2010/07/27

الدين والاعلام في خدمة الانسان

أقامت محافظة حمص ضمن مهرجان القلعة والوادي، ندوة بعنوان "الدين والاعلام في خدمة الانسان"، حاضر فيها كل من مفتي الجمهورية العربية السورية الشيخ أحمد بدر حسون، ومطران حمص للروم الملكيين الكاثوليك اسيدور بطيخة، وترأست الجلسة الباحثة ليلى نقولا الرحباني، وفي ما يلي نص الكلمة التي ألقتها رئيسة الجلسة:

لطالما كان الاختلاف بين البشر، حقيقة تاريخية، اختلفت باختلاف مراحل الزمن وتطوره والبيئة الحاضنة له. والاختلاف يعني أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله، وبهذا المعنى، يكون الاختلاف أشمل وأعمّ من الضد؛ لأن كل ضدّين مختلفان، ولكن ليس كل مختلفين ضدّين. عليه، يمكن القول ان الاختلاف في القول والتفكير لا يعني "الضد" دائماً، الا أن الثقافة السائدة، والصور النمطية المتبادلة جعلت "الاختلاف" يُعطى معنى التباين والصراع الذي يدفع الى محاولة الغلبة.
وفي مقاربة لموضوع الاختلاف الطبيعي بين البشر، لا بد من نظرة تقييمية موضوعية لمسار الاختلاف الديني الذي بات سمة القرن الواحد والعشرين، وإدراك حقيقته وجوهره، حيث يلبس الصراع اليوم طابعًا ثقافيًا، يعيد الى الأذهان، عصورًا غابرة طبعتها الحروب الدينية وغلب عليها صفات حروب الجهاد المقدس، والحروب العادلة، التي أساءت الى الانسانية وأعاقت تطورها، وأدخلت الانسان في جدليات "التأليه" والحقيقة المطلقة، حيث لا حقيقة إلا واحدة، وكل ما عداها هو ضرب من "أعمال الشيطان"، يقوم بها "الكافرون" أو"الفاسقون" أو"المجرمون" أو"الهراطقة"...

وإذا انطلقنا من أسس تعاليم يسوع المسيح، سنجد أنّ القيم المعيارية لا تختلف كثيراً عمّا بشّر به النبي محمد، وعما جاء في القرآن الكريم من أخلاق التسامح والعفو والرحمة والصبر والمحبّة... لا بل إن سبر الإنجيل والقرآن في هذه القيم، تجعلنا ندرك أن لا فرق بينهما، وإن كان فرق، فقد يكون في الفهم أو التفسير لا فرقاً في العمق والمعنى.
بداية، إن اي حوار مفترض انطلاقه بين الاثنين يمكن أن يُبنى على ما جاء في القرآن الكريم، الذي عندما أراد أن يفتح باب الحوار مع أهل الكتاب، إنطلق في محاولة الحوار من نقطتين تتعلّقان بالعقيدة:
- النقطة الأولى وحدانيّة الله، التي تنفتح على التوحيد في العقيدة والعبادة والطاعة من خلال كلّ مفردات الحياة، على أن ينخرط الجميع في الحوار في كلّ الأمور انطلاقًا من مسلّمة "التوحيد". وهو ما عكسته الآية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً}
- النقطة الثانية وهي تكملة الآية السابقة: {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله{ . أي أن ينطلق الاثنان من أنّ الإنسان واحد يعيش في موقع إنسانيّته، لا يختلف واحد عن آخر، ولا يتميّز إنسان عن إنسان من خلال اللون والجنس والعرق والأرض والمال والنسب... فالخصائص الإنسانيّة التي خصّ الله بها الناس، لا تمثّل إمتيازات تتصاعد في حجم الانفتاح الإنسانّي، لتجعل إنساناً ربّاً لإنسان، بل من خلال الادراك أن للجميع حقوقهم وواجباتهم ومسؤوليّاتهم، وهم سواسية أمام الله والقانون الإلهيّ.

