2012/11/29

"ربيع الإخوان" في خطر

نُشر في الثبات 29 تشرين الثاني 2012
حسناً فعل “الإخوان” في مصر بأن ألغوا التظاهرة التي كانت مقررة يوم الثلاثاء الماضي، رداً على تظاهرة المعارضين ضد قرارات الرئيس المصري  محمد مرسي الأخيرة، فالانقسام الذي تشهده الساحة المصرية ينذر بشرّ مستطير، قد لا تسلم منه مصر كلها، فيما لو التحمت المظاهرتان وسالت الدماء في الشارع.
من خلال “إعلانه الدستوري” يكون الرئيس محمد مرسي قد قام بخطأ استراتيجي كبير، سيعود بالخسارة الكبيرة عليه، وعلى الجماعات التي يمثلها، ليس في مصر فحسب، بل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ككل، ويمكن إدراج عوامل سوء التقدير المؤدي إلى الخطأ في ما يلي:
-   يعلم الرئيس مرسي أن المصريين يعيشون إحباطاً لا مثيل له، فهم يعتبرون أنهم خرجوا إلى ثورة، ووجدوها تُسرق أمام أعينهم، وهكذا يكون قد أخطأ في المراهنة على قدرة تحمّل المصريين، وعلى إمكانية “بلع” إعلانه الدستوري، بعدما استطاع سابقاً أن يمرر إحكام السيطرة على السلطة التشريعية والتنفيذية والإعلام والعسكر، من دون اعتراضات تُذكر.
-    لم يتحسّب مرسي للعوامل الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتردية في مصر بشكل لم يسبق له مثيل، فالشعب المصري الذي تئنّ غالبيته من الجوع، كان قد وضع آمالاً وتوقعات بتحسّن الأحوال بعد استتاب الحكم الجديد، فإذا بالبطالة ترتفع نسبتها، ولا سياحة تنشّط الاقتصاد، ومظاهر التشدد والانقسامات السياسية تؤدي إلى هروب رؤوس الأموال، وهبوط البورصة.
-   أراد الرئيس مرسي أن يستغل الانتصار الذي تحقق في غزة، فقام مسرعاً بمحاولة إعلان سيطرته على القضاء المصري، قبل أن يجف حبر الهدنة الموقعة بين المقاومة الفلسطينية و”إسرائيل”، متوهماً أنه يستطيع استثمار ما تصور أنه فائض قوة إقليمي ودولي تحصّل لديه، حين أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما إعجابه ببراغماتيته، وامتدحه أفيغدور ليبرمان وشيمون بيريز على أنه رجل دولة، ولم ينتبه مرسي إلى أن مديحاً من المتطرف الصهيوني ليبرمان ورئيسه بيريز، يعني أن عليه أن يقلق، فإما أنه قام بعمل مضرّ بأمته، أو أنهم يريدون تشويه سمعته في أنحاء العالم العربي.
-   اللافت للنظر أن الرئيس المصري كان قد اتخذ قراراته السلطوية دائماً بعد مقابلة المسؤولين الأميركيين، بما يشير إلى أنه قد استحصل على ضوء أخضر منهم، فقد أقال المشير طنطاوي والفريق عنان بعد أن قابل وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، وألغى الإعلان الدستوري المكمل، الذي قلّص فيه العسكر صلاحيات الرئيس، بعد مقابلة ويليام بيرنز؛ نائب وزيرة الخارجية الأميركية، وقام بإعلانه الدستوري الأخير بعد مقابلة هيلاري كلينتون مجدداً.
وبهذا الإطار، يبدو أن مرسي لم يتعظ من تجربة صدام حسين، الذي لطالما تمتّع بدعم أميركي غير مسبوق خلال حربه التي دامت ثماني سنوات مع إيران، وفي النهاية، قامت السفيرة الأميركية آبريل غلاسبي بتشجيعه على الدخول إلى الكويت، من خلال التلميح بأن هناك ضوءاً أخضر أميركياً بذلك، سرعان ما تبيّن أنه فخ دفع ثمنه كل من الكويت والعراق وصدام حسين نفسه.
ولعل فائض القوة المتحصل الذي استشعره مرسي، من إرهاق الشعب والضوء الأخضر الأميركي، ونشوة انتصار إعلامي على “إسرائيل”، جعله يقدم على تلك المغامرة، التي قد تكون إحدى نتائجها أمرين:
- أن تدفع حدة الانقسام السياسي والاحتقان الطائفي وانتشار السلاح، مصر إلى حرب أهلية لن تكون قصيرة الأجل، بسبب تداخل العوامل الإقليمية والدولية والمذهبية والدينية.. وحرب كهذه، إن اندلعت، لن تنتهي إلا بتقسيم مصر، الذي سيشكّل بدوره نوعاً من الدومينو يؤدي إلى تقسيم معظم دول شمال أفريقيا.
- خسارة حلم المشروع “الإخواني” الأممي الذي ظهر بعد الثورات العربية، إن فشل حكم “الإخوان” في مصر، أو حتى تعثّره، وظهوره كديكتاتورية دينية سيكون له تداعيات تشبه تداعيات مقتل السفير الأميركي في ليبيا، حيث سيعيد الأميركيون تقييم سياساتهم في المنطقة، ويعيدون النظر في الدعم الذي يقدمونه لهم، ما يؤدي إلى ترجيح كفة الحل السياسي مع النظام في سورية، وعودة تركيا إلى حجمها الطبيعي، وعودة حماس إلى حضن إيران، ومزيد من الضغوط على الحكم الجديد في تونس وغيرها..
انطلاقاً من كل ذلك، وانسجاماً مع سياساتهم البراغماتية، لا يبدو أن هناك حلاً أمام الرئيس مرسي وجماعة “الإخوان” إلا إعادة النظر في السياسة التي ينتهجونها، والقبول بمبدأ التعددية في مصر، والتوقف عن التعويل على الدعم الخارجي، وذلك لأن استمرارهم في محاولة الاستئثار قد يؤدي إلى أحد الأمرين السابقيْن أو كليهما معاً.

2012/11/21

عن أي استقلال تتكلمون؟

لمناسبة عيد الاستقلال اللبناني، تحاول الدولة اللبنانية من خلال الاستعراض العسكري ومنح يوم عطلة سنوي، أن تُكسب هذه المناسبة أجواءً احتفالية، لا يبدو أن أحداً من اللبنانيين يشعر بها، أو يصدّق تحقّقها، باعتبار أن معايير استقلال دولتهم ما انفكت تتناقص يوماً بعد يوم.
بُعيد انسحاب الجيش السوري من لبنان، عاش بعض اللبنانيين أملاً بتحقيق استقلال وسيادة تُنهي عهد الوصاية، وتُخرج الدولة من عجزها، وتدخلها إلى مصاف الدولة المستقلة السيدة التي تملك حرية قرارها وتمسك بجميع مفاصل إدارة الحكم، وتحقق ما يطمح إليه اللبنانيون من سيادة واستقلال، لكن الاستئثار بالحكم الذي حصل، والأزمات التي عاشها اللبنانيون، أجهضوا أي أمل بالتفاؤل أو بصيص نور يمكن أن يلوح في الأفق البعيد.
مبدأياً، ترتبط السيادة بمفهوم استقلال وحرية الإرادة، لذلك يعد الاستقلال السياسي شرطاً لازماً لتمكين الدولة من ممارسة مظاهر سيادتها على الصعيديْن الداخلي والخارجي، فتكون ممارسة السيادة في جانبين؛ داخلياً، ويعني امتلاك الدولة سلطة شرعية مطلقة على جميع الأفراد والمجموعات التي يتعين عليها إطاعة السلطة السيدة داخل إقليمها، وخارجياً، أي الاستقلال عن كل رقابة وتدخل من أية دولة أخرى أو منظمة دولية. بعبارة أخرى، يُفترض في السلطة السياسية التي تجسد إرادة الدولة وتمارس مظاهر السيادة باسمها أن تكون مستقلة وموحّدة، وفي وضع يمكّنها من فرض إرادتها وسيطرتها في الداخل وهيبتها واحترامها في الخارج، وأن تكون قادرة على التعامل بنديّة وتكافؤ مع الدول الأخرى.
فأين الدولة اللبنانية من هذه المعايير؟
- من الناحية الأمنية: يعيش اللبنانيون تناقصاً يومياً في شعورهم بالأمان والاستقرار، وتتناقص هيبة الدولة وقدرتها على ممارسة سلطاتها وسيادتها على القرارات الأمنية في البلاد. فها هو الشيخ أحمد الأسير يعلن نيّته وعزمه على إنشاء ميليشيا مسلحة لاستباحة أمن صيدا واستقرارها، ولتهديد السلم الأهلي من خلال دفع البلد إلى فتنة سنية - شيعية قد لا تسلم منها المنطقة العربية بأكملها في حال اندلاعها. أما عناصر "الجيش السوري الحر" وبعض المجموعات الإرهابية الأخرى، فتستبيح الشمال وجزءاً من البقاع اللبناني. وفي مشهد شبيه بسبعينات القرن الماضي، من خلال السيطرة على جزء من الجنوب، أو ما سُمّي فيما بعد "فتح لاند"، حاول بعض المسلحين السوريين، بمعاونة أطراف لبنانية من قوى 14 شباط، القيام باقتطاع مناطق لبنانية في الشمال للاستئثار بحكمها، والانطلاق منها إلى تقويض استقرار الدولة السورية.
- من الناحية السياسية: يعيش اللبنانيون اليوم على وقع التطورات الحاصلة في الميدان السوري، فكلما احتاج الغرب وبعض العرب إلى تصعيد ما، أو دخان يحجب الأنظار عن الخسائر التي تتكبدها المعارضة في سورية، قام حلفاؤهم اللبنانيون بتصعيد سياسي، وأمني أحياناً، للتعمية والاستحصال على مكاسب سياسية داخلية تعوّض ما يتمّ خسارته في سورية.
- من الناحية القضائية: تنازلت الدولة اللبنانية عن سيادتها القضائية في التحقيق ومحاكمة المتهمين في قضايا الاغتيال التي يثبت أنها مرتبطة باغتيال الحريري، وقد قامت الحكومة اللبنانية التي وقّعت بروتوكول التعاون مع الأمم المتحدة بالتنازل كلياً عن السيادة للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي تستهلك من أموال المكلّف اللبناني أموالاً طائلة، وقد نصّت المادة الرابعة من النظام الأساسي أن للمحكمة الدولية الخاصة ضمن اختصاصها أسبقية على المحاكم الوطنية في لبنان، وأن المحاكم اللبنانية تتنازل عن كامل اختصاصها لصالح المحكمة، وهو أمر لم تفعله دول أعجز وأقل تقدّماً من الدولة اللبنانية، كسيراليون وكمبوديا وغيرهما.
- من الناحية الاقتصادية: تعيش البنوك والأسواق المالية اللبنانية تحت رحمة منظمات الرقابة الدولية، خصوصاً الأميركية منها، التي تقوم بالتجسس على البيانات المالية، والتحقيق في جميع التحويلات المالية بذيعة "مكافحة الإرهاب". ومؤخراً قامت بعض المنظمات غير الحكومية وغير التابعة لأي هيئة دولية رسمية، بتهديد القطاع المصرفي اللبناني، وتوجيه أسئلة إلى حاكم المصرف المركزي أقل ما يقال فيها إنها انتهاك خطير لسيادة لبنان، وتدخل سافر في شؤونه الداخلية.
بالنتيجة، تشهد الدولة اللبنانية منذ الاستقلال وحتى اليوم تدخلات شتى في شؤونها الداخلية، ويبدو لبنان مسرحاً للكثير من العمليات الأمنية، وعمليات الحروب القذرة التي تقوم بها الاستخبارات العالمية؛ من مخططات اغتيال، إلى محاولات انقلاب، إلى بحث في تغيير أنظمة ومناطق عازلة، وحروب بالوكالة. في المقابل، يفسح معظم السياسيين اللبنانيين المجال لتلك التدخلات، فينتظرون "كلمة سر" خارجية لاتخاذ قرارات سيادية لبنانية صرف، ويربط معظمهم مصيره ومصير الوطن والشعب اللبناني بمصالح دول خارجية أجنبية وعربية لا همّ لها إلا مصلحتها القومية الخاصة.
في النهاية، ألا يحق للبناني أن يسأل: "بربّكم، عن أي استقلال تتكلمون؟ وبماذا تحتفلون"؟

2012/11/15

الفتنة السنية - الشيعية.. محاذيرها ونتائجها


نُشر في الثبات في 15 تشرين الثاني 2012
كان محقاً السيد حسن نصرالله في التحذير في خطابه الأخير من انجرار البعض، سواء بقصد أو بغير قصد، إلى السير في مشروع فتنة سنية - شيعية، يرمي الغرب وبعض العرب إلى إشعالها، وهي إن حصلت وتمّت كما يُخطط لها، فستؤدي إلى تدمير لبنان والمنطقة على رؤوس أبنائها جميعهم، ولن تنأى من تداعياتها دولة عربية أو مسلمة في العالم.
بالفعل، أصاب السيد نصرالله في تنبيه الرأي العام الإسلامي إلى مخاطر الوقوع في فخ الفتنة تلك، فمن خلال ما نلاحظه من قراءة التقارير الغربية، ومن المؤتمرات الدولية التي نشارك بها، يمكن لنا استخلاص أهداف خطيرة جداً يرمي إليها مخططو تفجير الفتنة السنية - الشيعية، والتي يسير بها بعض المسلمين المدفوعين بدافع المذهبية البغيضة، من دون إدراك تداعياتها عليهم وعلى الأمة ككل
ولعل أبرز ما يمكن إدراجه من أهداف ذلك المخطط، يمكن اختصارها بما يلي:

أولاً: إدخال المسلمين في أتون نار مذهبية دينية بين بعضهم البعض، وذلك لإلهائهم عن الأخطار الحقيقية المحدقة بهم، وأهمها الصراع العربي - "الإسرائيلي"، والمشروع الغربي الذي يرمي إلى السيطرة على المنطقة اقتصادياً وثقافياً وعسكرياً.

ثانياً: تجفيف نبع الروحانية الإسلامية، وهنا يتحدث بعض الخبراء الغربيين عن ضرورة إدخال الإسلام إلى نفس "الأتون" المذهبي الديني الذي دخلت فيه أوروبا المسيحية في القرون الوسطى، والتي لم تخرج منها إلا وقد خسرت روحانيتها، وتخلى المجتمع عن تديّنه، ولفظ الكنيسة والدين، وبات من السهل اختراقها بكثير من البدع اليهودية التي دخلت إلى المسيحية وشوّهتها من الداخل، ودفعت بعض المسيحيين إلى الإيمان بالعهد القديم والأساطير التوراتية التي جاء المسيح لتصحيح النظرة إليها.
وبنفس السيناريو، لا بد من اختراق الدين الإسلامي بالبدع البعيدة عن جوهر الإسلام - وهو ما نشهده اليوم من انتشار الفتاوى الغريبة والمريبة في آن - والتي تجعله بحاجة إلى ثورة إصلاحية تُخرجه من البدع تلك، والتي لن تتم إلا بإضعافه وتجويفه.
ولكي يعيد التاريخ الأوروبي نفسه مع المسلمين هذه المرة، يجب أن يتمّ حكم بلاد المسلمين من قبل مؤسسات دينية متعصبة، تقوم بما قامت به الكنيسة على يد "بابوات" القرون الوسطى، فتقضي تلك الحركات الدينية المتعصبة، التي ستحكم بلاد الإسلام، على كل مظاهر الفكر والتقدم والانفتاح والتعايش، وتُغرق المسلمين بالتعصب والجهل، وتسلط عليهم فتاوى التكفير (كما تسلطت الكنيسة على الأوروبيين بتُهم الهرطقة).. والنتيجة، وكما في أوروبا، حرب دينية بين السنّة والشيعة تمتد مئة عام أو أكثر، يخرج بعدها المسلمون أضعف إيمانياً وسياسياً، وبعدها يخرجون إلى عصر الأنوار، فيسيطر الفكر المادي على الروحاني، وعندها يمكن لهم أن يخرجوا إلى العالم بفكر يدعو إلى فصل الدين على الدولة، ويدخلون في عصر نهضة حقيقية مشابهة للنهضة الأوروبية.

ثالثاً: تفتيت المنطقة إلى دويلات تقسَّم على أساس عرقي أو طائفي، ما يجعل من وجود "إسرائيل" كدولة يهودية أمراً طبيعياً في محيط من الدويلات المتناحرة طائفياً، وقد تكون "إسرائيل" حينها قبلة تلك الدويلات التي يمكن لها أن تسعى للتحالف معها - باعتبارها دولة قوية عسكرياً وتكنولوجياً ومدعومة غربياً - للقضاء على أعدائها من الدويلات الأخرى. والنتيجة تكون إنهاء القضية الفلسطينية، وإسقاط حق العودة نهائياً، وتوطين الفلسطينيين اللاجئين في أماكن وجودهم في تلك الدويلات الطائفية، التي لن ترفضهم، باعتبارهم جزءاً من انتمائها المذهبي، وهم "أخوة" في الدين قد يعززون وضع الدويلة الطائفية تلك.

رابعاً: القضاء على الوجود المسيحي في الشرق، ويبقى للمسيحيين وجود في بعض المناطق القليلة جداً التي تستطيع أن تقيم دويلتها القابلة للحياة، ومنها دولة الأقباط في سيناء، ودولة جنوب السودان..
أما في لبنان، فيتوهم بعض المسيحيين أنه سيكون لهم كونتونهم الخاص، يستأثرون بحكمه في ظل تحقق هذا السيناريو، ولذا يدفعون تلك الفتنة المذهبية دفعاً إلى الأمام، ويستميتون في إذكاء نارها، وهو ما لفت إليه السيد نصرالله أيضاً.
لكن، ما يبدو واضحاً من خلال قراءة كل المعطيات، أن القضاء على الوجود المسيحي في لبنان يبدو ضرورة لنجاح المخطط، باعتبار أن المناطق المسيحية تشكّل عازلاً بين المناطق السنيّة والشيعية، ولا بد من إزالة الدويلة - الحاجز إما بالتهجير، أو بتدفيعهم ثمن وجودهم بين جبهتين متقاتلتين، وجعلها غير قابلة للحياة بخنقها.
في المحصلة، إن المرحلة الصعبة التي نمرّ بها تحتم على السُّنة والشيعة والمسيحيين العقلاء في لبنان والعالم العربي، أن يعوا إلى أن وجودهم ومصيرهم ومستقبلهم مرهون بمدى وعيهم بما يحاك للمنطقة، وإن المصلحة الخاصة التي يحلم البعض بتحقيقها من فتنة سنية - شيعية، لن تُبقي شيئاً من الوطن كله لحكمه أو الاستئثار به.

2012/11/11

رسائل غربية الى من يعنيه الأمر

نُشر في الثبات في 8 تشرين الثاني 2012
ليس غريباً على فريق 14 شباط أن يتعلق بحبال الهواء الدولية، ليسعى للوصول إلى السلطة في لبنان. فعلى الرغم من جميع التصريحات الدولية التي عاكست مسارعته إلى الانتحار السياسي أمام السراي الحكومي عقب تشييع اللواء وسام الحسن، ها هو اليوم يعمم على أنصاره أن الموقف الدولي الرافض لتغيير الحكومة والداعم لاستقرار لبنان قد تبدّل، وبات العالم مقتنعاً بوجوب دخولهم إلى الحكومة في لبنان، فيعمدون إلى تضخيم كل جملة ينطقها مسؤول غربي حول تداول السلطة، ويستفيض إعلامهم في القراءة بين السطور، وفي تحليل تعابير الوجه، وفي الاستناد إلى المصادر، لضخ الأمل بين مناصريهم بعودة مظفرة إلى الحكومة.
يعيش تيار المستقبل اليوم على أمل تغيير حكومي، يدّعي أنه لا يريد فيه رئاسة الحكومة، لأنها برأيه "محرقة" في هذا الظرف، ومن يستلمها سيحترق بها، وسواء أرادوا الرئاسة أم لا، فهم يريدون بالتأكيد السيطرة على الوزارات الأمنية، والسبب المعلن هو أنهم مستهدفون أمنياً، أما السبب الحقيقي غير المعلن، فهو رغبتهم بتولي وزارة الداخلية، كونها تشرف على العملية الانتخابية، فعندها يصبح بمقدورهم التلاعب وتمرير ما يريدون تمريره من أساليب تزور إرادة الناخبين اللبنانيين، فيحصلون على الأكثرية النيابية، وهم مدركون أنهم لا يملكون الأكثرية الشعبية.
وفي اغتباطهم بلقاء الرئيس الفرنسي بالرئيس سليمان، وعدم لقائه برئيس الحكومة أو رئيس مجلس النواب، تباينت أطراف قوى 14 شباط في التسويق، فـ"المستقبل" اعتبره أنه تحفظ على الفريق الآخر، وبالتالي انتصاراً للفريق اللبناني المعتصم في ساحة رياض الصلح، أما قوى 14 شباط المسيحية، فقد اعتبرت أن فرنسا "الأم الحنون" تريد رعاية الرئيس اللبناني المسيحي، وهي تريد من ميشال سليمان أن يستمر في نهجه المتوافق مع قوى المعارضة، لا بل إن فرنسا تريد أن تؤكد دعمها له في تموضعه الجديد إلى جانب تلك القوى في رفضها سلاح المقاومة ومعاداتها النظام السوري، وفي خياراته التي ظهرت على حقيقتها في خطاباته الأخيرة منذ احتفال عيد الجيش في الأول من آب وما بعدها من تصريحات، خصوصاً مسارعته إلى المشاركة في تشييع الشهيد وسام الحسن، بينما لم يقم كقائد للجيش بالمشاركة في تشييع اللواء الشهيد فرنسوا الحاج، واكتفى بتقديم واجب العزاء فقط، وذلك في تمييز واضح وتموضع سياسي سافر.
وتقوم المعارضة بتأكيد هذه التفسيرات لمناصريها، بالاستدلال بزيارة هولاند إلى المملكة العربية السعودية، علماً أن هذه الزيارة هي في نظر المحللين الموضوعيين، تأكيد على أن هولاند الداعي إلى استقرار لبنان، يهمه أن يبلّغ رسالته إلى من يحاول هزّ الاستقرار في لبنان، وهكذا فإن هذا الأمر إشارة تبدو سلبية وموجهة الأنظار إلى الجهة التي تحاول تقويض هذا الاستقرار من خلال وكلائها في لبنان.
فعلياً، ومنذ بداية الحديث عن بوادر حل سياسي في سورية، ومنذ إطلاق التصريحات الغربية حول نزوع المعارضة السورية إلى التطرف، وبعد التقارير التي تسربت عن بدايات اتفاق روسي - غربي على تقاسم النفوذ في المنطقة، وضرورة إيجاد حل سلمي في سورية، تبدأ تباشيره مع نهاية العام الحالي، أدركت المملكة العربية السعودية أن هذا المسار لن يكون في مصلحتها في المنطقة، وأيقنت أن ما كانت تعوّل عليه من بسط نفوذ في سورية، يعوّض عليها تضاؤل نفوذها في العراق، والذي تكرّس باتفاق إيراني أميركي، وخسارتها لنفوذها في لبنان بخروج تيار المستقبل من الحكم، يبدو أنه لن يتم، وهكذا كان القرار بتأزيم الوضع في لبنان، وإغراقه في فوضى واقتتال مذهبي يحرج الأكثرية، ويعيد تيار المستقبل إلى الحكم، لتعويض ما فات أو ما قد يفوت، فكانت الشرارة اغتيال اللواء وسام الحسن لتنفيذ خطة العودة إلى بسط النفوذ في البلد الأكثر هشاشة في المنطقة.
وهكذا، يبدو أن تصريحات المسؤولين الغربيين المتتالية حول استقرار لبنان، وضرورة تجنب الانفجار بأي طريقة كان، وحتى لو موّهت بتعابير فضفاضة حول القبول بتغيير يرتضيه اللبنانيون، هو - وبعكس ما يسوّقه الشباطيون - رسالة تحذير واضحة جداً لكل من يعنيه الأمر؛ أن انفجار لبنان لن يكون في مصلحة أحد، خصوصاً من يريد ذلك التفجير، وقد تحرقه قبل غيره، أما إذا كان هولاند لم يلتقِ أحداً غير ميشال سليمان، فذلك لأن الرسالة تصل عبر الرئيس اللبناني الموثوق به من قبل المعارضة، أفضل ممن قد تصل إليهم من سواه، وإذا كانت الرسالة التي أُبلغت في بيروت، فقد أعيد التأكيد عليها في المملكة العربية السعودية، فذلك لأن هولاند يدرك تماماً أن مفتاح القرار والقيادة والسيطرة في قوى 14 شباط ليس في بيروت بل في الرياض، وعليه، لماذا يهدر وقته بلقاء مسؤولين لا يملكون قرارهم؟

2012/11/06

الاعلام ومنظمات المجتمع المدني: بين تلاقي الأهداف وتصادمها


شاركت ليلى نقولا الرحباني في المؤتمر الإقليمي حول "رؤية مستقبلية للإعلام العربي ومنظمات المجتمع المدني" الذي أقيم في فندق ميريديان هليوبوليس القاهرة- مصر وذلك على مدى يومي 3 و 4 تشرين الثاني 2012.

وقدمت المداخلة التالية بعنوان :
الاعلام ومنظمات المجتمع المدني:  بين تلاقي الأهداف وتصادمها
مقدمة
        لقد باتت منظمات المجتمع المدني أحد أدوات التغيير الفعًالة في عصرنا الراهن، وبعد أن توسع نشاط هذه المنظمات وتطور عملها، وبات المجتمع الدولي مدركًا لأهمية دورها ونشاطه، وركّزت عليها المنظمات التابعة للأمم المتحدة، ما أدى الى انتقالها من الأدوار التقليدية أي التنمية والخدمات الى ممارسة نشاط أساسي في الدفاع عن الديمقراطية والحريات العامة وتمكين المرأة ومحاربة الفساد بأنواعه كافة. وبمعنى آخر، باتت مهمة منظمات المجتمع المدني ومنها المنظمات العربية، تمكين المجتمعات العربية من أجل الانتقال من واقعها السيء ونقلها من مفهوم الرعية إلى مسار المواطنية والمشاركة في بناء المجتمع.
وبما أن عملية الانتقال هذه ارتبطت مع مسار وقفزة تكنولوجية كبيرة فرضتها معايير العولمة الجديدة، كان لا بد للاعلام من أن يواكب هذا التطور لا إنه بات جزءًا أساسيًا لا يتجزأ من مضامينه بحيث لا يمكن الاشارة الى هذا التطور بدون لفت النظر الى تطور موازٍ حصل في الاعلام.
        من هنا، وبما أن آليتي العولمة تلك تسيران جنبًا الى جنب في صنع مسار عولمي جديد، ويقومان كل في نطاقه بتغيير في الأطر والبنى التقليدية السائدة في المجتمعات، ويحركان ثقاقتها السائدة ويفرضان عليها أن تسير في عجلة التطور الحضاري، كان لا بد من مقاربة موضوعية لعلاقة كل من الاعلام ومنظمات المجتمع المدني، ودراسة آلية تعاون فعّالة بينهما تؤدي الى تحقيق أهداف المجتمع المنوي خدمته.
وفي مقاربة تلك العلاقة الشائكة بين آليتين من آليات التغيير الاجتماعي، يمكن أن نرصد مسارين مختلفين يرتبطان بمدى تقارب الأهداف أو تصادمها، مع ما يستتبع ذلك من محاذير وعراقيل وعلاقات تفاعلية.

أولاً- حين تلاقي الأهداف
        ليس هناك مواصفات محددة للعلاقة بين الإعلام والمجتمع المدني يمكن اعتبارها مقياسًا أو مؤشرًا لعلاقة جيدة أو فاعلة إلا حين يكون للاثنان أجندات تقترب في أهدافها من الآخر أو تبتعد عنه. لذا يمكن القول أن العلاقة بين الطرفين علاقة تكاملية، وعلاقة تأثير وخدمات متبادلة، في حال كان للطرفان أهداف متقاربة أو متطابقة. وعندها، تقوم علاقة فعّالة ومثمرة بين وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني في حال كانت تراعى المصالح المشتركة لكلا الطرفين، أو حين تلتقي الأهداف المعلنة أو غير المعلنة لكل منهما، فتنخرط وسائل الإعلام في الحملات التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني، وتتبناها كإحدى قضاياها الأساسية، فتساهم في إثارة الرأي العام وتعبئته، لا بل تساهم في صناعة ذلك الرأي العام القادر على الاستجابة إلى تحديات التغيير .
وهكذا تقوم علاقة تشاركية مصلحية ربحية للجميع، ويمكن أن تتجلى هذه العلاقة التكاملية بتأمين الحاجات المشتركة لكل منهما:
        - بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني: في مراحل التخطيط للحملات الميدانية والتي تستهدف التغيير على مختلف مستوياته، تفرد تلك المنظمات حيزًا بارزًا  للتواصل مع الأعلام لادراكهم بأهميته في المساهمة في انجاح تلك الحملة، وذلك من خلال قدرته على الوصول الى أوسع نطاق من الشرائح المجتمعية التي يصل اليها الاعلام ويحاكيها في البيوت والمصانع والمدارس والجامعات وغيرها. فبلا شك لا يمكن لأي حملة أن تنجح بدون تأمين تغطيتها الإعلامية، وهو دور أقرب لان يكون إعلانيا ترويجيًا يهدف الى توعية الجمهور على القضايا المطروحة، ما يؤدي الى استقطابه.
        - أما الوسيلة الاعلامية ذات الأجندة الاجتماعية أو السياسية أو سواها، فهي تسعى بشكل دائم لاستقطاب أكبر عدد من الجمهور لتأمين ايصال رسالتها ونشرها. وهكذا، يكون من مصلحتها أن تقوم بالخدمة الاعلانية لمؤسسات المجتمع المدني التي يمكن أن تسهم في تنفيذ أهدافها الاستراتيجية. فيكون لها مصلحة في ابراز تلك المؤسسات، والتسويق لها، فكلما كبرت المؤسسة الحليفة وانتشرت اعلاميًا، كلما كان تحقيق الأهداف مضمونًا أكثر.
        علمًا أنه لا يمكننا في هذا المجال، أن ننكر مدى ضرورية وأهمية التفاعل بين الاعلام، خاصة الاقليمي أو الدولي، ومنظمات المجتمع المدني  الذي يبدو  حاجة ملحة لكل منهما في البلدان النامية، التي تحتاج الى تضافر الجهود لتحقيق التنمية ونشر الوعي وتفعيل أطر المجتمع المدني كافة.  وقد تزداد تلك الحاجة في الدول التي تعاني من أزمات حادة في مجالات حقوق الانسان خاصة، أو تعيش صراعات دموية. فالاعلام لا يستطيع أن يغيب عن الحدث وإلا خسر المشاهد - الزبون، لذا يحتاج  الى منظمات فاعلة في الميدان،  يستند اليها في الحصول على الأخبار والاطلاع على التفاصيل الميدانية، ما يسمح له بتخفيف الأعباء المادية والبشرية بإرسال صحفيين الى مناطق النزاع. في المقابل، إن المجتمع المدني ومؤسساته تحتاج الى ابراز قضيتها من خلال تغطية اعلامية تهدف للتأثير على الرأي العام المحلي والعالمي وتأمين التعاطف، فيكون للاعلام القيام بهذه المهمة. وفي هذا الإطار يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، منظمات مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس واتش، اللتان باتتا المصدر الأهم لمعلومات الاعلاميين في كثير من البلدان التي تعاني من الصراعات.

ثانيًا - حين تصادم الأهداف
        كما ناقشنا سابقًا، إن ما يحكم العلاقة بين الاعلام ومنظمات المجتمع المدني هو معيار المصالح المشتركة، وتلاقي أجندات وأهداف كل منهما أو تباينها.
        ولعل السمة الطاغية على تلك العلاقة بين منظمات المجتمع المدني والاعلاميين خاصة في المجتمعات العربية، هي التشكيك فنرى أن عامل الثقة مفقود نوعًا ما بين الاثنين، فالعاملون في منظمات المجتمع المدني يشككون بكفاءات الإعلاميين وبمدى اطلاعهم على الملفات بشكل كاف بما يمكنّهم من التعبير عنها أو معالجتها بطريقة جيدة، ويعتبرون أن الاعلام لا يهتم للقضايا الانسانية الا بقدر ما تكون قصصًا مثيرة تشكّل سبقًا صحفيًا، وتلبي مصالحهم التسويقية، ولذلك هم يبحثون عن النجوم من الوجوه السياسية فيعطونهم الأولوية والاهتمام على حساب الأنشطة التي تنظمها منظمات المجتمع المدني.
وبالمقابل، يتهم الإعلاميون منظمات المجتمع المدني بحب الظهور وبمحاولة تلميع صورتها من خلالهم، والوصولية والانحياز إلى جهاتها المانحة، وان أغلب هذه المنظمات هدفها البحث عن الشهرة من خلال الظهور الاعلامي، وفي كثير من الأحيان تفتقر هذه المنظمات الى المبادئ التي تنادي بها.
        وهكذا، في حالة تباين الاهداف أو تصادمها، يكون التواصل مفقودًا تقريبًا بين الاثنين، وعليه وبما أن الاعلام يشكّل سلطة أقوى من سلطة منظمات المجتمع المدني وهو الطرف الأقدر على الوصول الى الرأي العام، فتكون الغلبة في هذه العلاقة المتوترة للاعلام على المنظمات غير الحكومية. فقد يقوم الاعلام ببروباغندا تهدف الى تشويه حملة مدنية وضرب مصداقيتها في نظر الرأي العام بالرغم من عدالتها وأحقيتها، أو يعمد الى تهميش قضية ما والتعتيم عليها، لتدخل طي النسيان بالرغم من أهميتها ومن حجم العاملين فيها من المجتمع المدني، أو ببساطة قد يتجاهلها.
        الاستثناء في هذا المجال، هو العلاقة بين الإعلام والاحزاب بصفتها جزءًا من مؤسسات المجتمع المدني، فالأحزاب تكون في بعض الأحيان أقوى من المؤسسات الاعلامية وقادرة على التأثير والضغط عليها، وذلك لجعلها تعبّر عن رأيها وتسوّق لها وإلا تعرضت لحظر من قبلها. وهنا، في هذا الاطار، وتفاديًا لتصادم الأهداف والأجندات بين الطرفين، تقوم الاحزاب عادة بتأسيس أو تمويل وسائل اعلامية خاصة بها، وذلك لتسويق مبادئها وللوصول الى الرأي العام والقيام بالاستقطاب والتعبئة الجماهيرية بطريقة أسرع.
       
ولعل الدليل الفعلي على ما تحدثنا عنه من تلاقي أو تناقض الأهداف، هو النتيجة التي أسفرت عنها دراسة أجرتها كلية الإعلام بجامعة القاهرة بالتعاون مع كلية الإعلام بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا عام 2008[1]، وقد أدت الى استخلاص جوهري يثبت ما يلي:
أ-  إن الدور المؤثر الذي تضطلع به ملكية الصحيفة والتيار الفكري الذي تعبر عنه ومن ثم سياستها التحريرية في تقديم صورة معينة لدور المجتمع المدني في مصر.
ب- أثر السياسة التحريرية للصحيفة والتوجّه الذي تعبّر عنه في اختيار المصادر الصحفية مما يسفر عن توجيه المعالجات الصحفية نحو إبراز سمات معينة لصورة المجتمع المدني واستبعاد سمات أخرى، والتأكيد على موقف معين يتفق والسياسة التحريرية للصحيفة والأهداف التي تبغي تحقيقها وتهميش مواقف أخرى[2].
ونبرز ذلك من خلال الأمثلة التالية:
كان إطار الحريات المدنية والحقوق النقابية أكثر بروزًا في الصحف الخاصة والحزبية، في حين ندر الاهتمام به في الخطاب الصحفي للصحف القومية عينة البحث. وقد ظهر ذلك في اهتمام "المصري اليوم" بإطار الحريات النقابية والعمالية وتوسعت في نشر أخبار وتحقيقات عن التدخل الحكومي في العمل النقابي وفى الانتخابات النقابية والعمالية ووركزت على انتقادات منظمة العمل الدولية لمصر في ذلك الشأن، وقد تم تجاهل مثل هذه الموضوعات تمامًا في صحيفتي الأهرام وأخبار اليوم.
كما أن الصحف الخاصة التي تتبنى قيمًا ديمقراطية ليبرالية أعطت مساحة لنشر وتغطية أخبار المجتمع المدني انطلاقًا من رؤيتها الخاصة لأهمية نشر أفكاره والتعرف على دوره بهدف تنمية هذا الدور، لذا سعت إلى تناول بعض القضايا الشائكة التي تواجه المجتمع المدني مثل إشكالية التمثيل والتعددية النقابية، وهو ما تم إغفاله عمدًا في الصحف القومية محل البحث.

ثالثًا- محاذير لا بد من الاشارة لها
        ما زال من المبكر اليوم القول أنه في الاطار العالمي أو الاقليمي العربي أو حتى المحلي، أن شراكة رسمية ومفتوحة بين الطرفين باتت متحققة، بالرغم من أن بعضًا من أشكال التعاون فيما بينهما موجود منذ مدة طويلة، وبدرجات متفاوتة خاصة في الإطار الفردي حيث تقوم وسائل الاعلام المختلفة باستضافة ناشطي المجتمع المدني في التقارير الاخبارية والبرامج الحوارية وغيرها.
        ولعل أهم المحاذير التي يجب التعاطي معها بشكل حذر، هو تلك العلاقة التفاعلية التي تبنى على تلاقي الاهداف والأجندات السياسية لكل من الإعلام ومنظمات المجتمع المدني. فبالرغم من أن الجميع يسعى الى تفعيل تلك العلاقة باعتبارها مشجعًا على التغيير وعلى تطور المجتمعات وسعيها نحو كسر الاحتكار الحكومي أو الاستبداد، ولكونها قد تكون حافزًا على زيادة الوعي والتنمية في المجتمع، إلا أن تلاقي الاجندات أيضًا قد يكون له تداعياته الخطيرة على المجتمع المنوي خدمته، بحيث أن فائض القوة المتحصل من تلك العلاقة قد يبيح التعسف أو يغطي فرض أجندات خارجية أو احتلال وغيرها.

أ- تنفيذ أجندات خارجية
        الشواهد التاريخية في هذا الإطار لا تعد ولا تحصى، وسنذكر على سبيل المثال لا الحصر، كيف قام الاعلام الأميركي بالتحالف مع منظمات حقوق الانسان، في الضغط على مجلس الأمن لقبوله بقرار أميركي بالتدخل في البوسنة والهرسك، (وبغض النظر عن أحقية التدخل أو عدمه، وهو ليس من ضمن اختصاص هذه الورقة) بل من مهمتها الكشف عن كيف يمكن للعلاقة التفاعلية بين الاعلام ومنظمات المجتمع المدني أن تؤدي الى تشريع تدخلات في شؤون الدول الأخرى وتنفيذ أجندات خارجية:
        استمرت الحرب في البوسنة والهرسك أعوامًا عدة (1992- 1995)، وكانت عدم وحدة الموقف في مجلس الامن حول سبب النزاع البوسني وطبيعة القضية، قد عرقلت قدرة المجلس على استصدار قرار بتدخل عسكري في النزاع، علمًا أن الولايات المتحدة الأميركية كانت القائد الاول الذي طرح  - بشكل مبكر- قضية التدخل العسكري، لكن بغياب دعم قوي لهذا التوجه من قبل الاعضاء الدائمين في مجلس الامن، لم يكن الدعم الاميركي وحده كافيًا للحصول على تفويض بالتدخل من قبل مجلس الامن.
        واستمرت المراوحة في مجلس الأمن، الى أن قام الاعلام، الاميركي خاصة، بطرح القضية كقضية تطهير عرقي[3]. وبدأت وسائل الاعلام العالمية تتناقل أخبار المجازر والارتكابات، وسوّقت ما مفاده ان مجزرة سريبرينتشا هي "مجزرة يقوم بها المسيحيون الصرب بحق المسلمين في البوسنة والهرسك"[4].
وهكذا، ومع نشر الصور الاعلامية المرعبة، وصدور تقارير لمنظمات حقوق الانسان، والتي أشارت الى <<امكانية>> وجود مقابر جماعية في صربيا، تمّ دعم التوجه الاميركي في مجلس الأمن الدولي، وجعل الدول المعارضة ترضخ لخيار اللجوء الى القوة[5]. وهكذا كانت نتيجة تحالف الاعلام ومنظمات حقوق الانسان الضغط على مجلس الأمن للتدخل العسكري في بلد ذا سيادة.

ب- بروز معضلة الخطر الاخلاقي[6] Moral Hazard  
        بتطبيق هذه النظرية على العلاقة التفاعلية بين الاعلام ومنظمات المجتمع المدني، نستطيع ان نقول أن تلاقي أهداف كل منهما، قد يسمح بطمس الحقيقة وتشويهها، وذلك من خلال تضخيم الحدث بجعله شيئًا غير مسبوق، أو تقزيمه لطمس حقيقته وطيّه في غياهب النسيان. وبدون أن ننسى تأثير الاعلام أو ما يطلق عليه أكاديميو العلاقات الدولية اسم-CNN effect  - والذي يستعين بتقارير ميداينة موثقة ذات مصداقية،  لصناعة رأي عام مساند لقضيته وبالتالي تأثير هذا في الضغط على أصحاب القرار".[7]
        على سبيل المثال، في حال شعرت مجموعة داخل دولة ما انها تريد الانفصال، أو تريد تغيير النظام القائم والوصول الى السلطة لكنها لا تستطيع لانها ضعيفة، او لأن ميزان القوى ليس في صالحها، فانها تقوم بأعمال إجرامية تتجاوز الحد المعقول، وذلك لجعل الاعلام ينقل صور تلك المجازر، وتُظهر تقارير حقوق الانسان أعدادًا هائلة من الضحايا... وهكذا، يزيد حد الاجرام، لكي يبلغ حد الابادة او الجرائم الكبرى الموصوفة، فيكون التأثير أكبر والضغط الخارجي أكبر لايقاف تلك الانتهاكات والمجازر[8].

خاتمة
        في النهاية، لا بد من أن ننوّه بحاجة المجتمعات العربية الى مزيد من العمل على القضايا الاجتماعية والتنموية والحريات الأساسية، وهذا يتطلب تعاون فعّال ومثمر بين الطرفين، ويحتاج الى وعي أكبر من قبل المؤسسات الاعلامية وادراكها أن لها مصلحة في المساهمة في تفعيل وتمكين المجتمع المدني ما  سيعود عليها بفوائد جمّة، فالمجتمع المدني المنظّم القوي والفعّال يمكن له أن يحمي تلك المؤسسات من بطش السلطة ورقابتها وتعسفها، كما لا يمكن للاعلام أن ينمو ويتطور إلا بوجود مساحة من الحرية واحترام حق الاختلاف والتنوع.




[1] نشرت تفاصيلها في دراسة أعدها الباحث والكاتب الصحفي: خالد الكيلاني، إشكاليات العلاقة بين الإعلام ومنظمات المجتمع المدني
(الصحافة القومية والخاصة والحزبية)، منشورة على الانترنت على الرابط التالي: http://www.ahewar.org/m.asp?i=1876
[2] المصدر نفسه.

[3] خاصة عندما اظهرت وسائل الاعلام العالمية مشاهد المجزرة حصلت في سريبرنتشا في سوق شعبي في اب 1995، حين كان المواطنون يقفون في صفوف للحصول على الخبز فتعرضوا لنيران قناص.
[4]علمًا أن صحيفة الغارديان البريطانية في عددها الصادر في 22 نيسان 2002، أكدت ان المحققين في مجزرة سريبرنتشا، توصلوا الى اكتشاف دامغة عن ضلوع الولايات المتحدة الاميركية في تمويل المجموعات الاسلامية الانفصالية ومدهم بالسلاح، بالاضافة الى ضلوع البانتغون بـ"حرب قذرة".
Richard J Aldrich, America Used Islamists to Arm the Bosnian Muslims: The Srebrenica Report Reveals the Pentagon's Role in a Dirty War, in Guardian, April 22, 2002.
[5] باستثناء روسيا التي رفضت الادعاءات لكنها لم تضع فيتو، والصين التي وافقت على الاسباب ولكنها رفضت خيار اللجوء الى القوة.
[6] "معضلة الخطر الاخلاقي" –  نظرية معتمدة جدًا في تأمين السيارات- ترمز الى حالة تشجع بطريقة غير متعمدة، أعمالاً غير مرغوبة، وذلك لان القائمين بهذه الاعمال يشعرون بأنهم محميين بشكل كامل من نتيجة أعمالهم. وبتعريف أوضح، يعني "الخطر الاخلاقي"، تحفيز لاشخاص أو مؤسسات للقيام بأعمل خطرة لا يقومون بها عادة، وذلك لاعتقادهم ان أحدًا ما سيتحمل تبعة أعمالهم ونتائجها وتداعياتها اذا كانت سيئة للغاية. انظر:
Auger Vincent, Defining the Moral Hazard Problem in Humanitarian Intervention, paper prepared for the Annual Meeting of the Midwest Political Science Association Chicago, IL April 2007.
[7]  Nicholas wheeler,”the humanitarian responsibilities of sovereignty: explaining the development of a new norm of military intervention for human purposes”,in humanitarian intervention and international relations, ed. Jennifer welsh,oxford university press,UK,2004, p.40.

[8] Timothy W. Crawford, Moral Hazard Causal Arguments: A Conceptual and Methodological Appraisal, paper prepared for delivery at the Annual Meeting of the American Political Science Association, September 2-5, 2004

2012/11/01

هل ينفجر الوضع في لبنان؟

نشر في الثبات في 1 تشرين الثاني 2012

تخوّف كثير من اللبنانيين من حصول انفجار كبير يهدد السلم الأهلي ويجرّ البلد إلى حرب أهلية، وذلك إثر اغتيال اللواء وسام الحسن وما تلاه من تصعيد أمني وسياسي قام به فريق 14 شباط، والذي حاول من خلاله أن يقوم بفرض أمر واقع جديد على الساحة اللبنانية، يُحرج من خلاله داعميه من دول الغرب، وخصومه السياسيين في ظل هول صدمة الاغتيال.
وبالطبع، إن حادثة الاغتيال وما ت
لاها، وما حاول هؤلاء أن يقوموا به على الساحة المحلية، لا يمكن فصله عن تداعيات ما يحصل على الأراضي السورية، خصوصاً بعد الإنجاز الميداني الذي حققه الجيش السوري في الحرب التي يشنها محور الغرب - تركيا - دول الخليج عليه، وهي أمور دفعت الغرب إلى اليأس من إمكانية تغيير النظام السوري، فلا مجلس الأمن متاح عبره التغيير، ولا التدخل العسكري، ولا استعمال سيف الإرهاب المتنقل، يبدو أنه سيهز هذا النظام أو يدفعه للرحيل طوعاً أو بناء على الضغط الشعبي.
في ظل هذه النتيجة وهذا التوجه، يسود الأوساط السياسية والدبلوماسية قناعة - كنا تحدثنا عن ضرورتها منذ بداية الأزمة - أنه لا حل للأزمة الناشبة في سورية، إلا بالجلوس إلى طاولة حوار وطني يتم فيها تمثيل جميع القوى ذات التمثيل الشعبي في سورية، تؤدي إلى قيام حكومة وحدة وطنية تشرف على انتخابات نيابية ورئاسية، من المرجح أن تفضي إلى إعادة انتخاب بشار الأسد مجدداً، لما بات له من تأييد في نظر شعبه بعد الأزمة، ولما يعطيه من أمل باستقرار فقده الشعب السوري على مدى ما يقارب السنة والنصف.
ولا شك أن تصور الحل هذا سيكون فيه خاسرون ورابحون، وسيكون أبرز الخاسرين الإقليميين هم:

أولاً: تركيا التي ستحاول أن تعيد النظر في سياساتها، وستحاول أن تقوم بما يحدّ من خسائرها الداخلية والإقليمية، وذلك بالتوسط لدى الإيرانيين وتقديم التنازلات في ملفات إقليمية عدة، وقد يكون كبش الفداء التركي هم المجموعات المسلحة التي تتخذ من تركيا مقراً لها.
ثانياً: دول الخليج التي تدعم الإرهابيين وتمولهم وتمدهم بالسلاح والفتاوى المحرضة على الجهاد في سورية، وهنا، وفي ظل محاولة هؤلاء الحد من خسائرهم في ظل فشل استراتيجيتهم في السيطرة على سورية، قد يعمد هؤلاء إلى ما يلي:
- الإبقاء على سيف التفجيرات الإرهابية المتنقلة التي تهدد استقرار سورية، وتقوم كما تفعل الآن في العراق، حيث إن خسارة نفوذها فيه، جعلها تستمر بتعكير صفو الأمن، من خلال القيام بالعمليات الإرهابية ضد المدنيين والكنائس والمساجد وغيرها، وهو ما سيجعل السيناريو السوري يشابه السيناريو العراقي؛ حكومة منتخبة أقرب سياسياً إلى الحلف المقاوم، مع تأخر حسم الملف الأمني، علماً أن قدرة الحكومة السورية تتفوق على قدرة الحكومة العراقية في حسم الملف الأمني بعد الانتهاء من الملف السياسي، وذلك بسبب بقاء أجهزة الأمن السورية والجيش على حالهما، وهو عكس ما حصل في العراق بعد الاحتلال.
- محاولة تعويض الخسارة في سورية بالعودة إلى لبنان، وبسط نفوذ هام وقوي فيه، وهنا، لا يمكن أن يحصل هذا الأمر إلا بضربة ميدانية لمحور المقاومة، أو التهويل عليها بفتنة سنية شيعية، أو تحقيق انفجار هائل أو اغتيال كبير يُحدث صدمة كبيرة في الداخل اللبناني، ويحرج محور المقاومة، فيدفعها دفعاً إلى الجلوس إلى طاولة التسويات، فتقبل بعودة مظفرة لتيار المستقبل إلى السلطة.
وانطلاقاً من هذا التحليل، يُمكن أن يُفهم ما حاولت قوى 14 شباط أن تقوم به على أثر اغتيال اللواء الحسن، ومحاولتها قلب الأوضاع الداخلية واحتلال السرايا، وإسقاط الكثير من الضحايا في الداخل لإسقاط الحكومة، ما يجعل الغرب أمام أمر واقع مستجد عليه التعامل معه، ويجعل الفرقاء الداخليين أمام خيارين: إما القبول بحكومة وحدة وطنية، يكون لهؤلاء سلطة أمنية فيها لاستخدامها وفرض موازين قوى جديدة ينطلقون منها إلى الداخل السوري، أو الاقتتال الداخلي.

لكن استراتيجية "الشباطيين" وداعميهم الخليجيين، أعاقها أمران مهمان:
- عدم استعداد الدول الكبرى لانفجار كبير في لبنان، إذ يعلم الغرب أن موازين القوى الداخلية ليست في صالح أدواتهم في لبنان، وبالتالي إن التهور ودفع الأمور نحو الانفجار سيؤدي إلى خسارة مضاعفة بدل أن يحدّ من الخسائر المتحققة في سورية.
- عدم قدرة هؤلاء على استقطاب الشعب اللبناني، فالحشد الهزيل الذي شهدته ساحة الشهداء، كان يجب أن يوقظ من يعنيه الأمر أن الحسابات الشعبية التي كانت متحققة في 2005 لم تعد كما هي عليه في 2012.
في المحصلة، إن جمهور 14 شباط المفجوع، والذي يسأل لماذا تحصل الاغتيالات من جهة واحدة؟ نجيبه ببساطة: لأنه باغتيال قادة الأكثرية النيابية لا يحقق القاتل أهدافه بالوصول إلى فتنة داخلية، فقادة الأكثرية يبدون أكثر عقلانية ووعياً من قادتهم، وهذا ما ظهر عند اغتيال اللواء فرنسوا الحاج، وحين قتل الشاب أحمد محمود خلال فترة الاعتصام وغيرها، ولأن الأكثرية اليوم تبدو "أم الصبي" وتتمتع بحس وطني تخشى معه فقدان الوطن اللبناني، بينما يستجلب "الشباطيون" السوري مجدداً إلى لبنان، وكأن تجربة السبعينات لم تعلم أياً من هؤلاء شيئاً، فلسان حال المعارضة يقول عن لبنان اليوم: "لنا أو للنار".