2022/03/30

الولايات المتحدة: مَن يدفع الى حرب عالمية؟

تنعكس المعطيات الداخلية في الولايات المتحدة الأميركية على قرارات السياسة الخارجية، ولا شكّ أن قوة ونفوذ الولايات المتحدة في العالم يجعلها قادرة على جعل العالم انعكاس لصورتها في الداخل أو متفاعل مع أزماتها الداخلية. فحين انتخب الأميركيون دونالد ترامب، عاش العالم على وقع نزوات ونرجسية ساكن البيت الأبيض، واليوم يتأثر العالم كله بالتحولات والتفاعلات الداخلية الأميركية، التي تجد نفسها في الحرب الأوكرانية والتي يُخشى أن تنتقل الى حرب عالمية بدفع من البعض في الداخل الاميركي.

ولعل أخطر ما يمكن أن يؤدي الى حرب عالمية، هو الحماس الأميركي الاعلامي لها، بالرغم من إعراب العديد من الأميركيين العاديين في استطلاعات الرأي عن قلقهم من إرتفاع كلفة المعيشة وأسعار النفط، بالاضافة الى خوفهم من السلاح النووي.

وهكذا، يبدو أن هناك جهات عدّة داخل الولايات المتحدة الأميركية تستفيد من تسعير الصراع في أوكرانيا، وتدفع نحو توسيع رقعة الصراع حتى لو أدّى ذلك الى حرب عالمية كبرى. وفي تحليل عوامل الاندفاع الأميركي للتصعيد، نجد ما يلي:

أولاً- ضغوط المجمع الصناعي العسكري

مدفوعاً برأي عام متأثر بصور الحرب في أوكرانيا، اقترح بايدن ميزانية البنتاغون لهذا العام وقدرها  813  مليار دولار، بزيادة قدرها 31 مليار دولار عن ميزانية العام الماضي.

يقول تقرير مؤسسة كوينسي "أن موازنة الدفاع للولايات المتحدة الأميركية والتي تقدّر السنة ب 813 مليار دولار هي الأعلى على الاطلاق منذ الحرب العالمية الثانية، ويمثل إنفاق البنتاغون ما يقرب من نصف الإنفاق التقديري الفيدرالي ككل، وتبلغ موازنة الدفاع تبلغ 13 ضعف موازنة وزارة الخارجية ووكالة التنمية الدولية مجتمعة". [1]

ويعزو التقرير سبب ارتفاع الموازنة الدفاعية كل سنة الى أنه "منذ 11 أيلول/ سبتمبر 2001، أنفقت صناعات الأسلحة الأميركية 285 مليون دولار على مساهمات الحملة الانتخابية، و 2.5 مليار دولار على جماعات الضغط. في مقابل ذلك،، تلقوا عقوداً بقيمة 7 تريليون دولار".

تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى في العالم في بيع السلاح ، حيث حصلت على 37٪ من إجمالي مبيعات الأسلحة في الفترة من ٢٠١٦ إلى ٢٠٢٠. تليها روسيا بنسبة 20٪ ، تليها فرنسا (8٪) وألمانيا (6٪) والصين (5٪).

وبسبب جائحة كورونا، تراجعت مبيعات السلاح الأميركية عام 2021، قالت وزارة الخارجية الأميركية إن المبيعات العسكرية المباشرة للشركات الأميركية تراجعت بنسبة 17٪ ( من 124 مليار دولار في السنة المالية 2020 الى  103 مليار دولار في السنة المالية 2021)، بينما انخفضت المبيعات التي تمّ ترتيبها من خلال الحكومة الأميركية 31٪ ( من 50.8 مليار دولار عام 2020، إلى 34.8 مليار دولار في عام 2021).[2]

 لكن  منذ بدء الحرب الأوكرانية، واندفاع الغرب الى زيادة موازنات الدفاع وتمويل الحرب الاوكرانية، أرتفعت أسهم شركتي ، Lockheed و Raytheon  الأميركيتين بنحو 16٪ و 3٪ على التوالي ، وارتفعت شركة BAE Systems ، أكبر شركة في المملكة المتحدة وأوروبا ، بنسبة 26٪.

 

ثانياً- تنافس مراكز القوى بين البنتاغون ووزارة الخارجية

تندفع كل من وزارة الخارجية الأميركية والاعلام الغربي للضغط لتوسيع المواجهة مع الروس بالرغم من خطورة تدحرج الأمور الى حرب عالمية. ولقد اندفع بلينكن وكثر من الاعلاميين الغربيين للضغط على إدارة بايدن لفرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا بالرغم من خطورتها، كما يجد العديد من أعضاء الكونغرس ضالتهم الشعبوية في هذا الطرح وفي الحرب الأوكرانية لكسب المزيد من الأصوات الانتخابية في الداخل.

ويبدو أن البنتاغون يخوض معركة  تهدئة الرؤوس الحامية التي "تغرّد في مكاتب فاخرة"، ومع وزارة الخارجية والكونغرس لمنع مواجهة عسكرية مباشرة بين الناتو وروسيا. رفض وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في وقت سابق الذهاب نحو فرض منطقة حظر جوّي فوق أوكرانيا، في حين دعم وزير الخارجية أنتوني بلينكن خطط إرسال الناتو من بولندا الى أوكرانيا، وعرض على بولندا أن تعطي طائراتها الى أوكرانيا واستبدالها بطائرات أخرى، رفضت بولندا عارضة تسليم طائراتها الى الاميركيين، الأمر الذي رفضه البنتاغون بشدّة.

ثالثاً- أزمة قيادة

تظهر الأزمة القيادية بحدّة مع جو بايدن، الذي يبدو في حالة ذهنية غير متوازنة وظهرت حدّة هذه المشاكل في الخطابات التي يلقيها بمعرض الردّ على الحرب الاوكرانية، حيث قام بسلسلة من التصريحات "غير المسؤولة" بحسب وصف كثيرين في الولايات المتحدة، وأهمها الدعوة الى تغيير النظام في روسيا، ما اضطر البيت الأبيض الى التوضيح بأنه لا يقصد ذلك.

ولم يتعظ بايدن من تجربة باراك أوباما السورية، فاندفع الى تحديد "خط أحمر" في أوكرانيا سيكلف "ثمناً باهظاً" هو استخدام الأسلحة الكيماوية، بالرغم من خطورة قيام "جهة ما" باستخدام الأسلحة الكيماوية لتوريط الأميركيين في حرب مباشرة مع روسيا في أوكرانيا.

هذا الخطر والكلام غير المسؤول لبايدن، دفع البنتاغون الى التصريح لرويترز، بأن "الولايات المتحدة لم ترَ حتى الآن أي مؤشرات ملموسة على هجوم روسي وشيك بأسلحة كيماوية أو بيولوجية في أوكرانيا".

 

2022/03/28

عودة سوريا الى لبنان!!

في زيارة مفاجئة، استقبلت الامارات العربية المتحدة الرئيس السوري بشار الأسد في أول زيارة عربية تاريخية له بعد سنوات من القطيعة والحرب في سوريا.

وقد أعربت الولايات المتحدة عن إحباطها الشديد من الزيارة، وقال ند برايس، المتحدث باسم الخارجية الأميركية، "نحن محبطون بشدة، وقلقون لهذه المحاولة المفضوحة، لشرعنة وضع بشار الأسد، الذي يعد مسؤولاً وعرضة للمساءلة، عن مقتل ومعاناة عدد كبير من السوريين".

وبالرغم من التصريح الأميركي، لا يبدو أن الدعوة التي تلقاها الرئيس السوري، هي خارج إطار التصور الأميركي – الخليجي لفترة ما بعد الاتفاق النووي في المنطقة، والذي يبدو أنه يقوم على ما يلي:

1-  توقيع اتفاق نووي مع إيران يعطيها القدرة على استخدام مواردها المالية، ويرفع عنها العقوبات الأميركية، مقابل تعهد بعدم تصنيع قنبلة نووية. في المقابل، لم تستطع الولايات المتحدة وحلفائها، أخذ ضمانات من إيران في موضوع نفوذها الاقليمي ودعمها للقوى الحليفة في العديد من الدول في المنطقة، وهو ما حاول السعوديون والاسرائيليون الدفع اليه خلال المفاوضات.

2-  كانت السعودية تريد من الولايات المتحدة ربط الاتفاق النووي بالموضوع اليمني، بينما تريد إسرائيل ربطه بدعم قوى المقاومة في كل من فلسطين ولبنان، لكن الايراني تصلّب خلال المفاوضات رافضاً ربط الملفات الاقليمية بالملف النووي، بالرغم من كل الضغوط.

3-  أتت الحرب الروسية في أوكرانيا وارتفاع أسعار النفط والغاز في العالم وحاجة الاميركيين الى تهدئة الأسواق العالمية، لتضيف قوة الى موقف المفاوض الايراني الذي يفاوض اليوم على إزالة الحرس الثوري الايراني عن لوائح الارهاب الأميركية وعلى إزالة كافة العقوبات المفروضة على مؤسسات الحرس، معتبراً ان الحرس جزء من الجيش الوطني وبالتالي لا يمكن القبول بوضع جيش على لوائح الارهاب.

في هذا الاطار، وفي ظل اتجاه لخلط الأوراق في المنطقة بعد العودة الى الاتفاق النووي مع إيران، يسود القلق لدى اسرائيل والدول الخليجية وذلك لأن رفع العقوبات عن إيران سوف يزيد قوتها الاقليمية وتوسّع نفوذها، خاصة في لبنان وسوريا واليمن والعراق.

لذا، لا بد من مقاربة الملفين اللبناني والسوري بنظرة مختلفة عن النظرة التي سادت في السنوات السابقة، اي أن سياسة الضغوط القصوى والعقوبات سوف تدفع الشعبين الى الانفجار بوجه إيران وحلفائها، والى تقوية النفوذ الخليجي والاميركي فيهما. لقد أظهرت نتائج تلك السياسة أن الامر أتى بنتيجة عكسية.

على سبيل المثال، في لبنان الذي يتحضّر للانتخابات النيابية، يبدو أن حزب الله والتيار الوطني الحر وحلفائهما سوف يحافظون على نسبة عالية من المقاعد التي حصلوا عليها عام 2018، وأن انتفاضة 17 تشرين وما بعدها، وكل الجحيم الذي ذاقه اللبنانيون نتيجة الضغوط القصوى والازمات المفتعلة والانهيار الاقتصادي لم تؤدِ الى النتيجة التي كان المخططون يريدونها.

من هنا، فإن تغيير السياسة السابقة بات ضرورة ملحةَ على أبواب توقيع الاتفاق النووي، فكان تصوّر خليجي - أميركي بضرورة العودة الى لبنان وتخفيف الضغوط الاقتصادية، واستخدام النفوذ السوري التاريخي في لبنان لموازنة النفوذ الايراني الذي توسّع مع الانكفاءة الخليجية عن لبنان. وعليه، سوف يحاول الخليج العربي في المرحلة القادمة، تعويم دوره في لبنان بعودة سفرائه، وبالاستناد الى نفوذ تاريخي سوري قديم يعاد إحياؤه، وعبر إعطاء سوريا مكاسب سياسية وتمويل خطط إعادة الاعمار في حال نجحت الخطة الحالية. 

لماذا يقامر بايدن بمستقبل أوروبا؟


 

في مقابلة مع شبكة سي إن إن[1] في العشرين من آذار/مارس، انتقد زيلينسكي الحلفاء الغربيين وتعاملهم مع أوكرانيا "في ضوء التهديدات الروسية  لبلاده المستمرة منذ سنوات"، معتبراً انهم تهربوا من إدخال أوكرانيا الى حلف الناتو، ولو قبلوا بذلك في الوقت المناسب لما تعرضت بلاده للحرب. وقال زيلينسكي:

 

"طلبت منهم شخصيًا أن يقولوا بشكل مباشر إننا سنقبل انضمامكم إلى الناتو خلال عام أو عامين أو خمسة... وكان الرد واضحًا جدًا، لن تكون أوكرانيا عضوًا في الناتو أو الاتحاد الأوروبي، لكن الأبواب ستبقى مفتوحة في العلن".

 

هذا الحديث الصريح من زيلينسكي، يشي بأن الغرب كان يدرك مدى خطورة إدخال أكرانيا الى الناتو ولم يكن ينوي القيام بهذه المغامرة، ولكنه أراد استفزاز روسيا بعدم القبول بعدم ضمّ أوكرانيا علانية، أي أن الحرب كانت أمراً مرغوباً ومطلوباً من قبل الغرب.

 

وهكذا، يبدو أن أوكرانيا لم تكن فقط مجرد دولة في أوروبا، بل هي قاعدة متقدمة للغرب وللأميركيين خصوصاً، وقد تمّ استثمار الكثير من الموارد العسكرية والبيولوجية فيها، بسبب الاعتقاد بأنها ستكون بمأمن من الغزو الروسي وأن هناك استحالة تغيير الحكم فيها ليعود الى ما كان عليه في الاعوام التي سبقت عام 2014، وقد جعلها الغرب آداة لاستفزاز الروس في عقر دارهم وفي عمق مجالهم الحيوي.

 

ولقد كشفت هذه الأزمة وتصريح زلينسكي ليس فقط الاندفاع الغربي الى الحرب، ولكنها كشفت هشاشة النظام الأوروبي. تستمد أوروبا قوتها ظاهريًا من قوة اقتصادها، وما يسمى بـ "القيم المشتركة" للنظام الليبرالي القائم على الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.

 

أ‌-     بالنسبة للاقتصاد:

 

سيكون الازدهار الاقتصادي والأمن والاستقرار الذي يتمتع به الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الضحية الأولى لهذه الحرب في أوكرانيا. لقد شكّلت أزمة كورونا المنعطف الأول الذي واجه الدول الاوروبية، حيث اندفعت كل دولة للحمائية والأنانية القومية على حساب الآخرين، واليوم تأتي الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة والتضخم واللاجئين، لتضيف مشاكل الى المشاكل الموجودة والمتأتية من فترة ما بعد كورونا.

 

يعترف العديد من الدول الأوروبية أن حظر الطاقة الروسية سوف يؤدي الى نتائج كارثية على اقتصاداتهم، وبالرغم من ذلك يزايد الأميركيين والبريطانيين في ذلك، ويدعون الدول الاوروبية الى حظر الطاقة الروسية بالرغم من كل المخاطر التي يمكن أن ترافق هذا القرار.

 

وكان كثير من خبراء الطاقة حذّروا قادة الاتحاد الاوروبي من عواقب "كارثية" على أسواق النفط والغاز العالمية إذا نفذت الولايات المتحدة تهديداتها بفرض حظر على صادرات الطاقة الروسية. توقع هؤلاء أن تؤدي هذه الإجراءات إلى زيادة قدرها عشرة أضعاف في سعر المتر المكعب من الغاز الطبيعي وأن يصل سعر برميل النفط الى 300 دولار أميركي. وحذّر الروس بأنهم قد يوقفوا إمدادات الغاز عبر نورد ستريم 1 ويامال، في حال تمّ اتخاذ خطوات تصعيدية كهذه.

 

إن قراراً خطيراً كهذا، سيكون وقعه على أوروبا أخطر من قرار الحرب ذاته، لأنه سيؤدي الى انهيار مالي وفوضى سياسية وتجزئة جغرافية على أساس قومي من جديد.

 

إن الاندفاعة الأوروبية وراء الأميركيين في زيادة استفزاز الروس وحظر الطاقة ستكون وصفة دمار لأوروبا، وقد لا يكون متاحاً أمام الاميركيين القيام بخطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب هذه المرة لاختلاف الظروف والتحالفات، ولانعدام اليقين بنتائج الحرب.

 

ب‌- القيم العالمية المشتركة

 

يوماً بعد يوم، تتساقط القيم الليبرالية التي لطالما تغنّى بها الغرب، إذ تحوّلت وسائل التواصل الغربية ووسائل الاعلام الى الرقابة ومنع الصوت الأخر، واستبداد الصوت الواحد (التيار السائد)، بالاضافة الى سيادة منطق الحرب على كل ما عداه من دعوات الحوار، حيث يُتهم مطلقوها بأنها أدوات بروباغندا روسية.

 

لقد سقطت أقنعة التسامح والحريات والتعاطف الانساني، وباتت الوسائل الغربية تعجّ بخطابات عنصرية صريحة، وتفضيل الانسان "المسيحي"، "ذو الشعر الأشقر والأزرق العينين" على اللاجئين الآخرين، الذين يتم وصفهم بعدم التحضّر، بالاضافة الى تمويل وتقوية الحركات اليمينية المتطرفة، والنازية الجديدة والحركات الفاشية.

 

وهكذا، نكتشف أن الغربيين تعمّدوا استفزاز الروس برفض القبول علناً بالطلب الروسي بعدم إنضمام أوكرانيا الى الناتو، بالرغم من أنهم يدركون خطورة الأمر، فتسببوا بالحرب لإغراق روسيا في اوكرانيا، بالرغم من كل الأخطار والمشاكل التي يمكن أن تتأتى من ذلك.

 

إن حديث جو بايدن مؤخراً، عن أن هناك "نظاماً دولياً جديداً" تتم صياغته الآن، قائلاً " الآن هو الوقت الذي تتغير فيه الأشياء. سيكون هناك نظام عالمي جديد وعلينا قيادته". يعني أن الأميركيين تيقنوا فقدانهم السيطرة على النظام القديم، لذلك دفعوا الروس الى حرب في أوكرانيا،على أمل أن تؤدي تلك الحرب الى إعادة عقارب الساعة الى الوراء، وإمساكهم بخيوط اللعبة مجدداً. لغاية الآن، يبدو الاوروبيين خاسرين بمقدار الخسارة الروسية إن لم يكن أكثر، ويبدو أن الأميركيين يقامرون بمستقبل أوروبا في محاولة منهم لإعادة هيمنتهم على العالم. لكن ماذا لو انقلب السحر على الساحر، واستطاع الروس أن يحققوا انجازاً استراتيجياً وعسكريا في هذه المعركة، وقلبوا قواعد اللعبة؟.

 

 

  

لماذا تندفع الإدارة الأميركية الى توريط الحلفاء؟

 

تتخبط إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، في كيفية التصرف لمواجهة التقدم الروسي في أوكرانيا، وتحاول أن تدفع الحلفاء دفعاً الى إتخاذ قرارات ليس لصالحهم، وذلك عبر طرق فيها الكثير من الاستخفاف بمصالح الآخرين الحيوية بل ومضّرة بهم الى حدٍ بعيد. ويمكن الإشارة في هذا الإطار الى ما يلي:

 

1في وقت سابق قد دعت الإدارة الأميركية بولندا الى إعطاء طائراتها (ميغ – 29) الى أوكرانيا، على ان تقوم واشنطن بتعويضها بطائرات أف 16.

 

بالطبع، لم يقع البولنديون في الفخ، وأعربت بولندا عن استعدادها لوضع طائراتها من طراز ميغ-29  "فورًا ومجانًا" في تصرف الولايات المتحدة ونقلها إلى قاعدة رامشتاين في ألمانيا، الأمر الذي رفضه الأميركيون معتبرين أن هذا قد يجرّهم الى حرب مع الروس!!.

 

2هذا الأسبوع، ذكرت وسائل إعلام أميركية أن الولايات المتحدة أثارت بشكل غير رسمي مع تركيا إرسال أنظمة دفاع صاروخي روسية الصنع من طراز أس - 400 إلى أوكرانيا، لمساعدتها في محاربة القوات الروسية.

 

وكشف العديد من المسؤولين الأميركيين أن قيام تركيا بهذا الأمر، "قد يعيد فتح باب إعادة أنقرة إلى برنامج صناعة مقاتلات "أف - 35" الأميركية الذي خرجت منه قبل ثلاث سنوات، بسبب شرائها نظام الدفاع الجوي الروسي "أس - 400".

 

وطلبت إدارة الرئيس جو بايدن من الحلفاء الآخرين الذين يستخدمون معدات وأنظمة روسية الصنع، بما في ذلك أس - 300 وأس - 400، التفكير في نقلها إلى أوكرانيا، لصدّ الغزو الروسي.

 

بالطبع، ليس من مصلحة تركيا التخلي عن أنظمتها الدفاعية التي تحمّلت العقوبات والكثير من الضغوط الأميركية في وقت سابق للحصول عليها، زد على ذلك أن الطلب الأميركي هو مبدأياً مقابل "وعود" قد لا تتحقق، وبحسب المسؤولين الأميركيين، إن هذا التصرف التركي "قد يعيد" (ليس مضموناً) فتح الباب لشراء طائرات أف -35.

 

هذا بالإضافة الى أن خطوة كهذه، وهي صعبة التحقق تقنياً ولوجستياً بالأساس، ستدفع الروس الى اعتبار تركيا دولة عدوّة، وسيؤدي قطع العلاقات مع الروس الى تضرر الاقتصاد التركي الذي يرتبط بعلاقات تجارية واقتصادية وسياحية وطاقوية مع روسيا.

 

إن هذين المثالين، يشيران الى أن الإدارة الأميركية تتصرف بناءً على أهدافٍ ثلاث:

 

أ‌-      أما أنها تريد أن تدفع حلف الناتو الى حرب مع روسيا ولكنها لا تريد أن تكون هي البادئة. لذلك، تدفع أحد دول الناتو الى استفزاز الروس ليردوا، فيتم تفعيل المادة 5 من معاهدة الحلف، فتنشب الحرب بين الروس والناتو، ويتهمون بوتين بإشعالها.

 

ب‌-  تريد أن تورّط حلفاءها في دعم كييف، فإن نجحوا في إفشال العملية الروسية قطفت الإدارة الأميركية النتائج، وإن فشلوا تملصت منهم.

 

ت‌-  تحاول أن تمارس الشعبوية أمام الجمهور الأميركي والغربي المتعاطف مع أوكرانيا، وبالتالي تريد أن تنزع عنها صفة أنها حرّضت كييف ضد موسكو وتركتها لمصيرها.

 

بكل الأحوال، إن تلك النصائح والعروض الأميركية ورفض الحلفاء، تشي بأن القدرة الأميركية على الضغط تتراجع، ولأنه عملياً ومنطقياً: إذا أردت أن تطاع اطلب المستطاع.

  

قرار محكمة العدل ضد روسيا: حيثياته وإمكانية تنفيذه

 

أصدرت محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، قرارها بوجوب "أن تعلّق روسيا العمليات العسكرية في أوكرانيا على الفور". وصوتت المحكمة بأغلبية 13 صوتاً مقابل اثنين لصالح أوكرانيا في القضية التي رفعتها في 27 شباط/فبراير، متهمة "روسيا بالتلاعب بمفهوم الإبادة الجماعية لتبرير عدوانها العسكري".

 

فما هي قوة هذا الحكم؟ وما هي القدرة على التنفيذ؟

 

أولاً- في تعريف المحكمة واختصاصها

خلفت محكمة العدل الدولية المحكمة التي سبقتها والتي انبثقت عن مؤتمر السلام في لاهاي عام 1899. فبعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، وضع مجلس عصبة الأمم، بمساعدة مجموعة من القضاة، الخطط الأولى للمحكمة الدائمة للعدل الدولي. ثم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تأسست محكمة العدل الدولية في عام 1945، وبدأت أعمالها في العام اللاحق كبديل عن المحكمة التي أقرتها عصبة الأمم.

     ينبع أحد أهم أهداف المحكمة من المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تنص على أن أعضاء الهيئة "يحلّون منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر".

ويشكّل نظام المحكمة الأساسي جزءًا لا يتجزأ من ميثاق الأمم المتحدة (الفصل الرابع عشر\ المادة 92)، ويعتبر جميع أعضاء "الأمم المتحدة" بحكم عضويتهم أطرافًا في هذا النظام الأساسي (المادة 93)

ومن ناحية الاختصاص تختص محكمة العدل الدولية باختصاصين ضمن مهامها:

1-  الفصل في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول طبقا لأحكام القانون الدولي.

2- تقديم الفتاوى أو ما يسمى الرأي الاستشاري بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها هيئات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.

 

 

ثانياً: صدور الحكم بالرغم من عدم قبول روسيا باختصاص المحكمة

 

تعالج محكمة العدل الدولية فقط القضايا التي تتقدم بها الدول، والتي تكون قد قبلت اختصاصها وقبلت الالتزام بها (وهو شرط أساسي) متى كانت هذه المنازعات القانونية تتعلق بالمسائل الآتية ووفقا للمادة (36) من النظام الاساسي للمحكمة:

أـ تفسير معاهدة من المعاهدات.

ب ـ أية مسالة من مسائل القانون الدولي.

جـ تحقيق واقعة من الوقائع التي تثبت أنها كانت خرقًا لالتزام دولي.

دـ نوع التعويض المترتب على خرق التزام دولي ومدى هذا التعويض.

 

أما من ناحية الصلاحية في النظر في انتهاكات حقوق الإنسان، فطبقًا للمادة التاسعة من اتفاقية "إبادة الجنس"، يمكن لمحكمة العدل الدولية أن تضطلع بالنظر في القضايا التي تعرضها عليها الدول في ما يختص بتفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة.

 

ولقد قامت أوكرانيا  ومعها المحكمة بالنفاذ من هذه الثغرة الأخيرة بالذات لتخطي عدم قبول روسيا باختصاص المحكمة وعدم حضور الجلسات، وذلك على الشكل التالي:

-      قدم الاوكرانيون قضيتهم مستندين الى أن روسيا ادّعت في تبرير العملية العسكرية ان هناك "إبادة جماعية تحصل في أقاليم الدونباس"، لذلك طلبوا من المحكمة النظر في القضية على أساس "اتفاقية إبادة الجنس" والتي تستطيع المحكمة خلالها النظر في قضية ما بدون موافقة الدول المعنية. واستند الاوكران الى خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي اتهم كييف بإبادة القوميات الروسية في أقاليم الدونباس.

-      تنفي روسيا أن يكون للمحكمة اختصاص على أي قضايا تتعلق باستخدام القوة لأنها تقع خارج نطاق اتفاقية "الإبادة الجماعية" ولا يشملها البند التوفيقي في المادة التاسعة منها. تقول روسيا أن استخدام القوة في اوكرانيا هو بموجب حق الدفاع المشروع عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.

-      يرفض الروس مبدأ إن الإشارة إلى الإبادة الجماعية في خطاب بوتين، يعني أن النزاع مشمول بالاتفاقية أو وجود نزاع في إطارها، والمقصود في خطاب بوتين هو الوضع الرهيب والفظائع في دونباس والذي يشكّل بيئة إنسانية عامة. ولأن مفهوم الإبادة الجماعية موجود في القانون الدولي العرفي بشكل مستقل عن الاتفاقية، وهو موجود أيضًا في النظم القانونية الوطنية للدول، بما في ذلك الاتحاد الروسي وأوكرانيا.

 

 بالتأكيد، لم تقبل المحكمة بالرد الروسي، واعتبرت ان خطاب بوتين كافٍ لقبول الادعاء الاوكراني بأن الموضوع الروسي الأوكراني متعلق بإتفاقية إبادة الجنس، وبالتالي يحق لها النظر في القضية بمعزل عن موافقة روسيا وقبولها أختصاص المحكمة.

علماً أنه في قضية مشابهة، رفضت المحكمة النظر في الادعاء الصربي (بنفس الذريعة) ضد دول حلف الناتو الذين شنّوا عدواناً على صربيا عام 1999، بحجة "التدخل الانساني وحماية المدنيين في اقليم كوسوفو من إبادة جماعية تقوم بها صربيا ضدهم".

 

ثالثاً- القوة التنفيذية لحكم المحكمة

    

ليس لمحكمة العدل الدولية أي جهاز تنفيذي، ولا يمكنها أن تتخذ اجراءات مباشرة لتطبيق قراراتها بحق الدول، وفي حال تمنّعت إحدى الدول عن الالتزام بقرارات المحكمة فعلى الطرف المتضرر أن يلجأ لمجلس الأمن. ولهذا المجلس، إذا رأى ضرورة لذلك، أن يقدم توصياته أو يصدر قرارًا بالتدابير التي يجب اتخاذها لتنفيذ هذا الحكم (المادة 94).

 

وهكذا، بعدم قبول روسيا باختصاص المحكمة، وبعدم قدرة المحكمة على تنفيذ قراراتها لعدم وجود جهاز تنفيذي، وبوجود روسيا في مجلس الأمن، سيبقى قرار المحكمة حبراً على ورق.

بالنتيجة، حصلت أوكرانيا على ما تريده من هذه الحكم، وهو التشهير بروسيا والاعلان "الاعلامي" بالانتصار في القضاء ضد روسيا في أعلى محكمة دولية، وهو ما كان متوقعاً بكل الاحوال، حيث أغلبية القضاة الذين صوتوا لصالح أوكرانيا هم من الغرب، بينما اعترض على القرار القاضي الروسي والقاضية الصينية، ما يعني أن الفرز السياسي انتقل الى القضاء الدولي.

 

الموقف الخليجي من حرب أوكرانيا: الأسباب والنتائج

 

يتوجه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الى الخليج وتحديداً الى المملكة العربية السعودية لبحث زيادة إنتاج النفط بعدما تعذّر على جو بايدن الضغط على المملكة لزيادة انتاجها، في ظل علاقة متوترة بين بايدن وولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

 

وكان جونسون قد تعرض لانتقادات، من قبل النائب البريطاني والزعيم السابق لحزب العمال، جيرمي كوربين، الذي طالب إدارة بلاده بقطع العلاقات بشكل سريع مع السعودية، عقب تنفيذ الأخيرة لحكم الإعدام بحق 81 معتقلاً في سجونها. وقال كوربين، عبر حسابه على "تويتر: "النظام في السعودية ارتكب أكبر عملية إعدام جماعي، بينما يخطط بوريس جونسون للسفر إلى المملكة لإبرام صفقة نفط!". وأضاف: "يجب على رئيس الوزراء إلغاء زيارته، وإنهاء صفقة الأسلحة البريطانية مع الحكومة التي أودت بحياة العديد من الأشخاص في الداخل وفي اليمن".

 

وفي موقف لافت، استمرت الرياض والإمارات في رفض الضغوط الأميركية لزيادة إنتاج النفط، واتخذتا موقفاً متمايزاً عن الأميركيين في موضوع الحرب في أوكرانيا، وذلك للاسباب التالية:

 

-      أولاً، إن إدانة الخليجيين للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتي تقول روسيا أنها لحماية أمنها القومي بعدما هدد الناتو أمنها وأخّل بالتوازن في بلد مجاور، يعني أن نفس المعيار يجب أن يطبّق على الحرب الخليجية في اليمن، والتي يقول الخليجيون أنهم قاموا بها حفاظاً على أمنهم القومي.

