2013/01/31

العرب... وسياسة التجربة والخطأ الأميركية


الثبات- الخميس 31 كانون الثاني 2013
ها هي وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تحزم حقائبها للمغادرة، معلنة عدم عودتها إلى العمل السياسي، تاركة وراءها "ثواراً" عرباً، لطالما انتشوا بتصريحاتها التغييرية عن حسمها لمصير شعوب، والإطاحة برؤوس، ولا شكّ بأن تفاقم الأحداث وتسارعها على ساحات الشرق الأوسط، باتت تفرض اليوم نمطاً مربكاً على الإدارة الأميركية الجديدة، التي راهنت على دعم قوى سمتها "إسلاماً معتدلاً"، لمحاولة احتواء إيران ونفوذها في المنطقة، وتكريس هيمنة "إسرائيل" وتفوقها على المشهد المتشكّل بعد "الثورات العربية".
استخدم الأميركيون في سياستهم الشرق الأوسطية مبدأ "التجربة والخطأ" trial and error، هو أسلوب يتميز بتكرار التجربة والتنويع المستمر في الأساليب حتى النجاح، ولعلمهم بعدم جاذبية النمط الوهابي التكفيري، راهن الأميركيون على تجربة "إخوانية" شبيهة بالتجربة التركية، تقوم بالسيطرة على منطقة ممتدة من تركيا حتى المغرب العربي، ما لبثوا أن اكتشفوا أن أدواتها استعجلوا نحرها وإضرام النار فيها قبل بلوغها.
ولعل الأخطاء القاتلة التي وقع فيها "الإخوان" بتشجيع دولي، ناتج عن سياسة "التجربة والخطأ" الأميركية تبدو كما يلي:
-  بالدرجة الأولى في تهافتهم لاستلام السلطة منفردين، بعد أن راهنوا على فائض قوة متحصل من تمثيل شعبي لا بأس به، وتنظيم احتكروه، بالإضافة إلى دعم دولي وأميركي واضح، علماً أن منطق الربح الاستراتيجي كان يفترض الإحجام عن تولي السلطة في الفترة الأولى لما بعد الثورة بسبب الإرث الهائل المتراكم، وحجم التوقعات الشعبية العالية جداً التي تجعل من أي مجموعة تستلم الحكم بعد الثورة تحترق بالمطالب الاقتصادية الاجتماعية الكبرى، والتي لا يمكن تحقيقها بالسرعة اللازمة أو المطلوبة شعبياً.
أما الخطأ الثاني فهو عدم التواضع وصمّ الآذان عن الدعوات للمشاركة، وعدم احترام التعددية السياسية والثقافية المصرية، والذهاب إلى الخيار الأمني ودفع الشارع نحو العنف والعنف المضاد.
أما الخطأ الثالث والأهم، فهو الاستعجال في محاولة فرض دوغما ثقافية اجتماعية موحدة وشاملة على مجتمع معروف بتنوعه، علماً أنه من المفترض على أي فصيل عقائدي أن ينتظر جيلين أو أكثر لمحاولة فرض عقيدته وإحلالها بشكل شمولي في مجتمع ما.
وهكذا، نرى نتيجة خطأ "التجربة" الأميركية، تزايد قوة إيران وقدرتها على الفكاك من محاولات وضعها بين فكي كماشة إقليمية ضلعها الأول "إخواني"، وضلعها الثاني وهابي خليجي، ولعل المؤشرات البارزة التي تؤشر على تفوق إيراني نوعي في التوازن في المنطقة يظهر في ما يلي:
في الميدان السياسي، وبعد عزلة دولية طويلة، باتت إيران اليوم جزءاً من منظومة دولية أكبر، تمتلك نفس الهواجس والمصالح الاستراتيجية.
انخفاض منسوب التهديد في التصريحات الأميركية، لدرجة أنه يمكن قراءة قبول أميركي بإيران نووية مع طلب ضمانات بسلمية البرنامج.
على الصعيد العسكري، تسير إيران في خط تصاعدي متسارع، يظهرها ممتلكة درجة قوة ردعية هامّة تسقط أي تفكير بهجوم عسكري عليها.
رحلة القرد إلى الفضاء والتي تبشّر بعهد جديد من التفوق الإيراني.
انتقال إيران من منطق الدفاع إلى منطق الهجوم في مجال الحرب الالكترونية، فقد ردت إيران على استهدافها سابقاً بفيروسات الكترونية خرّبت جزءاً من نظامها الالكتروني النووي، باستهداف قواعد بيانات المصارف المالية الأميركية.
والنتيجة، إن ما تعيشه مجتمعات ما بعد "الثورات"، يشير إلى خيبة التجربة الأميركية الأولى، التي تبدو مزيجاً من التعصب التكفيري والاستئثار الانفرادي بالحكم باسم الدين، لذا سيعمد الأميركيون إلى تقييم حساباتهم ودراسة الخطأ لتكرار تجربة أخرى، ولكنهم سيأخذون بعين الاعتبار، عدم جاذبية الحكم الوهابي سلفاً، يضاف إليها خلاصة إضافية مفادها: حتى لو استطاع الحكم المصري أن يفرض قوته على الشارع، فقد خسر المشروع "الإخواني" جاذبيته مبكراً بالنسبة لكثير من الشعوب العربية التي كانت تطمح للتغيير.

2013/01/24

الصمود السوري.. وفك الحصار عن لبنان


الخميس24 كانون الثاني 2013


لم يكن الاستقبال السعودي للرئيس ميقاتي، والترحيب به، وإنهاء الحصار السعودي للحكومة اللبنانية، خارجاً عن السياق العام للتطورات الإقليمية الحاصلة في المنطقة، خصوصاً في الموضوع السوري وتداعياته، وبحث الأميركيين بمدى صحة الخيارات التي أدخلهم بها بعض العرب الخليجيين والأتراك، فقد ظهر أن التقارير التي تحدثت عن سقوط الأسد خلال فترة قصيرة، وإمكانية الحسم السهل في سورية، لم تكن على ذلك المستوى من المصداقية، كما أن التطورات المتسارعة التي تحصل في المنطقة، والصمود الذي أبداه السوريون، باتوا يفرضون مقاربات مختلفة وقراءات مستجدة على ضوء ما يحصل من تطورات على الأرض.
هي المؤشرات والتطورات نفسها التي جعلت الأتراك يخففون من وتيرة حماستهم واندفاعهم في المعركة السورية، وهي التي تجعل القوى اللبنانية ممن ادّعت الوسطية وراهنت على سقوط النظام السوري لقلب موازين القوى الداخلية، تدور على أعقابها، وتحاول الركض مهرولة إلى حزب الله، ليعيد احتضانها كما فعل في السابق مراراً.
وهكذا قرأ السعوديون واللبنانيون المستجدات، واستوعبوا الإشارات الدولية والأميركية، التي تشير إلى تبدّل المقاربة الأميركية للملف السوري، ومدى إمكانية إسقاط الأسد بالقوة، بالإضافة إلى مؤشرات دولية أخرى، فاستدركوا، ومن هذه المؤشرات يمكن لفت النظر إلى ما يلي:
دخول الرئيس الأميركي ولايته الثانية، التي عادة ما تحرر الرئيس من الضغوط، وتعطيه هامشاً أكبر للحركة، وتحثه على تنفيذ أجندته ومواجهة معرقليه، ومحاولة دخول التاريخ بعدما ارتاح من ضغوط محاولة تجديد الولاية، ولهذا سيعمد أوباما إلى تنفيذ برنامجه الذي دخل البيت الأبيض على أساسه، وستطغى على أجندة الرئيس ملفات داخلية كبرى، كالاقتصاد ومحاولة الحدّ من العنف المسلح، وخارجياً إنهاء الحرب على أفغانستان، والمفاوضات مع إيران، ومحاولة احتواء الصين وفرض النفوذ الأميركي في المحيط الهادي، والأهم من ذلك هو الحرب على الإرهاب.

وانطلاقاً من هذا التوجّه، نجد أن الإدارة الأميركية، وعلى الرغم من استمرارها في ممارسة الضغوط على النظام السوري، إلا أن تلك الضغوط لا تصل إلى مستوى قلب الموازين الدبلوماسية دولياً أو القطيعة التامّة، مع إمكانية التفاوض معه مستقبلاً، أو كونه طرفاً أساسياً في أي حل مرتقب، ومن ذلك اعتراف الإدارة الأميركية بـ"الائتلاف السوري المعارض" ممثلاً شرعياً للشعب السوري من دون أن تعلنه ممثلاً وحيداً للشعب السوري، بالإضافة إلى الواقعية الأميركية في مجلس الأمن، والتي تجلت في عدم خوض حملات إعلامية وسياسية تأييداً للمطالبة بإحالة الجرائم في سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية، بعكس ما يقوم به الأوروبيون.
وقد يكون الأميركيون قد وعوا خطورة الخيارات التي اتخذوها بعد الحراك العربي، فما حصل في ليبيا وقتل السفير الأميركي هناك، بالإضافة إلى انتشار "القاعدة" في مالي والجزائر ونيجيريا، وزيادة تغلغلها في سورية، وسيطرتها على القوى المسلحة هناك، جميعها ملفات باتت تستوجب الحذر الأميركي الشديد من التماهي مع المقاربات الأوروبية التي يحفزها العامل الاقتصادي والمالي، والخليجية - التركية، والتي يحفزها ملف الهيمنة والبروز كقوى إقليمية كبرى من خلال استخدام الحركات الأصولية المتطرفة، علماً أن انتشار "القاعدة" في شمال أفريقيا، والعمليات التي قامت بها في مالي والجزائر، باتت تفرض قراءات غربية وأميركية ملحّة ومختلفة عن السابق، تجعل من سقوط النظام السوري وكأنه إسقاط لسورية في براثن "القاعدة"، ما قد ينتج عنه تفجير منطقة الشرق بكاملها، لما لـ"القاعدة" من امتدادات في لبنان والعراق ودول الجوار السوري، وهو ما عبّر عنه  العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني خلال استقباله في عمان وفداً من مجلس الشيوخ الأميركي برئاسة السيناتور الجمهوري جون ماكين من تداعيات الأوضاع الخطيرة في سورية على المنطقة، و"الفراغ الذي قد تستغله العناصر المتطرفة لتنفيذ أجنداتها".
ومن المؤشرات التي تستحق القراءة، والتي يدركها السعوديون واللبنانيون العائدون من معركة إسقاط النظام السوري خائبين، هي الأسماء التي اختارها أوباما لإدارته، والتي تعكس التوجهات الجديدة للإدارة وأولوياتها، ويمكن أن نشير في هذا الإطار إلى اختيار وزيري الخارجية والدفاع، والأهم اختيار جون برينان لمنصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية، وهو الذي شغل منصب "قيصر مكافحة الإرهاب"، والرئيس المشرف على برنامج الاغتيالات عبر طائرات من دون طيار، وهو من رسم مخطط حملة الوكالة لمكافحة الإرهاب، والتي دشنتها بشن غارات ضد مواقع المشتبه بهم في أعمال إرهابية عبر العالم.

في المحصلة، بات الوقت الآن يلعب في صالح النظام السوري، خصوصاً إذا ما استطاع النجاح في معركتين أساسيتين، بعد نجاحه والروس والصينيين في المعركة الدبلوماسية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهاتان المعركتان تتجسدان في نجاحه في منع المعارضة المسلحة من تحقيق اختراقات أمنية كبرى، أو السيطرة على مرافق أساسية وحيوية أو مناطق استراتيجية في المدن الكبرى، وثانياً والأهم، النجاح في إظهار نفسه إعلامياً وعالمياً بأنه يقاتل الإرهاب، وأنه عامل استقرار في المنطقة، كما صوّر نفسه سابقاً لسنين عديدة؛ قبل قدوم الأميركيين إلى المنطقة عام 2003.. فإن استطاع تحقيق ذلك، سيكون للانتخابات النيابية اللبنانية المقبلة نكهة مختلفة.

2013/01/17

المحكمة الجنائية في بازار الحرب السورية


في خطوة إضافية للضغط على سورية، قامت مجموعة مؤلفة من 57 دولة، على رأسها سويسرا، بإرسال رسالة إلى مجلس الأمن الدولي تطالبه فيها بتحويل الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، وذلك للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبت في النزاع.

ومع التأكيد على أن المحاسبة والمساءلة عن الجرائم المرتكبة في النزاع السوري ضرورية ولا يمكن التنازل عنها إن أريد لهذا البلد أن ينعم بالسلام الفعلي، ويتقدم نحو عهد جديد من العدالة للجميع، لكن فعلياً وواقعياً لا يبدو أن لهذه الرسالة أفقاً مستقبلياً لإحقاق العدالة، وهي تظهر كأنها أداة إضافية من أدوات الحرب النفسية التي يقوم بها الغرب على النظام السوري، لعلم الموقّعين أن إمكانيات التقدم فيها تبدو ضئيلة جداً، وذلك للأسباب الآتية:

1- لم تنضم سورية إلى المحكمة الجنائية، لذا فإن إحالة القضية تتطلب قراراً من مجلس الأمن، وهو أمر متعذر باعتبار أن أبواب المجلس مقفلة أمام أي قرار يتخذ ضد النظام السوري منذ فترة.

2- ما يميّز عمل المحكمة الجنائية الدولية هو أن عملها مكمّل للقضاء المحلي، وليس بديلاً عنه، لذا إن نظام التكامل هذا يفرض على المحكمة أن تطلب التعاون من قبل الدول لكي تقوم بالمهام المطلوبة منها، والتحقيق في القضايا التي تنظر فيها، فالمحكمة لا تملك الأدوات التنفيذية التي تمكّنها من اعتقال المتهمين، أو الحصول على الأدلة، بل تعتمد بشكل كامل على تعاون كامل وفعّال من قبل الدول، وهذا التكامل المشروط بالتعاون يعني أنه يعود للدول الأطراف سلطة القرار في تمكين المدّعي العام للمحكمة من إجراء تحقيقات جدية وفعّالة في أقاليمها، وإتاحة المجال لفريق المحكمة من الحصول على الوثائق، ومعرفة الأصول التي يحوزها المتهم ومصادرتها، وإجراء التحريات وضبط الأدلة، والبحث عن الشهود وتوفير الحماية لهم، والقبض على الأشخاص الذين تتهمهم المحكمة بارتكاب جرائم تدخل في اختصاصها وتقديمهم إليها.

ما ورد أعلاه يعني أنه حتى لو استطاع مجلس الأمن التوصل إلى قرار بتحويل القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، فإن عمل المحكمة الفعّال مشروط بتعاون الدولة السورية للقيام بالتحقيق أو تسليم المتهمين، وإلا بقيت القضية حبراً على ورق، ومجرد أداة ابتزاز سياسي لا أكثر ولا أقل.

3- على الرغم من أن الرسالة أشارت إلى أن التحقيق يجب أن يكون "بلا استثناءات أياً كان المسؤولون" عن هذه الجرائم، لكن مرسلي الرسالة يعلمون أن فتح التحقيق بهذه الطريقة لن يكون في مصلحة من يدعمهم الغرب من المسلحين، وبالتالي سيُحرج الدول الغربية أمام الرأي العام العالمي، لأنها تقوم بدعم الذين ارتكبوا جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، موثقة من قبل منظمات وتقارير دولية، منها قطع الرؤوس وقتل الأبرياء، وتوثيق ذلك بنشرها عبر الإنترنت لترهيب المواطنين، ومنها تجنيد الأطفال القصر للقتال التي تعتبر جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي.

زد إلى ذلك التقارير الأخيرة، ومنها تقرير لجنة الإنقاذ الدولية، وهي منظمة دولية مقرها أميركا، وقد نشرت تقريراً بعنوان "سورية.. أزمة إقليمية"، تحدث عن "مستويات مروعة من العنف الجنسي"، ولفت إلى أن "العديد من النساء والفتيات تحدثن عن التعرض لاعتداءات في العلن أو في منازلهن، وبشكل أساسي من قبل المسلحين المقاتلين ضد السلطة"، ووصف التقرير الاغتصاب بأنه "سمة ملحوظة ومقلقة للحرب الأهلية السورية"، وقال إنه بالاعتماد على تقييمات في لبنان والأردن، حدد اللاجئون السوريون الاغتصاب سبباً أساسياً لهروب عائلاتهم من سورية.

