2022/02/08

حشود عسكرية في أوروبا الشرقية: إعلان حرب أم رسائل سياسية؟

 

أثار قيام الولايات المتحدة الأميركية بنشر قوات إضافية في بولندا وفي أوروبا الشرقية حفيظة الروس الذين كانوا قد قاموا بنقل قوات عسكرية من سيبيريا إلى بيلاروسيا، إضافة إلى قيام قاذفات روسية بقدرات نووية بالتحليق في طلعات جوية فوق بيلاروسيا. وقالت وزارة الدفاع الروسية إن قاذفتين من طراز "تو-22 أم 3" قامتا بطلعات تدريبية مع القوات الجوية البيلاروسية، في مهمة استغرقت 4 ساعات، تبعتها دوريات جوية فوق بيلاروسيا.

 

وتأتي هذه التوترات العسكرية والحشود المتبادلة، في وقت يقلق فيه الأوروبيون من تدحرج الأمور بين الأميركيين والروس إلى اندلاع شرارة حرب بين روسيا وأوكرانيا، لا يُعرف كيف ستتدحرج الأمور بعدها وتؤدي إلى الإضرار بالأمن والمصالح الأوروبية ككل. لذا من المقرر أن يقوم كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الـ7 والـ8 من شباط/ فبراير الحالي، والمستشار الألماني أولاف شولتز في الـ14 والـ15 من شباط /فبراير، بزيارات إلى كل من موسكو وكييف لبحث التطورات وسبل احتواء الأزمة.

 

وهكذا، يبدو أن الرئيس الأميركي جو بايدن، ومن خلال القيام بإرسال مزيد من التعزيزات العسكرية إلى أوروبا الشرقية، يهدف إلى إرسال أربع رسائل في اتجاهات مختلفة، وهي على الشكل التالي:

 

1الرسالة الأولى: إلى موسكو ومعها الصين

 

يحاول بايدن، من خلال الدفع بمزيد من الحشود العسكرية، إرسال رسائل تهديدية إلى موسكو، ومعها الصين، بأن الولايات المتحدة قد "عادت"، وأن التهديدات العسكرية لحلفائها في أوروبا الشرقية (من قبل موسكو) أو في تايوان (من قبل الصين) لن تمر مرور الكرام.

 

ويدرك الأميركيون أن القوات العسكرية التي يرسلونها لن تجعل الروس يقبلون بالمطالب الغربية بسحب الحشود العسكرية الروسية عن حدود أوكرانيا، لأن ذلك يمسّ بسيادتهم على أرضهم، وهو ما رفضه الكرملين الذي أكد أنه سينشر قواته في أي مكان يريده على الأراضي الروسية. وهكذا، تبقى تلك الحشود مجرد رسائل تهديد وإظهار للقوة في عالم متغيّر تشعر فيه الولايات المتحدة بتراجع دورها العالمي شيئاً فشيئاً.

 

2الرسالة الثانية: إلى الداخل الأميركي

 

في ظل تراجع غير مسبوق في شعبيته الداخلية، وعلى أبواب انتخابات نصفية يبدو فيها الرئيس الأميركي جو بايدن عبئاً ثقيلاً على مرشحي الحزب الديمقراطي، يحتاج بايدن وإدارته إلى إظهار قدرات الرئيس وقوته في مواجهة التحديات الخارجية، والتصدي لبوتين والقدرة على تهديده.

 

وما التهديد الأميركي بفرض عقوبات شخصية على الرئيس بوتين نفسه إلا مؤشر على ضيق حال الإدارة الأميركية تجاه التهديدات الروسية، وفشل الخطة الأساسية التي وضعها بايدن المرشح، الذي "وعد" بعلاقة مقبولة من التعاون مع الروس.

 

ويلاحَظ أن عقيدة الحرب الباردة ما زالت إطاراً فكرياً يسيطر على التيار التقليدي في الحزب الديمقراطي بسياسيّيه ومفكريه وإعلاميّيه؛ فالتفاهمات السابقة التي عقدها وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري مع نظيره الروسي سيرغي لافروف حول سوريا عام 2016 لاقت صدًى سلبياً لدى هؤلاء، بينما قيام ترامب بقصف مطار الشعيرات في سوريا لاقى تصفيقاً حاراً من قبل هؤلاء أنفسهم، بالرغم من معاداتهم لترامب وسياساته.

 

3الرسالة الثالثة: إلى الحلفاء في أوروبا الشرقية

 

مثّلت مشاهد الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان رسالة إلى حلفاء الأميركيين الذين يعتمدون على المظلة الأمنية الأميركية، بأن الولايات المتحدة شريك قد لا يمكن الاعتماد عليه، وأنه يمكن أن يتخلى عن حلفائه ويتركهم لمصيرهم حين تتبدل أولوياته ومصالحه.

 

في هذا الإطار، تخشى دول أوروبا الشرقية التي عانت من سيطرة الاتحاد السوفياتي من تخلٍّ أميركي عنها يجعلها لقمة سائغة لموسكو التي تنظر بقلق إلى دور تلك الدول في تهديد أمنها.

 

والمفارقة أنها ليست المرة الأولى التي تذهب تلك الدول، وخاصة بولندا، بعيداً في تخطّيها الخطوط الحمر الروسية؛ ففي العام 2009، أعلنت بولندا موافقتها على المشاركة في الخطة الأميركية لإنشاء الدرع الصاروخية، وذلك خلال زيارة بايدن نفسه بصفته نائباً للرئيس الأميركي. حينذاك أعلن بايدن أن الإجراء يهدف إلى طمأنة البولنديين والآخرين في شرق أوروبا إلى أن إدارة الرئيس باراك أوباما لن توقّع أي صفقات مع روسيا تضرّ بأمنهم.

 

وفي عام 2017، عمدت إدارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما إلى تنفيذ واحدة من أكبر عمليات انتشار القوات الأميركية في أوروبا منذ الحرب الباردة، في إطار عملية "أتلانتيك ريزولف"، وذلك بنشر قوات أميركية تتنقل بين بولندا ودول البلطيق والمجر ورومانيا وبلغاريا، وتهدف إلى "تعزيز أمن المنطقة القلقة من تصرفات موسكو".

 

4الرسالة الرابعة: إلى دول الناتو الغربية

 

إن تركيز الولايات المتحدة على احتواء الصين، يعني عملياً أن حلف الناتو صار من أدوات التاريخ، وأنه لا دور له في مستقبل العلاقات الدولية المقبلة. وتزايد القلق الأوروبي على مستقبل العلاقة بين ضفتي الأطلسي بعد مجيء ترامب الذي اعتبر أوروبا خصماً، وحاول سحب الجنود الأميركيين من ألمانيا، ودعا إلى أن يقوم الأوروبيون بحماية أنفسهم بأنفسهم، ثم تراجع منسوب التفاؤل الذي تحقق مع مجيء بايدن، بعدما قام الأخير بتأسيس حلف عسكري جديد "أوكوس" لاحتواء الصين، مع بريطانيا وأستراليا، متجاهلاً حلفاءه في أوروبا الغربية، ومتصيّداً صفقة غواصات مع أستراليا على حساب فرنسا.

 

في هذا الإطار، يمكن أن نلحظ أن بايدن وإدارته يريدان اليوم تأكيد استمرار الناتو وأهميته بالنسبة إلى الأميركيين، وأن التوجّه نحو آسيا لا يعني أن أمن أوروبا بات في درجة أقل من الأهمية، وتأسيس "أوكوس" لا يعني أن الناتو لم يعد ملائماً للتحديات المقبلة.

 

في الخلاصة، إن وجود حشود عسكرية أميركية في أوروبا الشرقية - ليس من ضمن مهامها الانخراط في القتال كما أعلن الأميركيون أنفسهم - لن يدفع الروس إلى التراجع، بل سيزيدهم إصراراً على الحصول على ضمانات أمنية بعدم تمدّد الناتو إلى حدودهم، ووقف نشر أسلحة هجومية في دول أوروبا الشرقية، وهو تعهّد تريده موسكو خطياً، بسبب عدم الثقة بالتزام الأميركيين بتعهداتهم السابقة، وخاصة أن تلك التعهدات كانت قد أُعطيت شفهياً لغورباتشوف في أواخر الثمانينيات ولم يتم الالتزام بها. وبالرغم من ذلك، تبقى الحرب بين الروس والناتو خياراً غير مرجّح في المرحلة القصيرة والمتوسطة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق