2022/05/31

حُكم القانون الدولي في السطو على الأصول الروسية

أعلنت مفوضية الاتحاد الأوروبي أنها تسعى لتبسيط عملية تجميد الأصول الروسية ومصادرتها، وأن الإجراءات والقوانين الأوروبية سوف تعدّل، بحيث تستطيع دول أوروبا مصادرة الأصول الروسية واستخدامها، وليس فقط تجميدها

وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين دعت الاتحاد الأوروبي إلى تعديل قوانينه، ليس لمصادرة أصول الأوليغارشية الروسية وأموالها فحسب، ولكن مصادرة أصول البنك المركزي الروسي وأصول الدولة الروسية أيضاً، للمساعدة في إعادة بناء أوكرانيا ما بعد الحرب.

بالفعل، قام الاتحاد الأوروبي بتجميد أصول بقيمة 23 مليار يورو للبنك المركزي الروسي، ويتم البحث الآن في كيفية مصادرتها ومصادرة الأصول الخاصة ببيع الغاز الروسي لاستخدامها في إعادة إعمار أوكرانيا.

قانونياً، حتى لو بدّل الاتحاد الأوروبي قوانينه الداخلية للسطو على الأصول الروسية المجمدة، إلا أن القانون الدولي يحظر هذا الإجراء، وهناك سوابق قانونية دولية وحكم قضائي بهذا الأمر صادر عن محكمة العدل الدولية.

عام 2008، قدمت ألمانيا شكوى ضد إيطاليا أمام محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، تدّعي فيها على إيطاليا التي سمحت لمواطنين إيطاليين ويونانيين بالتقدم بشكاوى أمام محاكمها للحصول على تعويض بسبب الارتكابات النازية بحقهم خلال حكم هتلر

بالفعل، كانت المحاكم الإيطالية قد أقرّت مصادرة بعض الأصول الألمانية، لتعويض مدني إيطالي أُرسل إلى معسكر عمل ألماني في عام 1944. وادعت ألمانيا أن المحاكم الإيطالية فشلت في احترام الحصانة القضائية التي تحق لها بموجب القانون الدولي، وأنها كدولة ذات سيادة تتمتع بالحصانة في المحاكم الإيطالية.

بعد 4 سنوات من المداولات، أصدرت محكمة العدل الدولية حكمها عام 2012، معتبرة أن إيطاليا انتهكت بالفعل التزامها باحترام حصانة ألمانيا بموجب القانون الدولي، من خلال السماح برفع دعاوى مدنية تسعى إلى تعويضات عن جرائم الحرب النازية في المحاكم الإيطالية.

وجاء في الحكم الصادر عن المحكمة:

- "لقد انتهكت الجمهورية الإيطالية التزامها احترام الحصانة التي تتمتع بها جمهورية ألمانيا الاتحادية بموجب القانون الدولي، من خلال السماح برفع دعاوى مدنية ضدها على أساس انتهاكات القانون الإنساني الدولي التي ارتكبها الرايخ الألماني بين عامي 1943 و1945".

- انتهكت إيطاليا أيضاً حصانة ألمانيا من خلال اتخاذ تدابير جبرية ضد فيلا فيغوني، ومصادرة ممتلكات الدولة الألمانية الواقعة في الأراضي الإيطالية.

- انتهكت إيطاليا حصانة ألمانيا من خلال إعلان قرارات المحاكم المدنية اليونانية الواجبة التنفيذ في إيطاليا على أساس انتهاكات القانون الإنساني الدولي التي ارتكبتها ألمانيا النازية في اليونان.

- على الجمهورية الإيطالية، من خلال سنّ التشريعات المناسبة أو عن طريق اللجوء إلى طرق أخرى تختارها، أن تضمن عدم سريان مفعول قرارات محاكمها وقرارات السلطات القضائية الأخرى التي تنتهك الحصانة التي تتمتع بها جمهورية ألمانيا الاتحادية بموجب القانون الدولي، وعلى إيطاليا ضمان أن "تتوقف عن العمل" كل قرارات محاكمها وقرارات السلطات القضائية الأخرى التي تنتهك حصانة ألمانيا (يمكن الاطلاع على حكم محكمة العدل الدولية(

إذاً، على الرغم من الشعبوية السائدة في أوروبا، وعلى الرغم من أن المسؤولين الأوروبيين اليوم يحاولون تخطي كل معايير القانون الأوروبي السائدة، فإنَّ مبدأ المصادرة وعدم احترام حصانة روسيا وأصولها السيادية كردٍ على قيام روسيا بانتهاك القانون الدولي لا يمكن أن يمر في القانون الدولي. ولروسيا أن ترفع دعاوى على الدول الأوروبية المساهمة في هذه التصرفات، فتستعيد أصولها المصادرة أو المجمدة، حتى لو بعد حين.

هذا في القانون. أما في السياسة، فإن قيام الروس بالردّ بالمثل ومصادرة أصول الشركات الأوروبية والغربية العاملة سابقاً في روسيا سيكبّدان تلك الشركات خسائر كبرى قد توازي خسائر "الأوليغارشيا" الروسية.

في النتيجة، بدا أن مسؤولي الاتحاد الأوروبي، وفي ثاني أزمة حقيقية تواجهه بعد أزمة كورونا، اندفعوا إلى ضرب كل شعارات حكم القانون والشفافية والحفاظ على البيئة والمناخ بعرض الحائط، فاندفعوا إلى القرصنة، والعودة إلى استخدام الفحم بعد عقود طويلة من سياسات البيئة وإجراءاتها وتطبيق الاتفاقيات والتعهد بالتخفيف من التلوث والانبعاثات، وذلك للذهاب إلى حظر الغاز الروسي!

وقد يكون من المفيد لمن يحكمون الاتحاد الاوروبي اليوم العودة إلى التاريخ، وخصوصاً التاريخ الأوروبي، للاستفادة منه، وأهمها الخلاصة التي توصل إليها السياسي الألماني الشهير أوتو فون بسمارك، الذي نصح الدول الأوروبية بكيفية التعامل مع الروس بالقول: "لا تتوقع أنك بمجرد استفادتك من ضعف روسيا المرحلي، ستحصل على أرباح إلى الأبد. لقد أتى الروس دائماً من أجل أموالهم. وعندما يأتون، لا تعتمد على اتفاقية موقعة من قبلك، وتبرر نفسك عبرها. هذه الاتفاقيات لا تستحق الورق الذي كُتبت عليه. لذلك، مع الروس، إما أن تلعب لعباً نزيهاً وإما أن لا تلعب".

