تنعكس المعطيات الداخلية في الولايات المتحدة الأميركية على قرارات السياسة الخارجية، ولا شكّ أن قوة ونفوذ الولايات المتحدة في العالم يجعلها قادرة على جعل العالم انعكاس لصورتها في الداخل أو متفاعل مع أزماتها الداخلية. فحين انتخب الأميركيون دونالد ترامب، عاش العالم على وقع نزوات ونرجسية ساكن البيت الأبيض، واليوم يتأثر العالم كله بالتحولات والتفاعلات الداخلية الأميركية، التي تجد نفسها في الحرب الأوكرانية والتي يُخشى أن تنتقل الى حرب عالمية بدفع من البعض في الداخل الاميركي.
ولعل أخطر ما يمكن أن يؤدي الى حرب عالمية، هو الحماس الأميركي الاعلامي لها، بالرغم من إعراب العديد من الأميركيين العاديين في استطلاعات الرأي عن قلقهم من إرتفاع كلفة المعيشة وأسعار النفط، بالاضافة الى خوفهم من السلاح النووي.
وهكذا، يبدو أن هناك جهات عدّة داخل الولايات المتحدة الأميركية تستفيد من تسعير الصراع في أوكرانيا، وتدفع نحو توسيع رقعة الصراع حتى لو أدّى ذلك الى حرب عالمية كبرى. وفي تحليل عوامل الاندفاع الأميركي للتصعيد، نجد ما يلي:
أولاً- ضغوط المجمع الصناعي العسكري
مدفوعاً برأي عام متأثر بصور الحرب في أوكرانيا، اقترح بايدن ميزانية البنتاغون لهذا العام وقدرها 813 مليار دولار، بزيادة قدرها 31 مليار دولار عن ميزانية العام الماضي.
يقول تقرير مؤسسة كوينسي "أن موازنة الدفاع للولايات المتحدة الأميركية والتي تقدّر السنة ب 813 مليار دولار هي الأعلى على الاطلاق منذ الحرب العالمية الثانية، ويمثل إنفاق البنتاغون ما يقرب من نصف الإنفاق التقديري الفيدرالي ككل، وتبلغ موازنة الدفاع تبلغ 13 ضعف موازنة وزارة الخارجية ووكالة التنمية الدولية مجتمعة". [1]
ويعزو التقرير سبب ارتفاع الموازنة الدفاعية كل سنة الى أنه "منذ 11 أيلول/ سبتمبر 2001، أنفقت صناعات الأسلحة الأميركية 285 مليون دولار على مساهمات الحملة الانتخابية، و 2.5 مليار دولار على جماعات الضغط. في مقابل ذلك،، تلقوا عقوداً بقيمة 7 تريليون دولار".
تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى في العالم في بيع السلاح ، حيث حصلت على 37٪ من إجمالي مبيعات الأسلحة في الفترة من ٢٠١٦ إلى ٢٠٢٠. تليها روسيا بنسبة 20٪ ، تليها فرنسا (8٪) وألمانيا (6٪) والصين (5٪).
وبسبب جائحة كورونا، تراجعت مبيعات السلاح الأميركية عام 2021، قالت وزارة الخارجية الأميركية إن المبيعات العسكرية المباشرة للشركات الأميركية تراجعت بنسبة 17٪ ( من 124 مليار دولار في السنة المالية 2020 الى 103 مليار دولار في السنة المالية 2021)، بينما انخفضت المبيعات التي تمّ ترتيبها من خلال الحكومة الأميركية 31٪ ( من 50.8 مليار دولار عام 2020، إلى 34.8 مليار دولار في عام 2021).[2]
لكن منذ بدء الحرب الأوكرانية، واندفاع الغرب الى زيادة موازنات الدفاع وتمويل الحرب الاوكرانية، أرتفعت أسهم شركتي ، Lockheed و Raytheon الأميركيتين بنحو 16٪ و 3٪ على التوالي ، وارتفعت شركة BAE Systems ، أكبر شركة في المملكة المتحدة وأوروبا ، بنسبة 26٪.
ثانياً- تنافس مراكز القوى بين البنتاغون ووزارة الخارجية
تندفع كل من وزارة الخارجية الأميركية والاعلام الغربي للضغط لتوسيع المواجهة مع الروس بالرغم من خطورة تدحرج الأمور الى حرب عالمية. ولقد اندفع بلينكن وكثر من الاعلاميين الغربيين للضغط على إدارة بايدن لفرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا بالرغم من خطورتها، كما يجد العديد من أعضاء الكونغرس ضالتهم الشعبوية في هذا الطرح وفي الحرب الأوكرانية لكسب المزيد من الأصوات الانتخابية في الداخل.
ويبدو أن البنتاغون يخوض معركة تهدئة الرؤوس الحامية التي "تغرّد في مكاتب فاخرة"، ومع وزارة الخارجية والكونغرس لمنع مواجهة عسكرية مباشرة بين الناتو وروسيا. رفض وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في وقت سابق الذهاب نحو فرض منطقة حظر جوّي فوق أوكرانيا، في حين دعم وزير الخارجية أنتوني بلينكن خطط إرسال الناتو من بولندا الى أوكرانيا، وعرض على بولندا أن تعطي طائراتها الى أوكرانيا واستبدالها بطائرات أخرى، رفضت بولندا عارضة تسليم طائراتها الى الاميركيين، الأمر الذي رفضه البنتاغون بشدّة.
ثالثاً- أزمة قيادة
تظهر الأزمة القيادية بحدّة مع جو بايدن، الذي يبدو في حالة ذهنية غير متوازنة وظهرت حدّة هذه المشاكل في الخطابات التي يلقيها بمعرض الردّ على الحرب الاوكرانية، حيث قام بسلسلة من التصريحات "غير المسؤولة" بحسب وصف كثيرين في الولايات المتحدة، وأهمها الدعوة الى تغيير النظام في روسيا، ما اضطر البيت الأبيض الى التوضيح بأنه لا يقصد ذلك.
ولم يتعظ بايدن من تجربة باراك أوباما السورية، فاندفع الى تحديد "خط أحمر" في أوكرانيا سيكلف "ثمناً باهظاً" هو استخدام الأسلحة الكيماوية، بالرغم من خطورة قيام "جهة ما" باستخدام الأسلحة الكيماوية لتوريط الأميركيين في حرب مباشرة مع روسيا في أوكرانيا.
هذا الخطر والكلام غير المسؤول لبايدن، دفع البنتاغون الى التصريح لرويترز، بأن "الولايات المتحدة لم ترَ حتى الآن أي مؤشرات ملموسة على هجوم روسي وشيك بأسلحة كيماوية أو بيولوجية في أوكرانيا".