2011/12/29

هل تحكم حكومة الأكثرية.. بخصومها؟

لم يكن النقاش الذي استثاره التصويت على مشروع الوزير شربل نحاس الثوري للأجور وليد ساعته، وإن يكن مفاجئاً تصرف رئيس الحكومة المستهجِن للتصويت وكأنه أمر "خطير" يُخرج مجلس الوزراء عن سلطته باعتباره "صاحب السيادة"، وفي هذا الأمر ما يفاجئ، باعتبار لبنان بلد ديمقراطي ونظامه برلماني وتتمثل في حكومته أحزاب سياسية وكتل برلمانية منتخبة، وليس "مشيخة ملكية" لا تقيم وزناً للإرادة الشعبية، يأمر فيها رئيس الورزاء مجموعة من معاونيه وعليهم واجب الطاعة، وتعد القرارات الحكومية "مكرمة" يمنّ بها الحاكم على "رعاياه".
من المعروف في علم السياسة، أن السلطة السياسية في الأنظمة الديمقراطية، تستمد سلطتها وشرعيتها من أكثرية شعبية فوّضتها لتمثيلها، واختارتها من خلال انتخابات دورية تجري كل أربع أو ست سنوات، كما أنها تخضع لمبدأ تداول السلطة، حيث إن أي تبدل في اتجاهات وتصويت الأكثرية الشعبية يفترض تبدلاً موازياً في الحكم باسم الشعب.
وبالرغم من اعتماد "دولة لبنان" نصوصاً دستورية ديمقراطية الطابع والمضمون، واعتماد النظام البرلماني كأساس للحكم، تراوحت التجربة اللبنانية في الحكم الديمقراطي بين المقبول والأسوأ على الإطلاق وهو الذي كرّسته الحريرية السياسية، التي أدخلت الفساد إلى جميع مرافق الدولة ومفاصلها، وكرّست نظام "المشيخة" المستنسخ من حكم بعض البلاد العربية التي رعت سعد الحريري وأسلافه من قبله.
وتفاقم الوضع، خصوصاً بعد اغتيال رفيق الحريري، حيث تكرست المشيخة علناً باسم "الشهيد"، وبات على البشر والحجر والمرافق العامة والإدارات أن تتكرس للحريرية وباسمها ولها كأملاك خاصة، وترفع العصا لمن تجرأ وعصى.
وقد كان الأمل كبيراً باستئصال حكم المشيخة بعد وصول الرئيس ميقاتي إلى الحكم، لكن رئيس الحكومة يتصرف وكأنه سليل وراثي لتلك المشيخة، متذرعاً بطائفته تارة، ومتخوفاً من "غضب الشيخ وحاشيته" طوراً، بما يظهر أنه استساغ حكم "المشيخة" على حكم الشعب، متناسياً أن الحريرية السياسية واستئثارها كانت حكم استثنائي للبنان المتعدد، فرضته وساهمت في ترسيخه، ظروف ومعطيات إقليمية ومحلية، واستطاعت الحريرية فرضه على اللبنانيين بعد أن تشاطرت الفساد وتبادلت المنافع والخدمات مع داعميها الإقليميين والدوليين على حساب الشعب اللبناني وأمنه واستقراره.
واليوم، في وقت يتعرض وزراء في الحكومة للتهديد والوعيد والتخوين، لا نسمع لرئيس الوزراء رأياً في الموضوع، ولا دفاعاً عن حكومته، بينما نقرأ عن مصادره ومقربين منه تسريبات بأنه لن يسمح من الآن فصاعداً بتمرير أي بند على جدول الأعمال دون رغبته وإرادته، ودون معرفته المسبقة أن التصويت سيكون لصالحه، كما يدأب رئيس الحكومة يومياً ومنذ التصويت الشهير على مشروع قانون تصحيح الأجور المقدم من وزير العمل شربل نحاس، على أن يبدي عدم ارتياحه إلى "الأجواء السياسية" التي سادت جلسة التصويت تلك، وأنه وافق على طرح مشروع نحاس على التصويت لأنه كان يتوقع سلفاً إسقاطه في مجلس الوزراء.
إن ما يقوم به الرئيس ميقاتي مستغرَب من رئيس وزراء يفترض أنه رئيس حكومة كل لبنان، وأنه يرأس حكومة "أكثرية" من حقها أن تمارس الحكم وفق برنامج محدد وضعتها لنفسه، ويفترض أنها سوف تُحاسب عليه من قبل الشعب في الانتخابات المقبلة، كما تبدو التسريبات بممارسة "حقه" في احتكار إعداد جدول أعمال الحكومة، إلا بما يتناسب مع مزاجه وآرائه وضمان التصويت لصالحه، رداً مباشراً على رغبة الأكثرية الموجودة في الحكومة المباشرة بالإصلاح وبناء أسس جديدة لدولة حديثة في لبنان، كما وفيه تعطيل للدولة وشؤون المواطنين الذين يأملون من هذه الحكومة الالتفات إلى أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وعدم تأجيل بتّ القضايا الملحة، والمباشرة بإصلاح ما هدمته الحريرية السياسية وأفسدته خلال الأعوام الماضية، وإقرار الموازنة، وكشف كل قضايا الفساد والهدر وسرقة المال العام التي حصلت.

بالطبع، وانطلاقاً من احترامها لمبادئ العمل الديمقراطي، لم تفرض الأكثرية الحالية التزامات على الرئيس ميقاتي حين اختارته كرئيس لحكومتها، لكنها بالتأكيد لم تكن تعرف أنه سيتعامل وكأنه امتداد لحكم المشيخة الحريرية، لا بل على الأكيد، أنها لم تكن تدرك أنه سيأخذ منها باليد اليسرى ما امتنعت أن تعطيه للحريري باليد اليمنى، فكانت "تهريبة" تمويل المحكمة الدولية، وكانت التعيينات التي لم تُستكمل لغاية الآن، وكانت حماية الموظفين المحسوبين على الحريري، والذين أفسدوا وتمرّدوا على وزرائهم، ولا حول ولا قوة لأكثرية لم تستطع أن تمرر مشروعاً إصلاحياً للأجور إلا بعد مخاض عسير لم يستطع بلعه رئيس الحكومة العتيد.
لكل هذا، لا تستطيع الأكثرية الحالية أن تغض النظر أكثر عما يجري في رئاسة مجلس الوزراء، ولا عن الطريقة التي تدار في أمور الدولة، فالحساب الديمقراطي مع الشعب قادم عام 2013، ويجب ألا تسمح للرئيس ميقاتي أن يخسّرها مصداقيتها مع جمهورها، في وقت يتحضّر الخصم لتلك المعركة، ويُعدّ لها العدة الإعلامية والسياسية والمالية والطائفية والمذهبية.

-          استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق