2022/02/28

هل استُدرج بوتين للحرب؟

تدحرجت الأمور بسرعة كبيرة، واندلعت الحرب في أوكرانيا وانخرط حلف الناتو والاوروبيين في حرب حقيقية مع الروس، ما زالت لغاية اليوم، تجري عسكرياً بالوكالة على الأرض الأوكرانية.

منذ الحرب الباردة، تحاشى القطبان الاصطدام العسكري المباشر، وتقاتلا بالوكالة على اراضي البلاد التي تنازعوا عليها أو حاولوا التدخل فيها، تماماً كما يحصل اليوم، حيث يقوم الأميركيون والأوروبيون بتقديم دعم عسكري ومادي وتصدير مقاتلين لهزيمة الروس في أوكرانيا، وبالرغم من التهديدات الأوروبية لم يصل الأمر- لغاية اليوم- للاشتباك المباشر.

وهنا يطرح السؤال: هل توقع بوتين ما يحصل، وهل استدرجه الغربيون الى حرب؟

في هذا الاطار، يمكن ترجيح فرضيتان:

1-    أن يكون بوتين قد استدرج الى حرب فعلاً، لم يكن يدرك حجم انخراط الناتو فيها

أصحاب هذه الفرضية، يشيرون الى أن حجم العقوبات على روسيا وشدتها، وقساوتها على الاقتصاد الروسي تشير الى انها كانت محضّرة مسبقاً وليست وليدة الأزمة. وفي الإطار العسكري، ظهر "إعلامياً" أن الروس يستخدمون آليات عسكرية قديمة، وأن تلك الآليات تعاني من نقص الوقود وغير ذلك.

ويستند هؤلاء الى أن الروس تقريباً خسروا الحرب الاعلامية في الأيام الاولى للحرب، فلا إعلام حربي حقيقي للروس، وكان الهجوم الغربي الاعلامي على منصات التواصل كاسحاً. انتشرت بسرعة مقاطع الفيديو المفبركة التي تستعير من حروب أخرى، وانتشرت أصوات التضامن مع أوكرانيا وشيطنة روسيا، وتمّ إظهار أن روسيا تخسر الحرب وأن الاوكرانيون يكبدونها خسائر كبرى بالعتاد والأرواح (بالرغم من عدم قدرة أحد على التأكد من ذلك).

ويؤكد هؤلاء أن بوتين لم يكن يدرك حجم الاستعداد الأوكراني للحرب، وأن الناتو كان يحضّر مسرح العمليات لإغراق روسيا في مستنقع أوكراني منذ مدة، واستطاع جرّها اليه.

 

2-    أن يكون بوتين قد خطط لهذه الحرب بدقة

 

أصحاب هذه الفرضية يشيرون الى أن الروس يتقنون جيداً حرب المعلومات، وأنهم نجحوا في السابق في اختراق المجتمعات الغربية، والتأثير على الانتخابات الأميركية، وبالتالي لا يمكن القول أنهم عاجزون عن الردّ على الهجمة الاعلامية الغربية في معركة الاعلام.

من الناحية العسكرية، يشير هؤلاء الى أن الأميركيين استمروا في القتال لمدة 18 يوماً قبل إعلانهم سقوط العاصمة العراقية بغداد، وذلك بالرغم من انتفاء إي دعم عسكري خارجي للعراق كما هو الحال مع أوكرانيا، بالاضافة الى أن العراق كان خاضعاً لعقوبات أممية وحظر طيران لأكثر من عقد من الزمن قبل تلك الحرب.

وبالتالي، يعتقد هؤلاء أن ما فعله الروس كان جزءًا من التكتيك، وليس فشلاً عسكرياً واستخبارياً وإعلامياً. يشير هؤلاء الى أن الروس كانوا يحاولون تجنّب خسائر بشرية ومادية هائلة من الطرفين، وأن الحسابات الروسية الاستراتيجية لعلاقة مستقبلية جيدة مع أوكرانيا تحيي تاريخاً من الصداقة، تجعل بوتين يريد أن يحصّل أهدافه السياسية عبر الضغط العسكري والتهديد بدون أن يخلق شرخاً وعداوة بين الشعبين الجارين لا يمكن ترميمها في المستقبل.

من هنا، غاب الاعلام الحربي الروسي عن انتصارات ميدانية واسعة روسية، ولم يتم تصوير الدمار في أوكرانيا أو تصوير أسر جنود لما في ذلك من تأثير على علاقة الشعب الأوكراني ووجدانه وذاكرته الجماعية.

 

بكل الاحوال، لا أحد يستطيع أن يجزم بأي من الفرضيتين، ولكن الأكيد ان الاستخبارات الروسية كانت تراقب الناتو وقواعده في أوكرانيا تحت مسمى "بعثات" ومراكز تدريب المتطرفين وسواها مما أعلنه بوتين. وإذا كان الروس – بالفعل- قد أخذوا على حين غرّة أو استخدموا تكتيكاً حربياً فشل في تحقيق الأهداف، فلا شيء يمنعهم من تغيير الاستراتيجية الحربية الاولى، بناءً على معطيات جديدة في الميدان.

ويبقى العالم بانتظار التطورات الميدانية والسياسية، ولا أحد يمكنه التكهن بمسار حرب، فالتاريخ يشير الى أن كل من دخل حرباً كان مؤمناً بالانتصار فيها، ولكن النتيجة أفرزت خاسرين في النهاية، وبدّلت خرائط عالمية، وأنهت أمبراطوريات. 