 

-      ثانياً، يريد الخليجيون أن ينوّعوا تحالفاتهم الدولية، بعدما أعلنت الولايات المتحدة الأميركية مراراً رغبتها في الانسحاب من المنطقة للتوجه نحو بحر الصين الجنوبي لاحتواء الصين. وعليه، إن المظلة الأمنية التي توفرها الولايات المتحدة الأميركية للخليجيين قد تتبدل مع تراجع المصالح الاميركية في المنطقة، ولهم في النموذج الأفغاني مثال وعبرة.

 

-      ثالثاً، تطمح الدول الخليجية الى ربط نفسها بمشروع طريق الحرير الصيني، خاصة البحري، لما له من فائدة استراتيجية وحيوية للدول الخليجية. لذا هم يريدون توسيع مروحة استثماراتهم وعدم ربطها بالغرب فقط.

 

-      رابعاً، يدرك الخليجيون من الدرس السوري أن الروس لا يبيعون حلفاءهم بسهولة، بل هم مستعدون لدعم الحلفاء الى النهاية، بينما في المقابل، لا ينسى الخليجيون درس الربيع العربي، حين قامت الإدارة الأميركية بتشجيع سيطرة الاخوان المسلمين على الدول العربية بدعم تركي وقطري، وكيف أتى هذا الدعم على حساب حلفاء الولايات المتحدة القدامى - حلفاء السعودية.

 

وهكذا، يبدو أن الحرب في أوكرانيا قد خلطت الأوراق في العالم أجمع، وباتت كل دولة تفتش عن مصالحها في ظل تحالفات متبدلة وفرز جيوسياسي وجيو اقتصادي جديد. وفي ظل حاجة العالم الى تهدئة أسواق الطاقة العالمية بزيادة الانتاج، تعمد الدول النفطية الى زيادة شروطها، والى الدفع الى الامام، وهو ما فعله الحكم في السعودية الذي اندفع الى إعدام 81 شخصاً، وهو يدرك أن العالم الغربي سيصمت في ظل حاجتهم لإرضائه للحصول على النفط.

  

الاطاحة ببوتين في الداخل: حقيقة أو وهم؟

 

بعد إدراك الغرب عدم قدرتهم على الانتصار عسكرياً على الروس في أوكرانيا، بدأت التصريحات الغربية تتطور لتصل الى الدعوة الى إسقاط بوتين في الداخل، وبرزت العديد من المقالات الغربية في هذا السياق، واستكلمت بحديث لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي هدد بعد خطاب زيلينكسي في مجلس العموم البريطاني، قائلاً "سنواصل الضغط بكل الوسائل على روسيا حتى سقوط بوتين"، وقالت وكيلة وزارة الخارجية الأميركي للشؤون السياسي فيكتوريا نولاند،" حينما تتعرض قيادة بوتين للخطر بسبب أوكرانيا، فسيكون أمام تغيير مساره أو أن الشعب الروسي سيتولى الأمور بيديه".

من هنا، يطرح السؤال التالي: الى أي مدى يمكن أن ينجح الغرب في المراهنة على إسقاط بوتين في الداخل؟

 

في دراسة إحصائية اعدّها مؤخرا أحد المراكز الروسية المعارضة المدعومة من الغرب، اعتبر 59% من المستطلعين الروس أنهم "يدعمون العملية العسكرية على اوكرانيا"، معتبرين أن أوكرانيا هي ضحية الغرب والنازية الجديدة. كما اعتبر 73 % من المستطلعين أنهم يثقون "تماماً" بالمصادر الروسية الرسمية[1].

وفي تحليل لحوالى 2.73 مليون تغريدة على وسائل التواصل الاجتماعي، 51.8 % ينظرون بإيجابية للعمل العسكري في أوكرانيا، وأن 14.5% فقط من التغريدات هي ضد بوتين.

 

وفي تحليل لتصورات الشعب الروسي ونظرته الى نفسه والى الآخرين، والتي غالباً ما يخطئ الغرب في تقييمها، نجد ما يلي:

أ‌-      إيمان الروس بعظمة بلادهم

يؤمن الروس منذ روسيا القيصرية، مرورًا بالاتحاد السوفييتي ولغاية اليوم، بعظمة بلادهم. على الرغم من الاختلافات الداخلية على الحكم أو في التوجهات السياسية، سواء كانوا مؤيدين للتقارب مع أوروبا، أو مؤمنين بالأوراسية، أو المسيحية الأرثوذكسية الشرقية أو أنصار التوجه الإسلامي، إلخ...  فإن العنصر الموحد في الثقافة السياسية الروسية المعاصرة هو الصورة الذاتية لروسيا كقوة عظمى.

حتى في ضوء المشكلات المالية الكبيرة التي واجهتها روسيا في عام 1992، رفض يلتسين عرض "المساعدة" من الرئيس الأميركي بيل كلينتون  مشيرًا إلى أننا "لا نطلب الحصول على المساعدات. روسيا قوة عظمى."

من ضمن هذه النظرة للذات، يؤمن الروس بأن دولتهم يجب أن تشارك في تقرير القضايا العالمية، ويكون لها مجال نفوذ في محيطها المجاور، ويعتبرون أن عالمًا متعدد الأقطاب هو الأنسب لهذه الرؤية. وهكذا يرفض الروس قبول  تصنيفهم بأنهم قوة إقليمية أو قوة وسط في النظام، فإما "هي قوة عظمى أو لا تكون".

إنطلاقاً من هذه النظرة، فأن ما يفعله بوتين اليوم، بالنسبة للروس، هو تأكيد على أهمية بلادهم وعظمتها وأنهم لن يقبلوا أن يكونوا تابعاً في النظام الدولي.

ب‌-   الخوف  والشكّ بمحيط معادٍ

يؤدي الخوف دورًا مؤثرًا في الثقافة السياسية الروسية. بالنسبة للروس، العالم كناية بيئة غير ودية، هدفها الرئيسي تدمير الأمة الروسية.

تاريخياً، تمّ بناء الهوية الروسية المبنية على ركائز ثلاث: الأمن والوحدة، شعور بالغ الأهمية  بضروة الحفاظ على  مجتمع متماسك، والخوف من الإبادة في بيئة خارجية معادية للغاية. ولعل العامل الأخير مهم في فهم الهوية العكسية: كيف يفكر الروس في أن بقية العالم ينظر إليهم كتهديد أيديولوجي وهدف إقليمي.

 

في الواقع، كان العالم دائمًا مكانًا خطيرًا للروس، للأسباب التالية:

قاتلت روسيا باستمرار من أجل وجودها في الوقت الذي كانت فيه "محاطة من كل جانب من قبل أعداء أقوياء" أو تتعرض للهجوم من قبل جميع أنواع القوى المعادية: الفايكنج، السويد، تركيا، التتار، فرنسا، ألمانيا، الولايات المتحدة وحلف الناتو، إلخ....استمر الوضع على هذا الحال حتى تمكّن الاتحاد السوفيتي من "تطهير الفناء الخلفي" عن طريق تثبيت مناطق معادية للناتو في محيطه الأوروبي من خلال إنشاء أنظمة سوفيتية في أوروبا الشرقية.

مع بوتين، يشعر الروس بأن الغرب يحاربهم لأنهم "إمبراطوية كبرى" تتعافى بعد أن عانت من فترات من الانحطاط بعد انتهاء الحرب الباردة، لذا فهم مستعدون لفعل كل شيء لحماية هويتهم الوطنية.  

منذ عام 2014، يرى الروس توسّع الناتو والاتحاد الاوروبي صوب الحدود الروسية ليس مجرد تهديد جيوبوليتكي فحسب، إنما تهديد وجودي وحضاري، يهدد الهوية الوطنية  والقيم  الروسية. واليوم، يؤمن الروس ان بوتين يقوم بعملية دفاع عن المواطنين الروس سواء الموجودين في أوكرانيا أو في روسيا نفسها، لأن الغرب حينما ينتهي من "إبادة" الروس في أوكرانيا سينقضّ على الروس المتواجدين في روسيا، بحسب نظرتهم.

          ج- الجماعية

          تاريخيًا، كانت روسيا على استعداد لوضع جودة الحياة العالية على مذبح مفهوم "روسيا العظمى" velikoderzhavnost '، وكان الناس، كما لاحظ دوستويفسكي، على استعداد للتضحية بثروتهم الاقتصادية الفردية من أجل  الواجب الاخلاقي تجاه الوطن.

خلال الحقبة الشيوعية، كانت "الجماعية" إجابة عن المصاعب التي مرّ بها الشعب الروسي نتيجة لثورة أكتوبر والحرب العالمية الثانية.  واليوم، يعبّر كثيرون من الروس أنهم مستعدين للتخلي عن وسائل الراحة الفردية والاستقرار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي وتحمّل العقوبات الاقتصادية مقابل تقوية نفوذ بلادهم خارجيًا، والتحرر من الأخطار المختلفة التي تتهددها.

 

وهكذا، وبناءً على ما تقدم، نجد أن الخطة الغربية بالضغط على الروس للإطاحة ببوتين لا تبدو واقعية.  أما المقالات التي تتحدث عن إمكانية قيام النخبة الروسية الغنية والنافذة بالاطاحة ببوتين بسبب قيامه بحرب في أوكرانيا أضرّت بمصالحها، لا تبدو حقيقية، إذ أن تلك النخبة تدين لبوتين وشركائه بما هي عليه الآن، وتؤمن أنها لن تكون مقبولة في الغرب حتى لو أطيح ببوتين فقط لانها روسية وبرأي الروس "الغرب لا يريد للروس أن يتقدموا حضارياً ومالياً".

أما بالنسبة لتحفيز الروس على الإطاحة ببوتين بسبب أعداد القتلى من الجنود فقد استعدّ بوتين لهذا الامر، ودعا  للقتال  في أوكرانيا فقط "من يريد القتال ويتطوع للمشاركة في تلك العملية الخاصة "، وهكذا فوّت على الخارج والداخل إمكانية الاستثمار في دماء الجنود الروس الذي يقتلون في تلك الحرب.

لطالما أخطأ الأميركيون في الرهان على قدرتهم في تجويع الشعوب لدفعها الى تغيير حكامها، فقد جرّبوا هذه الاستراتيجية في كل من إيران وسوريا وفنزويلا وفشلوا، أما في روسيا، فإن هذا الاستراتيجية لا تعدو كونها وهم أكبر.