من هنا يعلم داعمو تحويل القضية السورية إلى الجنائية الدولية، أن ما يقوم به هؤلاء المسلحون قد يرقى إلى جريمة الإبادة، وذلك بالاستناد إلى السوابق التي أقرّتها المحكمة الجنائية الخاصة برواندا، والتي اعتبرت الاغتصاب جرماً من جرائم الإبادة، بعد أن كان يُعتبر سابقاً جريمة حرب، وذلك في قضية جان بول أكايسو، وفي تصريح للقاضي الذي أصدر الحكم قال إن المحكمة اعتبرت أن "الاغتصاب في هذا الحكم عمل من أعمال الإبادة وليس جريمة حرب، لأنها تريد أن ترسل رسالة قوية بأن الاغتصاب لم يعد جائزة حرب".

انطلاقاً من كل ما سبق، ومن ناحية واقعية عملية، يبدو أن الرسالة المرسلة إلى مجلس الأمن لا تغدو كونها أداة من أدوات الحرب النفسية التي يريد الغربيون أن يمارسوها على النظام السوري، وقد تكون هذه الرسالة في هذا الوقت بالذات هي لدفع الرئيس الأسد إلى القبول بالتنازل عن حقه في الترشح لرئاسة ثانية عام 2014، أو لإرغامه على القيام بتنازلات هامة تجعل من الغرب منتصراً في أي مفاوضات لحل سلمي يريدون فرضه في سورية

2013/01/10

كيف تكون "خريطة طريق" الحل السوري؟

الثبات- الخميس 9 كانون الثاني 2013
كما كان متوقعاً، انهمرت الإشادات والاعتراضات والتحليلات للخطاب الأخير للرئيس السوري بشار الأسد، والذي اقترح فيه تصوّره للحل في سورية، وأطلق مبادرة من مراحل ثلاث. لكن بغض النظر عن وجهات النظر المؤيدة والشاجبة، وعما طرحه، لا شكّ أن أي تصور واقعي للحل في سورية عليه أن يأخذ عدم قدرة أي من الطرفين على الحسم العسكري السريع والناجز في وقت قصير، خصوصاً بعد مرور ما يقارب السنتين على نشوب الأزمة في سورية، والتي سرعان ما تحولت إلى حروب بالوكالة على الأراضي السورية، وبدماء السوريين.

انطلاقاً من هذه القناعة بعدم القدرة على الحسم، وأن الوقت لا يلعب لصالح أي من الطرفين، فالدولة والجيش السوري لا يمكن أن ينهزم أمام الإرهاب، وسينتصر في النهاية، لكن معركة الإرهاب الطويلة تدمي جسد الدولة السورية وشعبها، وهي خسارة لها بالتأكيد، وهكذا على الأطراف التي تريد فعلاً أن تجد حلاً منطقياً للنزاع في سورية، أن تعتمد آليات العدالة الانتقالية، وذلك بالاستناد إلى التجارب التاريخية التي استُخدمت في دول عدة عانت من إرث من النزاع، وحيث ساهمت تلك الآليات بانتقالها إلى مرحلة جديدة من الديمقراطية والسلام.

لعل من أهم آليات العدالة الانتقالية التي تؤدي إلى التطلع إلى المستقبل بدل الغرق في الماضي والاستمرار في الحرب والنزاع، هي الآليات التي تسمح ببناء السلام في المجتمع السوري، ويمكن أن نذكر منها ما يلي:

- المحاكمات لمن ارتكب الفظائع وانتهاكات حقوق الإنسان، ومارس قطع الرؤوس والتنكيل بالمواطنين السوريين الأبرياء.

- المصالحة بين مكونات المجتمع السوري كافة، ويمكن أن تكون هذه المصالحة كنتيجة لقيام مؤتمر حوار وطني، يعقبه تشكيل لجان حقيقة لكشف الحقائق حول كل ما حصل من ارتكابات خلال السنتين الماضيتين، فالاعتراف بالحقيقة هو التمهيد الأفضل للمصالحة والعفو.

- العفو: يعتبر كثير من المفكرين أن طيّ صفحة الماضي هي أنجع وسيلة لتلافي إحداث اضطراب في مسيرة انتقالية حساسة، ولعدم العودة إلى زمن العنف، ما قد يعيد نَكْأ جراح الضحايا القديمة، ولكن، برأينا، فإن العفو غير المشروط هو الخطيئة الكبرى التي تُرتكب بحق أي شعب من الشعوب، فالعفو عير المقرون بإعلان الندم والتوبة، أو بتسليم السلاح والتعهد بعدم العودة إليه، أو بمعرفة حقيقة ما جرى وتحديد المسؤوليات، هو جريمة كبرى تشبه ما حصل في لبنان بُعيد الحرب الأهلية، حيث تمّ العفو الشامل عن كل الجرائم المرتكبة من دون مساءلة أو حفظ حقوق الضحايا بمعرفة الحقيقة أو التعويض، وكان بمنزلة طمر الجمر تحت الرماد، والذي أدى إلى استمرار الاحتقان المذهبي والطائفي، وهو الذي يؤدي إلى إشعال فتيل الفتن المتنقلة كلما توتّر الوضع الإقليمي.

- إعادة إدماج المقاتلين والمسلحين، وهنا على الدولة السورية أن تميّز بين الإرهابيين التكفيريين، وبين المعارضين السوريين الذين امتشقوا السلاح، ولعل العفو ومحاولة إعادة إدماج المسلحين السوريين من غير الإرهابيين، يسمح بفرز الفئتين، ما يؤدي إلى سهولة اجتثاث الإرهاب، كما يخفف على المجتمع السوري تبعات انتشار السلاح، ما يساهم في الأمن والاستقرار عن طريق تجريد المحاربين من الأسلحة، وتحريرهم من البنيات العسكرية، ومساعدتهم في الاندماج اجتماعياً واقتصادياً في المجتمع، عن طريق إيجاد سبيل لكسب العيش.

وتترافق مع الإدماج الأمني عملية إصلاح شاملة للبنى المؤسساتية، وتنمية الأرياف والمناطق المحرومة، ما يؤدي إلى القضاء على الجذور الاجتماعية والاقتصادية لتأجيج الصراع، وهذه تترافق بالضرورة مع تبني إصلاحات تشمل مؤسسات الدولة وقوانينها وسياساتها المختلفة، بهدف تمكين البلاد من تحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية البعيدة المدى، والتي تُعتبر ضرورية لتفادي وقوع انهيار مؤسساتي وديمقراطي في المستقبل.

- التعويضات: الهدف الأساسي لهذه الآلية هو إحقاق العدالة للضحايا، وضمان حقوقهم، وتعويضهم عما لحق بهم من الضرر والمعاناة، وينطوي المفهوم القانوني للتعويض - بحسب تقارير الأمم المتحدة - على معيارين: حق الضحية في الحصول على تعويض عما لحق بها، وواجب الطرف المسؤول بالتعويض عن الضرر الذي سبّبه.

وهكذا، إن بناء السلام في سورية هو مرحلة صعبة وطويلة، لكن على الأطراف المتحاربة ومن يدعمها من الدول الكبرى أن تقتنع بداية أن الخيار العسكري قد سقط، وأنه لا بد من تسوية تُخرج الجميع من المأزق الذي دخلوا فيه، وعلى السوريين أن يقتنعوا بأن بناء سورية الجديدة لا يمكن أن تقوم على محاولات إلغائية لأي طرف من الأطراف، ولا على محاولات استقدام الاحتلال الأجنبي، وأن تجارب الدول أثبتت أن المصالحة التي تؤدي إلى الاستقرار، والتي تبنى على أساس إحقاق العدالة وإنصاف الضحايا، هي الخيار الأفضل للبقاء.