2022/02/25

بوتين لن يكرّر خطأ ستالين

فوجئ عدد من المتابعين بالسرعة التي تدحرجت فيها الأمور، والتي أدّت إلى حرب روسية في أوكرانيا، كان من المنتظر أن يقوم الأوروبيون بمساعٍ تجنّب أوروبا الحرب، في وقت تتصاعد التهديدات الأميركية، والتي كان يبدو أنها تريد دفع الأمور إلى التصعيد من أجل فرض عقوبات على روسيا.

كان واضحاً من مسار الأمور، أن بوتين كان ينتظر من الغرب وأوروبا أن تضغطا على أوكرانيا لتطبيق اتفاقيات مينسك، والوصول إلى تسوية تقضي، في الحدّ الأدنى، بالاعتراف بحياد أوكرانيا، على الرغم من أن الروس عادةً يفضّلون أن تكون الدول المحيطة بروسيا (أو ما يسمى الدول الحاجز)، دولاً تدور في فلكهم، لأنها تشكّل الخاصرة الرخوة، والتي يمكن اختراق روسيا منها

لقد عانى الروس دائماً قلقَ الجغرافيا. وما إشارة بوتين إلى أن معاهدة "برست ليتوفسك" تُعَدّ "خيانة شيوعية"، إلا تأكيدٌ أن التاريخ الروسي ما زال حاضراً بقوة في أذهان الاستراتيجيين الروس لغاية الآن.

قام الحكم الشيوعي، الذي سيطر على الحُكم في روسيا بعد الثورة البلشفية، بالتوقيع على معاهدة "برست ليتوفسك" في الـ3 من آذار/مارس 1918. بموجب شروط المعاهدة، اعترفت روسيا البلشفية باستقلال أوكرانيا وجورجيا وفنلندا، وتنازلت عن بولندا ودول البلطيق، من ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، إلى ألمانيا والنمسا والمجر، وتنازلت عن كارس وأردهان وباطوم لتركيا. وشكّل إجمالي الخسائر نحو مليون ميل مربع من الأراضي الروسية السابقة، وما يعادل ثلث سكان روسيا السابقة، أو نحو 55 مليون نسمة. وخسرت روسيا أغلبية مخازن الفحم والنفط والحديد، وكثيراً من صناعاتها. ودفع الروس ثمناً عسكرياً باهظاً فيما بعدُ بسبب التخلي عن تلك الأراضي، ووصف لينين بمرارة هذه الاتفاقية بأنها "هاوية الهزيمة والتقطيع والاستعباد والإذلال".

وفي الحرب العالمية الثانية، شكّلت الدول نفسها، وخصوصاً أوكرانيا، الخاصرةَ الرخوة التي استطاع هتلر من خلالها الوصول إلى أراضي الاتحاد السوفياتي. شنّ هتلر حملة عسكرية على الاتحاد السوفياتي، أطلق عليها اسم "بارباروسا"، نسبةً إلى الإمبراطور الألماني فريدريك الأول بربروسا، بحيث تقول الأسطورة إن بربروسا سيستيقظ من سباته وينقذ ألمانيا حين تحتاج إليه.

بدأت العملية في الـ22 من حزيران/يونيو 1941، وشنّ هتلر هجوماً على الأراضي السوفياتية من عدة محاور. وعلى محور بولندا - أوكرانيا، انقسم الأوكرانيون بين مؤيد للجيش الأحمر وآخرين (القوميين) ساعدوا هتلر في حملته العسكرية  من أجل الوصول إلى الأرضي الروسية.

انخرط الأوكرانيون بفعّالية في حملة الألمان، فشاركوا في الإدارة المحلية، وفي الشرطة الخاضعة للإشراف الألماني، والتي تهدف إلى اعتقال الأوكرانيين الموالين للسوفيات وتعذيبهم وقتلهم، كما عملوا حراساً للمعتقلات الألمانية. وتذكر المصادر التاريخية أنه، عشية عملية بارباروسا، سعى ما يصل إلى 4000 أوكراني، من الذين يعملون تحت أوامر ألمانية، للوصول إلى خلف الخطوط السوفياتية من أجل التخريب والقيام بعمليات حرب عصابات

تكبّد الروس عشرات ملايين القتلى في حربهم ضد هتلر، الذي غرق – في النهاية - في المستنقع الروسي، الأمر الذي تسبّب بهزيمته في الحرب العالمية الثانية. ولعلّ الثمن الباهظ، والذي دفعه الروس ثمناً لتراخي ستالين وإهماله الخطر المتأتي من الغرب وتأخره في التحرك السريع لردعه، هو ما سبّب هذه الكوارث في روسيا.

اليومَ، يشير عدد من الوثائق إلى أن النازيين الجدد هم الذين استولوا على السلطة في أوكرانيا بعد ثورة عام 2014 المدعومة من الغرب. وهناك كثير من التقارير الغربية، التي تتحدث عن قيام هؤلاء بحمل السلاح وقتل المواطنين الأوكران القاطنين في المناطق الشرقية، والذين يتحدّرون من القومية الروسية. بناءً عليه، وبما أن التاريخ الروسي ما زال ماثلاً للعيان في الذاكرة الجماعية الروسية، لا يمكن لروسيا أن تتغاضى عن الخطر القادم من الغرب، والذي يتخذ من أوكرانيا منصة لتقويض الأمن الروسي.

بناءً عليه، وبعكس ما يتم تسويقه في الغرب بشأن شخصية بوتين، على أنه مجرد متهوّر ومتعطّش إلى الدماء، يعمد بوتين إلى اختيار العقلانية والبراغماتية في تعاملاته الدولية. لقد اعتاد بوتين القيام بخطوات عسكرية محدودة وفعّالة في الوقت نفسه، كما فعل في كل من سوريا وجورجيا. وحتى في دول الاتحاد السوفياتي السابق، تعامل الروس بضبط أعصاب تجاه نشر الثورات الملوَّنة في محيطهم الجغرافي، والتي قامت بها الولايات المتحدة من أجل تغيير الأنظمة الموالية لروسيا، والإتيان بحكّام موالين كلياً للغرب، مع ما استتبع ذلك من إلغاء الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية وسواها.

لكن، يبدو أن الروس أيقنوا أن الاستراتيجية السابقة المتَّبعة لن تنفع هذه المرة. لقد أتى الرد الغربي، وخصوصاً الأميركي، مفرطاً، تجاه قرار روسيا الاعتراف باستقلال الجمهوريتين، فاندفع الغرب بسرعة إلى فرض عقوبات على خط الغاز "نورد ستريم 2"، الذي كان يُعَدّ قيمةً لروسيا، استراتيجياً واقتصادياً. وأظهر هذا الردّ أن الغرب يريد كسر روسيا، وليس الوصول إلى تسوية معها، وكما قال بوتين في خطاب الاعتراف بالجمهوريات، فإن "العقوبات ستُفرَض علينا مهما فعلنا، فقط لأننا موجودون، ونحاول أن نحافط على سيادتنا وقيمنا".

لقد بدا أن الإدارة الأميركية، وبايدن تحديداً، في عجلة من أجل فرض العقوبات على "نورد ستريم 2" حتى قبل بدء التصعيد العسكري الروسي، فما إن أنهى بوتين خطاب الاعتراف باستقلال الجمهوريات حتى توالت العقوبات، التي استمرت في التصاعد من دون انتظار التصعيد العسكري الروسي، ومن دون ردّ فعل روسي، إلى أن أعلن بايدن ما كان ترامب يسعى إليه: إيقاف العمل بـ"نورد ستريم 2"، عبر فرض العقوبات على الشركة الروسية الأُم التي تمتلكه.

وهكذا، لم يعد هناك أمام بوتين شيء يخسره، فلم يترك له الأميركيون أي خيار سوى الذهاب في معادلة عسكرية من أجل تأمين حياد أوكرانيا، ونزع السلاح منها، وتحييد الأخطار التي أعلنها في خطاب الاعتراف باستقلال الجمهوريات. باتت سمعة روسيا وأمنها على المحك، وأي تراجع سيُعَدّ بمثابة هزيمة ستكلّف الروس غالياً، كما حدث في الحرب العالمية الثانية. لقد أعلنها بوتين، صراحة: لن يقبل أن يكرّر مع الناتو خطأ ستالين مع هتلر: 

2022/02/22

تقييم نوعي لرسائل بوتين في خطاب استقلال الجمهوريات

خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أعلن فيه الاعتراف بجمهوريات الدونباس خطاباً تاريخياً بكل معنى الكلمة. لقد أرسل فيه رسائل في اتجاهات عدّة، ولكنّه بدا موجهاً في الأساس إلى الشعب الروسي، سواء الذي يعيش في روسيا، والذي سوف يتحمل نتائج العقوبات التي سيفرضها الغرب على البلاد، ليقنعه بأن ما يتحمله هو نتيجة لشرفه وكبريائه والحفاظ على سيادته وقيمه، أو إلى الروس المنتشرين في العالم، للتأكيد أن روسيا لن تنسى أبناءها في حال تعرضهم للمجازر، وهو أيضاً رسالة إلى العالم بأن "أمن روسيا" خط أحمر، ولا يمكن لدولة أن تتذرع بسيادتها، فتقوم بتقوية أمنها على حساب أمن الآخرين.

وفي ما يلي تقييم للرسائل التي تضمّنها الخطاب:

أولاً - قراءة جديدة للتاريخ الروسي 

أ‌ - الاتحاد السوفياتي "دولة شمولية"

بعكس ما يُشاع في الغرب من أن بوتين يمجّد إرث الاتحاد السوفياتي ويريد استعادته، خصَّص الأخير الجزء الأول من خطابه (يعادل ما نسبته أكثر من 25%) للهجوم على السياسات الشيوعية منذ الثورة البلشفية (وصفها بالانقلاب) ولغاية سقوط الاتحاد.

يبدو أن بوتين أقرب إلى روسيا القيصرية وسياساتها، ولا يؤيد السياسات التي كانت متبعة خلال الاتحاد السوفياتي، إذ اعتبر أن البلاشفة أسسوا دولة "شمولية" لا تتلاءم مع الإمبراطورية الروسية وتقاليدها، ولا تشبه الثقافة الروسية، وتمّت السيطرة عليها من قبل حزب وأقلية حزبية.

وصف بوتين ما فعله البلاشفة بأنه كان يهدف إلى الحفاظ على السلطة بأي ثمن، فقد قام لينين بإعطاء القوميين المتعصبين في دول الجوار ما يريدون، واقتطع مع ستالين الأراضي مع سكانها من روسيا، وقدماها لدول أخرى شبه مستقلة، مع إعطائها حق الانفصال عن الدولة الاتحادية ساعة تشاء من دون أي شروط، كما فرّطا بأراضي روسيا عبر اتفاقية "برست ليتوفسك".

وسرد بوتين نظرته الخاصة إلى سقوط الاتحاد، وردّه إلى الأزمة الاقتصادية وعدم القدرة على تلبية طموحات الشعوب، والأهم أن المتصارعين على السلطة في الحزب الشيوعي قاموا بتشجيع النزعات الانفصالية عبر "كلام فارغ حول توسيع الديمقراطية"... وحين فقدوا القدرة على الحفاظ على آليات القمع للحفاظ على السلطة، قاموا بفرط الاتحاد قبل سنتين من حصول التفكّك.

ب ‌- روسيا: المظلومية التاريخية

تحدث بوتين عن روسيا وما قدمته من مساعدات للدول التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي، وكيف تحمّلت بمفردها وزر الديون على الاتحاد. في المقابل، بادلها هؤلاء بالجحود، ومنهم أوكرانيا تحديداً، التي قامت بالابتزاز وبسرقة الغاز. وتتمّ معاملة الشعب الروسي في أوكرانيا كأنه جالية أجنبية، وتتم محاربة اللغة الروسية، ومعاقبة الكنيسة الموسكوفية، وانتهاك حقوق المسيحيين الأرثوذكس.

وفي إطار آخر، تحدّث عن دفاع الجنود الروس في القرن الثامن عشر عن مناطق أشاكوف على السواحل الجنوبية في البحر الأسود، والتي أطلق عليها "نوفاروسيا" (روسيا الجديدة)، بينما يقوم الأوكران اليوم بالسماح بقاعدة عسكرية أميركية في ذلك المكان، وبتدمير التماثيل التذكارية للقادة الروس الذين دافعوا عن المدينة.

ثانياً - التهديدات الجيو-استراتيجية لروسيا 

أ‌- في أوكرانيا

تحدث بوتين بإسهاب عن سيطرة الغرب، وخصوصاً سفارة الولايات المتحدة، على القرار السياسي في كييف، وعلى المرافئ والدولة، وكشف أن هناك وثائق لدى روسيا بأن كييف تقوم - بدعم غربي - بتأسيس مجموعات تخريبية لتدمير البنى التحتية في القرم، وتأسيس خلايا إرهابية سرّية لجرّ روسيا إلى نزاع مع أوكرانيا، ما يؤدي إلى مواجهة جيو-استراتيجية بين أوكرانيا وروسيا

وتحدث عما يقوم به حلف شمال الأطلسي من تجسس على روسيا عبر الأراضي الأوكرانية، وكيف يقوم بتثبيت أقدامه في الأراضي المجاورة لروسيا في أوكرانيا، وتأسيس مراكز بحرية لمحاربة الأسطول الروسي في البحر الأسود. وبما أن الدستور الأوكراني في المادة 17 لا يسمح بتأسيس قواعد عسكرية في أوكرانيا، فهم ينشرون قواعد أطلسية ويسمونها بعثات عسكرية.

ولعل الأخطر هو ما كشفه بوتين عن نيّة أوكرانيا، وعبر دعم عسكري من حلف الناتو، امتلاك أسلحة نووية، وهي التي تمتلك بنية تحتية لذلك منذ الاتحاد السوفياتي، كما كشف أن الناتو يهدف إلى نشر أسلحة دمار شامل في أوكرانيا، وأن روسيا لا يمكن إلا أن تردّ على هذا التهديد المحتمل، معتبراً أن كييف ستتحول إلى "مسرح عمليات حربية بقيادة أطلسية مباشرة".

ب ‌- في دول الاتحاد السوفياتي السابق

يعتقد بوتين أن أوكرانيا وجورجيا - بعكس ما يتم تأكيده - لن تنضما إلى حلف الناتو، وأن التاريخ يشي بأن الناتو لا يصدق وعوده. لقد وعد أعضاء الناتو السوفيات بأنهم لن يتوسعوا إلى الشرق مقابل توحيد ألمانيا، بينما فعلوا العكس. وقام الحلف بخمس موجات متتالية من التمدد، حتى أصبح على حدود روسيا مباشرة، معتبراً أن السياسة الثابتة للولايات المتحدة هي عدم وجود روسيا كدولة قوية.

الأهم أن الولايات المتحدة تعتمد مبدأ الضربة المفاجئة، ما يعني أن الروس سيكونون في مرمى واستهداف الناتو الذي يمكن أن يوجه ضربة مفاجئة من أوكرانيا بالتحديد، وأن الصواريخ يمكن أن تصل إلى الأراضي الروسية، وصولاً حتى فولغوغراد، وأن تسيطر على الفضاء الروسي وصولاً حتى الأورال.

التهديد الخطر للأمن الروسي مردّه إلى إمكانية وصول صواريخ الناتو إلى موسكو خلال 35 دقيقة، ومنها ما يصل إلى موسكو خلال 7 - 8 دقائق، وأخرى تحتاج إلى فقط 4 - 5 دقائق، وأكد بوتين أن "توسع الناتو إلى الشرق كان يهدف إلى هذا الأمر من الأساس".

ج‌ - في الداخل الروسي

يخشى الروس دائماً الاختراق الغربي. لذا، يعتبرون أن المعارضة هي جزء من محاولات الغرب لتقويض روسيا وإضعافها. وأورد بوتين مرتين في سياقين مختلفين في الخطاب اتهاماً إلى كل من الناتو وأوكرانيا بدعم المتطرفين والمتعصبين في شمال القوقاز، وبمحاولة تشجيع المتطرفين على تقويض روسيا من الداخل.

ثالثاً - رسالة إلى الداخل: المسّ بالشرف والكبرياء الروسي

لطالما عُرف الشعب الروسي بأنه مؤمن بعظمة بلاده ومستعدّ للتضحية برفاهيته ومصلحته من أجل المصلحة العليا للبلاد. وفي هذا السياق، أتت عبارات لافتة في خطاب بوتين تخاطب هذا الحسّ الجماعي الروسي؛ ففي سياق الحديث عن توسع حلف الناتو إلى الشرق، أورد عبارات "بصقوا علينا"، ردّوا على مطالبنا بـ"الكلاب تنبح والقافلة تسير"، "الأمن حكر فقط على أعضاء الأطلسي، وليس من حق روسيا".

واعتبر أن الغرب يرفض حواراً متكافئاً مع روسيا، وسيرد على تطور روسيا بفرض العقوبات من دون أي حجة، وذلك فقط "لأننا موجودون ونحاول أن نحافظ على سيادتنا وقيمنا"، وأن الغرب الذي يسمي نفسه "العالم الحضاري" يسكت عن المجازر التي ترتكب بحقّ الروس القاطنين في أوكرانيا، والّذين لا يُسمح لهم بالعيش في أرضهم والتكلّم بلغتهم. 

2022/02/21

المسيّرة "حسان": ماذا في التوقيت؟


ببيان مقتضب أعلن ح ز ب الله ، أن "الطائرة المسيّرة "حسان" جالت داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، لمدة 40 دقيقة في مهمة استطلاعية امتدت على طول 70 كيلومترًا شمال فلسطين المحتلة، وبالرغم من كل محاولات العدو المتعددة والمتتالية لإسقاطها عادت ‏الطائرة حسان من الأراضي المحتلة سالمة."

بالتأكيد، لقد قام العديد من الخبراء العسكريين في كل من لبنان والمنطقة بدراسة تداعيات هذا الأمر، ومدى فعالية القبة الصاروخية وكلفة استخدامها مقابل مسيّرة صغيرة بتكلفة متواضعة، لكن الأهم هو الحدث بحد ذاته، وتقييمه ومدى أهميته بالنسبة للبنان.

قد يكون لا يكون إرسال المسيّرات في مهمة استطلاعية شيئاً جديداً، لكن خطاب الأمين العام لح ز ب الله الذي سبق إرسال هذه المسيّرة بالتحديد، صنع منها حدثاً فريداً بحد ذاته، وخاصة لجهة الإشارة الى امتلاك الحزب دفاعاً جوّياً، وأن تحويل الصواريخ الى صواريخ دقيقة وصناعة المسيّرات باتت صناعة محلية لبنانية.

ولهذا، يمكن القول أن التوقيت اليوم، قد يكون مرتبط بأحد أمرين:

1-    أن يكون الأمر جزءًا من تحقيق التوازن الردعي:

أي أن يكون الخطاب وإرسال المسيّرة هو جزء من عملية الردع بين لبنان و”اسرائيل” المستمر منذ حرب تموز 2006، وحيث استطاع الحزب أن يشكّل ردعاً متوازياً مع "اسرائيل" التي كانت في السابق تشنّ الحرب على لبنان ساعة تشاء، وتتذرع بشتى الأعذار الواهية للقيام بعمليات عسكرية في الداخل اللبناني.

بشكل عام، إن الردع يعني "محاولة طرف منع الطرف الآخر من القيام بعمل يرى فيه ضررًا له، أو على الأقل منعه من التفكير بالقيام بما يهدد له مصالحه أو مكانته"، ويرتكز على عنصرين حاسمين: الحرب النفسية، أي منع العدو من مجرد التفكير بالفعل. والثاني عسكري، وهو يرتكز على امتلاك القدرة على الردّ بالمثل، أو الانتقام وإيقاع الضرر. وفي هذا الإطار، يشكّل الخطاب والمسيّرة العاملين المذكورين.

2-    أن يكون الموضوع مرتبط بالإقليم:

وهذا يعني أن خطاب السيد نصرالله وإرسال المسيّرة مرتبطان بشروط يحاول الأميركيون فرضها على إيران، أو مطالب متعلقة بنفوذها في الاقليم كشرط للتقدم في الملف النووي. لقد حاولت إيران منذ اللحظات الاولى للتفاوض أن تفصل ملفها الصاروخي (وهو جزء من أمنها القومي لا يمكن مجرد التفكير بالتفاوض حوله)، وملف نفوذها في الاقليم عن المفاوضات النووية في فيينا. بينما حاول الأميركيون ومن ورائهم "الاسرائيليين"، أن يحصلوا على تنازلات إيرانية أقلّه في الاقليم مقابل رفع العقوبات.

في هذه الحالة، تكون الرسائل التي أرسلها الحزب عبر خطاب أمينه العام والمسيّرة المحلية الصنع، رسالة منسّقة مع الايرانيين، تهدف الى التأكيد أن أي ضغوط على إيران  لن تجدي نفعاً، لأن الصواريخ الدقيقة والمسيّرات باتت محلية الصنع وبالتالي لا فائدة من محاولة الضغط على إيران لتقديم تنازلات في الملف اللبناني.

بكل الأحوال، مهما كانت الدوافع، وبما أن لبنان في خضم مفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية، يمكن الاستفادة من الردع المتحقق في أية مفاوضات قادمة حول الحدود البحرية مع لبنان، فيتمسك المفاوض اللبناني بورقة قوة إضافية، بأن لبنان جاهز وقادر على الدفاع عن كل شبر من ارضه سواء في البر أو في البحر. 

2022/02/19

أوكرانيا: كيف ستتصرّف الصين في حال نشوب نزاع؟

تستمرّ التحذيرات الأميركية للصين من مغبة مساعدة روسيا على غزوها أوكرانيا، عبر تقديم المساعدات إليها، في حال تعرُّضها لعقوبات شاملة وقاسية، أو تأمين أسواق بديلة لروسيا في حال خسر الروس القدرة على الاتصال بالأسواق العالمية بسبب العقوبات الأميركية، أو إن تمّ إخراجها من نظام سويفت للتعامل المالي.

وكانت الصين انضمّت إلى روسيا بشأن رفض توسع حلف شمال الأطلسي، الناتو، في خطوة تدلّ على مزيد من التقارب بين البلدين في مواجهة الضغط الغربي، وذلك عبر بيان مشترك تمّ إصداره خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للصين عند افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية.

وعلى الرغم من تركيز إدارة بايدن على التحدي الصيني للهيمنة الأميركية، وعلى القلق الأميركي من تصاعد نفوذ الصين العالمي، فإن الازمة في أوكرانيا طغت على كل ما عداها من اهتمامات، وتحوّل الخطر الروسي اليوم الى الخطر الأول، بعد أن كان في مرتبة أدنى بالنسبة إلى الأميركيين، على اعتبار أن "روسيا دولة اقليمية وليست عالمية"، كما ادّعى باراك أوباما يوماً واستثار غضب الروس.

واليوم، تأتي الأزمة الأوكرانية لتُفيد الصينيين من عدّة نواحٍ، وذلك على الشكل التالي:

1-  لطالما أكّد الأميركيون أن هناك 3 مناطق استراتيجية مهمة لهم في العالم، هي - بالإضافة الى أميركا اللاتينية التي تُعَدّ حديقتهم الخلفية - أوروبا، جنوبي شرقي آسيا، والشرق الأوسط. لذلك، فإن أي توتر في أيّ من هذه المناطق، سيشغل الأميركيين عن "الانخراط التام" في المناطق الأخرى.

2- إن قدرة روسيا على تحدي حلف الناتو وإبعاده عن جوارها الاقليمي ومجالها الحيوي، سيكون سابقة مفيدة للصين لتطالب الولايات المتحدة، في وقت لاحق، بالابتعاد عن مجالها الحيوي في آسيا، وتقوم بتهديدها في حال لم تفعل.

3-  إن إشغال الروس للولايات المتحدة الأميركية، سيسمح للصين بزيادة قدرتها ونفوذها العالميَّين، وسيسمح لها بوقت إضافي من أجل ترسيخ أُسس مشروع "طريق الحرير الجديد". وذلك بالضبط ما فعله الروس خلال الحرب السورية.

بانخراطهم في الحرب السورية، ودعم صمود الرئيس السوري بشار الأسد وحلفائه، أفشل الروس مشروع باراك أوباما، "التوجه نحو آسيا"، والذي كان يقضي بقيام ترتيبات في الشرق الأوسط، وسَحب الجيش الأميركي من الشرق الأوسط وتوجيهه نحو بحر الصين الجنوبي من أجل احتواء الصين. إن إشغال الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط، واضطرار أوباما الى إعادة الجيش الأميركي الى الشرق الأوسط، تحت عنوان "مكافحة داعش" عام 2014، سمحا للصينيين بتوسيع مشروعهم التنموي الكبير، والذي يهدف الى زيادة توسعهم العالمي.

لمعرفة التفكير الصيني الاستراتيجي، لا يمكن إلاّ أن نعود إلى مفهوم "التنمية السلمية" المستمَدّ من أفكار السياسي الصيني، زو إنلاي  Zhou Enlai ، الذي كان وزير خارجية الصين في عهد ماوتسي تونغ، والذي أسس مبدأ "التعايش السلمي". 

تؤكد الدراسات التاريخية أن الدبلوماسي Zhou Enlai  هو مؤلف المبادئ الخمسة للتعايش السلمي (الاحترام المتبادل للسيادة والسلامة الإقليمية للدول، وعدم الاعتداء المتبادل، وعدم التدخل المتبادل في الشؤون الداخلية، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي).

واستمرّ دينغ شياو بينغ في سياسة زو إنلاي، لكنه أضاف إليها فكرة "إخفاء القدرات الذاتية والاستمرار في إظهار عدم القدرة low profile. وهو مبدأ بدأ الرئيس الصيني مؤخراً الابتعادَ عنه.

تقوم سياسة دينغ شياو بينغ، والمستمرة الى حدٍّ ما لغاية يومنا هذا، على ما يلي:

-      أَبدِ ملاحظات لطيفة. لا تَكُن فجاً.

-      كرّس موقعك وثبته.

-      تعامل بهدوء مع المسائل.

-      اخفِ قدراتك، واعرف أن كل شيء في أوانه.

-       كن جيداً في إظهار الحد الأدنى من القدرات.

-       لا تحاولْ استلام القيادة من الآخرين.

-       اصنع فارقاً.

ووفق هذا الأساس، قامت الاستراتيجية الكبرى الصينية على مبادئ الدفاع عن السلامة الإقليمية الصينية، وإعادة توحيد الصين، وحل النزاعات الإقليمية، بالإضافة إلى اتّباع سياسة مكافحة الهيمنة، والمحافظة على بيئة دولية مؤاتية للنموّ الاقتصادي في الصين، وتجنّب خلق تصوّر يفيد بأن الصين تشكل تهديداً للأمن الدولي. في النهاية، الهدف هو، كما يبدو، الارتقاء إلى مستوى القوة العظمى في العالم، لكن بهدوء ومن دون استثارة الآخرين، وكل شيء في أوانه.

وهكذا، سيستفيد الصينيون من انشغال الأميركيين بأوروبا بدلاً من التوجه الى آسيا والانخراط في احتواء الصين بصورة كاملة. إن استخدام الولايات المتحدة الأميركية مبدأَ "الاحتواء المزدوج" سيكون أقل تأثيراً في الصين من اعتماد الاحتواء للصين، كما حدث مع الاتحاد السوفياتي في أيام الحرب الباردة.

وعليه، وكما فعل الصينيون في أعقاب العقوبات الأميركية على روسيا بعد "ضمها القرم"، بحيث قامت الصين باستثمار ما يقارب 600 مليار دولار في الاقتصاد الروسي، سيكون للصين دور أكبر اليوم في مساعدة روسيا في أزمتها مع الناتو في أوكرانيا، وذلك عبر ضخ مزيد من الأموال في الاقتصاد الروسي، وعبر شراء كل ما لا يتاح للروس بيعه في السوق العالمية، كما عبر استخدام العملتين المحليتين للبلدين، وسيكون ذلك ضربة إضافية للدولار الأميركي في حال تمّ، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الطاقة العالمية والذي سيشكّل ضربة للاقتصادات الغربية، ككل. 

2022/02/14

هل يعدّ بوتين مفاجأة للغرب في أوكرانيا؟

 يحبس العالم أنفاسه قلقاً من حصول عمل عسكري غير متوقع في أوكرانيا، يؤدي إلى اندلاع صراع عسكري بين حلف الناتو وروسيا، وخاصة بعدما استمر الأميركيون في الإعلان (من دون دليل) أن بوتين على وشك شنّ هجوم برّي وغزو للأراضي الأوكرانية، وهو ما ينفيه الروس.

 

في كل الأحوال، وبغضّ النظر عن التقديرات الأميركية بقرب الهجوم، التي يشكك العديد من الخبراء في صحتها، والتي ينفيها الرئيس الأوكراني، معتبراً أن لا شيء على حدود بلاده يشي بقرب الغزو... بغضّ النظر عن تلك العوامل، لا يمكن التوقع أن الروس سوف يشنّون حرباً تقليدية على أوكرانيا، وسيقومون بغزو شبيه بحروب الحرب العالمية الثانية، بعدما أتقن الروس فنون القتال في "الحروب الهجينة"، واستخدموا المناطق الرمادية في النزاع، ما أعطاهم قوة إضافية لا تتوافر في الحروب التقليدية.

 

يختلف الباحثون على تعريف "الحرب الهجينة" التي تُسمّى أيضاً "الحرب غير الخطّية"، أو التدابير النشطة، أو الصراع في "المنطقة الرمادية". لكن يمكن اختصار تلك التعريفات بالإشارة إلى أن الدولة التي تنخرط في "حرب هجينة" تقوم بزعزعة الاستقرار في الدولة المنوي التدخل فيها، وذلك عبر وسائل غير عسكرية، مثل دعم جماعات المعارضة المحلية، أو التحريض على القيام بالتظاهرات لإطاحة النظام، أو من خلال العمليات السيبرانية، وحملات التضليل والحروب النفسية الإعلامية، إضافة إلى الضغط الاقتصادي، إلخ. وقد تنطوي أساليب الحروب الهجينة على نشر سرّي لقوات عسكرية "غير محددة المعالم" أو مقاتلين غير نظاميين لاستخدامهم في تقويض الاستقرار حين تدعو الحاجة.

 

الفائدة الاستراتيجية التي تجنيها الدول عبر الحروب الهجينة تتلخّص في حجب تورط الدولة المعتدية. إن الغموض حول الجهة المنفذة، ووجود هامش من القدرة على الإنكار، يؤديان إلى عرقلة ردّ الفعل، وتفتيت المعارضة الداخلية أو الدولية، وذلك لعدم وجود الإثبات الدامغ، ولإعطاء مساحة كافية لتراجع الدول عن ردّ الفعل بسبب مصالحها القومية.

 

كيف يطبّق الروس هذه الاستراتيجية؟

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، استغلّ الغرب ضعف النفوذ الروسي على الساحة العالمية، فقام بتوسيع حلف الناتو، وتمدّد الحلف إلى المجال الحيوي لموسكو. ولم يكتفِ الأميركيون بذلك، بل شجّعوا الثورات في البلدان المحيطة بروسيا، وشجّعوا المعارضة الروسية على الثورة بهدف إطاحة بوتين. وبسبب قدراتهم المتواضعة، كتم الروس غيظهم خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، لكن الأمر تغيّر مع إعلان كل من جورجيا وأوكرانيا رغبتهما في الانضمام إلى حلف الناتو عام 2008.

