2015/09/24

مبادرة بوتين: هل من أفق للنجاح؟


د. ليلى نقولا الرحباني
بالتزامن مع انخراط الروس عسكرياً - بشكل علني - في الحرب الدائرة في سورية، ينوي الرئيس فلاديمير بوتين طرح مبادرة جديدة خلال اجتماع مجلس الأمن على المستوى الوزاري الذي تترأسه روسيا في 30 من أيلول الجاري، لتشكيل جبهة موحَّدة ضد الإرهاب، تضمّ جميع الأطرا ف الدولية والإقليمية، بما فيها تركيا ودول الخليج، إلى جانب الدولة السورية.

السفير الروسي في لبنان؛ ألكسندر زاسبكين، تحدّث عن بعض بنود هذه المبادرة، فحدّدها بمراحل ثلاث؛ تنص المرحلة الأولى على ضرورة توحيد جميع الأطراف لضرب تنظيم "داعش" الإرهابي في سورية، تحضيراً للاتفاق السياسي لحل الأزمة، بينما تؤمّن المرحلة الثانية دعوة القوى الإقليمية والدولية المؤثّرة للضغط على المجموعات المسلحة للقبول بالحل السياسي، أما المرحلة الثالثة فتقتضي توحيد الجهود الإقليمية والدولية لوقف تمويل المجموعات المسلّحة، ومنع عبور المسلحين عبر حدود الدول المجاورة لسورية.

ومع انطلاق المبادرة الروسية، والحديث الأميركي والفرنسي المستجد عن التراجع عن بند "ضرورة رحيل الأسد كمقدمة للحل السياسي"، ما هي مؤشرات نجاح تلك المبادرة؟

بالنسبة للدول الإقليمية: بعد الخسائر التي مُنيت بها الجبهة الجنوبية، وخوف الملك الأردني من تزايد نفوذ "الإسلاميين" في سورية، ما قد يغريهم للإطاحة به في المملكة، يبدو أن الأردن لا يمكن أن يشكّل عقبة في وجه الحل السياسي، ولا يمكن أن تستمر الجبهة الجنوبية في القتال في حال قرر الأميركيون الذهاب إلى الحل السياسي.

لكن يبقى هناك إمكانية عرقلة الحل من قبل السعودية وتركيا:

السعودية: الغرق المتدحرج للسعودية في الوحول اليمنية، والخلافات التي تنشب بين أفراد العائلة المالكة، والتقارير المالية التي تشير إلى استنزاف موارد الخزينة السعودية - في ظل تراجع أسعار النفط - والصفقات والسمسرات والفساد والاختلاس وكلفة الحرب على اليمن، ستجعل السعودية مجبَرة في وقت من الأوقات على الانخراط في حلف جدي لمحاربة الإرهاب، وإلا كان الثمن باهظاً في الداخل السعودي، وعلى مستقبل المملكة ككل.

أما بالنسبة لتركيا، فليست حال تركيا بأفضل من السعودية، خصوصاً في ظل تنامي الحديث الغربي عن اتجاه تركي لحرب داخلية طويلة، هذا بالإضافة إلى زيادة البطالة، وتراجع سعر صرف الليرة التركية، كما الأزمة السياسية المرتقَبة في حال أسفرت الانتخابات عن عدم فوز حزب أردوغان بالغالبية التي تجعله يحكم منفرداً، وهو المرجَّح.

وهكذا، ما هي إلا شهور وستكون السعودية وتركيا مجبَرتان على الانخراط في التسوية الإقليمية الكبرى، وإلا خسرتا كل شيء، لأنه عندما يحين أوان التسوية، سيكون ممنوع على أحد عرقلتها.

أما بالنسبة للأوروبيين، وبالرغم من أن موجات اللجوء السوري إلى أوروبا تشكّل رافداً اقتصادياً هائلاً للمجتمعات الهرمة في أوروبا، وبالرغم من حاجة الأوروبيين إلى يد عاملة غير مدرّبة، بالإضافة إلى حاجتهم إلى الأطباء ويد عاملة تدفع الضرائب لتنتشل صناديق الضمان من أزمتها المالية، بسبب زيادة عدد المتقاعدين، إلا أن اندساس الإرهابيين مع موجات اللجوء إلى أوروبا يشكّل قلقاً أمنياً للأوروبيين، يحتاجون معه إلى مزيد من المعلومات الاستخبارية والأمنية، وهذه بمعظمها بيد الجيش السوري ومخابراته.

إذاً، هل آن أوان الحل في سورية؟

بالرغم من المؤشرات الإيجابية، إلا أن تلك المؤشرات لا توحي بأن الأزمة في مصيرها للحل خلال وقت قصير، فالتطورات الإقليمية تحتاج إلى وقت لكي تتبلور ضغوطاً داخلية واستراتيجية على الدول الإقليمية لتقبل بقطع الإمداد والتمويل عن المجموعات الإرهابية، ولغاية الآن، لا يبدو الأميركيون جديّين في الذهاب نحو التسوية الكبرى في المنطقة، ولا يبدون جديين في محاربة "داعش" التي استطاعت معها الولايات المتحدة أن تعود إلى الساحة الشرق أوسطية من باب "الحرب على الإرهاب" مجدداً، وإلى أن يحين الأوان، سيبقى الميدان السوري هو الحكم على التطورات المستقبلية والموجّه لها.

2015/09/17

اللعنة السورية !


د. ليلى نقولا الرحباني
بالرغم من حماوة المعارك، وبروز حدة الاستقطاب منذ ما يزيد على سنوات أربع على الحرب الدائرة في سورية، إلا أنه أول مرة تبرز هذه الصراحة الروسية والوضوح وعدم المواربة في الدعم العسكري للنظام السوري، وتتجلى في المناورات العسكرية المرتقبة، والإعلان عن وصول دفعات من الخبراء العسكريين الروس، وغيرها من الإجراءات الميدانية في الداخل السوري، وأهمها توسيع بعض المطارات الحربية، يضاف إليها التنسيق العسكري الروسي - الإيراني الذي تجلى في اللقاءات التي عقدها قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني مع الرئيس فلاديمير بوتين.

هذه الإجراءات الروسية والإيرانية الميدانية تشير بوضوح إلى أن الأزمة السورية ما زالت مصدر استقطاب دولي وإقليمي، وأنها مستمرّة وستطول، ولكن، على المقلب الآخر، تكشف الأحداث المتسارعة في العالم أن "اللعنة السورية" تلاحق كل من أشعل النار فيها:

1-   أوروبياً:

منذ سنوات خمس، وعندما انخرط الأوروبيون بقوة في حرب الإطاحة بالنظام السوري، كان واضحاً - منذ البداية - أن موجات اللاجئين ستزداد، وأن أوروبا القريبة جغرافياً من الشرق الأوسط لن تسلم من انتشار الفوضى المفتعَلة فيه، لكن الأوروبيين الطامحين إلى التخلّص من خلاياهم الإرهابية بأقل الأثمان الإنسانية والقانونية، عمدوا إلى فتح جسر جوي للإرهابيين الذين ترعرعوا في المجتمعات الأوروبية، ودرسوا في مدارس أوروبا وجامعاتها وتتلمذوا فيها، فقاموا بتسهيل وصولهم إلى سورية، التي قال عنها وزير الخارجية الأميركي جون كيري يوماً عنها إنها "مغنطيس جاذب للإرهاب".

منذ سنوات خمس، والفرنسيون والبريطانيون يقبضون ثمن مواقفهم السورية؛ عقود استثمار وصفقات أسلحة وسواها.. ومنذ سنوات خمس والأوروبيون يصمّون آذانهم ويغلقون أعينهم عن مآسي اللاجئين المشردين، وعن إبادة الأقليات الدينية في الشرق، وعن صرخة اللبنانيين بأن عبء النزوح السوري بات يهدد المجتمع والدولة اللبنانية كيانياً، ليس هذا فحسب، بل كانوا يساهمون - بالتعاون مع المنظمات الدولية الإنسانية - بتشجيع اللاجئين على التوجّه إلى لبنان، وإغرائهم بالمال "النقدي" وغير ذلك.

وفجأة، انقلب السحر على الساحر، إذ تُواجه أوروبا اليوم أسوأ أزمة إنسانية في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية، وباتوا عاجزين عن التعامل معها، حتى بات التشدد على الحدود ينذر بـ"ثورة" لاجئين، ستضطر معها أوروبا إلى استعمال نفس الأساليب القمعية التي دانت في السابق استعمالها مع المتظاهرين في العالم العربي.. وقد ينقلب السحر على الساحر بشكل أكبر، حين يصبح الجسر الجوي معكوساً برياً، وهكذا قد يعود الإرهاب المصدّر إلى المشرق، مرتجعاً - ومع الشكر - إلى دول الغرب.

2-   إقليمياً:

أ‌-       تسير السعودية بخطى سريعة نحو الغرق في الرمال اليمنية المتحركة، وتشير التقارير الدولية المالية إلى أن السعودية باتت تستهلك الفائض المالي لديها، بما يصل إلى الخط الأحمر المسموح به، ناهيك عن المشاكل الداخلية والمؤامرات والدسائس بين أمراء المملكة أنفسهم.

ب‌- أما تركيا فيتنبأ لها الغربيون أنها تسير بخطى حثيثة إلى حرب داخلية وعدم استقرار، خصوصاً إذا لم يستطع أردوغان أن يحصل على تفويض الشعب بالحكم منفرداً في الانتخابات المقبلة. وبكل الأحوال، هبوط الليرة بشكل حاد والأزمة الاقتصادية والاجتماعية، والبطالة المتزايدة التي يلقي الاتراك باللوم بها على سياسة أردوغان في سورية، واستقباله اللاجئين السوريين، يشيرون إلى أن تركيا تحتاج إلى "معجزة" لتخطّي كل هذه الأزمات السياسية والاقتصادية، والعودة إلى ما كانت عليه من ازدهار قبل سنوات خمس.

هل هي "لعنة سورية"؟ إنها "لعنة" شعب كان يعيش في حد أدنى من الاستقرار، ولكنه كان ينشد "الحرية" والعيش في ظل نظام شفاف بدون فساد ولا مخابرات ولا خشية أمنية، فإذا به يصبح مخيَّراً بين الموت بالحرب، أو الموت في المتوسط، أو الموت ذليلاً في رحلته إلى المجهول.. لعنة شعوب أصلية من سريان وأشوريين ويزيديين وكلدان.. شعوب تناقصت حتى أصبحت أقليات، قرر الغرب المستعمر أنّ عليها أن ترحل وتترك أرض أجدادها، وتترك وراءها تراث آلاف السنوات من الحضارة، ليدمرها برابرة العصر الحديث.. "لعنة" مسيحيين يقال لهم يومياً: "ما لكم ولهذه الأرض، مكانكم في الغرب"، ولكنهم يرفضون، ويتشبثون، فكيف لهم أن يتركوا مسيحهم مصلوباً وحده هنا؟ إنها "لعنة" المشرق التي ستلاحق كل من أوقد ناراً في أرض مقدسة وطأتها أرجل الأنبياء والقديسين والقديسات على مدى العصور.

2015/09/10

إنسانية اوروبية تجاه السوريين.. ولكن!


د. ليلى نقولا الرحباني
يوماً بعد آخر تزداد الأزمة الإنسانية السورية صعوبة، ويتقاطر السوريون أفواجاً للقرع على أبواب الاتحاد الأوروبي؛ في مشهد كارثي إنساني لم يشهد التاريخ الحديث مثله.

ومع تكاثر قوارب الموت في المتوسط، ومع انتشار صور الذلّ على طرقات الهجرة إلى الأمان والاستقرار، وتصاعد الخطاب اليميني المتطرف في أنحاء أوروبا، مقابل تعاطف شعبي فجّرته صورة الطفل إيلان الكردي "النائم" على ضفاف المتوسط، يبدو مشهد اللجوء السوري بهذه الطريقة في أجزاء منه متوقَّع، وفي أجزاء أخرى مستغرَب، وذلك للأسباب الآتية:

1-      من الطبيعي أن يفرّ السوريون من الموت والدمار في مناطقهم إلى مناطق أكثر أمناً، وإن كانوا اليوم بدأوا بتوسيع مروحة خياراتهم إلى البلدان الأبعد من جوارهم الإقليمي، فلأن دول الجوار قد استقبلت الملايين منهم، إلى حد جعلها تنوء تحت ضغط اللجوء السوري، ولم تعد تستطيع استيعاب عدد أكبر من اللاجئين.

2-      حملة التضامن الإنسانية العالمية طبيعية، كما من المنطقي أن يتضامن المجتمع المدني العالمي مع مآسي السوريين، ويدعو دول أوروبا ودول العالم كافة إلى استقبال اللاجئين السوريين، بعد الصور التي هزّت ضمير العالم، وحرّكت أشياء ومواجع في أكثر القلوب تحجّراً.

ولكن!
أ‌-        من المستغرَب أن تصدح أصوات بعض الرؤساء في الاتحاد الاوروبي - ومنهم ميركل - بالإنسانية والتعاطف وضرورة استقبال اللاجئين، وهي في وقت قريب جداً كانت قد ظهرت في فيلم فيديو وهي قاسية القلب متحجّرة، تقول لطفلة فلسطينية لاجئة: "عليكم بالرحيل، فإنْ قبلنا بكم، سيأتي كل اللاجئين الفلسطينيين من لبنان، وسيأتينا لاجئون من أفريقيا"! فما الذي حوّل المرأة الحديدية ذات القلب المتحجّر، التي سلخت جلد اليونانيين وأذلّتهم ورمتهم في المجهول، إلى "ماما أنجيلا" التي يبتهل اللاجئون السوريون بالدعاء لها ليل نهار؟

ب‌-    من المستغرَب أيضاً هذه المفاجأة الأوروبية بحشود اللاجئين السوريين، علماً أن بعض دول الاتحاد الأوروبي مساهمة بالحرب العسكرية والاقتصادية على الشعب السوري، وكان من الطبيعي التوقُّع أن موجات بشرية من الفارين من المجهول والموت ستقتحم أوروبا.. ثم، كيف هبطت الإنسانية فجأة على هؤلاء، وهم أنفسهم من دمّر العراق وليبيا ودفعها نحو أتون الحرب والإرهاب الذي أدمى البشر والحجر؟

ت‌-    ومن المستغرَب كيف أن دول الاتحاد الأوروبي ودول العالم تبحث عن حلول لمشكلة اللاجئين المتفاقمة، من خلال تأمين مأوى لهم، أو مدّهم بالمساعدات الإنسانية، بينما الحلّ سهل جداً، وأمام أعين الجميع: المساهمة في إيقاف الحرب في سورية يسمح لهؤلاء بالبقاء في بيوتهم بكرامتهم.. والمساهمة الأوروبية تتجلى في توقُّف الأوروبيين أنفسهم عن دعم الخيار العسكري، والضغط من أجل توقّف الدول الإقليمية بمدّ الإرهابيين بالمال والرجال والعتاد، والسعي الحثيث إلى حل سياسي يجلس فيه الجميع إلى طاولة الحوار السوري، بدون شروط مسبقة معروف سلفاً أنها ستنسف أي دعوة للحل.

ث‌-    ولعل أكثر وجوه الغرابة في الحرب السورية الدائرة منذ سنوات خمس، التشجيع على النزوح والهجرة، وعندما نقول تشجيع فإننا لا نبالغ، فالمنظمات الإنسانية كانت قد مارست وسائل الترغيب والتشجيع للسوريين للنزوح إلى لبنان، وذلك مثبت بالدلائل والأرقام، والمتقدّم خلال هذه السنوات بطلب فيزا إلى الدول الاوروبية يُدرك تماماً أن بعض سفارات الدول الأوروبية كانت تشجّع السوريين على التقدم بطلب لجوء، لا بل إن بعض تلك السفارات كانت تفضّل طالب اللجوء على طالب الفيزا السياحية، علماً أن التقارير المنشورة منذ صيف عام 2011، ومنذ الأشهر الأولى للقتال، تفيد أن السويد - على سبيل المثال لا الحصر - أعدّت مراكز إيواء ولجوء لستين ألف سوري، لكنهم تأخّروا في المجيء!

في المحصلة، تدفعنا الكارثة الإنسانية السورية، وهذه الصور المفجعة، سواء من الحرب الدائرة أو من قطع الرؤوس في مناطق "داعش"، أو من صور الموت والذلّ في الرحلة إلى أوروبا، إلى التفكير عميقاً في ما ينتظر هذه المنطقة بعد سنوات من الحرب، وما هي نتائج هذا التغيير الديمغرافي على كل من منطقة الشرق الأوسط وأوروبا على حد سواء، وإن كانت الدهشة الأوروبية من جحافل اللاجئين صحيحة وليست مصطنعة، فماذا يُنتظر من شخص يقوم بالحفر تحت رجليه، ويتوقع أنه بمأمن عن السقوط؟

2015/09/03

لبنان الى الفوضى ؟!


د. ليلى نقولا الرحباني
وفي الخطوة الثالثة، تحرّكت مجموعات المجتمع المدني صوب وزارة البيئة، لتعتصم سلمياً داخلها، وتطالب وزير البيئة محمد المشنوق بالاستقالة، وتعيد الحراك إلى النقطة الأولى؛ بالتركيز على الموضوع الأساس الذي بدأت الحملة من أجله، وهو "الزبالة" المنتشرة في الطرقات، والتي باتت مشكلة بيئية وصحية وإنسانية تطال كل إنسان في صحته وصحة أولاده، وفي حياته، وتلحقه بروائحها وأمراضها إلى داخل بيته.

