2022/09/27

العقوبات الاقتصادية: هل جاء دور الشعوب الأوروبية؟

في تحذير مستغرب يعتبر تدخلاً في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، قامت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في خطاب في جامعة برنستون الأميركية، بتحذير إيطاليا من العواقب إذا انحرفت عن المبادئ الديمقراطية، ما اعتبر تهديداً مبطناً عشية الانتخابات الإيطالية التي كانت استطلاعات الرأي تتوقع فوزاً كبيراً فيها لليمين الإيطالي، وهو ما حصل بالفعل.

يوماً بعد يوم، تتزايد محاولات المفوضية الأوروبية للتدخل في شؤون الدول الأعضاء، وذلك عبر التأثير في الانتخابات الداخلية أو محاولة التهديد بعقوبات اقتصادية والحرمان من التمويل، بهدف التأثير في سياسات الحكومات في الدول الأعضاء.

محاولة التأثير في الانتخابات الداخلية

اعتبرت فون دير لاين في خطابها المذكور آنفاً أنَّ لدى المفوضية الأوروبية "أدوات يمكنها استخدامها ضد إيطاليا، إذا سارت الأمور في اتجاه صعب، كما حصل سابقاً مع المجر وبولندا.

وهكذا، تحاول فون دير لاين، كعادتها، أن تؤثر في الانتخابات الداخلية في الدول الأعضاء التي تتّجه إلى تصويت يميني "متمرد"، فكما الحال مع المجر في وقت سابق، حين هدَّدت بحرمانها من الأموال الأوروبية في حال اختار الإيطاليون التصويت مجدداً لفيكتور أوربان (من دون جدوى)، لم تستطع فون دير لاين أن تؤثر في اتجاهات التصويت في إيطاليا، إذ يتجه اليمين الإيطالي إلى تولي الحكم في إيطاليا بعد انتخابات مفصلية ومهمة.

وبعكس اليمين السويدي الَّذي فاز في الانتخابات في الآونة الأخيرة، والذي لا يظهر وداً تاريخياً لبوتين وروسيا، إن حلفاء رئيسة الوزراء الإيطالية المحتملة، جورجيا ميلوني، في ائتلاف اليمين الإيطالي الفائز، وهما رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني ونائب رئيس الوزراء السابق ماتيو سالفيني، يعتبران من الداعمين لفلاديمير بوتين. لقد اعتبر برلسكوني أن بوتين أجبر على "غزو" أوكرانيا، فيما شكك سالفيني في العقوبات الغربية على روسيا، مشيراً إلى أنها قد تضر أوروبا أكثر من روسيا.

التهديد بالعقوبات لـ"تغيير سلوك" الحكومات

عملياً، إنَّ ما تشير إليه فون دير لاين هو بالتحديد مبدأ "العقوبات الاقتصادية" ضد الحكومات اليمينية وحرمانها من التمويل الأوروبي، كما حصل مع المجر ورئيسها فيكتور أوربان، الذي تمّ تهديده بحرمان دولته من المساعدات لكي يتخذ مواقف تتلاءم مع المفوضية في قضية النزاع الأوكراني، وبعدما استطاع أن يقوّض العديد من القرارات ضد روسيا التي كانت فون دير لاين تريد تمريرها ضد روسيا، لكن أوربان رفض معتبراً أن الأمر يمثل كارثة على اقتصاد بلاده.

وكانت كلّ من المجر وبولندا قد لجأتا إلى محكمة العدل الأوروبية للفصل في النزاع القائم حول مبدأ تجميد المساعدات الأوروبية، بعدما ادّعت المفوضية أنّ باستطاعتها حجب التمويل اللازم عن البلدين، بعد نشوب خلاف مع الحكومات اليمينية في الدول المعنية.

وانتصرت وجهة نظر المفوضية في شباط/فبراير الماضي (عشية الحرب الأوكرانية)، فقد قضت المحكمة الأوروبية أن بإمكان الاتحاد الأوروبي حجب التمويل عن الدول الأعضاء في حال فشلت في التمسك بسيادة القانون.

وهكذا، وفّر حكم محكمة العدل الأوروبية، الذي يعد مبرماً، غطاء قانونياً وسياسياً للمفوضية الأوروبية لمنع المساعدات عن الدول الأوروبية التي تعتبر المفوضية أنها ابتعدت عن المعايير والقيم الأوروبية، التي يمكنها أن تستغل آلية التصويت في الاتحاد الأوروبي (الإجماع) لتقوّض "الإجماع الأوروبي" في القضايا الحيوية، وخصوصاً قضية العقوبات على روسيا.

وبعد الحرب الأوكرانية، تباينت ردود الأفعال الأوروبية حيال الدولتين (المجر وبولندا) بسبب موقف كلٍّ منهما في القضية، فقد سارت بولندا بالكامل في السياسات الأوروبية حيال أوكرانيا، فيما اعترض فيكتور أوربان على العديد من القرارات حول حظر الغاز الروسي وسواه.

وبناءً على سلوك الحكومتين، أصدرت المفوضية الأوروبية في أيلول/سبتمبر الحالي توصيةً بتعليق حوالى 7.5 مليار يورو من التمويل للمجر بسبب ما أسمته "تهم الفساد"، وهي أول قضية من نوعها تطبق في الاتحاد الأوروبي نفسه.

بالطبع، وعد أوربان بتغيير بعض القوانين المتعلقة بالشفافية والمحاسبة في الداخل لتحرير الأموال الأوروبية المجمّدة، لكن الواضح من تهديد فون دير لاين للإيطاليين عشية التصويت الانتخابي أنَّ سيف العقوبات الأوروبية سوف يكون أداة تستخدمها المفوضية لمعاقبة القادة الأوروبيين من اليمين الأوروبي و"تغيير سلوكهم"، فيما كانت تستخدم في وقت سابق ضد دول في العالم الثالث، بهدف إخضاع حكوماتها أو "تغيير سلوكها".

في النتيجة، إنَّ استخدام سيف العقوبات الاقتصادية لإخضاع الدول بات وسيلة غربية تتمدد من الأعداء والخصوم والحلفاء إلى الاتحاد الأوروبي نفسه، لكن تصرف المفوضية الأوروبية لن يكون سهلاً على الشعوب الأوروبية التي تشعر بأنها تسير بسياسات مفروضة عليها من قبل أشخاص غير منتخبين، وأن "بيروقراطية بروكسل" باتت تتحكّم في سياسات الدول الأعضاء الداخلية، وهو أمر ستزداد حدّته بعد الأزمات المحتملة في الشتاء القادم. 

2022/09/26

احتجاجات إيران 2022: إلى أين؟



تتجه الأنظار منذ أيام عدّة الى إيران، بسبب موت فتاة كانت محتجزة لدى "شرطة الاخلاق"، وانتشرت بعدها التظاهرات سواء المناهضة للسلطة أو المؤيدة لها، وكثر الحديث الاعلامي الغربي والعربي عن أن النظام الايراني يترنح بفعل ما يحصل في الداخل من تطورات.

واقعياً، وبعد النظر ومراجعة حركة الاحتجاجات الايرانية منذ عام 2009، ولغاية الآن، نجد أن "سقوط النظام الايراني" نتيجة المظاهرات الجديدة اليوم هو أمر صعب، فقد سبقها احتجاجات أقوى واكبر في سنوات سابقة، ونورد ما يلي:

1- "الثورة الخضراء" 2009:

حصلت احتجاجات في إيران بعد ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الايرانية، والتي فاز فيها أحمدي نجاد، بعد أن وصف المعارضون نتيجة الانتخابات بالمزورة وشكك فيها جميع مرشحي المعارضة.

نزل المتظاهرون المؤيدون للطرفين الى الشارع، وأدت المواجهات الى مقتل عشرات الاشخاص. واستمرت الاحتجاجات أشهراً طويلة، ولم تهدأ إلا في أوائل عام 2010، وشكّلت انقساماً حقيقياً وشرخاً سياسياً في نظام الثورة الاسلامية بين مؤيد لنجاد ومؤيد للمعارضة له من سياسيين معارضين وهم من الوجوه البارزة في السياسة الايرانية.



2- احتجاجات 2017-2018:

بدأت الاحتجاجات في مشهد وامتدت الى المدن الايرانية، كان سببها "المشاكل الاقتصادية والاجتماعية"، حيث اتهم الايرانيون حكومة الرئيس السابق حسن روحاني بعدم الالتفات الى المشاكل الاقتصادية والمصاعب الاجتماعية في البلاد.



3- احتجاجات 2019 – 2020:

وهي الاعنف والأكبر على الاطلاق، بدأت الاحتجاجات في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2019، في الأحواز، بعد أن أعلنت الحكومة زيادة سعر البنزين بنسبة 300٪، وامتدت الى العديد من المدن الايرانية حيث طالب المتظاهرون باستئصال الفساد وتحقيق مطالب اقتصادية واجتماعية. بالمقابل، نزلت تظاهرات مضادة داعمة ومؤيدة للسلطة. وكانت نتيجة هذه الجولة من الاحتجاجات التي استمرت لغاية منتصف كانون الثاني / يناير عام 2020، المئات من الضحايا.


وهكذا، وبعد إجراء مقارنة بين هذه الاحتجاجات وهي الأكبر على صعيد إيران، نجد أن الانقسام السياسي الأكبر داخل النظام كان عام 2009، اي في "الثورة الخضراء"، حيث كان للثورة قادة بأسماء ووجوه وبرامج سياسية واضحة، بينما تبدو جميع المظاهرات التي تلتها في السنوات اللاحقة هي ذات طابع اقتصادي اجتماعي ولا تدخل الى صلب النظام وأسسه ومبادئه القائمة على أساس الثورة الاسلامية، ولا تطرح نفسها بديلاً سياسياً للسلطة الحاكمة.


في المحصلة، من الصعب أن تكون نتيجة التظاهرات الحالية هو سقوط النظام الايراني أو "سقوط الثورة الاسلامية" في إيران، كما تقول العديد من المواقع والصحف الغربية والعربية، فهذه التظاهرات تكتفي بشكل عام بمطالب اجتماعية وتحجيم سلطة "شرطة الاخلاق" وبعض المطالب الأخرى التي لا تدخل في صلب تغيير النظام السياسي الايراني ولا قادة واضحين لها، وإن كانت ستدفع المعنيين في السلطة الى النظر في مطالب الناس سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو القانونية أو سواها.

 

2022/09/19

"اسرائيل" تفهم الرسائل.. وبعض الداخل يتوهم


بعد أسابيع من الكلام الاسرائيلي المهدد للبنان، والذي يدعو الى استخراج من كاريش بدون أخذ موقف وتهديدات لبنان بعين الاعتبار، عادت الأجواء والتصريحات "الاسرائيلية" لتعكس دقة المرحلة وعدم الرغبة في تصعيد الأمور للذهاب الى حرب اقليمية، لا أحد يريدها ولا أحد قادر على ضبطها أو معرفة مسارها.

انخفضت حدّة التهديدات الاسرائيلية في نهاية الأسبوع الماضي، وأصدرت وزارة الطاقة "الاسرائيلية" بياناً توضيحياً أكدت فيه أن ما ستقوم به في الأيام المقبلة ليس سوى إجراء اختباري لنظام الضخ، وان الغاز سيضخ الى كاريش بطريقة معكوسة. وقالت وزيرة الطاقة الاسرائيلية: " نحن نتفاوض مع الحكومة اللبنانية، ونأمل التوصل الى اتفاق. لدينا التزامات تجاه السوق المحلي والدولي، لذلك يجب أن يتدفق الغاز في أقرب وقت ممكن".

يفهم الاسرائيلي رسائل التهديد التي أطلقت من لبنان وهي على الشكل التالي:

-      رسالة سريّة بعيداً من الاعلام، كشف عنها السيد حسن نصرالله في خطابه، وقال ان مفادها " سيكون هناك مشكل في حال بدء الاستخراج من حقل كاريش قبل الاتفاق مع لبنان"، بدون ان يوضح تفاصيلها.

-      رسالة علنية أطلقها السيد نصرالله في خطابه، وقال انه يمنح المجال والوقت للتفاهم وإعطاء لبنان حقوقه، وأن "أعين الحزب وصواريخه موجهة على حقل كاريش"، محدداً "الخط الأحمر هو بدء استخراج النفط والغاز من حقل كاريش".

-      رسائل غير مباشرة وجهها حزب الله، عبر نشر فيديوهات لروبوتات قتالية، ثم مقاطع لغطاسين قبل انهم بقيوا تحت الماء لمدة 18 ساعة بدون ماء ولا أكل.