 

كانت حرب جورجيا عام 2008 عاملاً حاسماً في رؤية الروس للتهديدات الاستراتيجية، وقرارهم تحديث جيشهم وترسانتهم العسكرية وزيادة موازنة الدفاع. كما طوّر الروس منذ ذلك الحين أدواتهم العسكرية التقليدية وغير التقليدية، ومنها حرب المعلومات، حتى بات الروس في مقدمة الدول التي تستخدم حرب المعلومات، والتي تُعدّ وسيلة رخيصة وفعّالة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الروسية.

 

لقد فاجأت روسيا حلف الناتو ثلاث مرات في السابق، ولا يُستبعد أن يُعِدّ الروس مفاجأة جديدة اليوم في التوتر حول أوكرانيا:

 

1 - المفاجأة الأولى: جورجيا عام 2008

 

 اعتقد الأميركيون بعدم قدرة الجيش الروسي على التوغّل عسكرياً في جورجيا. تدخّل الروس كقوات حفظ سلام، وللدفاع عن كل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ضد "الاعتداء الجورجي" وانتهت الحرب بسرعة، وأعلن الإقليمان الجورجيان استقلالهما عن جورجيا، ولم يقم الناتو بأي ردّ.

 

2- المفاجأة الثانية: أوكرانيا 2014

 

مثّل انتشار الجيش الروسي بطريقة مموّهة – أو ما يسمّى الرجال الخضر- في شبه جزيرة القرم، والسيطرة عليها من دون قتال، مفاجأة للغرب والناتو، وحقّق ميزات استراتيجية للروس. أما في إقليمي الدونباس، فقد اندفع الآلاف من المقاتلين (المتطوعين) الروس لمساعدة "إخوانهم" (أوكرانيين من أصول روسية) الذين يتعرّضون "للإبادة" من قبل الجيش الأوكراني والقوات اليمينية النازية المتطرفة (بحسب الدعاية الروسية). لم يكن بالإمكان إثبات تورّط الجيش الروسي مباشرة في القتال، وحقّق الغموض قدرة لموسكو على التفلّت من ردود الفعل العالمية، فيما لو قام الجيش الروسي بغزو الأراضي الأوكرانية بطريقة تقليدية.

 

3- المفاجأة الثالثة: في سوريا

 

بالرغم من تهديد الأميركيين للروس بحرب استنزاف طويلة الأمد في سوريا شبيهة بالاستنزاف الذي قام به "المجاهدون" للجيش السوفياتي في أفغانستان، استخدمت روسيا قواتها المسلحة واستطاعت أن تصل إلى المياه الدافئة، وتضع قواعدها العسكرية على شواطئ البحر المتوسط.

 

4المفاجأة الرابعة: أوكرانيا من جديد؟

 

يمكن أن تمثّل أوكرانيا، مرة أخرى اليوم، مفاجأة روسية للعالم، وذلك عبر تنفيذ أساليب الحرب الهجينة لا عبر القيام بحرب تقليدية وغزو برّي، كما يتنبّأ الأميركيون:

 

طوّرت روسيا استراتيجية خاصة بها في حرب المعلومات تقوم على مبدأ "السيطرة الانعكاسية". وهي نظرية وُضعت خلال فترة وجود الاتحاد السوفياتي، وتمّ تطويرها من قبل الروس مؤخراً بفعل الفضاء الإلكتروني واستخدامه ضمن الحروب الجديدة. وتنص نظرية السيطرة الانعكاسية على أنه يمكن تحقيق السيطرة من خلال "استجابات انعكاسية غير واعية من المجموعة المستهدَفة".

 

يبدأ تطبيق النظرية عبر تزويد المجموعة المستهدفة - بشكل منهجي- بالمعلومات المصمَّمة لاستفزاز ردود فعل يمكن التنبّؤ بها، ومرغوبة سياسياً واستراتيجياً بالنسبة إلى روسيا. لا يسعى هذا النهج الروسي إلى تقويض القوات المسلحة للخصم فحسب، بل أيضاً إلى التأثير في تصورات السكان المستهدَفين بطريقة تخدم المصالح الروسية. إن هذا التكتيك يتيح للكرملين استغلال الأفكار المسبّقة والاختلافات في الرأي بين أعدائه، ما يجعله قادراً على اختراق الجبهة المعارضة من دون ردّ فعل قوي.

 

من هنا، يمكن القول إن الآليات التي يمكن أن يعتمدها الروس ستكون مزيجاً من أدوات الحروب الهجينة التي ذكرت سابقاً، والتي تتّسم بالغموض وتسمح بتفلّت الروس من العقوبات الأميركية والأوروبية، إضافة إلى حرب المعلومات، وتطبيق مبدأ "السيطرة الانعكاسية"... أثبتت هذه الوسائل نجاعتها في العديد من المناطق، وعوّضت عن النقص في القدرات الروسية، وسمحت للروس بالتفلّت من ردّ الفعل، فلماذا يغامر بوتين بغزو برّي مكلف شبيه بغزوات الحرب العالمية الثانية؟