قد تعكس هذه العبارات التاريخية لبسمارك رد فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغاضبة على مصادرة أموال الروس بقوله: "لن تنتهي سرقة أموال الآخرين بشكل جيد".

  

2022/05/30

الغرب: عودة سياسة الاذلال


 

منذ ما قبل بدء الحرب في أوكرانيا، يندفع كل من الرئيس الأميركي، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والعديد من الوزراء الأوروبيين، التعبير عن نيّتهم برؤية روسيا مذلولة في أوكرانيا، وكما قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن "إنه يريد أن يرى روسيا ضعيفة وغير قادرة على التعافي".

 

بعد الاندفاعة الغربية لمحاولة تكبيد روسيا ثمناً باهظاً، حذّر هنري كيسنجر وقبله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من خطورة الطرح الغربي بإذلال روسيا. الأخير دعا أوروبا الى أن تتعلم من أخطائها السابقة وأن تتأكد من عدم تعرض أي طرف للإذلال عندما تتفاوض روسيا وأوكرانيا من أجل السلام. وحذر ماكرون من أنه بينما تساعد أوروبا الآن أوكرانيا، ستأتي نقطة تسعى فيها موسكو وكييف إلى السلام. مضيفاً أنه في تلك المرحلة، لا ينبغي إهانة أي من الطرفين أو استبعاده كما حدث لألمانيا في عام 1918.

 

بالطبع يشير ماكرون هنا الى الشروط القاسية والمجحفة التي فرضت على ألمانيا بموجب هدنة 11 تشرين الثاني / نوفمبر 1918 والتي مهدت الطريق لصعود هتلر، والذي أدى في النهاية إلى الحرب العالمية الثانية.

 

ولكن، واقعياً، إن سياسة إذلال الخصم ليست جديدة على الغرب، وحيث نجد في الذاكرة الجماعية كل من روسيا والصين ما يلي:

 

1قرن الاذلال الصيني:

 

عاشت الصين فترة ما يسمى "قرن الإذلال" (1835- 1945)  حين غزت الدول الأوروبية الاستعمارية واليابان الأراضي الصينية.

 

يعود تاريخ بداية قرن الإذلال إلى منتصف القرن التاسع عشر، عشية حرب الأفيون الأولى حين غزا البريطانيون الأراضي الصينية والتي تلاها العديد من الهزائم الصينية. تذكر الروايات الصينية لغاية اليوم، كيف عاش الصينيون الإذلال بعدما دمر الغرب حضارتهم وتعمدوا محو ما يفتخر به الصينيون وأحرقوا قصورهم وتراثهم وآثارهم.

 

واليوم، تستحضر الرواية الرسمية الصينية صور الاذلال الغربي للبلاد، لدعوة الناس الى تأييد حكومتهم في سعيها نحو القوة الداخلية والخارجية.

 

2حرب القرم (1853-1856)

 

ترجع الأسباب العامة لهذه الحرب، التي قامت بين روسيا من ناحية والدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا وبيدمونت من ناحية أخرى، إلى المسألة الشرقية التي ظلت دون حلّ وكانت ذريعتها المباشرة النزاع بين روسيا وفرنسا حول الإشراف على الأماكن المقدسة بفلسطين. وفي أيلول 1855 تمكنت قوات الحلفاء من احتلال ميناء سيباستبول فاضطرت روسيا إلى القبول بالصلح وأجبرت على توقيع معاهدة باريس عام 1856، التي اعتُبرت مجحفة بحق الروس وسعت الى إذلالهم.

 

بخسارة روسيا والشروط المجحفة التي فُرضت عليها، خرقت القوى الغربية "القانون الأول لنظام دول الوفاق الأوروبي القائل بأنه (لا ينبغي تحدي أية قوة عظمى أو السعي إذلالها)، وبالتالي سقط النظام الدولي السائد آنذاك.

 

هذه التجارب التاريخية، سواء الإلمانية أو الصينية أو الروسية، تشي بأن سياسة الاذلال هي سياسة لطالما أعتمدها الاوروبيون منذ الاستعمار، وكانت سبباً في الكثير من الحروب في العالم. واليوم، لا يبدو ان الفكر الاستعماري القديم الذي يعتمد مبدأ الاذلال قد انتهى، بل هو نفسه الفكر الذي يحاول اذلال روسيا، والذي قد يكون السبب في الحرب الأوكرانية بالأساس، حين رفضوا مجرد النقاش بالهواجس الروسية الأمنية.

  

2022/05/27

الردّ على روسيا: انتحار الاتحاد الأوروبي؟

يناقش الاتحاد الأوروبي إقرار قانون يتيح لدول الاتحاد مصادرة اليخوت والمنازل الفخمة والأموال، لما سمّوه "الأوليغارشية" الروسية، وذلك لإعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب. وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، وعدد من الدول الأخرى، أعربوا عن دعمهم مصادرة الأصول الروسية، بحجة أن الروس هم المسؤولون عن الضرر في أوكرانيا، وبالتالي يجب أن يتحملوا مسؤولية إعادة البناء، بدلاً من أن تكون الفاتورة الضخمة على عاتق الاتحاد الأوروبي.

واقعياً، إن هذا الاقتراح الأوروبي هو صدى لاقتراح سابق للرئيس الأميركي جو بايدن. وقد هدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأن "سرقة ممتلكات الآخرين، لا تنتهي أبداً بشكل جيد"، متهماً الدول الغربية بأن سياساتها ضد روسيا هي محاولة لمواجهة المشاكل داخل بلدانها، لكن لا فائدة منها، بحسب قوله

عملياً، منذ حرب أوكرانيا، يسير الاتحاد الأوروبي خاصة والغرب عموماً، بمسيرة تدمير غير مسبوقة لكل ما قامت عليه أسس الغرب، بالإضافة إلى ارتكاب أخطاء استراتيجية سيدفع ثمنها غالياً، ونذكر منها ما يلي:

1-  مبدأ "المصادرة":

من الناحية القانونية، إن مبدأ "مصادرة" أصول مواطنين دولة ثانية لمجرد اتهامهم بأنهم "أوليغارشية" روسية، هو مبدأ مخالف لأبسط قواعد حكم القانون، وحقوق الإنسان. فلا تعريف "جرمياً" واضحاً لما يُسمّى الأوليغارشية لبناء قضية قانونية للمصادرة. علماً أن حق الملكية معترف به في المادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومكفول في المادة الأولى من البروتوكول الأول للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بوصفه "الحق في التمتع السلمي بالممتلكات".

أما من الناحية العملية وبيئة الاستثمار، فإن هذه السابقة الأوروبية بمصادرة ممتلكات أشخاص وبيعها، ليس لغرض الصالح العام أو لاتهامهم بالتهرب من الضرائب أو سواه، بل عقاباً لدولتهم على سلوكها الدولي، سيدفع العديد من المستثمرين في العالم إلى التفكير ملياً قبل الاستثمار وشراء العقارات في الاتحاد الأوروبي

لطالما قام الاتحاد الأوروبي، بالتسويق لمبادئ الحكم الرشيد وحكم القانون في دول العالم الثالث، منطلقاً من فكرة أن حكم القانون يشجّع بيئة الاستثمار، لأن المستثمرين لن يأتوا ليستثمروا حيث لا يكون هناك آليات قانونية  شفافة يستطيعون من خلالها الدفاع عن أنفسهم وعن استثماراتهم

مستخلصة العِبَر من التجربة الروسية، قامت الصين بإصدار توجيه لكبار المسؤولين وعائلاتهم يمنع امتلاك عقارات في الخارج أو حصص في كيانات خارجية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر (من خلال الأزواج والأطفال). كما يُمنع هؤلاء من فتح حسابات بنكية تودع فيها كميات كبيرة من الأموال خارج البلاد، وذلك بهدف حماية الأصول الصينية من التجميد والمصادرة كنتيجة لأي اشتباك سياسي أو عسكري مع الغرب في المستقبل.

2-  التأثير المرتدّ للعقوبات على روسيا

يندفع الغرب وبالأخص أوروبا إلى فرض عقوبات غير مسبوقة على الروس، ويهدفون من وراء ذلك إلى إيقاع أشد الضرر بالروس حتى لو تسبب ذلك في كوارث اقتصادية (لهم وللعالم)، تبدو أحياناً أكثر وطأة على أوروبا ممّا هي على الروس أنفسهم.

يُطرح في هذا الإطار، موضوع الأمن الغذائي العالمي، إذ اتهمت فون دير لاين الروس بالتسبب في مجاعة وأزمة غذاء عالميتين، فردّ نائب وزير الخارجية  الروسي أندريه رودينكو، إنّ "حل المشكلة الغذائية يمر عبر مقاربة جماعية تشمل خصوصاً رفع العقوبات التي فرضت على الصادرات الروسية والتعاملات المالية". في المقابل، اندفع وزير الاقتصاد وحماية المناخ الألماني روبرت هابيك في المنتدى الاقتصادي العالمي، إلى موقف شبيه بموقف مادلين أولبرايت حول العراق، فقال "إذا كان جزء من سكان العالم يموتون جوعاً، وطلب منا رفع العقوبات عن روسيا... مستحيل أن نقوم برفع العقوبات حتى لو مات ١٠٠ ألف شخص".

أما في موضوع الطاقة، وبالرغم من ارتفاع أسعار الطاقة العالمية إلى أعلى سعر لها منذ أكثر من عقد من الزمن، يبحث الأوروبيون في حظر الطاقة الروسية ويناقشون في كيفية تغيير قواعد التصويت في الاتحاد الأوروبي لتخطي رفض هنغاريا(المجر) الذي أعلن رئيسها عن أن حظر الطاقة الروسية سوف يؤدي إلى كوارث اقتصادية كبرى في بلاده. ويبحث الأوروبيون العودة إلى استخدام الفحم تخوفاً من انقطاع الغاز الروسي، بالرغم من أن ذلك يمسّ بكل الخطط الأوروبية السابقة لحماية البيئة واستخدام الطاقة البديلة والتي يقوم بها الاتحاد منذ عقود.

بالإضافة إلى الغاز الروسي، تستورد دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية اليورانيوم المخصّب من روسيا والذي يستخدم في توليد الكهرباء. عام 2021، استوردت الولايات المتحدة بقيمة مليار دولار من اليورانيوم المخصّب من روسيا. في عام 2020، استوردت دول الاتحاد الأوروبي 20.2 % من احتياجاتها من اليورانيوم من روسيا و19.1 % أخرى من حليفة روسيا كازاخستان، وعبر الأراضي الروسية.

3- سياسة إذلال روسيا

بالرغم من تحذير كل من ماكرون وكيسنجر من الاندفاعة الأوروبية إلى إذلال روسيا، ما زالت السياسات الأوروبية تضع نصب عينيها اعتماد سياسة الإذلال لكل من بوتين شخصياً وروسيا كدولة.

تنطلق التحذيرات البراغماتية الواقعية من الدروس والعِبَر التاريخية. لجأ الأوروبيون إلى إذلال روسيا بعد هزيمتها في حرب القرم (1853-1856) التي قاتلت فيها روسيا القيصرية ضد الأوروبيين والعثمانيين معاً. وكانت النتيجة، أن إذلال روسيا أدّى إلى سقوط النظام الأوروبي برمته، وعدم استقرار أوروبا لفترات طويلة. أضف إلى ذلك، إن سياسة الإذلال التي استخدمها الأوروبيون ضد ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، أدّت إلى تدمير أوروبا مرة ثانية في الحرب العالمية الثانية.

في النتيجة، هي حرب كبرى يخوضها الغرب ضد روسيا في أوكرانيا، لكن الغرب بسياساته وإجراءاته الانتقامية، يبدو أنه ابتعد عن السياسة العقلانية في العلاقات الدولية، والتي تقول باستخدام خيار سياسي بعد مقاربة "الكلفة - الأرباح"، فأحياناً تبدو الكلفة المدفوعة أوروبياً أكثر من الربح المحقق أو حتى من الكلفة التي يدفعها الروس أنفسهم 

2022/05/23

البرلمان اللبناني الجديد: خارطة التصويت على نزع السلاح

بعد الانتهاء من فرز الأصوات واحتساب الكتل النيابية وأرقام الخاسرين والناجحين، صدرت أصوات عديدة من هنا وهناك تشير إلى "أكثرية" مختلفة عما كانت عليه سابقاً، وادّعت بعض القوى امتلاكها "غالبية سياسية" حتى لو لم تكن هذه الغالبية موحدة في إطار سياسي واحد.

 

يبدو الفريق المطالب بنزع سلاح حزب الله الوحيد الذي يدّعي امتلاك غالبية حالية، بالرغم من إدراك الجميع أن صناديق الاقتراع لم تفرز أي غالبية واضحة لأي مكوّن سياسي. مع العلم، أن حسابات هذا الفريق وأرقامه تتباين أيضاً، فقائد القوات اللبنانية سمير جعجع اعتبر أن موازين القوى الجديدة في المجلس النيابي، التي "جعلت الأكثرية في مكان آخر"، تسمح بأن يكون القرار الأمني والعسكري بيد الجيش اللبناني، وبالتالي نزع سلاح حزب الله الذي يتخطى سقف الدولة. وفي الإطار نفسه، اعتبر النائب الجديد مارك ضو، أن فريق نزع السلاح (هم والقوات) يملكون ثلثاً معطلاً، أما رئيس حزب الكتائب سامي الجميل، فاعتبر أنهم باتوا يملكون "نصف المجلس".

 

واقعياً وموضوعياً، أظهرت النتائج أن حزب الله والتيار الوطني الحر وحلفاءهما فقدوا الغالبية التي حصلوا عليها عام 2018، والتي لم تقدم لهم شيئاً فعلياً يمكن لهم الاستفادة منه، بل زادت الاستقطاب الدولي ضد لبنان الذي اعتُبر أنه بات في محور إيران بالكامل، بعدما حصل الفريق المتحالف مع المقاومة الغالبية النيابية ورئاسة مجلس النواب، ورئاسة الجمهورية، واعتبر سعد الحريري "ضعيفاً" ومتواطئاً مع الثنائي حزب الله - حركة أمل.

 

لكن المجلس النيابي اللبناني  يتميز بـ 3 كتل غير متساوية، تختلف وتقترب بين بعضها، وضمن بعضها البعض بحسب الموضوع والقانون، وليس انطلاقاً من فرز سياسي عمودي تقريباً كما كانت عليه الحال في فترة الانقسام بين 8 و14 آذار.

 

انطلاقاً من هذا التقسيم السياسي والنيابي الجديد، هل يمكن بالفعل أن يحصل جعجع وحلفاؤه على "أكثرية" نيابية تصوّت ضد سلاح حزب الله في المجلس النيابي؟

 

لقد أعلن الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم أن مَن سمّاهم "فلول 14 آذار" تراجعت حصتهم في هذه الانتخابات من 47 نائباً إلى 36 نائباً، وأن هناك 77 نائباً في المجلس النيابي الجديد مع مقاومة "اسرائيل".

 

عملياً، يقوم سمير جعجع باحتساب جميع المستقلين والقوى التغييرية وقوى 14 آذار في موقف واحد، علماً بأن بعض القوى من المستقلين أو من الوجوه الجديدة، هي علناً مع خيار المقاومة، وأعلنت أنها ومن ضمن استقلاليتها في المجلس لن تصوّت ضد مبدأ "مقاومة إسرائيل"، معتبرة أن المقاومة ركن أساسي من قوة لبنان.

 

زد على ذلك، أن رئيس  الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ومنذ عام 2009 ولغاية اليوم، يتخذ مواقف متمايزة عن حلفائه في قوى 14 آذار وقد أعلن قبل الانتخابات: "أننا لم نتخلّ عن طرح نزع سلاح حزب الله، وقد قلنا سابقاً من غير الممكن الاستدامة بهذا السلاح خارج إطار الدولة، لكن لن أسير في نظريات نزع السلاح بالقوة، لأنّ هذا مستحيل ويورطنا في حرب أهلية".

 

أما في موضوع المقاربة الدولية والتي ستؤثر في مواقف الأطراف المكوّنة للبرلمان، فيبدو لبنان محكوماً بـ 3 مقاربات دولية، لها نوابها في البرلمان، في ما يختص بموضوع نزع السلاح، وهي على الشكل التالي:

 

1المقاربة الفرنسية الواقعية، التي تعتبر حزب الله لاعباً رئيسياً لا يمكن تجاوزه في أي تسوية مقبلة، وأن ما يحتاجه لبنان اليوم ليس انقساماً عمودياً جديداً حول نزع السلاح، بل إلى إجراء إصلاحات جدية فورية وعميقة لانتشاله مما هو فيه. انطلاقاً من هذه المقاربة، بقيت قنوات التواصل بين باريس وحزب الله مفتوحة في جميع الظروف.

 

2المقاربة السعودية التصعيدية، التي تتجه إلى التصعيد داخلياً وإقليمياً ضد حزب الله، معتبرة أن لا إصلاح ولا ازدهار ولا مساعدات في ظل وجود السلاح. هذه المقاربة تبتعد عن الواقعية، ولا تأخذ بعين الاعتبار موازين القوى على الأرض، وتسعى إلى الكسب السياسي بغض النظر عن الأكلاف التي يتحملها المجتمع والاقتصاد والمواطن اللبناني.

 

3-   المقاربة الأميركية، التي تريد بالطبع نزع السلاح، ولكنها أكثر براغماتية من التوجه السعودي، وأقل تسامحاً من المقاربة الفرنسية. لقد عبّر كل من شينكر ودايفد هيل عن هذه المقاربة، بالقول إنه من الوهم الإيمان بالقدرة على التخلص من حزب الله في لبنان، وبقدرة النواب الجدد على خلق تغيير حقيقي كما يريده الأميركيون. وقد دعا هيل إلى مقاربة أميركية أكثر واقعية، حول القدرة على الحدّ من نفوذ حزب الله عبر تقليص حضوره البرلماني.

 

في الخلاصة، يبدو لبنان مقبلاً على فترة من خلط الأوراق، إذ سيحتاج معها إلى تسوية إقليمية تُخرجه من الواقع الذي هو فيه، وتسمح بالسير في طريق الإصلاحات، وبالتالي الخروج من الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية. من دون تلك التسوية، سيكون أمام اللبنانيين أيام صعبة جداً

ما الهدف من طرح الزواج المدني الآن؟


فجأة وفي خضّم الخروج من الانتخابات النيابية وفي وضع مأساوي ينذر بمزيد من التدهور الاقتصادي والاجتماعي وخلط الأوراق السياسي المرشح للتفاقم والاستقطاب، طُرحت فكرة الزواج المدني لتعيد الاصطفافات السياسية وتصدر مواقف التكفير من هنا وهناك للعديد من القوى النيابية الجديدة التي أعلنت تأييدها له.

الحديث عن الزواج المدني ليس جديداً في لبنان، وبعكس ما يروّج كثيرون فإن الزواج المدني – بحدّ ذاته- معترف به في لبنان بدليل أن الأشخاص الى يريدون عقد زواج مدني يذهبون الى قبرص ويتزوجون ويأتون الى لبنان فيسجلون زواجهم وتعترف به السلطات اللبنانية تماماً كالزواج الديني.

المشكلة في لبنان ليست في الاعتراف بالزواج المدني، بل بالقدرة على عقد هذا الزواج داخل لبنان، والأهم هو قانون الأحوال الشخصية، الذي يعطي لكل مذهب قوانينه الخاصة، ويميّز بين اللبنانيين، ويجعل من قضايا الطلاق والميراث مرهونة برغبة السلطات الدينية التي تملك صلاحيات واسعة واستنسابية فتختلف النظرة والقرار في نفس القضايا بين رجل دين وآخر.

هي ليست المرة الأولى التي تُطرح مسألة الزواج المدني في لبنان، بل إن الموضوع طرح مرات عديدة منذ إنتهاء الحرب ولغاية اليوم، إذ طرحه لأول مرة بعد الطائف الرئيس الأسبق الياس الهراوي عام 1998، وتمكّن من إقناع أكثرية الوزراء بالتصويت لصالح المشروع، إلا أن رئيس الحكومة آنذاك، رفيق الحريري، وضع فيتو على المشروع، بعد تحريض وشجب واستنكار قامت به السلطات الدينية في البلاد.

عام 2013 طُرح الموضوع مجدداً، فأعلن الرئيس الأسبق سعد الحريري تأييده له ورفض تكفير الناس، ثم طرحته الوزيرة ريا الحسن عام 2019، إلا أن ردّة الفعل كانت عنيفة وقاسية وتخوينية أيضاً، علماً أن ما هو مطروح سابقاً واليوم، هو الزواج المدني "الاختياري"، الذي يعطي الحق لمن يريد بأن يعقد زواجاً مدنياً أن يقوم به في لبنان بدل أن يسافر ويعقده في الخارج ثم يأتي به الى لبنان.

إن اعتراف السلطات اللبنانية بالزواج المدني المعقود في الخارج، والرفض المستمر للسلطات الدينية بعقده في لبنان، يعني أن هذا الرفض سيبقى حصراً سارياً على الطبقات الفقيرة التي لا تستطيع السفر للخارج لعقد زواج مدني في ما لو ارادت ذلك. علماً أن عقد الزواج لن يغيّر الكثير، إن لم يحصل تطوير موازٍ لقوانين الاحوال الشخصية، التي تميّز بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات، ولا تساوي بينهم.

بالمحصلة، إن طرح مسألة الزواج المدني اليوم في ظل أزمات اقتصادية وأزمة رغيف وبنزين ومآسٍ احتماعية، تبدو ترفاً سياسياً، إلا إذا كان مَن طرح السؤال على النواب الجدد في حلقة تلفزيونية أراد إغراقهم سياسياً وتأليب شارعهم ضدهم، خاصة أنه على علم بأنه موضوع "شائك جداً" لم يستطع سياسيون مخضرمون وثابتون في قواعدهم كالرئيس رفيق الحريري وبعده سعد الحريري والوزيرة ريا الحسن من الوقوف في وجه موجة تخوين شعبية بتحريض من السلطات الدينية، والذي استدعى رداً من الوزير وليد جنبلاط الذي قال حينها "هل بالإمكان أن ندلي برأينا حول الزواج المدني من دون التعرّض للتكفير؟ كفى استخدام الدين لتفرقة المواطنين".. والسؤال المطروح اليوم، هل كان هذا السؤال على النواب الجدد، وقبل وصولهم الى الندوة البرلمانية لاستلام مقاعدهم، بريئاً أم مكيدة سياسية مبكرة؟

  

2022/05/18

قراءة موضوعية في انتخابات لبنان

 

 

انتهت الانتخابات النيابية اللبنانية بهدوء سياسي وشعبي وأمني لافت، يؤكد قدرة لبنان والدولة اللبنانية أن على تخطي الانهيار وعودة الانتظام الى المؤسسات في ما لو كان هناك إرادة سياسية بذلك.

 

واقعياً، وبالرغم من كل التضليل الاعلامي والاهتمام العالمي بالانتخابات النيابية اللبنانية، ومسارعة وسائل الاعلام اللبنانية والغربية والعربية الى إعطاء نتائج وتحليلات وإسقاطات سياسية، حتى قبل صدور النتائج، فإن قراءة دقيقة للنتائج والأصوات وحجم الكتل، تعطي المؤشرات التالية:

 

1خسارة الأغلبية النيابية:

 

حصد حزب الله والتيار الوطني الحر والحلفاء، عام 2018 غالبية نيابية قوامها 71 مقعداً، تراجعت هذه الحصة اليوم الى 61 نائباً (تختلف التقديرات، البعض يقول 64).

 

في النتائج، لقد احتكر الثنائي (حزب الله، حركة أمل) المقاعد الشيعية بشكل كامل، وخسر حلف المقاومة الحلفاء الدروز بشكل كامل، وحافظ الحليف المسيحي على قوته، كما حافظ حلف المقاومة على نسبة مقبولة من الحلفاء السنّة. بالمقابل، ازدادت قوة معارضي المقاومة من المسيحيين والسنّة، واحتفظ جنبلاط بكتلته بدون تغيير.

 

وبين تلك القوى السياسية التقليدية المتصارعة، تشكّلت كتلة وازنة قوامها 15 نائباً من المجتمع المدني، لكنها متباينة فكرياً وسياسياً من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، ومن مطالبين بنزع سلاح المقاومة الى مؤيدين لبقائه الى منخرطين بالمقاومة.

 

في تحليل الأرقام، خسرت الغالبية النيابية السابقة بعضاً من مقاعدها، لكن لا يمكن القول أن الغالبية النيابية تلك قد خسرت 10 مقاعد بالكامل. عملياً، تناقصت الغالبية قبل الانتخابات بكثير، تحديداً بعد ثورة 17 تشرين الأول/أوكتوبر 2019، حيث انسحب العديد من النواب ممن كانوا يُحسبون من ضمن هذه الغالبية (على الأقل 5 نواب) وانضموا الى صفوف الثورة، ما يعني أن الغالبية النيابية لم تنطلق في هذه الانتخابات من رقم 71 بل من رقم 66. علماً أن جميع النواب الذين انسحبوا وانضموا للثورة (باستثناء شامل روكز) قد عادوا ونجحوا في هذه الانتخابات، واحتسبوا ضمن "الشخصيات السياسية المستقلة".

 

2مفاجأة التيار الوطني الحر

 

لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أن يحافظ التيار الوطني الحر على كتلة وازنة كبيرة، بل كان التقدير ان التيار لن يصمد في حساب الشعب اللبناني وأنه سينهار كلياً في انتخابات تمّ التمهيد لها عبر ثورة، وسنوات من الحرب الاعلامية والتنمر والوشايات، وصرف الأموال والضغوط الاقتصادية والدولية والعالمية، بالإضافة الى انهيار اقتصادي ومالي وانفجار المرفأ، وتحميل رئيس الجمهورية والعهد مسؤولية خراب نتيجة 30 سنة من سياسات الفساد والنهب المنظّم للخزينة العامة.

 

المفاجأة تمثلت في أن التيار لم يصمد فحسب بل حصد كتلة وازنة قوامها 21 نائباً، وهي تعد الكتلة الأكبر في البرلمان اللبناني.

 

3تقدم القوات اللبنانية

 

تقدمت القوات اللبنانية في هذه الانتخابات وحصدت كتلة نيابية وازنة تنافس كتلة التيار الوطني الحر وتوازيها تقريباً.

 

لكن الأمر لم يشكّل مفاجأة للمراقبين والمطلعين على سير الانتخابات في لبنان، فلقد كانت القوات الحزب الأكثر تمويلاً في الانتخابات النيابية، بالاضافة الى تلقيها دعم علني ومباشر من السفير السعودي وليد البخاري الذي  استخدم علاقاته ونفوذ المملكة مع السياسيين ورجال الدين السنّة  لدعم القوات، ثم جال بنفسه على الأقضية لحصد الدعم للوائح القوات، وإجبار المرشحين السنّة على اللوائح المقابلة على الإنسحاب تأميناً لحواصل أكبر للكتلة القواتية.

 

عملياً، استفادت القوات من تغييب الرئيس سعد الحريري عن الساحة السياسية، إذ لم تكن تستطيع أن تحصد هذا الكمّ من الاصوات السنية الداعمة للوائحها، لو كان هناك لوائح منافسة لتيار المستقبل. اللافت أن السنيورة الذي أوكل بمهمة إنهاء دور آل الحريري في السياسية اللبنانية، قد تلقى خسارة مدوية حيث لم تستطع لوائحه أن تحصد أي مقعد نيابي.

 

4الثنائي: حزب الله وحركة أمل

 

انتشرت في الاعلام الغربي والمحلي تقارير تفيد بتراجع حزب الله في هذه الانتخابات وأن النتائج تشير الى فقدانه الدعم الشعبي.

 

إن التدقيق بأرقام المقاعد والأصوات التي نالها حزب الله، تشير الى أن كتلته زادت عددياً هذا العام عن العام 2018، بالإضافة الى حصوله على أعلى نسبة أصوات تفضيلية على صعيد لبنان، وعلى عدد أصوات أكثر من عام 2018.

 

لقد استطاع الحزب أن يحوّل المعركة الى معركة "حماية المقاومة" وتصويت "ضد حرب تموز سياسية"، فاستنفر الجمهور الشيعي للتصويت بكثافة. أما حركة أمل فلقد خسرت مقعدين، وخسر الرئيس بري حلفاءه من خارج كتلة حركة أمل، فسقط الفرزلي وفيصل كرامي وابراهيم عازار وأسعد حردان، والصيرفي مروان خير الدين وغيرهم.

 

5مفاجآت الساحتين السنية والدرزية

 

بالطبع حصل خلط كبير للأوراق في الساحتين السنية والدرزية، إذ أن غياب تيار المستقبل سمح بوصول فسيفساء من الاتجاهات الفكرية والسياسية الى الندوة البرلمانية ضمن المقاعد السنّية. بشكل عام، لقد توّسع حجم التيار العروبي في هذه الانتخابات في كل الدوائر ذات الغالبية السنّية... أكبر المفاجآت كانت في صيدا، حيث حققت لائحة أسامة سعد والبزري انتصاراً كبيراً بحصولها على 3 مقاعد في دائرة صيدا- جزين.

 

أما على الساحة الدرزية، فلقد استطاع المجتمع المدني إخراج قيادات درزية عريقة من البرلمان اللبنانية (طلال إرسلان ووئام وهاب)، وهكذا خسرت المقاومة حلفاءها في الساحة الدرزية بالكامل.

 

في الخلاصة، يبدو أن تركيبة البرلمان اللبناني المتنوعة ودخول قوى جديدة الى البرلمان اللبناني، ستعطي دفعاً أكبر لقوى المجتمع المدني للترشح عام 2026. لكن على الصعيد السياسي، يُتوقع أن أن يكون هناك خلط كبير للأوراق واصطفافات سياسية تتوسع وتضيق بحسب الموضوع ورغبة الداعمين الخارجيين.

2022/05/16

لماذا لم تنجح ثورة لبنان في التغيير؟


ينتظر اللبنانيون صدور النتائج النهائية للانتخابات النيابية، حيث تتقاسم القوى السياسية غالبية المقاعد النيابية، بينما استطاعت قوى الثورة أن تحقق بعض الاختراقات لكنها ليست كافية للتغيير الجذري في لبنان.

وهنا، يبرز التساؤل: لماذا لم تستطع ثورة لبنان النجاح كما ثورة مصر وأوكرانيا على سبيل المثال؟

في كل الثورات في العالم، تشكّل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفساد وغياب المحاسبة والشفافية عوامل تؤدي الى انفجار اجتماعي يتجلى في تظاهرات وإضرابات، وتتراكم لتصبح ثورة من المفترض أن تطيح بالسلطة وتأتي بأخرى.

لا تنفصل العوامل الداخلية عن العوامل الخارجية التي تدعم الثورة أو تطيح بها في مهدها، فإما أن يكون هناك دعم وتشجيع للثورة من الخارج فتحظى بمساعدة إقليمية ودولية، أو يكون الخارج ضدها فيساهم مع السلطة في "ضبط الاستقرار".

وكما كل الثورات الأخرى، لا تنفصل ثورة لبنان في 17 تشرين الأول 2019، عن السياق العام للثورات، حيث تراكمت العوامل الداخلية، وترافقت مع دعم أميركي وغربي واقليمي لقوى الثورة، وانخرطت الأحزاب في الثورة كما يحصل في الثورات عامة. لكن بعكس العديد من الثورات الأخرى التي دعمها الخارج ونجحت في الاطاحة بالسلطة، لم تستطع ثورة لبنان أن تحقق الاهداف المفترض بها أن تحققها.

الأكيد أن هناك العديد من العوامل الداخلية التي أعاقت نجاح الثورة في لبنان، لكن في إطار الدعم الخارجي،إن مراجعة الثورات التي دعمتها الولايات المتحدة الأميركية، نجد أن ما افتقدت له ثورة لبنان بينما نجحت الأخرى هي:

-      دور الجيش:

يستشف من العديد من الثورات أو حراك التغيير في العالم ومنها في مصر، أن الجيش عادة ما يكون هو المحرك للتغيير فإما يمنعه أو يساهم فيه. سواء في الثورة الأولى في مصر، التي دعمها الأميركيون، والتي استطاع الاخوان أن يسيطروا عليها وحوّلوها لصالحهم، أو في الثورة الثانية التي أطاحت بالأخوان وأتت بالسيسي رئيسًا (وقفت السفيرة الأميركية ضد الثورة الثانية الى آخر لحظة)، كان الجيش المصري اللاعب الأقوى في التغيير في مصر.

عملياً، لا قدرة ولا إمكانية للجيش اللبناني للعب دور من هذا النوع. قوة الجيش اللبناني مستمدة من بقائه على الحياد والمحافظة على وحدته في ظروف مصيرية وأحداث كبرى، كثورة 17 تشرين وسواها.

-      بالرغم من أن العديد من مواقع الثورة في لبنان وناشطيها، سوّقوا إمكانية تحقيق النجاح في لبنان أسوة بما حصل في أوكرانيا عام 2014، إلا أن ثورة لبنان لم تستطع تقليد ثورة أوكرانيا عام 2014، حيث قام اليمين المتطرف القومي في أوكرانيا بحمل السلاح في مواجهة أخصامه وقام بانقلاب عسكري أطاح فيه بالرئيس الاوكراني تحت مسمى الثورة.

لم يكن من الممكن تسليح الثوار في لبنان، بسبب فائض ميزان القوى العسكري غير المتكافئ في لبنان، بالاضافة الى أن وجود السلاح والاتجاه الى الاقتتال، كان سيدفع اللبنانيين الى نبذ الثورة وكل ما يمت لها بصلة، إذ لم ينسَ اللبنانيون مشاهد الحرب الاهلية بعد، والغالبية غير مستعدة لزجّ أبنائها في معارك شوارع واقتتال أهلي مهما كانت الاسباب.

 

2022/05/12

انتخابات لبنان: هل يكرر المستقبل تجربة 1992؟

 

مباشرة بعد انتهاء الحرب في لبنان وإقرار إتفاق الطائف عام 1990، دعت السلطات الجديدة في لبنان الى انتخابات نيابية، بعد توقف قسري لمدة عشرين عاماً بسبب الحرب (جرت آخر انتخابات  قبل الحرب عام 1972).

 

قاطع المسيحيون الانتخابات النيابية عام 1992، معتبرين أنها تجري في ظروف تهمّش ممثليهم الحقيقيين، وهم بالتالي لا يريدون إعطاء شرعية لسلطة لبنانية فرضتها الوصاية السورية. وبالفعل، استطاع المسيحيون فرض مقاطعة شاملة في معظم المناطق اللبنانية، لدرجة أن إحدى المرشحات نجحت في جبيل،  بـ 40 صوتاً فقط.

 

اليوم، يطمح اللبنانيون من مؤيدي وأنصار تيار المستقبل أن يكرروا تجربة المقاطعة لعام 1992، وأن تؤدي هذه المقاطعة الى إعادة الاعتبار للرئيس سعد الحريري، وعودته الى الحياة السياسية في لبنان، زعيماً سياسياً لا يمكن تخطيه في الطائفة السنّية.

 

قياساً على تجربة المسيحيين في مقاطعة الانتخابات في لبنان، هل يستطيع تيار المستقبل تكرار التجربة في لبنان، وما هي مفاعيلها؟

 

واقعياً، من الصعب على تيار المستقبل أن يفرّض مقاطعة سنّية شاملة كالتي حصلت في الساحة المسيحية عام 1992، وذلك للأسباب التالية:

 

-      لقد انخرطت بكركي في الدعوة الى المقاطعة عام 1992، بينما دعت دار الفتوى في لبنان الى عدم المقاطعة. بالاضافة الى قيام العديد من قيادات المستقبل ونوابه السابقين بالترشح، وقيام السنيورة -بدعم من السفير السعودي في لبنان- بمحاولة التنطح لوراثة الحريرية وفرض نفسه "رئيس حكومة" بعد الانتخابات، في حال استطاعت قوى 14 آذار و"التغييريين" الحصول على الغالبية النيابية، بحسب ما سوّقت ماكينات القوات اللبنانية.

 

المفارقة، أن حال السنيورة وريفي ونواب المستقبل السابقين اليوم يشبه حال بعض القيادات المسيحية التي تنطحت للحلول مكان الزعامات المسيحية بدعم من السوريين خلال التسعينات، ونذكر على سبيل المثال، السيدة نايلة معوّض (والدة النائب المستقيل المدعوم أميركياً ميشال معوّض)، والسيدة نهاد سعَيد (والدة الدكتور فارس سعيد) والتي قاطعت الانتخابات بداية، ولكنها كانت ذات حظوة لدى السوريين لدرجة أنها استطاعت أن توقف ترقية أحد الضباط في الجيش اللبناني (العميد ميشال كرم) وعدم قبول استقالته بغية حرمانه من الترشح للانتخابات النيابية في آب / أغسطس عام 2000 لئلا يشكّل خطراً على نيابة أبنها الدكتور فارس سعيد، وهو ما حصل بالفعل. (يُذكر أن كرم استعاد حقّه بقرار من مجلس شورى الدولة العام الماضي).

 

-      تتراجع الآمال بإستعادة تجربة المقاطعة الشاملة للانتخابات في لبنان التي حصلت عام 1992، وذلك بسبب الكمّ الهائل من الضخّ المالي والدعم الخارجي المادي والسياسي الواضح، وتصرف دبلوماسي غير مسبوق، حيث يجول السفير السعودي في لبنان وليد البخاري على المناطق لحثّ رجال الدين والسياسيين السنّة على دعوة الناس الى الإقتراع وعدم المقاطعة، ودعوة الناخبين للاقتراع للوائح المدعومة من قبله، خاصة لوائح القوات اللبنانية والسنيورة.

 

-      سيكون للمال الانتخابي تأثير على قدرة المستقبل على فرض المقاطعة الشاملة بالاضافة الى الممارسات "الفاشية" غير المسبوقة التي تمارسها بعض القوى لترهيب اللبنانيين بلقمة عيشهم وبحياتهم ومستقبلهم، ما قد يدفع العديد من مناصري تيار المستقبل في لبنان والدول الخليجية الى الذهاب مرغمين للتصويت للوائح القوات اللبنانية.

 

بالرغم من كل الموبقات التي قامت بها الميليشيات والقوى السياسية اللبنانية في تاريخها، لم يحصل أن تقوم بعض القوى بممارسة "النميمة والوشاية" على أبناء وطنهم لطردهم من عملهم أو سوقهم الى السجن وترحيلهم من الدول العربية، لمجرد الإختلاف في الرأي السياسي. ومع اقتراب موعد الانتخابات، بدأ اللبنانيون في لبنان والخارج يخشون المجاهرة برأيهم السياسي خوفاً من الوشاية فالطرد من البلدان التي يعملون فيها عقاباً لهم على مواقفهم السياسية.

 

 

 

بالنتيجة، لا شكّ أن من حقّ تيار المستقبل استخدام كافة الوسائل المشروعة لتحقيق أهدافه ولإعادة الاعتبار الى رئيسه سعد الحريري، والمقاطعة حقّ مشروع ووسيلة قانونية. لكن، برأيي، وبغض النظر عن حجم المقاطعة التي ستحصل، لن تستطيع (المقاطعة الشاملة إذا حصلت) بإعادة فرض الحريري في المعادلة اللبنانية إذا لم تسمح له المملكة العربية السعودية بذلك.

 

لقد جرّب المسيحيون المقاطعة الشاملة، ولم يستطيعوا أن يوقفوا القطار السياسي الذي كان يمشي في لبنان برضى اقليمي(سوري -سعودي) ودولي (أميركي)، لذا لم يكترث أحد لمقاطعتهم، فعادوا وشاركوا عام 1996 وما تلاها، واستمرت المقاطعة حكراً على الملتزمين بفكر العماد ميشال عون وبعض القواتيين حتى عام 2005.

 

عملياً، بالاضافة الى الوشايات التي قامت بها القوات اللبنانية ضده في المملكة، يدفع الحريري ثمناً للغضب السعودي جرّاء فشل سياستهم في تحجيم حزب الله في لبنان، واتهام حزب الله بالتأثير على خططهم في اليمن، وبأن مساعدته للحوثيين والدعم الايراني هما السبب في فشل الحرب السعودية على اليمن. لقد حاول الحريري وبمساعدة دولية، تخطي هذا الغضب ولم يستطع، لذا من الصعب ان تؤدي الضغوط الشعبية اللبنانية (مهما بلغ حجمها) الى عودة ولي العهد السعودي عن قراراه بإنهاء الحريرية السياسية.

  

2022/05/09

انتخابات لبنان: ماذا بعد تشظي المستقبل والثورة؟

 

بدأت المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية اللبنانية في الخارج، معلنة طي مرحلة الخشية على مصير الانتخابات والتي كان كثيرون يخشون افتعال إشكالات وفوضى أمنية لتأجيلها أو لإلغائها.

 

وفي ظل الحماوة الانتخابية، يبدو مشهد التنافس الانتخابي والحماوة الخطابية والاتهامات المتبادلة مشهداً طبيعياً عاشه اللبنانيون في فترات الانتخابات السابقة، لكن الانتخابات الحالية تتميز – استثنائياً- بما يلي:

 

1معارك داحس والغبراء بين لوائح المسماة "تغييرية"

 

يطغى على المشهد الانتخابي التنافس والتخوين بين لوائح المجتمع المدني أو من يسمون أنفسهم "تغييريين"، والذين تبلغ نسبة لوائحهم نحو 60% من مجموع اللوائح في لبنان.

 

يعد هؤلاء اللبنانيين بالتوحد بعد الانتخابات والسير بمشروع واحد في المجلس النيابي في حال وصولهم الى السلطة، لكن الخطابات الانتخابية والتخوين الذي يمارسونه ضد بعضهم اليوم يجعل من الصعب تحقيق الوحدة في المستقبل، بل يبدو الامر أشبه بالوعود الانتخابية الأخرى، والتي تشبه "بيع الاوهام" للبنانيين.

 

2محاولة شطب الحريري من المعادلة السياسية

 

بسبب موقفه من مقاطعة الانتخابات ترشيحاً واقتراعاً، يتعرض سعد الحريري لحملة واسعة النطاق من قبل قوى 14 آذار وخاصة القوات اللبنانية، وصلت الى حد التخوين والاتهام بخدمة ح ز ب الله. وقد دخلت الرياض على خط التخوين والهجوم حين قامت الصحف السعودية بإطلاق صفة "الجيفة السياسية" على سعد الحريري، واتهامه "بالتشيع السياسي"، وأنه بات يشبه الايرانيين.

 

يخوض محبو سعد الحريري وجمهوره الوفي اليوم، معارك على جبهات عدّة، أهمها:

 

-      ضد الاعلام الخليجي الذي بالغ في التطاول على كرامة الحريري.

 

-      ضد القوات اللبنانية التي يتهمونها بالخيانة وبالغدر، ويذكرون مراحل الغدر القواتي فيعودون بالذكرى الى 7 أيار، حين واجه الحريري وتهربت القوات وأشرف ريفي من المعركة، بحسب قولهم. ثم يدرجون سلسلة من المواقف لجعجع، محملينه مسؤولية اعتقال الحريري في الرياض عام 2017.

 

-      ضدّ السنيورة وأشرف ريفي وآخرين من المرشحين السنّة ممن يتهمونهم  بأنهم خانوا تيار المستقبل ورئيسه.

 

وفي هذا الإطار، يُنتظر من هذه الانتخابات أن تحدد موقع الحريري في السلطة مستقبلاً. فإن استطاع التأثير على الناخبين السنّة عاطفياً ودفعهم الى مقاطعة الانتخابات بشكل كبير، يبقى أمل – ولو ضعيف- بأن يكون قادراً على العودة الى الساحة السياسية متسلحاً بتفويض شعبي غير معلن (تكمن المشكلة الأساسية في موقف ولي العهد السعودي من عودته)

 

واقعياً، تبقى العوائق أمام الحريري لفرض المقاطعة: المال الانتخابي الذي يُصرف بوفرة في ظل أزمة اقتصادية خانقة يعاني منها الجميع، بالاضافة الى كثرة المرشحين السنّة وتعدد اللوائح الانتخابية التي يمكن أن تستقطب من هنا وهناك بحيث تجعل المشاركة السنية عالية النسبة.

بالنتيجة، يتجه لبنان الى انتخابات مصيرية بلا شكّ، فالغالبية التي ستفرزها صناديق الاقتراع  ستنتخب رئيس الجمهورية اللبنانية القادم وسيكون لها الكلمة الفصل في تشكيل الحكومات، وأمامها مهمات كبرى، منها ترسيم الحدود البحرية، التدقيق الجنائي وإقرار خطة التعافي المالي، وتوزيع الخسائر، والتفاوض مع صندوق النقد الدولي، ، عودة النازحين السوريين، هذا عدا عن استحقاقات التسوية في المنطقة.