2010/07/29

مَن يُخرج المسيحيين من عين النار؟

تعيش الساحة السياسية حالة من القلق والترقب، يرافقها خطابات عالية النبرة وتهديدات متبادلة بين الاطراف السياسية، تتخذ من المحكمة الدولية وقرارها الاتهامي وقودًا لتوتير الساحة اللبنانية وتطبيقًا لتنبؤات أشكينازي والصحافة الاسرائيلية حول اشكالات وتوترات سيعيشها لبنان بموازاة صدور قرار بلمار الاتهامي.

لعل جولة سريعة على تصريحات مسيحيي الموالاة، ومقارنتها بما يصدر من تصريحات عن تيار المستقبل نفسه يجد أن الفريق المسيحي "تبرع" بجعل نفسه رأس حربة في المشروع التآمري القادم على لبنان، بينما يجهد الفريق الآخر في الموالاة في تنحية نفسه لتجنب فتنة سنية شيعية يتعذّر حسم الوضع الميداني فيها لصالح من يريد اشعالها، وعلى ما يبدو لن تنجو منها المنطقة بأكملها.

فهل يرى اصحاب هذا المخطط أن المدخل قد يكون بإشعال فتنة مسيحية – مسيحية أو مسيحية اسلامية؟ وهل يبقى مسيحي في الشرق، في حال اندلاع هذه الفتن، ودخول المسيحيين وقود فيها؟

قبل أن تطل تباشير المحكمة الدولية بعد، وفي ظل الكلام عن قرار اتهامي سيصدر، بادر البطريرك صفير الى التصريح بمعرفته أن "المحكمة الدولية دائمًا ما تكون نزيهة وتحكم بالحق، وعلينا أن نؤمّن لها حرية العمل من دون تأثير عليها، وذلك لكي تنطق بالحكم العادل" ولكن ما رأي البطريرك صفير بشهود الزور، وبظلم ضباط اربعة سجنوا ظلمًا؟

وإذا كان البطريرك قد استند الى ما قاله له جعجع من أنه ليس هناك من شهود زور، وأنه يرفض تشكيل لجنة للبحث في هذا الامر، وذلك في تصريح له في 27 تموز الجاري، فيبدو أن جعجع لم يطلع غبطته أنه عاد واعترف بان هناك فعلاً شهود زور، وأن سوريا هي التي أرسلتهم وفبركتهم وذلك في تصريح آخر بعد يومين فقط أي في 29 تموز الجاري، فاجتهد البطريرك على أساس التصريح الاول، فأخطأ في مواكبة التصريح الثاني.

ان الازمة المستجدة، تظهر أن بعض المسيحيين لم يتعلموا شيئًا من دروس الماضي، ويبدو أن بعضهم يراهن اليوم على الاميركيين كما راهن عليهم عام 1989. في المرة السابقة، راهن جعجع على الاميركيين ولبى طلبًا صريحًا لمورفي بالهجوم على العماد عون، فكان أن اوصله رهانه الى السجن، وتحمّل مسيحيو لبنان ما تحملوه من تهميش وهجرة بسبب الرهانات الخاطئة ومحاولة فرض واقع سياسي وعسكري في المناطق المسيحية.

بيد أن تجربة السجن لم تغيّر في جعجع، فها هو اليوم يراهن على الاميركيين، ويستقوي بـ "الشقيقة" مصر، وسفيرها الذي يطمح الى أن يكون سفيرًا فوق العادة كما كان قبله جيفري فيلتمان ورستم غزالي.

والسؤال: على ماذا يتكل مسيحيو الموالاة ومنهم جعجع لاطلاق تصريحات نارية بهذا الشكل؟

هل يتكل جعجع اليوم، على مخطط بدأ تنفيذه مع الاشكالات المفتعلة التي قام بها اليونيفيل في الجنوب، والتي هدفت من ضمن مخطط متعدد الابعاد، الى ابعاد الجيش اللبناني واشغاله في الجنوب لتخلو الساحة عسكريًا في الساحة المسيحية، للتحضير والتدريب والتحضر لمواكبة ميدانية لأمر ما يحضّر اقليميًا؟

هل يتكل مسيحيو الموالاة، على ما تروّج له اسرائيل من ضربة عسكرية واشكالات في ايلول القادم ترافق القرار الظني، فيستعدون لحجز دور لهم منذ الآن في سيناريو الفتنة القادمة؟

وماذا لو تمّ احتواء الوضع، وأدّت التدخلات الاقليمية والوساطات الى افشال سيناريو الفتنة، واتفق الحريري وحزب الله، على مخرج للأزمة، ماذا سيكون موقف هؤلاء؟ هل سيرفضون الحل؟ وهل سيبقون وحيدين في الساحة ضد حزب الله؟

هل يدرك هؤلاء أن لا مصلحة للمسيحيين في الدخول عنوة الى مشكلة لا طاقة لهم على احتمال نتائجها مهما كانت؟

هل مَن يسدي اللبنانيين والمسيحيين خدمة، ويذكّر جعجع بكوارث رهاناته السابقة؟ وهل من يخبره عما فعلته مصر "الشقيقة" بالفلسطينيين؟

وهل من يخبر مسيحيي الموالاة ما كان من أمر جميع الذين حاولوا ركوب الموجات الدولية والاقليمية من المسيحيين، فوجدوا أنفسهم وأدخلوا المسيحيين في دوامات لم تنته ولن تنتهي الا بتقليص عددهم وانقراضهم من الشرق؟ هل من يخبرهم أنه لم يبقَ مسيحيين في العراق، وان مسيحيي فلسطين باتوا معدودين، وأن مسيحيي لبنان تقلصوا حتى بات عددهم يوازي ثلث السكان المقيمين؟

هل من يسألهم: ماذا فعل الاميركيون للمسيحيين في العراق، وكيف فرغ العراق من مسيحييه؟
من المؤكد أن مسيحيي لبنان ومن خلالهم مسيحيي الشرق يعيشون خطرًا حقيقيًا على وجودهم ودورهم، وعليهم ان يدركوا ذلك، وأن يتيقنوا أن الغرب تخلى عنهم منذ زمن بعيد، وإن مصلحته تقضي بالتخلص منهم كما فعل بالمسيحيين العراقيين والفلسطينيين من قبلهم، وكما يحاول أن يفعل الحكم المصري بأقباط مصر.

لذا، من واجب مسيحي لبنان اليوم مقاومة ما يحضّر ضدهم وعبرهم من مؤامرات على الوطن وعلى وجودهم فيه، وذلك عبر:

- النأي بالذات عن لعب أي دور في الفتنة القادمة أو سيناريوهات التوتير القادمة الى لبنان، فلن يسلم منها أحد إن اندلعت، بل ستحرق لبنان بمسلميه ومسيحييه.

- الاتعاظ من التجارب والاستفادة منها في المستقبل، وعدم الوثوق ولا الاتكال على الدول الاجنبية للحماية.

- الايمان بأن لا خيار لهم الا الاندماج بالمحيط وبأن لبنان جزء لا يتجزأ من المنطقة، وعليه مواجهة ما يحاك له بامتلاك جميع مقومات القوة.

- الكفّ عن التطلع الى تقسيم لبنان، وقيام دويلة طائفية، لأن من شأن هذا الامر أن ينهي لبنان ويفني المسيحيين قبل المسلمين فيه.

والاهم من هذا كله، تقديم المصلحة العامة على المصالح الفردية الذاتية.

2010/07/27

الدين والاعلام في خدمة الانسان

أقامت محافظة حمص ضمن مهرجان القلعة والوادي، ندوة بعنوان "الدين والاعلام في خدمة الانسان"، حاضر فيها كل من مفتي الجمهورية العربية السورية الشيخ أحمد بدر حسون، ومطران حمص للروم الملكيين الكاثوليك اسيدور بطيخة، وترأست الجلسة الباحثة ليلى نقولا الرحباني، وفي ما يلي نص الكلمة التي ألقتها رئيسة الجلسة:

لطالما كان الاختلاف بين البشر، حقيقة تاريخية، اختلفت باختلاف مراحل الزمن وتطوره والبيئة الحاضنة له. والاختلاف يعني أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله، وبهذا المعنى، يكون الاختلاف أشمل وأعمّ من الضد؛ لأن كل ضدّين مختلفان، ولكن ليس كل مختلفين ضدّين. عليه، يمكن القول ان الاختلاف في القول والتفكير لا يعني "الضد" دائماً، الا أن الثقافة السائدة، والصور النمطية المتبادلة جعلت "الاختلاف" يُعطى معنى التباين والصراع الذي يدفع الى محاولة الغلبة.
وفي مقاربة لموضوع الاختلاف الطبيعي بين البشر، لا بد من نظرة تقييمية موضوعية لمسار الاختلاف الديني الذي بات سمة القرن الواحد والعشرين، وإدراك حقيقته وجوهره، حيث يلبس الصراع اليوم طابعًا ثقافيًا، يعيد الى الأذهان، عصورًا غابرة طبعتها الحروب الدينية وغلب عليها صفات حروب الجهاد المقدس، والحروب العادلة، التي أساءت الى الانسانية وأعاقت تطورها، وأدخلت الانسان في جدليات "التأليه" والحقيقة المطلقة، حيث لا حقيقة إلا واحدة، وكل ما عداها هو ضرب من "أعمال الشيطان"، يقوم بها "الكافرون" أو"الفاسقون" أو"المجرمون" أو"الهراطقة"...

وإذا انطلقنا من أسس تعاليم يسوع المسيح، سنجد أنّ القيم المعيارية لا تختلف كثيراً عمّا بشّر به النبي محمد، وعما جاء في القرآن الكريم من أخلاق التسامح والعفو والرحمة والصبر والمحبّة... لا بل إن سبر الإنجيل والقرآن في هذه القيم، تجعلنا ندرك أن لا فرق بينهما، وإن كان فرق، فقد يكون في الفهم أو التفسير لا فرقاً في العمق والمعنى.
بداية، إن اي حوار مفترض انطلاقه بين الاثنين يمكن أن يُبنى على ما جاء في القرآن الكريم، الذي عندما أراد أن يفتح باب الحوار مع أهل الكتاب، إنطلق في محاولة الحوار من نقطتين تتعلّقان بالعقيدة:
- النقطة الأولى وحدانيّة الله، التي تنفتح على التوحيد في العقيدة والعبادة والطاعة من خلال كلّ مفردات الحياة، على أن ينخرط الجميع في الحوار في كلّ الأمور انطلاقًا من مسلّمة "التوحيد". وهو ما عكسته الآية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً}
- النقطة الثانية وهي تكملة الآية السابقة: {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله{ . أي أن ينطلق الاثنان من أنّ الإنسان واحد يعيش في موقع إنسانيّته، لا يختلف واحد عن آخر، ولا يتميّز إنسان عن إنسان من خلال اللون والجنس والعرق والأرض والمال والنسب... فالخصائص الإنسانيّة التي خصّ الله بها الناس، لا تمثّل إمتيازات تتصاعد في حجم الانفتاح الإنسانّي، لتجعل إنساناً ربّاً لإنسان، بل من خلال الادراك أن للجميع حقوقهم وواجباتهم ومسؤوليّاتهم، وهم سواسية أمام الله والقانون الإلهيّ.

وفي محاولة لتأطير وترسيخ أسس الحوار المطلوب بين المسيحية والاسلام، لا بد من التركيز على "معرفة الانسان" أو بالعبارة السقراطية "اعرف نفسك"، إذ لا يمكن التأسيس لبناء جسر تواصل مع الآخر إلاّ بفهم الذات في عمليّة ولوج الداخل الروحيّ، حتّى لا يُملي الآخرون على الذات فهماً لذاتها لا تتعرّف عليه إلاّ إذا عادت إلى تأمّل ذاتها تأمّلاً صافياً. ففي أجواء الضوضاء والدعوات الى التعصب والتكفير يكفّ الانسان عن التفكير ويعجز عن أن يفهم نفسه، فكيف يمكن له أن يفهم غيره؟
نأخذ بعين الاعتبار هذه المقاربة الفلسفية السقراطية التي تحثّ على معرفة الانسان، باعتبار أن لازمها البيّن معرفة الرب، من خلال توأمة المعيارين، الاول وهو "اعرف نفسك" التي يضيف اليها بعض الفقهاء "من عرف نفسه، فقد عرف ربّه"، أما الثاني فهو اعتماد "الحكمة" باعتبار ان الحكيم هو الله، وما على الانسان الا السعي، نحو قمة الحكمة؛ نحو الله.
عندما ينطلق الإنسان ليفهم نفسه وليمتلك حرّيته في ما يقرّر ما يريد أو ما لا يريد، سيّما وأنّه يستطيع أن يحاور ذاته، عندئذٍ فقط يمكنه أن يحاور الآخرين، فيكفّ الانسان عن أن يكون ذاتاً تصارع ذاتاً، ليصبح فكراً يصارع فكراً، وينطلق الحوار في الحياة تيّاراً يهدر وينبوعاً يتفجّر وحركة تحرّك الفكر والعاطفة والوجدان، ومنهجاً للسير بالحياة إلى أهدافه الكبيرة.
انطلاقًا من كل هذا، كان لا بد من ندوتنا هذه التركيز على دراسة ومعرفة كيف يحدد الانسان نفسه من خلال دينه، أو، بالاحرى، كيف يحدد الدين نظرته الى هذا الانسان، على أمل أن يستطيع كل واحد منا ان يكتسب معرفة نفسه وادراك قيمته كانسان مخاطب بالدين يكرّس قيمته الانسانية من خلاله، عندها فقط يستطيع أن يكون هو ولا يكون غيره وعندها فقط يصبح الالتزام الديني جسرًا للوصول الى الآخر وليس فقط للإطلالة عليه، أو الاختلاف معه وتكفيره.
ولأن خطُّ الرسالات السماوية يظهر أنّه خطّ الإنسانيّة السائرة نحو تحقيق أهدافها القيمية، من غير المبرر ان تكون النصوص الدينيّة مبرّراً للصراع، بل يجب أن تكون مجالاً للتلاقي حول هدف الأديان ورسالتها ألا وهو الإنسان.
بدأ الصراع عندما بدأ الخلط بين المتحول والثابت، والعابر والدائم في القيم الدينية، ولعل ادراك الثابت في منظومة القيم الدينية الضاربة في قعر الذات الانسانية، والتي تطال عمق الوجدان الانساني في جوهره ووجوده وخلقه، وفي صفاته التي منحه اياها الله، يؤدي الى التركيز على معايير الحق والعدل والتسامح بما هي أسس هذه المنظومة القيمية الراسخة، واستخدامها في ملاقاة الآخر في المسير نحو السلام واحقاق الحق، فالسلام هو قبل كل شيء ثقافة وخيار وإرادة، ثم عمل وممارسة، ممارسة يمكن ان تنبع من قول السيد المسيح: " كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، فافعلوه أنتم أيضًا لهم".

لماذا اخترنا لهذه الندوة عنوان: الدين والاعلام في خدمة الانسان؟
لأن رسالتي المسيحية والاسلام أكدتا أن للانسان كرامة كيانية لا يجوز التفريط بها على الاطلاق، فالانسان، بحسب هذه الرسالات، يقوم في منزلة القطب الأساس والمركز ومحور الكون كلّه. يقولان: كرامة الانسان مستلّة من كرامة الله، لأن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله ... هكذا تقول المسيحية، ويجاريها الاسلام بالقول: ان الله يكرّم بني آدم ويأمر الملائكة بالسجود له ... ثم يضيف: الله خلق الانسان في أحسن تقويم.
ان معرفة الانسان من خلال نظرة كل من الرسالتين المسيحية والاسلامية إليه تبدو الأساس لمعرفة القيم المشتركة بينهما، فإن اختلفا على جوهر الله وطبيعته، كيف تتجلى نظرتهما الى المخاطب، الى الانسان، الى هذه القيمة الأسمى على الارض؟.