2017/08/30

معارك الجرود: انتصار أم خيانة؟


د. ليلى نقولا
انتهت عمليتا "فجر الجرود" و"أن عدتم عدنا" اللتان أعلنتا لتطهير الحدود اللبنانية السورية من داعش، على ضفتي الحدود، وذلك باستسلام ارهابيي داعش، واعلان عن نتيجة التفاوض بين داعش وحزب الله، الذي أمّن بالتوافق مع الدولة السورية خروج الارهابيين من القلمون الى دير الزور.
ومع اعلان الاتفاق وكشف مصير العسكريين اللبنانيين المخطوفين، انقسم اللبنانيون بين مؤيد ومعترض، وعلت الأصوات المستنكرة لهذا الاتفاق، وضجّت الساحة السياسية والاعلامية بأصوات تطالب باستمرار القتال وإفناء مقاتلي داعش في الجرود، وعدم السماح لهم بالافلات من العقاب، خاصة بعدما تبين أن التنظيم الارهابي كان قد أعدم عسكريي الجيش اللبناني ودفنهم في القلمون السورية.
وينقسم أصحاب الاعتراض فعليًا الى فئتين:
فئة أولى تريد تفويت أي فرصة على حزب الله لاعلان انتصار ما،  وتسعى دائمًا لتجيير أي عمل يقوم به لصالح ايران والنظام السوري، وهذه الفئة تطالب الجيش اللبناني اليوم باستكمال المعركة والانتقام لأرواح شهدائه العسكريين، علمًا أن هؤلاء هم أنفسهم الذين طالبوا بمحاكمة الجيش واتهموه بارتكاب الجرائم، عندما حاول التمهيد للقضاء على الارهابيين بحملة استباقية في مخيمات عرسال التي كانت تأوي ارهابيي جبهة النصرة وغيرهم من الارهابيين، كما دلّت المعارك الأخيرة.
فئة ثانية من المواطنين اللبنانين والسوريين الغيورين الذين هالهم أن يخرج الارهابيون بهذه الطريقة بدون عقاب، واعتبروا أن خروج هؤلاء من الجرود الى مناطق سيطرة داعش في دير الزور، إنما يبدو كمكافأة للارهابيين على احتلالهم وقتلهم المدنيين والعسكريين، إضافة الى ان إفلاتهم من العقاب يعتبر بمثابة خيانة لدماء الشهداء.
بالنسبة للفئة الأولى التي لها حساباتها السياسية التي تريد تصفيتها مع المقاومة، فكل كلام منطقي لا يبدو أنها ينفع معها، إذ ينطبق عليهم المثل "عنزة ولو طارت".
أما بالنسبة للفئة الثانية، فالمنطق والعلم يقولان ما يلي:
أولاً: يقول العلم أن الحرب ليست هدف بحد ذاتها إنما هي وسيلة لتحقيق أهداف سياسية. لذا، عندما خرج الجيش اللبناني الى معركة "فجر الجرود"، كانت أهداف تلك الحرب، تطهير الأراضي اللبنانية من الارهابيين، وكشف مصير العسكريين اللبنانيين واسترجاعهم. أما الحرب التي خاضها حزب الله والجيش السوري في الجهة المقابلة من الحدود فكان هدفها طرد الارهابيين من الاراضي السورية المحاذية للبنان. وبهذا المعنى، إن أهداف الحرب التي خاضها الجيش اللبناني، والتي خاضها في الجهة المقابلة حزب الله والجيش السوري قد تحققت بالكامل، وهذا الأهم.
ثانيًا: في العلم أيضًا، أن صاحب القرار العقلاني يقوم بدراسة المعطيات ويعمد الى اتخاذ القرار الأقل كلفة والأكثر ربحًا - بناء على المعطيات المتوافرة لديه. ومن هنا، فإن المعركة في الجرود لم تكن نزهة، علمًا أن الجيش اللبناني كان قد قسّم عملية فجر الجرود الى مراحل، وكانت المرحلة الأخيرة أي مساحة 20 كلم متبقية، تعتبر الأصعب على الاطلاق إذ أن داعش مارست القتال التراجعي، وبما أن المساحة المتبقية هي الأخيرة المتبقية لديهم، فإن الكلفة البشرية للمعركة الأخيرة كانت ستكون كبيرة جدًا، لأن الداعشي يقاتل وهو يعلم أنه ميت، ولأن الطبيعة الجغرافية للجرود تسمح لهم بالتخفي والقنص والاختباء في المغاور ما يصعّب على المهاجم مهمته ويكبده خسائر كبيرة.
ثالثًا؛ بالنسبة للمقاومة والجيش السوري، إن رحيل الارهابيين من الحدود اللبنانية السورية لا يعني ان المعركة معهم انتهت، بل تأجلت الى ظروف ميدانية مختلفة، أي أن قتال هؤلاء والقضاء عليهم قد تأجل الى وقت لاحق والى ظروف ميدانية قد تكون أفضل.
رابعًا، بعكس ما يشيع البعض أن الرابح من خروج داعش هو النظام السوري، إن الرابح الأول من خروجهم هو لبنان الذي أنهى المعركة بأقل خسائر بشرية ممكنة، علمًا أن الدولة السورية استفادت أيضًا من التسوية ولكن بشكل محدود، فهي ربحت انهاء ملف الحدود اللبنانية السورية للتفرغ لملف الحدود مع الاردن ثم العراق وتركيا ، وأمّنت العاصمة دمشق، ولكنها لم تنهِ معركتها معهم بل أجلّتها الى وقت لاحق.

في المحصلة، انتصر لبنان بتحرير أرضه من الارهابيين.. وتبقى المشكلة أن جزءًا من اللبنانيين هم الذين سهّلوا وتواطؤوا لإدخال هؤلاء المسلحين، والمشكلة الأكبر، أن هؤلاء أنفسهم هم الذين يريدون الاستمرار في المعارك حتى إبادة المقاتلين ذاتهم الذين تحوّلوا من  صفة "الثوار" الى "داعش".

2017/08/17

ماذا بعد تطهير جرود عرسال؟


د. ليلى نقولا

لطالما اعتُبرت الحدود مفتاح الدولة ونافذتها على العالم، حيث تكون باباً مفتوحاً على مصراعيه، سواء على المشاكل أو على الدعم، ولعل الحدود مع الدول المجاورة ومدى هشاشتها كانت وما زالت المركز الرئيس الذي تعتمد عليه أي مجموعة مسلحة داخل الدولة،

سواء كانت حركة مقاومة أو مجموعات تمرُّد أو سواها، لتحصل على الدعم الاستراتيجي الذي يبقيها على قيد الحياة، وذلك مرتبط إلى حد بعيد بوجود عمق استراتيجي لها في الدول المجاورة، تستمدّ منه القوة والقدرة على الصمود، وضمن هذا الإطار شكّلت الحدود اللبنانية - السورية طيلة فترة عمل المقاومة في جنوب لبنان، العمق الاستراتيجي الذي اعتمدت عليه للحصول على الدعم السوري والإيراني.



هذا في المبدأ العام، وفي التطبيق شكّلت الحدود السورية مع كل من العراق وتركيا والأردن ولبنان، الخاصرة الرخوة للدولة السورية منذ بداية الأزمة في العام 2011، حيث استطاعت المجموعات المسلحة في الداخل السوري الحصول على الدعم والسلاح والعتاد والرجال عبر هذه الحدود، خصوصاً الحدود التركية.

من هنا، وضمن استراتيجية استرجاع الحدود والسيطرة عليها، يتّجه الجيش السوري وحلفاؤه إلى الحدود مع الأردن والعراق، فالحدود العراقية - السورية هي حاجة مُلّحة لإبقاء التواصل الجغرافي والدعم الاستراتيجي من إيران حتى سورية فلبنان، وأما الحدود مع الأردن فللجيش السوري مصلحة أكيدة في الاسراع للسيطرة على تلك الحدود واقتطاع ما استطاع من المعابر، وهو ما تجلّى بإعلانه السيطرة على كل المعابر الحدودية مع الأردن في محافظة السويداء.

إذاً، يبدو أن الجيش السوري والحلفاء قد استفادوا من الخطة الروسية التي اعتمدت على إنشاء "مناطق تخفيف التوتر" للتفرُّغ لقتال "داعش" وتحرير أكبر قدر ممكن من الجغرافيا السورية، وعلى خطٍّ موازٍ التوجُّه نحو الحدود لفتح ثغرات أو السيطرة عليها بالكامل تجنُّباً لأي مشروع لعزل دمشق عن محيطها، وعلى خطٍّ ثالث، إقناع المسلحين في الداخل بضرورة عقد المصالحات وإلقاء السلاح والاستفادة من العفو الرئاسي، وهو أمر بات أسهل اليوم مع الإحباط الذي يعانيه المعارضون مما يعتبرونه "تخلّي الولايات المتحدة عنهم"، والبلبلة التي ولّدتها الأزمة الخليجية في صفوفهم.

وعلى خطّ لبنان، استفادت المجموعات المسلحة السورية، منذ بداية الأزمة، من هشاشة الحدود بين لبنان وسورية وتداخلها الجغرافي، فحصلوا على السلاح والعتاد وأقاموا معسكرات تدريب، واستجمعوا قواهم مرات عديدة، واستخدموا الأراضي اللبنانية لمهاجمة دمشق، أو العكس، حيث استغلّ الإرهابيون التفلُّت على الحدود بين البلدين لإرسال سيارات الموت إلى الداخل اللبناني وقتل الأبرياء، وفي الكثير من الأوقات حاول المسلحون استخدام الأراضي التي سيطروا عليها على الحدود للتوسُّع في الداخل اللبناني، ومحاولة احتلال عرسال وما حولها، وهو ما أفشله الجيش اللبناني عام 2014.

ومنذ عام 2013، وبالتحديد بعد معركة القصير وما تلاها من معارك في حمص وسقوط قلعة الحصن، بدأت الحدود اللبنانية تخرج من معادلة تقديم الدعم المفتوح للمجموعات المسلحة في سورية، وبقيت المخيمات في عرسال وجرودها خارج إطار تلك المعادلة؛ أي إخراج الحدود اللبنانية من وظيفتها في دعم المقاتلين السوريين، وذلك للحساسية المذهبية التي تطبع المنطقة، ولأن قسماً من اللبنانيين قام على منع إقفال هذا الملف تحت ستار "دعم عرسال" وما إلى هنالك، وذلك في محاولات مكشوفة لمنع سقوط آخر معقل للمسلحين السوريين على الحدود اللبنانية السورية.

واليوم، وبعد خروج "النصرة" و"سرايا أهل الشام"، وتوجُّه الجيش اللبناني للقضاء على "داعش" فيما تبقّى من الجرود، تكون قد انتهت وظيفة الحدود اللبنانية - السورية في دعم "الثورة" السورية، وسقطت ورقة إضافية من أوراق القوة في يد القوى المعادية للدولة السورية، وهو أمر سيؤثر على الميدان السوري، وعلى قدرة المسلحين في المناطق المجاورة للبنان على الصمود وتلقي الدعم، مما سيدفعهم إلى القبول بالمصالحات مع الجيش السوري.

أما في الداخل اللبناني، فإن خروج المسلحين يعني سقوط "الأوهام" التي صدّقها البعض بقدرة المخيمات السورية على تشكيل ورقة ضغط عسكرية على المقاومة في لبنان، وسيفيد بطريقة غير مباشرة "تيار المستقبل"، كما سيستفيد أهل عرسال الذين نافسهم السوريون على لقمة عيشهم وقطعوا مصدر رزقهم باحتلالهم الجرود ومنعوهم من الوصول إليها، والأهم أن سقوط فائض القوة العسكرية التي كان يشعر بها لاجئو عرسال، وبعض اللاجئين السوريين المتعاطفين مع الإرهابيين في بقية المناطق، سوف يدفعهم إما إلى الرحيل إلى سورية، أو العودة إلى احترام القوانين اللبنانية وعدم محاولة تخطّيها.

2017/08/16

ترامب لمعارضيه: أنا أو الحرب الأهلية!

د. ليلى نقولا
منذ استلامه السلطة، يعاني الرئيس دونالد ترامب من معارضة شديدة في الداخل، ومحاولة عزل وهجوم حاد من الاعلام والسياسيين في داخل أميركا وحتى في اوروبا.
ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة الحديث على الاقل، يعاني رئيس أميركي من اعتراضات بهذا الحجم، وتسيير مظاهرات في الشارع مباشرة بعيد انتخابه، كون النظام الأميركي لطالما أعطى شرعية للرئيس ومنحه صلاحيات واسعة، وأكسبه هالة تعينه على تنفيذ سياسة خارجية قوية، يفرضها في الخارج باعتبار الولايات المتحدة هي القوة الأعظم في العالم، وتحتاج دائمًا الى ابراز القوة والهيبة على حلفائها وأعدائها على حد سواء.
وفي الأشهر المنصرمة، صدرت العديد من الأصوات المطالبة بعزل الرئيس وتقديمه للمحاكمة أو استقالته.  وقد قام عضو الكونغرس الأميركي الديمقراطي آل غرين بالتعاون مع عضو الكونغرس الجمهوري بتقديم لائحة اتهام مطالبين بمحاكمة الرئيس "لعرقلته العدالة"، في معرض أقالته مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي. علمًا أن الدستور الأميركي، يجيز تقديم الرئيس للمحاكمة، في حال ارتكابه " سوء الممارسة أو اهمال واجباته كرئيس "، وقد ضيّق المشترع الأميركي تفسيره لهذه الجريمة، وحددها بـ "الخيانة العظمى، وتلقي الرشوة". وهذا يعني أن "عرقلة العدالة" كما يشار اليها هنا، لا تنطبق على "سوء الممارسة" لمحاكمة الرئيس أو تجريمه، كون الرئيس الأميركي يتمتع بصلاحيات واسعة منها حقه في إقالة من يشاء وتعيين من يشاء بدون مبررات.
وبالرغم من كل هذا، اشتدت الضغوط على الرئيس ترامب وفريق إدارته وتوالت الفضائح حول علاقة مقربين منه بالروس، ووصلت التحقيقات الى داخل بيته. وكما هو معروف في الممارسة السياسية الدولية، فإن إحراج الرؤساء في الداخل عادة ما يدفعهم الى التوجه الى الخارج للحرب أو التهديد بالحرب أو استخدام الذرائع حول "وجود عدو" لإسكات الأصوات في الداخل كون "العدو يتربص بنا"، و"نحن في معركة مصير ووجود" أو "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".... وهي كلها من السلوكيات المعروفة لدى قادة الدول.
ولم يشذ ترامب عن هذه القاعدة، فعندما اشتد الضغط عليه في المرحلة السابقة، قام بتهديد الرئيس السوري بشار الأسد، فافتعلت المجموعات المسلحة في سوريا "حادثة خان شيخون الكيمياوية"، التي أعطت الذريعة لترامب، لقصف مطار الشعيرات، وهو ما أدى الى خروج كثيرين ممن كانوا يعارضونه للترحيب والتصفيق لتلك الضربة، باعتبار ترامب "بات اليوم رئيسًا للولايات المتحدة" كما عبّر دايفد اغناتيوس.
لكن سرعان ما خفت وهج تلك الضربة وبات مطلوبًا من ترامب تقديم المزيد من العسكرة والتدخل المباشر في سوريا، وهو أمرّ حذر منه البنتاغون، إذ أتت الرسائل الروسية واضحة ومنبّهة من مغبة التمادي في الاستفزاز في سوريا.
وعندما ازداد سيل الفضائح واشتدت الحملات السياسية وبدأت التحقيقات تتوالى وتصل الى أقرب الدوائر المحيطة بترامب، برزت أزمة كوريا الشمالية، وقام ترامب بالتصعيد ملوحًا بحرب نووية، سرعان ما تبين أنها ستكون صعبة وسيكون بمقدور كوريا الردّ على التهديد الأميركي بتهديد مماثل.
وفي خضّم هذا الجو المحموم دوليًا، وخروج الأصوات المحذّرة من خطورة أي حرب نووية على مصير العالم برمته، تبين أن الخيار بالهروب الى الامام من خلال حرب في الخارج قد لا يكون بمتناول ترامب، برزت حوادث شارلوتزفيل Charlottesville  في فيرجينيا بين القوميين البيض ومعارضيهم، والتي شهدت انتشار ميليشيات مسلحة تروّع المواطنين، وأدّت الى اعلان حالة الطوارئ، لتعطي انذارًا واضحًا بما قد تؤول اليه الأمور في حال عزل ترامب أو اغتياله أو دفعه الى الاستقالة.
الحرب الاهلية في الولايات المتحدة، قد لا تكون ضربًا من الخيال أو التنبؤات، ولكن كل شيء يشي بأن هناك نارًا تحت الرماد في المجتمع الأميركي، وأن القوميين البيض الذي استطاعوا ايصال مرشح يتكلم لغتهم الى البيت الأبيض ويخاطب وجدانهم وعنصريتهم، لن يسمحوا بإخراجه بالقوة أو محاكمته... ويبدو أن ترامب الذي عرف جيدًا كيف يستغل غضب هؤلاء وعنصريتهم للنجاح في الانتخابات، ما زال قادرًا على استخدامهم لتهديد خصومه في الداخل، بمعادلة: أنا أو الحرب الأهلية.