بغض النظر عن صوابية التحرك الأخير الذي قامت هذه المجموعات الشبابية، وهل كانت هذه الخطوة مفيدة للحراك كما يصفها البعض، وأن "إنجاز" احتجاز الوزير لساعات يقوي الحراك ولا يضعفه، أو "متهورة" كما يصفها البعض الآخر من مجموعات الحراك، التي وجدت فيها حرفاً للأنظار عن المتهم الرئيسي بهذه الكارثة، أي السلطة السياسية المتعاقبة منذ عام 1992، والتي أفسدت وهدرت الأموال وملأت جيوبها، إلا أن أحداً في الإعلام لا يذكر كيف نشأت "سوكلين وأخواتها"، وكيف أهدرت موارد الدولة اللبنانية على محاصصة النفايات وغيرها، وكيف هُمّشت البلديات وحُجبت عنها أموالها لصالح شركات خاصة، ما منع تطوير النطاق البلدي، وحرم البلديات موارد مالية هي لها بموجب القانون.


بغض النظر عن كل ذلك، يبقى أن هناك بعض الأسئلة - الهواجس التي تثير قلقاً مشروعاً لدى فئة لا يستهان بها من اللبنانيين:

1-   غياب الرؤية والخطاب الموحّد للحراكات التي "فرّخت" أسماء لا تُعدّ ولا تحصى؛ فما الذي يجمع حركة الشعب ومجموعات البعث العراقي وبعض مجموعات القوميين السوريين ببقايا حركة اليسار الديمقراطي التي نزلت تحت شعار "عالشارع"، والتي ظهر أن كل هدفها التصويب على العماد عون والسيد حسن نصرالله؟

2-   ما الذي يجمع القوميين العرب والوزير شربل نحاس وحنا غريب ومحمد قاسم، بعماد بزّي المعروف بانتماءاته وتاريخه، والذي عبّر يوماً على مدونته - التي لم يسمع بها أحد وبالرغم من ذلك اعتبرها الأميركيون "الأكثر تأثيراً في العالم العربي"، ومنحوه جائزة لأجلها في بداية "الربيع العربي" - عن انتمائه الواضح بالقول: "أنا، وعلى الرغم من أنه لا مرشح لـ14 آذار في منطقتي، إلا أنني أعتبر نفسي من القوة الناخبة، لأنني صوت بورقة بيضاء؛ كدلالة على أن خياري لا يمر برعد ولا خيبر و لا زلزال ولا رضوان ولا حتى تبنين، بل كنت أصوّت وقلبي في البقاع الغربي مع أمين وهبي، وفي زحلة مع عقاب صقر"؟

علماً أن الادّعاء بأن دخول هؤلاء إلى الحراك يمنع تحركه المشبوه واستغلاله من قبل بعض السفارات، تدحضه تجارب "الربيع العربي"، حيث تحالف القوميون العرب مع "الإسلام السياسي"، فكانت النتيجة أن أقصاهم بعد أن اكتسب مشروعية شعبية واطمئناناً شعبياً، "لعدم انحراف المسار عن خدمة إسرائيل"، كما قيل حينها.

3-   أما التساؤل المحوري والأهم: كيف يمكن لمجموعة أحقاد متفجرة في ساحة أن تؤسس لبناء وطن؟

فما أن بدأ الحراك، حتى سمعنا بعض الشيوعيين يعبّرون عن ضرورة إسقاط النظام الذي سمح لحزب الله "باحتكار المقاومة في الجنوب بعد التسعينات".. وبعضهم الآخر فجّر أحقاداً على المجتمع اللبناني، الذي هو في نظرهم "غشيم، وغنم، ولديه مركبات نقص طائفية"، وبعضهم عاب على بعض الأشخاص في الحراك تأييدهم للنظام السوري، في حين أن ولاء هؤلاء للثورة السورية لم يمنع أولئك من المشاركة في التظاهرات ودعم الحراك.

في النتيجة، يبدو مشهد الشاشات والساحة والاعتصامات والهتافات والتغطية الإعلامية للقنوات اللبنانية وكأنه "فيلم حاضرينو"، فقد شاهدناه مرات عدّة؛ في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية.. وهكذا، يجد اللبناني نفسه أمام مفصل تاريخي خطير، فإما أن يسمح لأصابع خفية بأن تجرّه إلى الفوضى التي تعيش فيها معظم دول "الربيع العربي"، أو يقف وقفة تاريخية أمام ضميره، ويعود إلى العقلانية فيقول إن الحلول للتخلص من هذا النظام ليست سحرية، وليست بالضربة القاضية في الشارع، ولا يمكن أن تكون إلا بالعودة إلى صناديق الاقتراع، وإعطاء الشعب فرصة لإعادة تكوين السلطة من غير الفاسدين الذين "طلعت ريحتهم".