الأكيد، ان "اسرائيل" تفهم جيداً الرسائل اللبنانية، سواء منها السياسية أو العسكرية أو التهديدية، لكن اللافت أن البعض في الداخل اللبناني ما زال يصرّ على أن لبنان لا يتمتع بأي قوة، وأن التهديدات لن تؤثر في اسرائيل، ومؤخراً تقوم بعض الأحزاب اللبنانية بالترويج أن "الفرصة الذهبية" التي يتكلم عنها لبنان حول حاجة أوروبا الى الغاز من مصادر عدّة كبديل عن الغاز الروسي، هي ليست حقيقية وليس هناك فرصة مطلقاً.

يقوم هؤلاء بالتسويق لجمهورهم بأن "الاتفاق لن يكون في عهد الرئيس ميشال عون"، وأن "أوروبا ليست محتاجة للغاز، فقد أمنّت اكتفاءها الذاتي من الغاز"، وأن "لا أزمة في أوروبا بسبب غلاء الكهرباء، وأن الاعلام العربي يضخّم الموضوع"، وأن "اسرائيل لم تعد تريد أن تبيع غازها الى أوروبا، وهي تريد "التملص" من الاتفاقيات التي وقعتها مع مصر والاتحاد الاوروبي، لأنها تريد زيادة الأسعار"....

عملياً، إن كل هذه "الاوهام" التي يحاول بعض السياسيين اللبنانيين تسويقها لجمهوره لرفع معنوياته، تشير الى أن بعض اللبنانيين يفضلون بقاء لبنان في دوامة الفقر والعجز والجوع، على أن يكون هناك أي انجاز يحسب لحزب الله بالضغط على اسرائيل، أو إي إنجاز للرئيس عون بأن يذكر التاريخ أن الاستكشاف عن الغاز بدأ في عهده.

لكن، في النتيجة، هناك أطراف ثلاثة معنية بهذا الملف، الاميركيون والاسرائيليون ولبنان (الرسمي وحزب الله)، ويبدو أن جميع هذه الاطراف تريد التوصل الى تسوية والانتهاء من الملف بأقل الأضرار الممكنة، وبدون التوصل الى حرب. وعليه، نحن أمام أسابيع قليلة حاسمة في ملف الترسيم، الدلائل تشير الى إمكانية جدية للتوصل الى حلّ.

2022/09/18

الأهداف التركية من التقارب مع سوريا

انهمك العالم بتصريح مفاجئ للرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال مشاركته في قمة شنغهاي، يعرب فيه عن رغبته في لقاء الرئيس السوري بشار الأسد فيما لو حضر إلى أوزبكستان.

عملياً، لم يأتِ حديث إردوغان من فراغ، إذ سبقته سلسلة من التطورات التي تجعل مسار التقارب السوري التركي يسير بتسارع. ولقد بدأت مؤشرات السعي لتسوية سورية–تركية تظهر بعدما تحرّك الإيرانيون (باعتبارهم أصدقاء لسوريا وتركيا) لتقريب وجهات النظر بين الطرفين وتأمين حلّ سياسي يجنّب منطقة الشمال السوري عملية عسكرية تركية كان إردوغان قد أعلنها، وقال إن هدفها إنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً، من أجل التخلص من الخطر الإرهابي (كما سمّاه)، وإعادة نحو مليون سوري طوعاً إلى بلادهم، أي إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الأمنية التركية في شمالي سوريا.

وعلى هذا الأساس، كانت مبادرة وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان الذي زار تركيا وسوريا لإجراء وساطة، ثم قمة طهران الثلاثية (بوتين، رئيسي، إردوغان) في تموز/يوليو المنصرم التي وضعت سوريا بنداً أول على جدول أعمالها.

لا شكّ في أن كثيراً من الانفراجات السياسية والأمنية حصلت منذ إطلاق مبادرة عبد اللهيان السورية، التي أعلن حينذاك أنها تقوم على أساس حلّ المشكلات الحدودية، ومعالجة ملف الكرد، وإنهاء وجود المجموعات الإرهابية في شمالي سوريا، في مقابل ليونة سياسية دبلوماسية بين البلدين.. وصولاً إلى تحقيق تسوية نهائية بين البلدين. منذ ذلك الحين، أُعلن عن لقاء بين جاويش أوغلو وفيصل المقداد على هامش قمة الانحياز، ولقاءات أمنية رفيعة المستوى بين الطرفين في دمشق، إضافة إلى طلب تركي من مسؤولي المعارضة السورية بالرحيل.

وعليه، ولأن التقارب بات علنياً، فما الأهداف التركية من هذا التقارب السريع الذي فاجأ كثيراً من المراقبين:

أ‌-  الانتخابات التركية المقبلة 2023

تقول التقارير الصحافية إن المعارضة التركية (إن توحّدت) تستطيع أن تشكّل تهديداً جاداً لإردوغان وحزبه في الانتخابات المقبلة، وإن الأميركيين ليسوا بعيدين من دعم المعارضة لإطاحة إردوغان، الذي ينتهج سياسة خارجية "مقلقة" و"غير مرغوب فيها" أميركياً منذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016.

وعلى هذا الأساس، يطرح إردوغان عدداً من القضايا التي تنفعه داخلياً، منها إعادة نحو مليون لاجئ سوري طوعاً إلى بلادهم، وذلك بعدما بدأت المشكلات الداخلية بين المجتمعات المضيفة والسوريين، وبعدما ارتفعت نسب العنصرية في المجتمع التركي الذي يعاني اقتصادياً واجتماعياً بفعل تدهور قيمة العملة الوطنية، وارتفاع معدلات البطالة وسواها، ويُتهم اللاجئون السوريون بأنهم ينافسون الأتراك على فرص العمل ويكلّفون الاقتصاد أعباءً هائلة.

أما من ناحية الموضوع الكردي، فإن قيام إردوغان بـ"التخلص من الخطر الكردي" (قسد) على حدود بلاده، يعطيه تأييداً من القوميين الأتراك الذين يجدون في الكرد دوماً خطراً على الدولة والأمة.

ب-  التقارب مع روسيا وإيران

منذ عام 2016، تقوم سياسة إردوغان الخارجية على "مسك العصا من الوسط"، فيتموضع بين المحورين المتقاتلين في المنطقة، ويتعامل بـ"القطعة" والمصلحة مع كل منهما.

لا شكّ في أن سنوات من الحرب التي انخرطت فيها أنقرة مباشرة في سوريا تأييداً للولايات المتحدة وحلف الناتو، لم تؤدِ إلى النتائج المرغوب فيها تركياً، ولم يستطيع إردوغان أن يدفع الناتو إلى توفير غطاء عسكري وسياسي ودولي لتدخل عسكري واسع في سوريا. اليوم، يدرك إردوغان أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، وأن تقاربه مع سوريا مدعوماً من كل من روسيا وإيران سيكون مربحاً اقتصادياً واستراتيجياً في عدد من الملفات الأخرى غير السورية.

ج-  استراتيجية "مركز" الطاقة

إن التقارب وفتح الحدود مع سوريا، سوف يتيحان للأتراك أن يحقّقوا ربحاً استراتيجياً طويل الأمد، وذلك على صعيد خطوط الطاقة، التي يهدفون من خلالها إلى استغلال موقع تركيا الجغرافي لتصبح تركيا "محوراً دولياً" للطاقة، تمر عبرها جميع الخطوط (حول هذا الموضوع، راجع مقالنا في الميادين).

يتطلع الأتراك إلى الغاز المكتشف في شرقي المتوسط، ويطمحون إلى أن تكون تركيا ممر عبور لذلك الغاز إلى أوروبا. وهم يدركون أن الغاز الإسرائيلي سيكون حتماً أحد بدائل الغاز الروسي إلى أوروبا، خصوصاً بعدما وقّعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين اتفاقاً مع "إسرائيل" ومصر لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر البحر. وعليه، يضع الأتراك نصب أعينهم تنفيذ مشروع خطوط أنابيب في البحر بين "إسرائيل" وتركيا، وهو يحتاج إلى 3 أعوام تقريباً ليصبح جاهزاً لتأمين الغاز لأوروبا

ينظر الأتراك إلى فتح الحدود بين سوريا وتركيا، كأساس في إمكانية إعادة العمل بخط "الغاز العربي" الذي أنشئ بهدف نقل الغاز المصري و(العراقي) إلى أوروبا، عبر الأردن، وسوريا، وتركيا ومن هناك إلى أوروبا.

وبعودة الحديث عن تأمين الغاز المصري للبنان الذي طرحته السفيرة الأميركية، يتطلع الأتراك إلى إمكانية تفعيل العمل في هذا الخط، الذي توقف بسبب الحرب السورية.

كانت خطة إنشاء خط الغاز العربي تسير وفق 4 مراحل: الأولى بين مصر والأردن التي أنجزت في تموز/يوليو عام 2003. المرحلتان الثانية والثالثة من الأردن إلى سوريا (حمص)، وأنجزتا عام 2008، وكانت مصر تضخ عبرهما 90 مليون قدم مكعب يومياً من الغاز إلى سوريا.

أما المرحلة الرابعة التي كان من المفترض أن تربط بين حمص وشبكة الأنابيب التركية، لإيصال الغاز المصري إلى أوروبا، فقد أنجز منها خط الأنابيب بين حلب وتركيا بطول 15 كيلومتراً، وتوقّف العمل بسبب الحرب على سوريا.

إذاً، هي مجموعة من الأهداف القصيرة والطويلة الأجل التي تحتّم على إردوغان التقارب مع السوريين، ولكن يبقى أمام هذا التقارب عوائق عدّة، منها قضية إدلب، والانتشار العسكري التركي في الأراضي السورية، والفيتو الأميركي، وبخاصة فيما يتعلّق بالشمال الشرقي السوري وسواها من الأمور التي تحتاج إلى تسويات كبيرة في المنطقة قبل تذليلها تذليلاً كاملا. 

2022/09/12

اتفاق الترسيم... أين تتجه الأمور؟

تتراوح المحاولات الاسرائيلية والأميركية في موضوع ترسيم الحدود البحرية، بين محاولات شراء الوقت لقضم حقوق لبنان بدون الوصول الى التصعيد العسكري الذي هدد به حزب الله في حال فشل الحلول السلمية، وفي الوقت نفسه إشاعة الأجواء الإيجابية للإبقاء على مسار مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، حتى لو طال عقوداً، كما كان الحال منذ بدء الحديث عن هذا الملف عام 2010، حيث تقوم اسرائيل بالاستكشاف والاستخراج بينما يبقى لبنان على قارعة الانتظار.

 

ولا شكّ أن عوامل عدّة تطغى على هذا الملف:

1-   الموقف الأميركي:


تحدث الاعلام الاسرائيلي مراراً عن تدخل الرئيس الأميركي جو بايدن شخصياً في موضوع المفاوضات مع لبنان، وأن بايدن شدد على "ضرورة التوصل الى اتفاق خلال الاسابيع المقبلة".

الأكيد أن الموقف الأميركي تطغى عليه عدم الرغبة في تدحرج الأمور الى الحرب في المنطقة، كما الرغبة في تأمين وصول الغاز الاسرائيلي الى أوروبا لما فيه من فائدة للطرفين الاسرائيلي والاوروبي، لكن، بالرغم من كل ذلك يريد الاميركيون أن يخرجوا باتفاق لصالح اسرائيل يحفظ لها هيبتها ونفوذها وتفوقها في المنطقة كما كانت الحال في جميع الاتفاقيات التي قاموا برعايتها منذ عقود.

من ناحية أخرى، يهم الأميركي أن لا يحقق حزب الله أي انتصار عسكري أو سياسي أو حتى اعلامي في الداخل اللبناني، فهم صرفوا الكثير من المال والنفوذ وساروا في استراتيجية الضغوط القصوى التي ساهمت (بالاضافة الى الفساد والنهب وسوء الادارة الداخلي) في انهيار الاقتصاد اللبناني وذلك بهدف "تحجيم حزب الله" كما أعلن وزير الخارجية مايك بومبيو نفسه.

 

2-  الموقف الاسرائيلي

لم يعتد الاسرائيلي على تقديم التنازلات بل إن جميع المساعي الدبلوماسية لتوقيع اتفاقيات سابقة في المنطقة كانت تترافق مع تدخلات أميركية وغربية جعلت الأطراف الأخرى عرضة لضغوط هائلة، تؤدي بها الى تقديم التنازلات لاسرائيل (وأحياناً غير المقبولة منطقياً).

اليوم، يحاول الاسرائيليون الاستمرار في استخدام الوسائل السابقة نفسها مع لبنان، إذ يريدون من الولايات المتحدة الاستمرار في الضغوط التي مارستها على لبنان سابقاً  للقبول بقضم حقوق لبنان وإلا الانهيار والجوع (راجع تصريح شينكر وسواه حول القبول بالتصور الأميركي للحلّ). ومن هذا المنطلق، يمكن أن يُفهم حديث هوكشتاين السابق الى قناة الحرّة، والمماطلة التي يقوم بها اليوم.

أما التصريحات الإعلامية  الاسرائيلية حول الحرب مع لبنان والاستعداد لها، فهي ليست سوى تعبير عن قلق اسرائيلي حقيقي من حرب مع لبنان لا يريدونها، لأنهم غير مستعدين لها، ولا يستطيعون ضبط مسارها، ومتأكدين من عدم قدرتهم على الانتصار فيها (راجع تصريحات رئيس الأركان الاسرائيلي المعيّن حديثاً هرتسي هليفي).


3-  الموقف اللبناني:

وهو الموقف الأسوأ لناحية وضوح الرؤية الداخلية وتوحدها على السعي الى المصلحة الأفضل للبنان. منذ بدء مسار التفاوض حول ترسيم الحدود مع قبرص ثم مع "اسرائيل"، يتعامل بعض المسؤولين اللبنانيين بـ"خفة" مع هذا الملف إن لم نقل بـ"عمالة" للخارج.

في الوقت الذي يعيش فيه اللبنانيون أسوأ أيام حياتهم، ينظر بعض المسؤولين الى هذه الملف من زاوية داخلية كيدية ضيقة ويحاول تسجيل النقاط لمنع توقيع الاتفاق في عهد الرئيس عون (مهما كانت النتائج الكارثية لهذا الخيار).

الأخطر في هذا التصور، أن هؤلاء يعتقدون ان "اسرائيل" سوف تعود لإعطاء لبنان حقوقه لاحقاً بعد مغادرة الرئيس عون والتخلص من تهديد حزب الله بالتصعيد الحربي!!

 

4-  السيناريوهات المحتملة:

في النتيجة، لم يصل ملف ترسيم الحدود الى خواتيمه بعد بالرغم من التقدم، لكن مسار تقديم التنازلات الاسرائيلية يشي بأنه سيصل الى خواتيم جيدة بالنسبة للبنان، وعليه سنكون أمام سيناريوهات ثلاث في المرحلة الحالية:

أ‌-     المماطلة وحرق الوقت لمحاولة تحصيل بعض المكاسب الاضافية لاسرائيل، ثم توقيع الاتفاق في النهاية بالطرق الدبلوماسية، بدون تصعيد عسكري... علماً أن لبنان حذّر أن المهلة ليست مفتوحة.

ب‌-  أن يضطر لبنان الى إرسال بعض رسائل القوة (بدون استخدامها)، للضغط على المفاوض الاسرائيلي والوسيط الأميركي لإعطاء لبنان حقوقه، والسير بالاتفاق والتوقف عن حرق الوقت وإخراج "الأرانب" من قبعة هوكشتاين... يؤدي في النهاية الى توقيع الاتفاق بدون تصعيد عسكري فعلي.

ت‌- أن يتعنت الاسرائيلي والاميركي، فيقوم لبنان باستخدام القوة (المحدودة)، فتردّ اسرائيل وتتدحرج الأمور الى أيام قتالية، فيندفع الأميركيون والأوروبيون الى معالجة الأمر، حيث توضع الأمور على السكة لتوقيع الاتفاق ولو في وقت لاحق.

يبقى الاحتمالين الأول والثاني أهون الشرور والأكثر احتمالية، لأن الخيار الأخير محفوف بالمخاطر فلا أحد يستطيع أن ينبئ بمسار الحروب ولا يمكن التأكد أن المعركة ستقتصر على أيام قتالية معدودة، ولا يحتاج العالم الى حرب في منطقة الشرق الأوسط بالاضافة الى الحرب الدائرة في أوروبا.

2022/09/11

فشل استراتيجية "الاختراق الإسرائيلي": من "الأطراف" إلى التطبيع

في الرابع من حزيران/يونيو 1968، وبمناسبة مرور عام على حرب حزيران/يونيو التي انتصرت فيها "إسرائيل" على الدول العربية، تحدّث الجنرال الإسرائيلي، موشي ديان، عن نظرية إسرائيلية عنوانها "القلب المزروع في المنطقة"، قائلاً: "إننا قلب مزروع في هذه المنطقة، غير أن الأعضاء الأخرى ترفض قبول هذا القلب المزروع. لذلك، لا خيار أمامنا سوى حقن هذا القلب بمزيد من الحقن المنشّطة من أجل التغلب على هذا الرفض".

عملياً، تجلّت هذه الحقن المنشطة في تكريس التفوق العسكري لجيش الاحتلال، وإقامة التحالفات التي تخرق وحدة الصف بين دول المنطقة المناهضة للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، لكن التطورات تثبت فشلها كما يلي:

1- بالنسبة إلى عقيدة التفوق العسكري

استمرّ التفوق العسكري الإسرائيلي، منذ حرب حزيران/يونيو 1967 لغاية حرب تموز/يوليو 2006، بحيث أسقط اللبنانيون هذه العقيدة إلى الأبد، وانتهى معها عصر "الجيش الذي لا يُهزم".

 لا يُخفي التفكير العسكري الإسرائيلي، اليوم، أن عصر الانتصارات الواضحة والساحقة انتهى، وأن على "إسرائيل" أن تعترف بمحدودية قوتها. وهو ما قاله رئيس أركان الاحتلال الإسرائيلي، المعيّن حديثاً، الجنرال هرتسي هليفي (الذي سيستلم مهمّاته عند انتهاء ولاية كوخافي في كانون الثاني/يناير 2023)

يؤمن هليفي بعقيدة بناء قوة قتالية متعددة الأبعاد في الوقت نفسه، وأن على الجيش أن يؤسّس عقيدة "تعزيز الدفاع" في مواجهة حزب الله، وقال في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية عام 2013: "في مواجهة لبنان، لا أعتقد أنه يوجد حرب أو عملية يمكن أن تحلّ المشكلة. الموضوع الأكثر أهمية هو كيف تُنتج فجوة زمنية أكبر بين الحروب"، مؤكداً أن على "إسرائيل" ان تكون مستعدة "لدفع الثمن لشن حرب حاسمة وقوية للغاية من أجل إطالة الفجوة الزمنية أطول وقت ممكن".[1]

2- في موضوع التحالفات الإسرائيلية

أ- تطبيق "عقيدة الأطراف"

في العقود الأولى من خلق الكيان الإسرائيلي، استخدم الإسرائيليون مبدأ "عقيدة الأطراف"، وهي تعني تطوير تحالفات استراتيجية مع الدول الإسلامية غير العربية في الشرق الأوسط لمواجهة الموقف الموحَّد للدول العربية تجاه احتلال فلسطين. وعليه، قام دايفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للاحتلال الإسرائيلي، بعقد تحالفات وثيقة مع كل من تركيا وإيران - الشاه وإثيوبيا.

كانت "عقيدة الأطراف" تقضي أيضاً باختراق الدول العربية عبر التحالف مع الأقليات، ومنها الموارنة في لبنان، والكرد في كل من تركيا والعراق. وما زال إقليم كردستان في العراق يحافظ على علاقات جيدة وعلنية بـ"إسرائيل" لغاية اليوم.

ب- "الاعتدال" في مقابل "الممانعة"

لاحقاً، خسر الإسرائيليون الحليف الإيراني بعد الثورة الإسلامية في إيران، ثم تمّ توقيع اتفاقيات سلام مع "إسرائيل" من جانب بعض الدول العربية وبعض الفلسطينيين، على أساس مبدأ "الأرض في مقابل السلام"، فانقسم العرب والدول المحيطة بـ"إسرائيل" بين ما سُمِّي "محور الاعتدال" في مقابل دول "محور الممانعة"، التي استمرت تمانع الاعتراف بـ"إسرائيل" وتضع شروطاً أعلى لـ"السلام" معها، وعلى رأسها سوريا.

خلال هذه الفترة، تمّ تفكيك الاتحاد السوفياتي وإعلان الدول المنضوية فيه استقلالها، فسارعت "إسرائيل" إلى الاعتراف بالجمهوريات المستقلة في آسيا الوسطى، واستمرت في اعتماد سياسة "الطوق خارج الطوق"، والذي هو جزء من عقيدة "الأطراف"، السابق ذكرها.

ج- "السُّنّة" في مقابل "الشيعة"

في إثر الغزو العسكري الأميركي للعراق عام 2003 وما تلاه، تمّ تأجيج الصراع السنّي – الشيعي في المنطقة. في عام 2008، ناقش مؤتمر هرتسيليا، الذي يُعقد سنوياً في "إسرائيل"، ما أُطلق عليه وصف "الشرخ الشيعي – السني: جذوره وأبعاده الاستراتيجية". وعلى مدى أعوام، أكدت توصيات المؤتمر أنَّ من مصلحة "إسرائيل" أن تساهم في تذكية ذلك الصّراع.

وخلصت توصيات المؤتمر نفسه في عام 2013 - بكل وضوح - إلى "ضرورة تكريس الصراع السني - الشيعي، من خلال السعي لتشكيل محور سنّي من دول المنطقة، أساسه دول الخليج ومصر وتركيا والأردن، ليكون حليفاً لإسرائيل والولايات المتحدة، في مقابل "محور الشر" الذي تقوده إيران، والذي سيكون، بحسب التقسيم الإسرائيلي، محوراً للشيعة" (انظر "توصيات مؤتمر هرتسيليا في عام 2013").

على هذا الأساس، حاولت "إسرائيل" أن تسوّق نفسها حليفةً للسنّة في العالم العربي، وتدّعي أنها "تُؤازرهم" في مواجهة "موجة التشيّع" في المنطقة، واحتواء النفوذ الإيراني الممتد من طهران إلى لبنان، أو ما وصفه ملك الأردن، عبد الله الثاني، بـ "الهلال الشيعي".

د- "المطبّعون" في مقابل "الرافضين للتطبيع"

مؤخراً، بعد توقيع اتفاقيات التطبيع (سُميت "أبراهام") بين بعض الدول العربية و"إسرائيل"، انقسم العالم العربي بين "دول التطبيع" والدول الرافضة للتطبيع مع "إسرائيل".

تحاول "إسرائيل"، ومعها الولايات المتحدة، أن تسوّقا أن التطبيع مرادف للازدهار الاقتصادي والاستقرار أمنياً وسياسياً. فالدول التي ترفض التطبيع سوف تكون عُرضة لاهتزازات أمنية وسياسية وضغوط اقتصادية من جانب الغرب (وخصوصاً الولايات المتحدة) من أجل أن ترضخ وتسير في قطار التطبيع مع "إسرائيل"، ومعها يتحقق الأمن الإسرائيلي الذي يلتزمه الأميركيون "إلى الأبد"، كما تنص الوثيقة التي وقّعها بايدن في زيارته المنطقة في تموز/يوليو الفائت. لكنّ استطلاعات الرأي الأميركية أثبتت أن التطبيع "من فوق" لا يجد قبولاً لدى الشعوب في الدول التي قامت بتوقيع اتفاقيات التطبيع مع "إسرائيل".[2]

في النتيجة، على الرغم من كل الدعم الذي تحظى به "إسرائيل"، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، من الولايات المتحدة والغرب وعدد من دول العالم الأخرى، فإن نظرية "القلب المنشّط بالقوة"، والتي اعتمدتها "إسرائيل" منذ احتلالها فلسطين، بدأت تفقد زخمها منذ حرب تموز/يوليو 2006. وما الانتصار اللبناني على أعتى جيش في الشرق الأوسط إلّا أمثولة حيّة للشعوب التي ترفض الاستسلام لقوة البطش والترهيب، وترفض التطبيع بالقوة، وتشق طريقها نحو الحرية بدماء أبنائها.

الهوامش:

[1] https://www.nytimes.com/2013/11/16/world/middleeast/to-a-philosopher-general-in-israel-peace-is-the-time-to-prepare-for-war.html

[2] https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/alara-fy-mkhtlf-aldwl-hwl-alttby-alrby-alasrayyly-watfaqyat-abrahym

  

2022/09/05

الإدارة الأميركية: التصعيد الخارجي مؤشر للضعف الداخلي

برحيل دونالد ترامب ومجيء جو بايدن الى البيت الأبيض في الولايات المتحدة الأميركية، نظر العديد من المسؤولين والشعوب في منطقة الشرق الأوسط وفي العديد من المناطق في العالم، الى الأمر بارتياح، متوقعين أن تسير الإدارة الأميركية الحالية نحو حلول دبلوماسية للعديد من الصراعات الدولية، وتخفيف العقوبات الاقتصادية التي قام بها دونالد ترامب وأفقرت وجوّعت الشعوب في العديد من الدول منها سوريا والعراق ولبنان وفنزويلا وغيرها...

لكن، مسار سنتين تقريباً منذ فوز جو بايدن لم تكن على قدر التطلعات في العالم، بالرغم من أن التطورات الدولية ساهمت في تخفيف العقوبات الأميركية واقعياً وليس بفعل قرار أميركي دبلوماسي، وقلّصت هيمنة الولايات المتحدة على العالم، وذلك كما يلي:

اندفعت الادارة الأميركية الى التصعيد مع الروس منذ مجيء بايدن الى البيت الأبيض خاصة في الموضوع الأوكراني، وشهد عام 2021، الكثير من التوترات الحربية في البحر الأسود، والعديد من التصريحات والمواقف التي تدعو أوكرانيا الى الدخول في حلف الناتو، وهو ما يدرك الجميع أنه يثير التحفظات الروسية، الى أن بدأ الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، وفرض الغرب عقوبات غير مسبوقة على روسيا.

هذه الحرب وحاجة العالم الى النفط والغاز، وارتفاع أسعار تلك السلع التي تلهب أوروبا وأميركا خاصة، دفعت العالم الى التقتيش عن مصادر أخرى غير الروسية، ما جعل سوق الطاقة الإيراني والفنزويلي يزدهر، وبات باستطاعة الدولتان بيع النفط والغاز في الأسواق العالمية، بالرغم من عدم قيام الإدارة الأميركية برفع العقوبات الأميركية  التي فرضها ترامب عنهما.

وهكذا، تنشط تجارة الغاز الروسي متخطية العقوبات ومحققة ارباحاً تفوق الأرباح التي حققتها روسيا العام الماضي، وتستفيد دول عدّة اقتصادياً ومادياً من هذه التجارة "الالتفافية" على العقوبات، فالسعودية والامارات والهند والصين وغيرها، تحصل على الغاز والنفط الروسيين بأسعار تشجيعية ثم تعيد بيعه في الأسواق العالمية وخاصة لأوروبا، بأسعار أعلى، ما يسمح بهامش كبير من الأرباح وتتكبد أوروبا الخسارة المادية جرّاء ذلك، وترتفع فيها اسعار الكهرباء والطاقة.

أما لناحية فنزويلا وإيران، فتذكر التقارير أن الدولتين استفادتا من الحرب الأوكرانية الروسية، بقدرتهما على استخدام آلية الدفع بالعملات المحلية التي باتت معتمدة بشكل واسع في التجارة العالمية، والتي تزداد سهولة يوماً بعد يوم، كما استفادتا من حاجة الغرب الى الطاقة مما جعل الأميركيين يغضون النظر عن التجارة الدولية معهما، وعن تعقّب مسار السفن التي تبيع النفط والغاز الايراني والفنزويلي. وقال وزير النفط في إيران، جواد أوجي، أن وزارة النفط في بلاده افتتحت أسواقاً جديدة لتسويق النفط الإيراني، من قارة أفريقيا إلى آسيا، وحتى دول أميركا اللاتينية وأوروبا، من خلال إدخال عقود جديد بنماذج مبتكرة، وأن إيران أبرمت عقوداً بقيمة تجاوزت 80 مليار دولار خلال العام الماضي.

عملياً، يمكن القول أن استراتيجية العقوبات الاقتصادية الدولية لم تعد قادرة على فرض موازين قوى أقوى للولايات المتحدة الأميركية، وان استخدام العملات المحلية بدل الدولار أضرّ بقوة وقدرة الولايات المتحدة الأميركية في الهيمنة على العالم.

وهكذا، فإن ضعف الإدارة الأميركية أنعكس سلباً على الولابات المتحدة ونفوذها، وذلك كما يلي:

-      ضعف الإدارة الأميركية الحالية التي تواجه تحديات عديدة في الداخل، جعلت بايدن يندفع الى التصلب في الخارج للظهور بمظهر القوة. ولكن التصلب كان سيفاً ذو حدّين، فقط أدّى الى عدم قيام الادارة بتنفيذ تعهداتها باعتماد الدبلوماسية والعودة الى الاتفاق النووي مع إيران، وأدّى الى زيادة التضخم في الداخل مما أضعفها أكثر.

-      الضعف الذي تشهده الادارة إنعكس ايضاً على الشعار "التوحيدي" الذي أطلقه بايدن قبل توليه الرئاسة، حين أعلن انه سيعمد الى توحيد "الامة الاميركية" لكن فشله في ذلك، دفعه الى خطاب تقسيمي لافت مرخراً حين اتهم ترامب وأنصاره بالتطرف وأنهم "أعداء الديمقراطية الاميركية"، مما اضطر ترامب للرد بأن بايدن هو "عدو الدولة"... وهذا سيضعف أميركا أكثر من الداخل. 

2022/09/04

اليونيفيل: "فرض السلام" بالقوة هدف دائم.. لا يتحقق


مدّد مجلس الأمن الدولي لقوات حفظ السلام الدولية العاملة في لبنان الـ"يونيفيل" عاماً آخر، وهو عمل اعتيادي يجريه المجلس دائماً، منذ تأسيس اليونيفيل عام 1978، وبعد تغيير مهامها وقواعد الاشتباك إثر حرب تموز 2006، وصدور القرار رقم 1701 الذي يرعى عملها.
واللافت هذا العام في قرار التجديد [1] دعوة جميع الأطراف إلى "ضمان الاحترام الكامل لحرية حركة اليونيفيل في جميع عملياتها، ولوصول اليونيفيل إلى الخط الأزرق بجميع أجزائه، ومن دون عوائق.. ويؤكد أن اليونيفيل لا تحتاج إلى إذن مسبّق ولا إلى إذن لتنفيذ المهام الموكلة إليها، وأنها مخوّلة إجراء عملياتها على نحو مستقل" (الفقرة 16).
هذا البند يشير إلى محاولة تعديل قواعد الاشتباك وآليات عمل اليونيفيل، علماً أن محاولة "إسرائيل" والدول الغربية تغيير مهمة قوات اليونيفيل من قوة حفظ سلام تقليدية -كما كانت عليه منذ تأسيسها عام 1978- إلى "قوة متعددة الجنسية" ضمن إطار "فرض السلام بالقوة" مستمرة منذ حرب تموز 2006، وصدور القرار 1701، إلى اليوم.
1- الفرق بين "حفظ السلام التقليدي" و"فرض السلام"
لم يشر ميثاق الأمم المتحدة إلى مفهوم حفظ السلام صراحة، ولكن الحاجة الدولية إلى متطلبات حفظ الأمن الجماعي، أدت إلى إنشاء قوات حفظ سلام. وهكذا، يمكن القول إن حفظ السلام ظهر أولاً كممارسة ثم صيغ وبلور كمفهوم، وبعدما بدأت الحاجة ملحّة إلى تأطيره قانوناً، جرى البحث في الأسس القانونية التي ترعاه.
البداية الفعلية لنظام حفظ السلام جاءت إثر العدوان البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي على مصر عام 1956، حين اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً في السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1956 بمبادرة وتشجيع من الأمين العام داغ هامرشولد يدعو إلى إنشاء أول عملية لحفظ السلام في تاريخ الأمم المتحدة، وهي "قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة في الشرق الأوسط" (UNEF).
وهكذا، أسفرت هذه الأزمة عن صوغ مفهوم "حفظ السلام"، ويقصد به: "نشر قوات عسكرية تابعة للأمم المتحدة في منطقة النزاع، بهدف المساعدة في تطبيق الاتفاقيات التي يجري التوصل إليها بين أطراف النزاع، وذلك بموافقة هذه الأطراف". وتقوم مبادئ حفظ السلام التقليدية على موافقة الأطراف المعنية، وحياد قوات الأمم المتحدة، وعدم اللجوء إلى استخدام القوة من جانبها إلا في حالات الدفاع عن النفس أو الولاية.
لكن، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وقدرة الأميركيين على التحكم بقرارات مجلس الأمن الدولي، تطوّرت عمليات حفظ السلام الدولية، فانتقلت إلى نمط آخر يسمى فرض السلام peace enforcement وهي قوات تنشأ بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة (بعكس قوات حفظ السلام التقليدي التي تنشأ بقرار بموجب الفصل السادس) ولها قدرة واسعة على استخدام القوة لتحقيق أهدافها.
2- طبيعة عمل اليونيفيل القانونية:
حين بدأت مهمة قوات اليونيفيل في لبنان عام 1978، كانت مجرد قوة حفظ سلام تقليدية، أنشئت بناء على الشروط الأساسية لحفظ السلام التقليدي. لكن في الخامس من آب/ أغسطس 2006، وإبّان الحرب الإسرائيلية على لبنان، جرى توزيع مسودة (أميركية-فرنسية) لقرار أممي بموجب الفصل السابع، ينص على: تطبيق القرار 1559 ونزع سلاح جميع الجماعات المسلحة في لبنان، وتحويل مهمة اليونيفيل إلى العمل الإنساني، على أن يقوم "حلف الناتو" بنشر قواته في لبنان لتجريد حزب الله من سلاحه (أي القيام بما لم تستطع "إسرائيل" أن تفعله في تلك الحرب).
رُفض هذا القرار في لبنان، واستمرت بعده الحرب أسبوعين في محاولة إسرائيلية لفرض واقع ميداني يفضي إلى فرض القرار المقترح على لبنان، ولكن النتائج العسكرية أتت مخيبة لآمال الإسرائيليين والغربيين، وفرضت الوقائع الميدانية نفسها وصدر القرار رقم 1701 تحت الفصل السادس، عاكساً الهزيمة الإسرائيلية في حرب تموز، وأزيلت من النص النهائي كل العبارات التي تشير إلى استخدام القوة ونزع السلاح وغيرهما..
وهكذا، فإن الإطار القانوني الذي يكفل عمل اليونيفيل في لبنان هو الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، أما توصيف مهامها (بحسب قواعد الاشتباك) فيمكن اعتباره ضمن إطار "حفظ السلام القوي Robust " وليس مفهوم "فرض السلام" enforcement (الفصل السابع) والفرق بينهما كبير، خصوصاً على صعيد القدرة على استخدام القوة، إذ تحتاج قوة "حفظ السلام Robust " إلى تفويض من مجلس الأمن، وموافقة الدولة المضيفة أو الأطراف الرئيسة في النزاع لاستخدام القوة، فيما لا يتطلب فرض السلام موافقة الأطراف الرئيسة على الأرض، إذ يتيح لها نص القرار ذلك.
3- مسار اليونيفيل منذ عام 2006:
اختصرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الهدف الغربي من القرار رقم 1701، بخطابها أمام البرلمان الألماني في 20 أيلول/ سبتمبر 2006، حين أكدت أن "هدف اليونيفيل هو حماية إسرائيل". ومع أن القرار الأممي المذكور لم يقرّ نشر قوة متعددة الجنسية (من الناتو) إلا أن الكتيبتين الفرنسية والإسبانية تعاملتا في البدء مع الواقع على الأرض بعكس نص القرار ما أثار حفيظة الأهالي وسبّب عدداً من الاشتباكات بين الطرفين في عدد من المحطات.
احتاجت قيادة اليونيفيل إلى سنوات لتغيّر مسارها، خصوصاً بعدما تعرّضت اليونيفيل لتهديدات من القاعدة (أيمن الظواهري) ووضع العبوات الناسفة لآلياتها، وإدراك قيادات اليونيفيل أن أمن القوات وسلامتها لا يمكن تحقيقهما في ظل بيئة معادية مهما بلغت القدرة على استخدام القوة، فبدأ التغيّر في سلوك اليونيفيل والانفتاح على الأهالي وتقديم المساعدات، وفتح قنوات الحوار، وعلى تنسيق أكبر مع الجيش اللبناني، الذي أناط به القرار رقم 1701 السيادة الأمنية على الأراضي اللبنانية في الجنوب، وفرض على اليونيفيل التنسيق مع الجيش خلال القيام بمهامها.
وهكذا، نجد اليوم، أن محاولات توسيع مهمات اليونفيل، وتوسيع قواعد الاشتباك، وهو هدف إسرائيلي-أميركي-غربي منذ البدء، لا يتوقف، لكنه لم ينجح أيضاً. وقد تكون المادة 16 من القرار الأخير التمديد لليونيفيل هي ضمن هذا الإطار، لكن القرار الأممي الأساسي الذي يحدد عمل اليونيفيل، إضافة إلى الاتفاقية الموقعة بين لبنان والأمم المتحدة، والأهم موازين القوى على الأرض تبقى الإطار الأساسي الضابط لعمل اليونيفيل واحترامها السيادة اللبنانية، بصرف النظر عن النص الجديد.