وفي محاولة لتأطير وترسيخ أسس الحوار المطلوب بين المسيحية والاسلام، لا بد من التركيز على "معرفة الانسان" أو بالعبارة السقراطية "اعرف نفسك"، إذ لا يمكن التأسيس لبناء جسر تواصل مع الآخر إلاّ بفهم الذات في عمليّة ولوج الداخل الروحيّ، حتّى لا يُملي الآخرون على الذات فهماً لذاتها لا تتعرّف عليه إلاّ إذا عادت إلى تأمّل ذاتها تأمّلاً صافياً. ففي أجواء الضوضاء والدعوات الى التعصب والتكفير يكفّ الانسان عن التفكير ويعجز عن أن يفهم نفسه، فكيف يمكن له أن يفهم غيره؟
نأخذ بعين الاعتبار هذه المقاربة الفلسفية السقراطية التي تحثّ على معرفة الانسان، باعتبار أن لازمها البيّن معرفة الرب، من خلال توأمة المعيارين، الاول وهو "اعرف نفسك" التي يضيف اليها بعض الفقهاء "من عرف نفسه، فقد عرف ربّه"، أما الثاني فهو اعتماد "الحكمة" باعتبار ان الحكيم هو الله، وما على الانسان الا السعي، نحو قمة الحكمة؛ نحو الله.
عندما ينطلق الإنسان ليفهم نفسه وليمتلك حرّيته في ما يقرّر ما يريد أو ما لا يريد، سيّما وأنّه يستطيع أن يحاور ذاته، عندئذٍ فقط يمكنه أن يحاور الآخرين، فيكفّ الانسان عن أن يكون ذاتاً تصارع ذاتاً، ليصبح فكراً يصارع فكراً، وينطلق الحوار في الحياة تيّاراً يهدر وينبوعاً يتفجّر وحركة تحرّك الفكر والعاطفة والوجدان، ومنهجاً للسير بالحياة إلى أهدافه الكبيرة.
انطلاقًا من كل هذا، كان لا بد من ندوتنا هذه التركيز على دراسة ومعرفة كيف يحدد الانسان نفسه من خلال دينه، أو، بالاحرى، كيف يحدد الدين نظرته الى هذا الانسان، على أمل أن يستطيع كل واحد منا ان يكتسب معرفة نفسه وادراك قيمته كانسان مخاطب بالدين يكرّس قيمته الانسانية من خلاله، عندها فقط يستطيع أن يكون هو ولا يكون غيره وعندها فقط يصبح الالتزام الديني جسرًا للوصول الى الآخر وليس فقط للإطلالة عليه، أو الاختلاف معه وتكفيره.
ولأن خطُّ الرسالات السماوية يظهر أنّه خطّ الإنسانيّة السائرة نحو تحقيق أهدافها القيمية، من غير المبرر ان تكون النصوص الدينيّة مبرّراً للصراع، بل يجب أن تكون مجالاً للتلاقي حول هدف الأديان ورسالتها ألا وهو الإنسان.
بدأ الصراع عندما بدأ الخلط بين المتحول والثابت، والعابر والدائم في القيم الدينية، ولعل ادراك الثابت في منظومة القيم الدينية الضاربة في قعر الذات الانسانية، والتي تطال عمق الوجدان الانساني في جوهره ووجوده وخلقه، وفي صفاته التي منحه اياها الله، يؤدي الى التركيز على معايير الحق والعدل والتسامح بما هي أسس هذه المنظومة القيمية الراسخة، واستخدامها في ملاقاة الآخر في المسير نحو السلام واحقاق الحق، فالسلام هو قبل كل شيء ثقافة وخيار وإرادة، ثم عمل وممارسة، ممارسة يمكن ان تنبع من قول السيد المسيح: " كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، فافعلوه أنتم أيضًا لهم".

لماذا اخترنا لهذه الندوة عنوان: الدين والاعلام في خدمة الانسان؟
لأن رسالتي المسيحية والاسلام أكدتا أن للانسان كرامة كيانية لا يجوز التفريط بها على الاطلاق، فالانسان، بحسب هذه الرسالات، يقوم في منزلة القطب الأساس والمركز ومحور الكون كلّه. يقولان: كرامة الانسان مستلّة من كرامة الله، لأن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله ... هكذا تقول المسيحية، ويجاريها الاسلام بالقول: ان الله يكرّم بني آدم ويأمر الملائكة بالسجود له ... ثم يضيف: الله خلق الانسان في أحسن تقويم.
ان معرفة الانسان من خلال نظرة كل من الرسالتين المسيحية والاسلامية إليه تبدو الأساس لمعرفة القيم المشتركة بينهما، فإن اختلفا على جوهر الله وطبيعته، كيف تتجلى نظرتهما الى المخاطب، الى الانسان، الى هذه القيمة الأسمى على الارض؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق