غرار التعاون الأوروبي، هو أمر مرغوب ومطلوب في حال كان هدفه السعي إلى تقوية هذه الدول اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وعلمياً، والسير بها نحو التقدم والالتحاق بركب الحضارة، والتقدم التكنولوجي، وتحقيق رفاهية شعوبها، أما إذا كان الهدف منه تقوية نفوذ الولايات المتحدة الأميركية في الخليج، وإعلان سياسات عدائية تجاه الدول العربية الأخرى، ومحاولة إضعافها، فالأفضل ألا يتم السير به، لأنه سيؤدي إلى خراب الأمة، وفقدان سيادتها بالكامل، بعدما فقدت الكثير من مقومات الوحدة، خصوصاً بعد تحوّل الجامعة العربية إلى أداة في يد المشاريع التقسيمية المعدَّة للمنطقة.
·        استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

2011/12/20

مناقشة كتاب حول المحكمة الدولية الخاصة بلبنان

مناقشة كتاب "الخديعة" لمحمد حسين بزّي – دار الامير
ليلى نقولا الرحباني
معرض الكتاب الدولي – 14 كانون الاول 2011

أود أن أشكر الاستاذ محمد حسين بزي لاختياري لمناقشة كتابه الجديد (الخديعة: يوم اغتالت الفوضى الخلاقة رفيق الحريري) واهنئه على نشر هذا الكتاب التوثيقي، الذي يمكن ان يشكّل مرجعًا لكل باحث مهتم بقضية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، نظرًا لاحتوائه على  كمّ من الوثائق الخاصة بالموضوع والتي جُمعت في كتاب واحد مما يسهل عملية التفتيش عنها.
وسوف ادرج ملاحظاتي في المضمون:
الملاحظة الاولى:  
كما أشرت سابقًا، أراد الكاتب لكتابه أن يكون كتابًا توثيقيًا مرجعيًا في موضوع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وقد نجح في ذلك، لكن نلاحظ أن الطابع التوثيقي طغى على الطابع التحليلي الذي لو أهتم فيه أكثر لسمح للقارئ بإدراك حجم تلك الخديعة وأسسها، وفهمٍ أوسع لمكوناتها.
1-    على سبيل المثال يذكر الكاتب في الصفحة 61 أن مبدأ التسوية المطروح حول اتهام "عناصر غير منضبطة" من حزب الله قد تؤدي الى محاولة ايجاد خيوط  تصل الى القيادة، لكنه لم يتوسع في شرح كيف يمكن أن يتم ذلك.
في الواقع، إن ما أدرجه الكاتب في هذه النقطة حقيقي وواقعي، لإن نظام المحكمة الأساسي احتوى على مادة خطيرة للغاية هي المادة الثالثة، وفيها مبدآن قانونيان يؤديان الى تلك الخلاصة التي أوردها الاستاذ محمد بزي في كتابه.
 المبدأ الاول  يندرج في البند الثاني من تلك المادة، ويتحدث عن "المسؤولية الجنائية الفردية للرئيس عن مرؤوسيه أي أن "الرئيس يتحمل المسؤولية الجنائية عن الجريمة التي يرتكبها مرؤوسون يخضعون لسلطته وسيطرته الفعليتين، وذلك أما:
-          نتيجة لعدم سيطرته سيطرة سليمة على هؤلاء المرؤوسين.
-         أن يكون عرف أو تجاهل عن عمد أي معلومات تبين بوضوح أن مرؤوسيه يرتكبون أو هم على وشك أن يرتكبوا تلك الجريمة،
-         إذا لم يتخذ الرئيس جميع التدابير اللازمة والمعقولة لمنع أو قمع ارتكاب مرؤوسيه للجريمة أو لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والملاحقة القضائية.
على هذا الاساس فإن السيد نصرالله وقيادة حزب الله بأكملها ستكون متهمة ومسؤولة جنائيًا عن الافعال التي تدّعي المحكمة أن عناصر من حزب الله قاموا بها، لا بل انهم يتحملون مسؤولية جنائية أيضًا في حال لم يتخذوا التدابير اللازمة بتسليم المتهمين للسلطات المختصة أي المحكمة الدولية.
أما المبدأ الثاني والاخطر في المادة الثالثة نفسها، فيندرج في البند الاول: وهو الإدانة بموجب مبدأ قضائي مستحدث في القانون الجنائي الدولي يطلق عليه اسم "المشروع الجنائي المشترك" joint criminal enterprise، والذي تعتمده المحاكم الدولية منذ عام 1999، وبالتحديد منذ الحكم الذي أصدرته محكمة يوغسلافيا في قضية تاديتش، والذي اعتُبر علامة فارقة في القضاء الجنائي الدولي، وهو السابقة القانونية التي اعتمدت عليها المحاكم الدولية الأخرى فيما بعد لإدانة المتهمين بموجب "القصد المشترك" أو "الهدف المشترك". بموجب هذا المبدأ يدان جنائيًا كل من انتمى لمجموعة  لديها نفس النية الجرمية من ضمن هدفها المشترك، أو في حال كانت الجريمة "نتيجة طبيعية ومتوقعة" للهدف المشترك الذي وضعته المجموعة لنفسها، حتى لو لم يكن هذا الهدف المشترك جرميًا في الأساس.
وهذا  يعني أن المحكمة تتحضر لمساءلة جزء كبير أو "كل" من ينتمي إلى حزب الله، وتحميلهم مسؤولية جنائية فردية، لوجود هدف مشترك أو أهداف مشتركة للحزب، كفرض سيطرته على لبنان مثلاً أو تقوية نفوذه، أو غير ذلك من الأهداف التي قد تعتبر المحكمة أن "اغتيال الحريري" جاء "نتيجة طبيعية ومنطقية لها".

الملاحظة الثانية:
بالرغم من أني اوافق على التسلسل التاريخي الذي سرد فيه الكاتب انتقال الاتهام من سوريا الى حزب الله في لبنان، ولكن بنهم القارئ لمعرفة خفايا واسرار الخديعة بشكل أكبر، كنت أتمنى لو أفرد لهذا الانتقال مساحة كافية ولم يحصرها بصفحة واحدة فقط هي الصفحة 58. كنت أتمنى لو أضاء الكاتب على المعطيات التاريخية والاستراتيجية التي أملت هذا الانتقال من اتهام سوريا الى اتهام حزب الله، بالرغم من انه منذ اغتيال رفيق الحريري ولغاية العام 2009 لم يتم ذكر حزب الله في  التقارير التي  أصدرتها "لجنة التحقيق الدولية المستقلة" كل ثلاثة أشهر، ولم يكن هناك مَن تداولَ في هذا الامر الا وسائل الاعلام الاسرائيلية التي تحدثت عن هذا الامر مباشرة بعد الاغتيال، فقرار اتهام حزب الله باغتيال الحريري جاء اسرائيليًا، منذ اليوم الأول للاغتيال.
إذًا، بالرغم من أن شيراك حدد مهمة المحكمة منذ البداية وقبل تأسيسها الفعلي، بـ "قتل النظام السوري" كما أورد فرنسوا نوزَيّ حرفيًا في كتابه "سر الرؤساء"، ولكن معطيات عدة فرضت التحول من اتهام سوريا الى حزب الله، برأيي، أهمها:
-         السبب الاول استراتيجي: فقد تحولت المقاومة في لبنان بعد حرب تموز 2006 إلى قوة عسكرية وسياسية بالغة التأثير، ليس على المستوى اللبناني فحسب، بل على المستوى الإقليمي أيضًا؛ فتحالفها الوثيق مع سوريا وايران، ودعمها للمقاومة في فلسطين، بالاضافة الى تحولها الى مصدر إلهام للمقاومات الاخرى في المنطقة وأهمها المقاومتين الفلسطينية والعراقية ، زِدْ على ذلك نظرة التعاطف والاعجاب التي يخصّها بها معظم مسلمي العالم بسبب دورها في الحاق هزيمة باسرائيل لطالما تمنوها....كل هذا جعل حزب الله مصدر تهديد استراتيجي لاسرائيل، وللسياسة الأميركية في المنطقة، لذا كان من المفيد التركيز عليه وتشويه صورته من خلال "شيطنته" وتحويله الى مجموعة من القتلة الارهابيين، وارساء سيناريو غرائزي مذهبي، يزرع الحقد في نفوس مسلمي المنطقة والعالم ويقسمهم الى "سنّة" يكرهون المقاومة ويتخلون عن تمجيدهم لها باعتبارها مجموعة "شيعية" قتلت رئيس وزراء لبنان "السنّي"، وقسم آخر يدعمها ويتعرض لشتى انواع الاتهامات بالعمالة لايران ومحاولة ارساء الهلال الشيعي في المنطقة.
-         السبب الثاني محلي: فالأحداث التي حصلت في أيار 2008، والتي استطاع فيها حزب الله أن يحطم "الوهم" الذي بناه الاميركيون بامكانية قيام وكلائهم الداخليين بالتخلص من حزب الله ونزع سلاحه بعد دعم مادي وعسكري ولوجستي واعلامي استمر لسنوات أسقطه الحزب في يومين اثنين.
-         السبب الثالث اقليمي: ارتاح الاميركيون في العراق بعدما استطاع جورج بوش أن يوقع اتفاقيتين هامتين مع الحكومة العراقية؛ هما اتفاقية الاطار الاستراتيجي والاتفاقية الامنية، ولا يمكن القول أنه كان يمكن للأميركيين الحصول على موافقة جميع القوى السياسية العراقية على الاتفاقيات تلك بدون مباركة ايرانية وسورية لذلك.
لذا، يمكن التكهن، أن عدول المحكمة عن اتهام سوريا، واطلاق سراح الضباط الاربعة في نيسان 2009، قبيل الانتخابات النيابية اللبنانية بقليل، أي في توقيت قاتل سياسيًا بالنسبة لحلفاء واشنطن وداعمي المحكمة الدولية، وتوجّه سعد الحريري الى مصالحة النظام السوري والاعتذار عن اتهامه، وانقلاب جنبلاط الدراماتيكي الخ... كان جزء من صفقة سياسية حصلت في المنطقة في اواخر العام 2008 أراحت الاميركيين في العراق وأسقطت الاتهام عن النظام السوري، وظهرت نتائجها في لبنان بتقلص نفوذ الحريرية السياسية وتراجع حدة الخطاب السياسي المعادي لسوريا.

-         الملاحظة الثالثة والاخيرة هي حول الخلاصة – العنوان.
يدل عنوان الكتاب على الخلاصة التي تعكسها وثائقه، أي محكمة تمّ تسييسها وهي في الاصل فاقدة الشرعية القانونية والدستورية اللبنانية، بالاضافة الى مسارها الملتوي والمليء بالانتهاكات وهو ما أفقد اللبنانيين الثقة بها كما تشير استطلاعات الرأي المختلفة. وكنت أتمنى لو ادرج الكاتب هذه الاستطلاعات في كتابه التوثيقي حول المحكمة، وخاصة أنه أدرج في الصفحة 57 تواجد تيارين في لبنان الاول يدافع عن المحكمة والثاني يتهمها بالتسييس، وحبذا أيضًا لو لفت الكاتب الى نسبة كل من هذين التيارين في الساحة اللبنانية، لان ما أدرجه أوحى أن التيارين يتساويان من حيث النسبة وهذا ما تدحضه الاستطلاعات المحلية والدولية التي أستفت اللبنانيين حول الموضوع[1]، والتي منها نستنتج أن غالبية اللبنانيين توافق الكاتب محمد حسين بزّي على الخلاصة التي توصل اليها في كتابه الجديد وهي ان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان هي  بالفعل "خديعة".
في النهاية،  أود أن اهنئ الكاتب على كتابه الجديد وعلى اختياره الموفق للعنوان، فأنا لطالما احترت  في وصف مناسب يمكن أن نطلقه على تلك المحكمة، التي نعلم جميعًا مدى تسييسها. البعض أطلق عليها صفة "المؤامرة" ولكن الادبيات السياسية العربية كانت قد اتخمت بعبارات المؤامرة، ونظريات المؤامرة حتى بات اطلاق صفة "المؤامرة" على شيء تآمري فعلي، يعتبر نوعًا من المبالغة أو اللغة الخشبية البائدة. ومن المفكرين والباحثين من قال انها "فيلم أميركي" أو فيلم انتاج سينمائي"، أو خطة للتخلص من المقاومة والى ما هنالك من أوصاف، وهنا تأتي "الخديعة" لتضيف اليهم عنوانًا جديدًا لمحكمة فقد اللبنانيون بمعظمهم الثقة بها.
ومن نموذج محكمة لبنان أنتقل لأشير الى فقدان الثقة بالعدالة الدولية، والتأكيد أن المحاكم الدولية بشكل عام مسيسة وهي أدوات دولية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهنا أنا أجزم أن لا مبالغة في الأمر، وليس هناك اطلاق صفات تضخيمية لحجم الفساد وعدم العدالة فيها، ولا نسقط تمنياتنا ووعينا الشخصي للأمر، لأن تجارب المحاكم المختلفة والابحاث التي جرت حولها والتي نجريها نحن تؤكد هذا الامر.
مبروك محمد حسين بزي، أوافقك الرأي بأن تلك المحكمة هي "خديعة" تلبس لباس العدالة الدولية لتنفيذ أهداف سياسية تخدم أهداف المشروع الاميركي المرسوم للشرق الاوسط.



[1] -            الاستطلاع الاول الذي يمكن أن نشير اليه، هو استطلاع الدولية للمعلومات والذي أجري في أيلول 2011، والذي ظهر بنتيجته أن أكثر من نصف المستطلعين (54%) عبروا عن اعتقادهم ان المحكمة الدولية مسيّسة، وخالفهم نحو ربع المستطلعين (26%) الرأي فاعتبروا أن المحكمة نزيهة ومحايدة وغير مسيّسة، واعتبر 3% أنها في نقطة وسط بين التسييس والنزاهة، وأجاب 17% غير معني.
-               أما الاستطلاع الثاني فهو الذي قامت به مؤسسة عالمية هي «مؤسسة پيختر لإستطلاعات الرأي في الشرق الأوسط» خلال تشرين الثاني– كانون الأول 2010 ، وأظهرت النتائج أن:
-  85 بالمائة تماماً من الشيعة الذين شملهم الاستطلاع اعتقدوا بـ"صورة قوية" أن المحكمة لم تكن حرة أو نزيهة.
-  أغلبية المسيحيين (55 بالمائة) قالوا بقوة أيضًا إن المحكمة لم تكن حرة ونزيهة، و42 بالمئة من المسيحيين قالوا "نوعًا ما".
-           60 بالمئة من السنّة اللبنانيين وصفوا المحكمة أنها حرة ونزيهة بـ "قوة"، بينما 29 بالمئة منهم أيدت هذا الموقف "نوعًا ما".

2011/12/17

نحو إرادة متزايدة لالغاء عقوبة الاعدام

عقدت الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية ندوتها السنوية الثانية لمناهضة عقوبة الاعدام، وكانت الجلسة الرابعة برئاسة ليلى نقولا الرحباني، بعنوان: نحو إرادة متزايدة لإلغاء عقوبة الاعدام...احصاءات وانجازات وعقبات.
وفي ما يلي نص الكلمة التي ألقتها:

محور جلستنا الاخيرة في هذا اللقاء هو بعنوان: نحو إرادة متزايدة لإلغاء عقوبة الاعدام. والسؤال الذي يطرح نفسه تلقائيًا: هل هناك بالفعل إرادة دولية وعربية ومحلية متزايدة لإلغاء تلك العقوبة؟.
واقعيًا ودوليًا، يتجه القانون الجنائي الدولي اليوم، الى تطوير مفاهيم العدالة الجنائية، فيبرز فيه بوضوح تراجع مفهوم العدالة الثأرية الانتقاميةRetributive justice  لصالح مفهوم العدالة الاصلاحية التصحيحية Restorative justice التي تسعى للخروج من الإطار التقليدي للعدالة الذي يعتمد التشديد السلبي على العقاب كهدف بحد ذاته الى مفهوم بنّاء أكثر، تتركز فيه العدالة ليس على معالجة خطأ حصل في الماضي فحسب، بل تهدف بشكل أوسع الى بناء مجتمع أفضل في الحاضر والمستقبل.
وإذا كانت مفاهيم العدالة المستحدثة تلك، مرغوبة ومعتمدة في التعامل مع إرث هائل من الانتهاكات والفظائع، ومع أشخاص ومسؤولين عن أعمال إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، أي للمعاقبة على جرائم قتل الآلاف من البشر، فتسعى لتأطير أنواع جديدة من العدالة التي يغلب عليها طابع المصالحة، فكيف يمكن لمَن قتل الآلاف من البشر أن يُمنح عقوبة مخففة بهدف الحفاظ على السلام، بينما جريمة قتل امرئ واحد تقود مرتكبها الى الاعدام؟.

ترجع أسس عقوبة الاعدام في عصرنا الحديث، الى مبدأ حمورابي الشهير "عين بعين، وسن بسن، وحياة بحياة". وبالرغم من أن عقوبة الاعدام عُرفت منذ ما قبل شريعة حمورابي بقرون، إلا أن القسوة التي اشتهرت بها تلك الشريعة كانت غير مسبوقة كقانون مكتوب، باعتبارها قد نصّت على الموت كعقوبة عن أربعٍ وثلاثين جريمة، ومعظمها لا يحترم مبدأ التناسب بين العقوبة والجرم المرتكب، حيث كان "الاعدام" عقابًا للقتل، وخطف ابن رجل حر، وشهادة الزور، والاتهام بدون دليل، والسرقات الكبرى والزنا والاغتصاب وسرقة المعابد، وحتى لمجرد إحداث صدعٍ في منزل[1]...، أما طرق التنفيذ فكانت تتسم بالوحشية والبربرية، وذلك إما عن طريق الغرق أو الحرق أو وضع المذنب على العامود أو غيرها من الأساليب الفائقة القسوة.
قد تكون تلك الأحكام مناسبة لذلك الزمان، بما أن القانون هو ابن البيئة والثقافة التي ينتمي اليها. لكن، هل مَن يمكن له أن يدافع اليوم  عن صوابية الحكم بالاعدام على سقراط وغاليليه و آخرين ممن اتهموا بالسحر والشعوذة والهرطقة؟.
واذا أردنا أن نتعمق في ظلم تلك الاحكام التاريخية، ونثبت أن مظلومين سيقوا الى المشنقة أو انتُزعت منهم حياتهم وهم أبرياء، فقد يكون أشهر  مظلوم حوكم بالاعدام في تاريخ البشرية ككل هو يسوع المسيح.... لقد كان "الاعدام" عقوبة التمرد على السلطات بموجب القانون الروماني السائد آنذاك، أما الصّلب فقد اختير  لأن طريقة تنفيذ الحكم كانت تختلف بحسب الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها المحكوم، فإذا كان ينتمي إلى طبقة عليا أو يشغل منصبًا ساميًا عوقب بالنفي، وإذا انتمى إلى الطبقات المتوسطة عوقب بقطع العنق، أما إذا كان من الطبقات الدنيا، فيعاقب بالصلب... وهكذا كان عقاب "المتمرد" يسوع المسيح "ابن النجار"، الإعدام صلبًا، تنفيذًا للقانون وتطبيقًا للعدالة!!!

ونعود الى السؤال المحوري في هذه الجلسة: هل نتجه بالفعل نحو وعي متزايد بضرورة الغاء عقوبة الاعدام، وكيف يمكن ذلك؟
برأيي، لا يمكن لهذا الوعي أن يتشكّل ألا من خلال:
أولاً:  التأكيد أن عقوبة الإعدام تنتمي الى ثقافة عهود بائدة قديمة كما الرّق والاستعباد . ولماذا مسموح لبشر اليوم أن يتخلوا عن الاسترقاق والاستعباد واعتبار الاتجار بالبشر جريمة شائنة، بينما يبقى التمسك بمبدأ "حياة بحياة والقاتل يقتل" مبدأ صالح للاستخدام كأساس للعدالة الجنائية بعد مضي ما يقارب 3700 سنة على تلك النصوص القديمة التي شرّعت الرقّ والاعدام بالتساوي؟
ثانيًا: التأكيد أن العدالة لا تتطلب إراقة مزيدٍ من الدماء، هي تتطلب فقط عقابًا منصفًا لجريمة مثبتة، فبدل أن نزيد ضحية جديدة الى سجل الضحايا، علينا ان نعلّم الجميع أهمية الحق بالحياة، لأن العطش للثأر والانتقام لا يمكن أن يرتوي مهما أزهقت أرواح ومهما قُدم من ذبائح.
ثالثًا: الادراك العميق أن العدالة بمعناها الواسع، وكما نفهمها، لا تعني الانتقام، وبالتالي لا يحقق "الإعدام" إلا إشباعًا لغرائز الثأر لدى ذوي الضحايا، ولكنه لا يصحح خطأ، ولا يجبر أضرارًا، ولا يسمح لذوي الضحايا بالشفاء من خلال ممارسة "المسامحة والغفران"، والقبول بإمكانية المصالحة اللازمة لاستمرار المجتمع وبناء السلام.



[1]  نصت المادة ( 21 ) من قانون حمورابي على أن "مَن أحدث صدعًا بمنزل، يعاقب فاعله بحشره داخل ذلك الشق الذي أحدثه حتى يقضي نحبه".

2011/12/14

الأميركي يخسر رهاناته.. والتسوية تفرض نفسها

مع اقتراب نهاية العام 2011، تتسارع وتيرة انسحاب الجنود الأميركيين من العراق، لإنهاء حقبة أميركية تدخلية عسكرية مباشرة في هذا البلد، امتدت منذ العام 2003 باحتلاله، وبزوغ مرحلة جديدة من التدخل "غير المباشر" المتفق عليه مع الحكومة العراقية، وبموافقة الأطراف الإقليمية الفاعلة على ما يبدو.
وكما كان واضحاً خلال الأشهر المنصرمة، فإن الأميركيين كانوا على عجلة من أمرهم لإسقاط النظام السوري، وتبديل ميزان القوى في المنطقة، وتوجيه ضربة قاصمة لمحور المقاومة، قبيل انسحابهم المزمع من العراق، وذلك من أجل تحقيق أهداف عدة أهمها:
-         إشغال المنطقة والرأي العام  العربي والعالمي عن انسحابهم، وعدم ظهورهم بمظهر المنسحب المهزوم من المنطقة، مع ما يستتبع ذلك من فقدان الهيبة الدولية، وشعور الحلفاء، خصوصاً الخليجيين منهم، بعدم الثقة بالقوة الأميركية القادرة على حمايتهم، ما يجعلهم يلجأون لحماية بديلة قد تؤمّنها لهم فتح قنوات اتصال وتعاون مع الإيرانيين.
-        احتواء النفوذ الإيراني، ومنع إيران من أن تتحول إلى قوة إقليمية عظمى، وذلك من خلال إسقاط حليف أساسي لها، ومنعها من إقامة محور مقاوم يمتد من إيران، مروراً بالعراق وسورية، حتى لبنان.
-        إعطاء تركيا دوراً إقليمياً كبيراً تنافس فيه الدور الإيراني المتعاظم في المنطقة، فتقوم بعملية احتواء له، بالإضافة إلى تشجيع قيام تقاسم نفوذ فارسي - تركي في المنطقة، مما يحجّم الاثنين معاً، من خلال احتواء كل منهما للآخر.
-        عزل المقاومة في لبنان، وإفقادها عمق استراتيجي أساسي كانت توفره لها سورية. ويبدو أن هذا الهدف هو من الأهداف الرئيسية للمشروع، ولهذا السبب صرّح برهان غليون وغيره من معارضي الخارج السوريين، بأنهم سيقطعون علاقات سورية - ما بعد الأسد - مع إيران وحزب الله وحماس.
-        إيجاد توازن جديد في المنطقة يريح "إسرائيل"، من خلال إيجاد حليف استراتيجي جديد قوي في المنطقة، وهو سورية كبديل عن مصر، خصوصاً بعدما بات الغموض يلفّ العلاقات المصرية - الإسرائيلية المستقبلية، والتي لن تعود إلى سابق عهدها، حتى لو تمّ الإبقاء على اتفاقية كامب ديفيد؛ كما هو مرجَّح حتى الآن.
لكن لم يستطع الأميركيون تحقيق هذه الأهداف الاستراتجية، التي كانوا يضعونها نصب أعينهم حين المباشرة بعملية إسقاط النظام السوري، فالوقت كان داهماً، والنظام السوري ظل متماسكاً صامداً في وجه المحاولات اليائسة لإسقاطه أو إرهابه، وقد فاجأ الجميع بتماسك جيشه، رغم كل التهويل والإغراءات، ومحاولة إثارة الفرقة بين النظام والجيش، وآخرها محاولة تشويه مقابلة الرئيس السوري، وصمود الشعب السوري والتفافه حول قيادته، بالإضافة إلى استمرار الطبقات الاقتصادية في دعم النظام، رغم كل العقوبات الاقتصادية التي استهدفت بشكل أساس ضرب مصالحها للتخلي عن دعمه.. كلها عوامل قوة داخلية ترافقت مع عوامل خارجية، كوقوف إيران ومجموعة "البريكس" موقفاً حازماً لا لبس فيه؛ بدعم النظام السوري، ورفض التدخل العسكري الخارجي، أدت إلى خسارة الأميركي الوقت اللازم، والقدرة الكافية على الإطاحة بالأسد.
وهكذا يتحضّر الأميركيون لانسحاب "شبه كامل" من العراق، وعلى ما يبدو فإن ميزان القوى الراهن، والإنجازات التي حققها محور المقاومة خلال هجومه المضاد في معرض الدفاع عن النفس، قد فرض تسوية وترتيبات معينة، أعطت الأميركيين حصة من "تسوية" كانوا يمنّون النفس بحصة الأسد فيها، وقد كنا منذ الأساس نقول إنه لا حرب في المنطقة، إنما تسوية تقوم أسسها على موازين القوى المستجدة، بعد مرحلة الضغوطات المتبادلة التي يستخدم فيها كل طرف جميع أوراق القوة لديه.
وتبرز مؤشرات التسوية المعلنة كما يلي:
-        تراجع العرب عن خطابهم العدائي تجاه سورية، وعودة السفيريْن الأميركي والفرنسي إلى سورية، وتراجع تركي برز في حديث وزير الخارجية داود أوغلو، الذي رأى أن الحديث عن تدخل عسكري خارجي في سورية مجرد شائعات، وأن فكرة المنطقة العازلة هي مطلب للمعارضة السورية، وليست مطلباً تركياً.

-        في المقابل، حصل الأميركيون على حصتهم من الصفقة التي كانوا يريدون تحقيقها قبيل الانسحاب في العراق، وذلك بإبقاء ما مجموعه ستة عشر ألف مقاتل وخبير ومتعاقد أميركي في العراق بعد نهاية العام الحالي، يعملون في مجمّع السفارة الأضخم في العالم، وربما في بعض القواعد التي شيّدتها هناك، ويبدو القناع الأهم الموضوع على قضية بقاء الجنود الأميركيين تحت مسميات مختلفة، هم المتعاقدون مع "بلاك ووتر"، التي حوّلت اسمها إلى "زي"، بعد افتضاح ممارساتها في العراق، ثم غيّرت اسمها مؤخراً إلى "أكادمي"، تحضيراً لمرحلة ما بعد الانسحاب الشكلي.
وتبرز ظواهر الانسحاب الأميركي "الجزئي" كنتيجة للصفقة، بتأكيد رئيس أركان الجيش العراقي على "بقاء قسم من القوات الأميركية في العراق حتى عام 2020، من أجل المساعدة على حماية حدوده وأجوائه"، وأوضح أن "ملف القوات الجوية والبحرية ما زال بيد الأميركيين، بموجب برنامج تمّ العمل به منذ عام 2008، وأن الجيش العراقي سيتسلم ملف هاتين القوتين عبر عدة مراحل تستمر حتى عام 2020".
إذاً، بعد اصطدام المخطط الأميركي بصمود القيادة في سورية، وعدم القدرة على إسقاطها ولا إثارة حرب أهلية فيها، ومع اقتراب موعد سحب القوات الأميركية من العراق، بدأت بوادر التسوية التي عُقدت في المنطقة تظهر تباعاً، ومن المنشور في وسائل الإعلام نستنتج أن الانسحاب الأميركي الجزئي و"المقنّع" من العراق، هو ثمن ترتيبات معينة حصلت بالتوافق بين المحورين، وسيحصد محور المقاومة نتائج تلك الترتيبات انتصارات على محاور عدة، أهمها في الموضوع السوري، وسيدفع العملاء والوكلاء، كما في كل الأزمنة، الثمن الأكبر، خصوصاً بعدما سيتخلى عندهم داعموهم ويتركونهم لسبيلهم، أو قد يعِدونهم بـ"إصدار بيان".

2011/12/07

مفاجآت قوى المقاومة في مرحلة الهجوم المضاد

تتسارع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، ويبدو المحوران المتواجهان في المنطقة في سباق مع الزمن لتجميع أوراق القوة، تحضيراً لتسوية لا بد أن تحصل في المنطقة، تمهيداً للانسحاب الأميركي من العراق، أو عقب ذلك الانسحاب مباشرة.
بعد أن استمر الضغط شديداً على محور المقاومة، حيث كانت أضلعه الرئيسية - سورية وإيران - عرضة لحرب كونية متعددة الأشكال والوجوه، استُخدمت فيها جميع أساليب القوة الصلبة والناعمة والاستراتجية، وبعد أن مرّت سورية بمرحلة خطيرة هددت وجودها وسيادتها ووحدتها، وقد عدّت بحق أخطر مرحلة مرّت بها في تاريخها الحديث، يبدو أن محور المقاومة بصموده وثباته وامتلاكه أوراقاً استراتيجية هامة رفعها بوجه المحور المقابل، استطاع أن ينتقل من "رد الفعل وتلقي الضربات" إلى استراتيجية "الهجوم المضاد"، والتي تردع الخصم وتكبده خسائر هامة تجعله يعيد النظر في الأساليب والوسائل التي اعتمدها في هجومه "الانتقامي".
وإذا كانت لاستراتيجية الهجوم المضاد مؤشرات بارزة للعيان، وأخرى تجري في كواليس السياسة ولا يُفصح عنها في الإعلام، يمكن أن نذكر بعض ملامح النجاح البارزة في تلك الاستراتيجية، وذلك كما يلي:
أولاً: في مجال القوة الصلبة، ويبرز فيها تقدم ملموس لمحور المقاومة، وذلك من خلال:
- المناورة العسكرية السورية التي أعقبت مناورات إيرانية هامة استمرت أياماً، بالإضافة إلى إسقاط طائرة استطلاع أميركية فوق الأراضي الايرانية. وإذا كانت المناورات الإيرانية قد باتت أمراً مألوفاً، فإن المناورات السورية أبلغت رسالة واضحة مفادها أن الجيش السوري قادر على مواجهة جميع التهديدات والتدخلات الدولية. وعلى ما يبدو، فهم الإسرائيليون الرسالة جيداً، فذكرت الصحافة الإسرائيلية أن المستوى الأمني "ينظر بقلق إلى ما يحدث في سورية"، لاسيما في ظل مرحلة "عدم اليقين في المنطقة"، وبشكل خاص في ظل "الحديث عن آلاف الصواريخ الموجّهة طوال الوقت باتجاه إسرائيل".
- تزويد روسيا لسورية بصواريخ "ياخونت" المضادة للسفن في إطار منظومة باستيون المتحركة للدفاع عن السواحل.
- الفشل الاستخباري غير المسبوق الذي حلّ بالمخابرات الأميركية والصهيونية، وهو يؤشر إلى بروز قدرة فائقة لمحور المقاومة في استخدام "الحرب الإلكترونية"، وأنظمة الرصد والتشويش والتعقب، وليس أدلّ على الهزيمة سوى تبادل الاتهامات بين تل أبيب وواشنطن بتحمّل المسؤولية عن الفشل الاستخباري في لبنان وإيران.
- إعلان السيد حسن نصر الله، ولأول مرة، في خطابه في ذكرى عاشوراء، أن المقاومة تمتلك منظومة دفاع جوي تضاف إلى المنظومة الدفاعية البحرية والبرية والصواريخ التي تمتلكها.
كل هذه المؤشرات أرسلت رسائل واضحة وشديدة اللهجة إلى من يعنيهم الأمر، بأن الهجوم على سورية لن يكون بمنزلة نزهة أطلسية أو تركية، وأن محور المقاومة لن يقف مكتوف الأيدي تجاه أي تهديد بتدخل عسكري أو تدويل، أو فرض مناطق عازلة في سورية، أو شنّ حرب على أحد أطرافه، سواء أكانت ضربات إسرائيلية للمفاعل النووي الإيراني - كما تمّ الترويج - أو تدخل تركي أطلسي في سورية أو سواها.. ولعل عودة السفيرين الأميركي والفرنسي إلى دمشق، تُظهر عدم استعداد الغرب للذهاب بعيداً في خيار القوة الصلبة في سورية؛ في موقف يحرج عرب الغرب، الذين دعوا رعاياهم لمغادرة سورية فوراً؛ في أسوأ حرب نفسية يمكن أن يشنها عربي على "أخيه" العربي السوري.
وقد بدأت تباشير الهجوم المضاد تظهر أيضاً في المجاليْن الدبلوماسي والاقتصادي، فمن الناحية الاقتصادية، بدأ الرد السوري على العقوبات التركية، وعلى إجراءات الجامعة العربية التي فرضتها على سورية؛ في ضغط غير مسبوق حجماً ونوعاً على أي بلد عربي سابقاً، والتي وصفها وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري بأنها قاسية وفاقت جميع التوقعات.
وانطلاقاً من مبدأ "المعاملة بالمثل"، قام السوريون بالإعلان عن وقف العمل باتفاقية الشراكة المؤسسة لمنطقة التجارة الحرة بين سورية وتركيا، وفرض رسم بنسبة 30% على كل المواد والبضائع المستوردة ذات المنشأ التركي، الأمر الذي سيكبد الاقتصاد التركي خسائر فادحة، لاسيما أن الميزان التجاري بين تركيا وسورية يميل بشكل لافت إلى مصلحة تركيا.
أما في ما خص جيران سورية، فقد رفض العراق العقوبات، ونأى لبنان بنفسه عنها، كذلك تململ الأردن، وطالب باستثناء قطاعيْ التجارة والطيران الأردنيين من العقوبات العربية بحق سورية، فتوقُّف الشاحنات الأردنية يهدد الاقتصاد الأردني، ويضر بمصالح عائلات أردنية عدة، علماً أن 60% من مبادلات المملكة الأردنية التجارية مع الخارج تمر عبر سورية، وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الأردن وسورية منذ العام 2000 قرابة سبعة مليارات دولار.
وتزامناً، ولدعم قدرة سورية على الصمود ومواجهة العقوبات الاقتصادية، قررت الجمهورية الإسلامية الإيرانية شراء كل المنتجات السورية؛ أياً كان نوعها وكميتها، وبالعملة الصعبة".
إذاً، على أبواب انسحاب أميركي من العراق، يؤشر إلى مرحلة جديدة في المنطقة، يبدو محور المقاومة في أكثر أوضاعه راحة منذ أشهر، فقد استطاع استيعاب وامتصاص الصدمات التي تلقاها، وبدأ التحضير للهجوم المضاد الذي يعيد له القدرة على فرض شروطه في أي تسوية قادمة، في منطقة يبدو أنها مقبلة على عصر يؤرّخ لهزيمة جديدة للمشروع الأميركي في المنطقة، تضاف إلى الهزيمة التي مُني بها في لبنان عام 2006.

* استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية