2022/01/31

لبنان: هل يتعذر الانفراج قبل الانتخابات؟



ما زالت قضية المبادرة الخليجية التي حملتها الكويت الى لبنان، تتفاعل سياسياً واعلامياً خاصة بعدما قام وزير الخارجية اللبناني عبدالله بو حبيب بتسليم رسالة جوابية من لبنان، ترحب بعودة الحياة الى العلاقات اللبنانية الخليجية وتدعو الى تشكيل لجان مشتركة بين لبنان والدول المعنية لبحث الأزمة.
وأكّد وزير الخارجية الكويتي، الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح، أنّ "دول الخليج تسلّمت ردّ لبنان على مقترحات لتخفيف حدة التوتر، وستدرسها قبل تحديد الخطوة المقبلة في الأزمة الدبلوماسية"، واعتبر أن الرسالة "خطوة إيجابية من قبل المسؤولين اللبنانيين، وسيتم إبلاغ الالجهات المعنية في الكويت ودول الخليج".
وبكل الأحوال، يبدو من الرسالة الخليجية، والتي يتطابق مضمونها تقريباً مع البيان السعودي الفرنسي المشترك الذي أعلن خلال زيارة ماكرون الى الخليج، أن التصعيد الخليجي – خاصة السعودي- تجاه لبنان لن يتم تخفيفه قبل الانتخابات النيابية أقلّه. ويمكن أن نشير الى الاسباب التالية :
- الانتخابات النيابية:
يعتقد الأميركيون ومعهم كل من فرنسا والسعودية أن بمقدورهم قلب نتيجة الانتخابات النيابية وبالتالي الحصول على غالبية نيابية في الانتخابات القادمة، وذلك بعدما استثمروا اعلامياً وسياسياً ودبلوماسياً في الازمة الاقتصادية والاجتماعية التي حلّت بلبنان لتوجيه الرأي العام نحو مسؤولية جزء من السلطة السياسية وإعفاء جزء آخر.
إن فشل الثورة في القيام بالتغيير الشامل في لبنان والاطاحة برئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر وإضعاف ح زب الله، فرض الانتقال الى الخطة ب، والتي تقوم على زيادة الضغط على اللبنانيين للتصويت لخيارات مختلفة تؤدي الى تغيير عبر الانتخابات، بعدما تبين أن التغيير في الشارع صعب جداً في لبنان.
ولهذا الغرض، من الصعب التخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية قبل حصول الانتخابات وتحقيق النتائج المرجوة، وتخفيف الضغوط السياسية والدبلوماسية والاقتصادية التي تقوم بها دول الخليج على لبنان.
- إن الضغوط على لبنان يجب أن تبقى من ضمن حدّين: الأول لا يسمح بالانهيار التام الذي يؤدي الى انفجار اجتماعي وفوضى سياسية وأمنية، ما يسمح ل ح ز ب الله باستغلال الأمر لفرض الاستقرار عبر وسائل يتحاشى استخدامها الآن...والحدّ الثاني الذي لا يسمح بإراحة اللبنانيين والانتقال الى الاصلاح المؤدي الى إنفراجات سياسية وإقتصادية، ما يجعل من غير الممكن استغلال الازمة انتخابياً.
- يدرك الأميركيون والفرنسيون والخليجيون أن بند نزع سلاح ح ز ب الله في الورقة الخليجية غير قابل للتطبيق- اقلّه على المديين القصير والمتوسط. وبالتالي، إن طرحه يشي بأنه مجرد دفع إضافي (إعلامي وسياسي) للمطالبين بنزع سلاح الحزب على أبواب الانتخابات النيابية.
لو كانت الاطراف التي كتبت الورقة الخليجية تريد مناقشة الأمر من ضمن الحوار للوصول الى صيغة مناسبة للجميع، لكانت اوعزت الى حلفائها في لبنان بتلبية دعوة رئيس الجمهورية الى طاولة الحوار، وحيث كانت "الاستراتيجية الدفاعية" أحد بنودها.
- بالاضافة الى الانتخابات النيابية التي يراها السعوديون بوابة للتغيير السياسي في لبنان، إن الضغط على لبنان يهدف فيما يهدف الى زيادة الضغط الاقليمي على الدول التي لإيران نفوذ فيها. إن المؤشرات الايجابية التي ترشح عن اجتماعات فيينا، والتي تشي بأن اتفاقاً جزئياً بات ممكناً بين الايرانيين والأميركيين، ستدفع المتضررين من هذا الاتفاق، الى زيادة الضغوط في العديد من الساحات، ومنها الساحة اللبنانية.
الأمر الذي يجب التنبه له، هو أن يتخطى الضغط الوسائل السياسية والاقتصادية ليصل الى الضغوط الأمنية، وما عودة داعش للتحرك في كل من سوريا والعراق إلا جزء من ضغوط قديمة متجددة في الاقليم، يجب على لبنان أخذها بعين الاعتبار.

2022/01/28

أميركا اليوم: الاتحاد السوفياتي بداية الثمانينيات؟

ليلى نقولا
قال بول كينيدي في كتابه الشهير "نشوء وسقوط القوى العظمى" إنَّ القرن العشرين هو القرن الذي شهد سقوط أكبر عدد من الإمبراطوريات، كالإمبراطورية العثمانية والفرنسية والبريطانية والسوفياتية والألمانية.‏ وعندما درس أسباب سقوط الإمبراطوريات التي تعاقبت منذ القرن السادس عشر، وجد أنّ هناك 3 عوامل مشتركة ساهمت في سقوط الإمبراطوريات السابقة، وهي:‏
- العامل الأول اقتصادي: يتلخص بفقدان القدرة التنافسية والإنتاجية، وتجاوز بلدان أخرى للإمبراطورية من الناحية الاقتصادية، وخصوصاً عندما يصبح إنفاقها العسكري أكثر من قدرة اقتصادها على تحمّله، فتصبح القوة عندئذ رهاناً بحد ذاته.
- العامل الثاني: حالة التوسّع المفرط في الهيمنة الخارجية التي تصبح أكثر من قدرتها على الاضطلاع به، والتي تؤدي إلى بعثرة القوة الإمبراطورية، ما يؤدي إلى إرهاقها اقتصادياً. هذا الإرهاق سينعكس على الميدان العسكري، فتلحق بها هزيمة عسكرية. عندئذٍ، يصبح شعب الإمبراطورية غير مقتنع، ولا يكون مؤيداً للهيمنة والتوسع الإمبراطوري، بل يبحث عن أمنه الداخلي، كما حدث للإمبراطوريتين السويدية والبرتغالية.
- العامل الثالث: الهزيمة العسكرية التي تلحق بالإمبراطورية في حرب ما، والتي تعرّضها في ما بعد لغزو داخلي.
وفي تحليلٍ لسقوط الاتحاد السوفياتي، يبدو أنَّ العوامل التي تحدث عنها بول كينيدي توافرت، إضافةً إلى العديد من العوامل الداخلية الأخرى، فأدّت إلى تفككه وانهياره. في بداية العقد الأخير من عمر الاتحاد السوفياتي، عانى الاتحاد من هزيمة وانسحاب مذلٍ من أفغانستان كنتيجة لما يمكن وصفه بـ"مقاومة" التواجد العسكري السوفياتي، والتي موّلها الأميركيون ودعموها، كما اعترفت هيلاري كلينتون في حديثها أمام الكونغرس.
وسادت في أوساط الرأي العام في الاتحاد السوفياتي أولوية التركيز على الأمور الحياتية، ولم تعد أولوية بناء الإمبراطورية والتوسع الخارجي شيئاً يقنع مواطني الاتحاد، بعدما عانى الاتحاد من أزمات حياتية داخلية وفساد، وباتت قدرة المركز على السيطرة على الأطراف أصعب، ما شجَّع يقظة القوميات التي ساهمت في التعجيل بتفكّك الاتحاد.
يعقد الكثير من الباحثين في الولايات المتحدة المقارنات بين ما يحصل في الداخل الأميركي والعوامل التي رافقت العقد الأخير من حياة الاتحاد السوفياتي. ولعلَّ أكثر هذه المقارنات تتمحور حول الأزمة القيادية التي تعانيها الولايات المتحدة.
يشير العديد من الباحثين الديمقراطيين إلى أنَّ الحزب الجمهوري بات يشبه اليوم الحزب الشيوعي السوفياتي في نهاية حقبة السبعينيات. ويشير توم نيكولس في "الأتلانتيك" إلى أنَّ "الجمهوريين دخلوا نوعهم الخاص من البلشفية في المرحلة النهائية"، ويتحدَّث عن أن الحزب الجمهوري "تحوّل إلى حزب سلطوي، تتحكَّم فيه عبادة الشخصية، ويدار من قبل شخص عجوز فاشل، يبحث عن مغامرات جديدة لتجديد ثرواته"، ويشبّه ترامب بالزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف، الذي عزز قبضته على الحزب الشيوعي، من خلال رفع الانتهازيين والمقربين حوله، الذين أصرّوا، في العلن وفي الأحاديث الخاصة، على أنَّ بريجنيف كان عبقرياً بطولياً.
ويضيف نيكولس: "مثل بريجنيف، نما ترامب ليصبح شخصية بطولية بين مؤيديه. وإذا تمكَّن الجمهوريون من إنشاء رتبة "مارشال الجمهورية الأميركية"، والحصول على ميدالية "بطل الثقافة الأميركية"، فسيحصل ترامب عليهما معاً".
في المقابل، تشير العديد من المقارنات الأخرى إلى عمر بايدن ونانسي بيلوسي وبيرني ساندرز والعديد من الوجوه البارزة في الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، وتشبّه الأمر بفترة بداية الثمانينيات في الاتحاد السوفياتي، حين كان الحكم يتحوّل إلى من يبقى حياً من الرعيل الأول المؤسس للاتحاد. وقد أدى موت هؤلاء إلى إيصال غورباتشوف إلى السلطة، وهو من الرعيل الثاني. ومناسبة هذه المقارنات هي القلق الذي يعتري الأميركيين من صحة بايدن العقلية والذهنية، والتي يبدو أنها باتت موضع تندّر الجمهوريين في الولايات المتحدة.
هل هذا يعني أنَّ انهيار الولايات المتحدة بات وشيكاً؟
لغاية اليوم، لا يبدو الانهيار الأميركي نظرية قابلة للتحقّق بسرعة، كما يعتقد البعض.
- على الرغم من الركود الاقتصادي والتضخّم، فالاقتصاد الأميركي ما زال قوياً ومتماسكاً، وما زالت الآليات الاقتصادية العالمية في يد الولايات المتحدة الأميركية.
- أما الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، والذي يشبّهه البعض بانسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان، فتجدر الإشارة إلى أنَّه لم يكن عاملاً حاسماً في سقوط الاتحاد السوفياتي الذي تم تفكيكه بإرادة سياسية، وليس بهزيمة عسكرية، ولا يشي الانسحاب الأميركي من أفغانستان بهزيمة عسكرية حاسمة، بل إنّ الحروب اليوم تُخاض بوسائل مختلفة، ما زالت الولايات المتحدة تمتلك الكثير من مقوماتها وتتفوَّق فيها أيضاً.
- بالنسبة إلى الشعب الأميركي، وعلى الرغم من أنَّ هناك رغبة متزايدة في عدم الانخراط عسكرياً في الخارج، وخصوصاً بعد حربين مكلفتين في الشرق الأوسط، فإنَّ الانخراط الأميركي في العالم ما زال يجد صداه لدى المؤسسة الحاكمة واللوبيات والإعلام، وهي التي تصنع السياسة في الولايات المتحدة، وليس الشعب الأميركي مباشرة.
الوضع الذي يمكن أن يقلق الأميركيين على "إمبراطوريّتهم" هو شبح الاقتتال الداخلي أو تمرّد الولايات على السلطة المركزية، في حال ترشّح ترامب إلى الانتخابات الرئاسية في العام 2024، وخسر الانتخابات.
ويبدو واضحاً، ومن خلال ما حدث في 6 كانون الثاني/يناير 2021، أنَّ احتمال رفض ترامب نتائج الانتخابات، في حال خسارته، كبير جداً. وبالتالي، ما لم تتم محاسبة المتورطين في "غزوة الكونغرس"، من محرضين ومشاركين ومساهمين، فمن المرجح أن تتكرَّر، وبشكل أكبر، في الانتخابات الرئاسية القادمة.
كما أنَّ التّصريحات التي يطلقها العديد من قادة وحكّام الولايات من الحزب الجمهوري، ورفضهم الانصياع إلى قرارات بايدن وإجراءات السلطة الفيدرالية، يشيان بأنَّ انتخابات 2024 لن تمرّ بسلاسة في الولايات المتحدة.
إنَّ سيناريو كهذا قد يجعل الولايات تتمرَّد على السلطة المركزية، فهل يمكن حينئذ أن تتفكَّك الولايات المتحدة أو تدخل في حرب أهلية شبيهة بالحرب الأهلية السابقة؟ كلّ الأمور واردة، وحركة التاريخ تشي بأنَّ الإمبراطوريات ليست عصيّة على الانهيار. وفي كلِّ الأحوال، هناك 3 سنوات تحضيرية للانتخابات الرئاسية القادمة، وهي مدة زمنية كافية لقلب هذه السيناريوهات أو ترجيحها. 

2022/01/21

أوكرانيا: هل يكرّر بايدن خطأ أوباما في سوريا؟

في مؤتمر صحافي، بمناسبة مرور عام على تنصيبه رئيساً، هدّد الرئيس الأميركي جو بايدن بأن غزو أوكرانيا "سيكون كارثة لروسيا"، محذّراً موسكو من خسائر "فادحة" في الأرواح في ساحة القتال، وعقوبات "قاسية" غير مسبوقة، على الصعيد الاقتصادي.

 

وفي خضمّ التصعيد المتبادَل، كشفت مجلة "بوليتيكو" أنَّ وزارة الخارجية الأميركية أعطت الضوء الأخضر لثلاث دول في حلف "الناتو"، لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، من أجل إرسال صواريخ مضادة للدروع وغيرها من الأسلحة الأميركية إلى أوكرانيا، كما أعلن وزير الحرب البريطاني، بن والاس، أنَّ بلاده ستزوّد أوكرانيا بأنظمة سلاح "دفاعية".

 

إذاً، يراهن جو بايدن وعدد من أعضاء حلف "الناتو" على استنزاف الروس في حرب طويلة الأمد، تُغرق الجيش الروسي في حرب المدن في أوكرانيا، وتستنزفه مادياً وبشرياً، في الوقت الذي يقوم الأميركيون بوضع عقوبات شاملة على البنوك الروسية، علماً بأن الرهان على استراتيجية الاستنزاف سبق أن حاول الرئيس الأميركي باراك أوباما تطبيقه في سوريا، بحيث توعّد الروس بحرب استنزاف طويلة الأمد تُغرقهم في المستنقع السوري. وهو، من أجل ذلك، قام بتمويل المعارضة السورية وتزويدها بأسلحة مضادة للدروع.

 

كما حاول أوباما تطبيق استراتيجية الاستنزاف على الجيش السوري وحلفائه من الإيرانيين وحزب الله، فاندفع إلى خلق حالة من التوازن الميداني بين كل من الجيش السوري وحلفائه من جهة، وبين المجموعات الإرهابية من جهة أخرى، بحيث تقوم حرب الكل ضد الكل، فتكون نتيجتها خسارةً للطرفين وربحاً صافياً للأميركيين، وهو ما تجلّى في قيام التحالف الدولي بضرب الجيش السوري في جبل الثردة، بعد تقدُّمه في معارك طاحنة كان يخوضها مع تنظيم "داعش".

 

لكنّ استراتيجية الاستنزاف التي توعَّد بها أوباما لم تنجح، ولم يستطع الأميركيون ردع روسيا عبر تهديدها بالاستنزاف، بل تدخَّل الروس عسكرياً في الجغرافيا السورية، وقلبوا موازين القوى في المنطقة لمصلحتهم. ومن غير المرجَّح أن تُثني تهديدات جو بايدن، اليوم، بوتين عما ينوي القيام به في أوكرانيا، وذلك لأهمية أوكرانيا بالنسبة إلى الأمن القومي الروسي.

 

تُعَدّ أوكرانيا إحدى "دول الحاجز"، التي تفصل جغرافياً بين أوروبا وروسيا. ولطالما كانت هذه الدول – تاريخياً – جزءاً من استراتيجية منع الحرب بين روسيا القيصرية والدول الاستعمارية الأوروبية.

 

تُعتبر "دول الحاجز" مهمة جداً للأمن القومي الروسي، بسبب غياب الموانع الطبيعية التي تحمي روسيا من الغزو. ويطغى على العقل الاستراتيجي الروسي الخوفُ التاريخي من الغزو. واختبر الروس وصول كل من نابليون وهتلر إلى الأراضي الروسية، ومحاولة احتلالها، الأمر الذي كبّد الروس خسائر هائلة في الأرواح، وتدمير المدن، من أجل ردّ الاحتلال.

 

وبسبب قلق الجغرافيا، واستناداً إلى العِبَر التاريخية، يسعى الروس دائماً للخروج من أجل قتال الأعداء استباقياً في "دول الحاجز"، قبل أن يصل العدو إلى الأراضي الروسية، ويصبح القتال أصعب وأكثر تكلفة.

 

تتشكّل "دول الحاجز" عادة في مناطق توجد فيها دول كبرى متنافسة. ويتم تعريفها بأنها دول صغيرة وضعيفة تفصل بين دولتين قويتين تسعى كلٌّ منهما للهيمنة على محيطها. وغالباً، ما تعاني تلك الدول انقساماً داخلياً، سببه الأساسي خياراتُ التعامل مع السياسة الخارجية.

 

وتكون أمام "دول الحاجز" ثلاثةُ خيارات في سياساتها الخارجية:

 

- الخيار الأول: الحياد بين الدولتين المتصارعتين. لكنّ هذا الأمر يشترط أن يعترف الطرفان القويان بهذا الحياد، ويَقْبَلاه.

 

- الخيار الثاني: أن تنحاز "الدولة الحاجز" إلى طرف من دون الآخر، وهذا يجعلها بحماية طرف قوي، الأمر الذي يجنّبها الغزو. لكن الصعوبة تكمن في قبول الطرف المتضرر من هذا الانحياز هذا الوضعَ. لذا، على "الدول الحاجز" قياس مدى تصرفاتها وقراراتها في هذا الخيار الدقيق، وإلاّ تحوّلت إلى الخيار الثالث الكارثي.

 

- الخيار الثالث: أن تتحوّل الدولة الحاجز" إلى ساحة حرب يتقاتل فيها الطرفان المهيمنان على النفوذ في تلك الدولة. وبالتالي، تتكبّد خسائر هائلة، وتتنازعها الأزمات، وقد تصل إلى الحرب الأهلية.

 

المشاكل التي تعانيها أوكرانيا، منذ عام 2014، هي بالتحديد عدم قيامها باحتساب مقوّمات الجيوبوليتيك التي تحيط بها، وتنكّرها لأسس الجغرافيا والديمغرافيا والتاريخ وسواها... إن قيام الثورة الأوكرانية عام 2014، والمدعومة من الغرب، والتي وضعت ضمن أهدافها إيصالَ نُخَب سياسية مؤيِّدة للانضمام إلى حلف "الناتو"، في خطوة تمسّ موازين القوى في منطقة استراتيجية خطرة جداً، حوّل أوكرانيا إلى ساحة حرب بالوكالة، فخسرت أجزاء من أراضيها، وباتت قدرتها على الدخول في حلف "الناتو" مستحيلة.

 

ما يعرضه الروس اليوم، ويرفضه الأوكرانيون وحلف "الناتو"، هو الاتفاق على الخيار الأول: حياد أوكرانيا، علماً بأن الرفض سيحوّل الساحة الأوكرانية إلى ساحة حرب بالوكالة بين "الناتو" وروسيا (الخيار الثالث). ولن تكون حرباً تقليدية بالتأكيد، إذ إن الروس يُتقنون جيداً أسس حروب الجيل الخامس (الحروب الهجينة)، والتي تعتمد على حرب المعلومات واتِّباع سياسة الغموض. وهذه تجعل من الصعب استنزاف الجيش النظامي الروسي في حرب مكلفة، كما يهدّد بايدن.

 

إن قيام الروس بخطوات تؤدّي إلى اقتطاع أقاليم من أوكرانيا، وضمّها إلى روسيا، أو إعلان استقلالها، كما حدث مع جورجيا عام 2008، سيعني هزيمة "الناتو"، وهزيمة بايدن شخصياً. وهو أمر من الصعب على بايدن تخطيه بعد انسحاب أميركا الفوضوي من أفغانستان، وفي سنة مفصلية على أبواب انتخابات نصفية للكونغرس، وفي ظل تدنّي شعبيته إلى أدنى درجة بين الرؤساء الأميركيين. لذا، يبقى الخيار الدبلوماسي هو الحل الأفضل، لكنه سيؤدي – عملياً - إلى إعطاء روسيا ما تريده في أوكرانيا سلمياً.

2022/01/18

الصين وعودة الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط

ترتبط استراتيجية الرئيس جو بايدن في الشرق الأوسط بسلوك الصين في المنطقة، وقدرة الحلفاء على الاضطلاع بالعبء الأمني وأداء دور المُوازن الداخلي، على أن تكون الولايات المتحدة هي المُوازن الخارجي (القيادة من الخلف)، والذي يتدخّل فقط في حال فشل الحلفاء، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور قوة مهيمنة في المنطقة. بناءً عليه، فإن السياسة الأميركية المستقبلية في الشرق الأوسط ترتبط بما سيكون عليه السلوك الصيني في المنطقة، وهناك سيناريوهان:

 

1- السيناريو الأول: تحافظ الصين على استراتيجيتها الحالية في الشرق الأوسط، أي الانخراط اقتصادياً وتنموياً من دون تحدي نفوذ الولايات المتحدة.

 

2- السيناريو الثاني: تندفع الصين إلى أدوار أمنية، وتسعى للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

 

كيف تتصرّف الولايات المتحدة بشأن كل من هذين السيناريوهين؟

 

1- السيناريو الأول: تحافظ الصين على استراتيجيتها الحالية في الشرق الأوسط، أي الانخراط اقتصادياً وتنموياً من دون تحدّي نفوذ الولايات المتحدة.

 

أدى إعلان الصين مبادرة الحزام والطريق في عام 2013 إلى تغيير النهج الصيني تجاه الشرق الأوسط. وصفت الورقة البيضاء الصينية، بعنوان "ورقة سياسة الصين العربية"، الرؤية الصينية للمنطقة على أساس "نمط تعاون 1 + 2 + 3"، بحيث يمثّل الرقم (1) الطاقة كمصلحة أساسية، ويمثّل الرقم (2) البنى التحتية والتجارة والاستثمار، ويمثّل الرقم (3) الطاقة النووية والأقمار الاصطناعية ومصادر الطاقة الجديدة.

 

يبدو واضحاً من قراءة الورقة أن الصين تميل إلى تعزيز الاستقرار في المنطقة من خلال "السلام التنموي"، بدلاً من الفكرة الغربية القائمة على "السلام الديمقراطي"؛ أي التدخل لفرض القيم الليبرالية والديمقراطية.

 

وجاء في ورقة سياسة الصين العربية "التعاون في مجال السلم والأمن"، إشارة إلى التعاون العسكري والتدريبات العسكرية المشتركة، والتعاون في مكافحة الإرهاب، من خلال "إجراءات شاملة لمعالجة أعراض الإرهاب وأسبابه الجذرية...". كما تتناول الورقة التهديدات الأمنية غير التقليدية، بحيث تتعهّد الصين "دعم جهود المجتمع الدولي لمكافحة القرصنة، ومواصلة إرسال السفن الحربية إلى خليج عدن والمياه قبالة الصومال من أجل المحافظة على الأمن البحري الدولي، والتعاون في مجال الأمن السيبراني".

 

في العقد الماضي، عزَّزت الصين، بصورة كبيرة، شراكتها، اقتصادياً وسياسياً وتجارياً، مع عدد من دول المنطقة، وخصوصاً في منطقة الخليج. وتبرز الصين اليوم لاعباً مركزياً من خلال الاستثمارات المباشِرة والشراكات والتجارة والتنمية. ومع ذلك، حتى الآن، لا يبدو أن الصين ستتدخل عسكرياً، أو تسعى لأن تكون لها بصمة أمنية في المنطقة، كما فعلت في القرن الأفريقي.

 

في هذا السيناريو الأول، يمكن للولايات المتحدة أن تحافظ على استراتيجية "المُوازن الخارجي"، أي الانكفاء وتوجيه القوات إلى مناطق أخرى من أجل احتواء الصين وروسيا، مع الأخذ في الاعتبار الدروس المستفادة من استراتيجية أوباما (القيادة من الخلف)، والتي فشلت سابقاً، فيقوم بايدن بتقسيم العمل بين الحلفاء، وبالتالي إعطاء كل دولة ما يمكنها القيام به في المنطقة (راجع سلسلة مقالاتنا في الميادين بشأن الموضوع).

 

2- السيناريو الثاني: تندفع الصين إلى أدوار أمنية، وتسعى للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا:

 

حالياً، لا تهدّد الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية للصين في الشرق الأوسط، بصورة مباشِرة، أيَّ مصالح حيوية للولايات المتحدة. ومع ذلك، قد يعاود الشرق الأوسط الظهور ميداناً للتنافس بين القوى العظمى، مرةً أخرى.

 

بعد فترة وجيزة من إعلان إدارة أوباما استراتيجية "التوجُّه نحو آسيا" عام 2011، أعلنت الصين سياسة "الزحف غرباً"، وشدّدت الأوراق البيضاء الصينية بشأن الدفاع، والصادرة عام 2013، على الحاجة إلى تطوير "الأسطول البحري" من أجل "الدفاع عن البحر القريب، وحماية البحار البعيدة". ويساهم إنشاء الصين قاعدةً عسكرية خارج حدودها، لأول مرة، في جيبوتي، فضلاً عن عسكرة ميناء جوادر الباكستاني، في نمو الوجود العسكري للصين بالقرب من الممرات البحرية المهمة ومضيق هرمز وباب المندب.

 

ومع اتساع انخراط الصين في الشرق الأوسط، اقتصادياً ودبلوماسياً، يبدو أن التعاون الأمني مرشح لمزيد من التطور. ويشير إعلان الصين في آب/أغسطس 2019، بشأن احتمال مشاركتها في تحالف أمني بحري خليجي، إلى بداية التفكير الصيني في مستوى أعمق من المشاركة العسكرية في الشرق الأوسط.

 

على الرَّغم من ذلك، فإنّ منطقة الشرق الأوسط لا تزال هامشية نسبيّاً لأولويات السياسة الخارجية للصين. لكنّ هناك نقاشاً آخذاً في الاتّساع داخل الصين بشأن ما إذا كان عليها الانخراط بصورة أوسع في المنطقة، من أجل حماية المصالح الاقتصادية الصينية.

 

في المقابل، وبعد أن أعربت الولايات المتحدة عن رغبتها في تخفيف انخراطها في الشرق الأوسط، وأن على الحلفاء القيام بحماية أنفسهم، قد يسعى عدد من الدول في الشرق الأوسط إلى تحالفات استراتيجية مع الصين.

 

وهكذا، قد تجد الصين من مصلحتها أن تبدّل استراتيجيتها في الشرق الأوسط، نظراً إلى الأسباب التالية:

 

1- بالنظر إلى النفوذ الأميركي في الخليج، قد تغيّر بكين سياساتها الأمنية في المنطقة، إذا حاولت واشنطن عرقلة تدفُّق النفط إلى الصين.

 

2- إذا تعرّض أمن الطاقة الصيني، أو ممرّات الملاحة الحيوية التي تستخدمها الصين، للتهديد، فقد تُضطر الصين إلى توسيع وجودها البحري العسكري في المحيط الهندي.

 

3- قد تجد الصين أن من المفيد دفعَ الأمور إلى الأمام؛ أي السعي لنقل ساحة المنافسة مع الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، من أجل تجنُّب المنافسة الاستراتيجية في جوارها الإقليمي المباشر.

 

بناءً عليه، فإن توسُّع النفوذ الصيني في الشرق الأوسط سيُعَدُّ تحدياً للهيمنة الأميركية، وقد يدفع الولايات المتحدة إلى العودة إلى المشاركة العسكرية الفعّالة والانخراط بصورة أكبر في المنطقة، فتُعيد جنودها إليها، كما فعلت عام 2014، حين أعاد أوباما الجيش الأميركي إلى العراق، تحت عنوان "التحالف الدولي لقتال داعش"، بعد أن كان سحب الجنود الأميركيين عام 2011. وهذا يعني أن الانكفاء الأميركي في الشرق الأوسط، قد لا يستمر، وقد تتغير السياسات الأميركية وفق تغيُّر الظروف الاستراتيجية في المنطقة.

  

2022/01/17

كيف سينسحب التفاهم النووي على لبنان؟

بعد أن ساد جو من التشاؤم في كانون الأول/ ديسمبر الماضي حول نجاح المفاوضات للعودة الى الاتفاق النووي الموقع عام 2015، برز نوع من التفاؤل الحذر هذا الاسبوع في فيينا، وبدأ الحديث عن مسار إيجابي يسود المفاوضات النووية بين إيران والدول الكبرى.

وكما هو متوقع، فإن الصعوبة في المفاوضات في فيينا مرتبطة بما تريده إيران من ضمانات بأن لا تعود الولايات المتحدة الاميركية الى الانسحاب من الاتفاق، وهذا ما لا تستطيع أن تقدمه الادارة الأميركية، إلا بقرار من الكونغرس بأغلبية أعضاء المجلسين وهو غير متوفر حالياً، ولا يمكن توفره إذ أن النظرة السلبية تجاه ايران تتخطى الانقسام الحزبي في أميركا، بالاضافة الى ما تمّ تخصيبه من اليورانيوم وكيف التخلص منه، وهل تقبل ايران بذلك؟.

وبالرغم من التهديدات المتكررة التي يطلقها مسؤولون من الإدارة الأميركية، والحديث الغربي بأن الوقت ينفذ، فإن الخيارات التي يمتكلها الأميركيون تبدو قليلة، وهي كما يتم التهديد بها على الشكل التالي:

-        الخيار العسكري: وهو غير متاح بتاتاً باعتبار أنه باهظ الكلفة وغير مضمون النتائج وسيؤدي الى تهديد أمن القوات الأميركية المنتشرة ويمكن أن يؤدي الى إغلاق مضيق هرمز ما يشعل أسواق النفط العالمية، ويؤدي الى كوارث اقتصادية في الولايات المتحدة وأوروبا.

-        استصدار قرار جديد من مجلس الأمن بفرض عقوبات أممية على إيران  وهو غير ممكن في ظل رفض روسي وصيني واضحين.

وفي هذا السياق، حمّل وزير الخارجية الصيني وانغ يي إن واشنطن المسؤولية الأساسية عن الصعوبات المستمرة مع طهران بعد انسحابها من جانب واحد من الاتفاق النووي في 2018. وأكد أن الصين تدعم بقوة استئناف المفاوضات بشأن الاتفاق النووي، لكنه أوضح أن بلاده تعارض بشدة العقوبات أحادية الجانب غير القانونية ضد إيران والتلاعب السياسي من خلال مواضيع تشمل حقوق الإنسان والتدخل في الشؤون الداخلية لإيران والدول الأخرى بالمنطقة.

وهكذا، لا خيار أمام الغرب إلا الاستمرار بالمفاوضات للوصول الى حل نهائي لأمر يعتبرونه بالغ لخطورة، وهو قيام إيران بزيادة معدلات تخصيب اليورانيوم، وحيث يتخوف الغربيون من أن إيران ستتمكن من صنع قنبلة نووية في وقت قصير نسبياً.

كيف سينسحب التفاهم النووي على لبنان؟

السيناريو الأول: أن ينسحب التفاهم النووي ايجابياً بسرعة وتلقائياً على الداخل اللبناني، ويمكن أن نشهد جملة تسويات تريح الوضع الاقتصادي، ويتم تخفيف الاحتقان الداخلي، وذلك لأن الأزمة اللبنانية تكون قد ادّت الغرض منها، أي عض الاصابع والضغط على اللبنانيين كوسائل ضغط بين الاطراف المتقابلة. ويمكن، في هذا السيناريو، ان يتم تأجيل الانتخابات النيابية لانتفاء الحاجة لها في معادلات القوة في المنطقة.

السيناريو الثاني: ان يعمد المتضررون من الاتفاق النووي من الدول الاقليمية الى محاولة التعويض في لبنان عبر محاولة تغيير موازين القوى الحالية.وبما أن كل الوسائل السابقة من مظاهرات ومحاولة تأجيج الفتنة لم تنفع، يمكن أن يستمر الاستثمار في حملة التجويع، فتستمر التوترات وتزداد الضغوط الاقتصادية المترافقة مع حملات إعلامية للوصول الى الانتخابات النيابية على وقع عوز اللبنانيين أما لشراء ضمائرهم أو لتحميل التيار الوطني الحر وح ز ب الله وحدهما المسؤولية عما آلت إليه احوال اللبنانيين.

واقعياً، إن الآمال بتغيير شامل عبر صناديق الاقتراع لا يبدو واقعياً لغاية اليوم، أما تغيير الغالبية النيابية فهو أمر ممكن ولكنه يبقى ربحاً معنوياً أكثر مما هو ربح فعلي لأي طرف داخلي أو اقليمي. وحتى لو قامت السعودية بتقديم دعم مالي للقوات فإن التعويل على القدرة على الاطاحة بح ز ب الله عبر الانتخابات يبدو اليوم ضرباً من الخيال. 

2022/01/10

خطأ بايدن الاستراتيجي في كازاخستان

اندلعت الاحتجاجات في كازاخستان، بسبب ارتفاع أسعار المحروقات، وبعد أن شهدت البلاد تضخماً كبيراً نتيجة ظروف جائحة كورونا، تحوّلت الاحتجاجات إلى شغب ومحاولة اقتحام المباني الحكومية والمطار، وإحراق سيارات الشرطة. ونقل بعض وسائل الإعلام المحسوبة على موسكو فيديوهات توثّق تلقّي المتظاهرين أسلحة من سيارات مشبوهة. وبسرعة غير متوقّعة، لبّت دول "معاهدة الأمن الجماعي" طلب الرئيس الكازاخستاني إرسال قوات لحفظ السلام والاستقرار في بلاده، لمساعدة حكومته على التخلص من "الإرهابيين"، بحسب توصيفه.

 

وهكذا، يشير بعض التقارير الواردة من كازاخستان إلى أن "ثورة ملوّنة" قد تمّ إعدادها في ذلك البلد الآسيوي، كما أعلن الصينيون. ومن الطبيعي أن يشار إلى الولايات المتحدة باعتبارها الأكثر استفادة من السيطرة على كازاخستان وقلب نظام الحكم فيها، بحيث تحقق أهدافاً استراتيجية عديدة، ليس أقلّها تهديد الأمن القومي الروسي، وعرقلة طريق الحرير الصيني الذي تعدّ كازاخستان جزءاً لا يتجزأ منه، لتجاورها الجغرافي مع كلٍ من الصين وروسيا.

 

ولكن، إذا كانت الاحتجاجات في كازاخستان هي "ثورة ملوّنة" أميركية، فهل هي الوسيلة الفضلى لتحقيق الأهداف الأميركية بقطع الطريق على التعاون الصيني الروسي؟

 

 خلال عهد أوباما:

استفادت الصين من قيام روسيا بإشغال الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأوروبا، لتنفيذ طريق الحرير الجديد، الذي كان يشق أولى خطواته مع بداية "الربيع العربي".

 

وتحصيناً للموقف الروسي بعد العقوبات الأميركية عام 2014، قامت الصين بعقد اتفاقيات استثمارية هائلة بقيمة مئات مليارات الدولارات في الاقتصاد الروسي. وتعمّق التعاون الروسي الصيني خلال تلك الفترة، بعدما اعتبر الطرفان أنهما مهدّدان في أمنَيهما القوميّين، وأن لهما مصلحة مشتركة في "محاربة الإرهاب" في الشرق الاوسط.

 

خلال فترة دونالد ترامب:

سعى دونالد ترامب خلال فترة حكمه إلى تطبيق استراتيجية مختلفة. فهو لم يكن معنياً بالحروب والتدخلات العسكرية ولا بتغيير الأنظمة، بل استخدم الحروب التجارية والاقتصادية في العالم لتعويم الاقتصاد الأميركي.

 

لمواجهة التهديدات الاستراتيجية، حاول ترامب اللجوء إلى استراتيجية "تفكيك الأحلاف"، ولا سيّما تلك التي تشكّلت بفعل الأزمة السورية وهي:

 

1- الحلف الروسي - الصيني

 

حاول ترامب أن يستخدم التقارب مع الروس للضغط على الصين. وكما استفادت الصين - في وقت سابق - من قيام الروس بإشغال الأميركيين في الشرق الأوسط، لتأخيرهم عن تنفيذ استراتيجية "التوجه نحو آسيا"، كان ترامب يهدف إلى الاستفادة من التقارب مع الروس وتوفير الجهد العسكري المبذول في كل من العراق وسوريا، وتحويله إلى بحر الصين الجنوبي، للقيام باحتواء الصين عسكرياً، للضغط عليها في مجالات أخرى، كالاقتصاد والتجارة وغيرهما.

 

2- الحلف الروسي - الإيراني

 

لطالما اعتقد ترامب أن التعاون وعلاقته الشخصية الجيدة مع بوتين، قد يسمحان له بمقايضة رابحة: إطلاق يد روسيا في سوريا، وإعطاء بوتين ما يريد من نفوذ في أوروبا الشرقية، يجعلان روسيا تعيد النظر في تحالفها الاستراتيجي مع إيران. إذا استطاع الروس تحقيق مصالحهم في سوريا من خلال الاتفاق مع الولايات المتحدة مباشرة، فلماذا تُبقي على حلفها مع إيران، خصوصاً أن للدولتين مصالح اقتصادية متباينة يمكن أن تظهر تباعاً بعد حلّ الأزمة في سوريا؟

 

لم يستطع ترامب الدفع باستراتيجية التقارب مع الروس وتطبيق استراتيجية "تفكيك الأحلاف" بسبب الضغوط الداخلية التي واجهها، والتي حاصرته في الداخل وفريقه بتهمة "التعامل" مع الروس، والتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، وانتهى عهده من دون القدرة على اختراق أي من الاحلاف التي كان ينوي تفكيكها.

 

سياسة بايدن اليوم:

 إذا كانت إدارة بايدن، بالفعل، قد تورّطت في تأجيج "ثورة ملوّنة" في كازاخستان، يكون بايدن قد ارتكب أخطاءً استراتيجية عديدة، أهمها:

 

1تراجع النفوذ الأميركي في كازاخستان

 

تاريخياً، أعطت استراتيجية نور سلطان نزارباييف السابقة، المتعددة الأوجه، للولايات المتحدة فرصة حقيقية للنفوذ في كازاخستان، حيث تتمتع الولايات المتحدة بحضور واسع النطاق في الاقتصاد، ولا سيّما في صناعة النفط، وتقدم المساعدات العسكرية لكازاخستان التي قامت بدور كبير مساعد في استقرار أفغانستان.

 

 وفي العام 2019، وصف جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية الأميركية، العلاقات مع كازاخستان بأنها "الأكثر نضجاً والأكثر تقدماً في آسيا الوسطى". وحذّر فوتيل من أن على الولايات المتحدة أن تحترم ظروف كازاخستان التي يجب عليها أن توازن بعناية التعاون مع الولايات المتحدة، لتجنّب استفزاز موسكو وشعورها بالتهديد، معتبراً أن كازاخستان تستخدم المساعدة الأمنية الأميركية لموازنة النفوذين الروسي والصيني[1].

 

وهكذا، يكون الاندفاع الأميركي إلى "ثورة ملونّة" قد أدّى إلى قيام موسكو بنشر جنودها في كازاخستان، وعمّق الصداقة بين الحكم في البلدين، ما سيؤدي، واقعياً، إلى الإضرار بالنفوذ الأميركي في ذلك البلد.

 

2تعميق التعاون الاستراتيجي الروسي الصيني

 

في حديث علني في الـ 18 من تشرين الثاني/نوفمبر من العام المنصرم، وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العلاقات الثنائية بين روسيا والصين بأنها "وصلت إلى أعلى مستوى في التاريخ، وهي ذات طبيعة شراكة استراتيجية شاملة. ويمكن القول إنَّها تعتبر نموذجاً للتعاون الفعّال بين الدول في القرن الـ21. بالطبع، لا يحلو ذلك للجميع، ويحاول بعض الشركاء الغربيين علانيةً دقّ إسفين بين موسكو وبكين".

 

لقد كشفت الأزمة في كازاخستان أن التعاون الروسي الصيني يمكن أن يصل إلى توزيع أدوار أمنية واستراتيجية في المناطق الحيوية، وخاصة في آسيا الوسطى. بسبب عدم رغبة الصين في الانخراط العسكري المباشر خارج حدودها، ولتركيزها في سياستها الخارجية على عاملي الاستثمار والتنمية، يمكن أن تضطلع موسكو بمهمة التدخلات العسكرية في تلك المناطق.

 

إن اضطلاع موسكو بهذه المهمة سهل، وذلك لارتباط دول آسيا الوسطى باتفاقيات عسكرية واقتصادية وتجارية مع روسيا، لكونها كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق، ولوجود جاليات روسية كبيرة في تلك الدول، ما يجعل التدخل الروسي دفاعاً عنها جزءاً من الدفاع عن النفس، وبسبب النفوذ السياسي التاريخي لموسكو في تلك الدول، ما يجعلها قادرة على التحكم في الكثير من تفاصيل السياسة الداخلية فيها.

 

إن الخطأ الكبير الذي ترتكبه إدارة بايدن، هو تحويل التعاون بين موسكو وبكين إلى تحالف استراتيجي وثيق، يصل إلى حدّ تقسيم الأدوار الأمنية بين موسكو وبكين في المناطق الاستراتيجية، ما يعرقل قدرة الولايات المتحدة على التغلغل في آسيا، وعلى عرقلة طريق الحرير الصيني.

  

2022/01/09

دعوة للحوار في غير موعدها

دعا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الكتل السياسية الى طاولة حوار وطني تهدف الى التباحث حول السبل الآيلة الى تخفيف وطأة الجوع والأزمة السياسة والاقتصادية المتفاقمة على اللبنانيين، إلا أن دعوته اصطدمت بالرفض والمكابرة من معظم الفرقاء السياسيين، ما سيجعله يستعيض عنها بلقاءات مصغّرة ومنفردة مع الكتل النيابية والأحزاب السياسية، لاستمزاج الآراء حول كيفية الخروج من الأزمات التي يعيشها اللبنانيون.

واقعياً، لا يجب أن تفاجئ اللبنانيين مسألة رفض الحوار من الأطراف السياسية التي أبلغت رفضها له، وذلك للاسباب التالية:

أولاً: إن معظم هؤلاء هم من قادة ميلشيات الحرب الأهلية، ما يعني أن خيار الحوار والنقاش للوصول الى حلول لمسائل وطنية ليس في قاموسهم. إن الحل الأول والأفض ل بالنسبة لهؤلاء هو اللجوء الى الشارع لقطع الطرق، والقتل وترهيب الآمنين والقنص كوسائل لتحقيق أهداف ومكاسب سياسية. أما الحريري الابن الذي لم يكن جزءًا من الحرب الاهلية، فإنه لم يتوانَ عن استخدام الشارع ايضاً واللجوء الى تأليب الخطاب المذهبي لتحقيق مكاسب سياسية. بالاضافة الى حالة عدم اليقين السياسية التي يعيشها الحريري منذ استقالته على أثر انتفاضة 17 تشرين الأول، والتي تبيّن لاحقاً ضلوعه فيها للانقلاب على شركائه في السلطة، فخسر السلطة ويكاد يخسر مستقبله السياسي أيضاً.

ثانياً: وعطفاً على السبب الأول، إن التاريخ يذكر أنه لم يحصل ان لبى هؤلاء الدعوة الى حوار إلا بعدما أجبرهم الخارج على ذلك، وذلك بعد أن استنفدوا كل الخيارات الأخرى بدون جدوى، وبعد أن استنزفوا اللبنانيين وقتلوا وشردوا وارتكبوا الفظائع بالمواطنين اللبنانيين، وبدون أن يستطيع أحد منهم أن ينهي الحرب لمصلحته.

ثالثاً: إن التوقيت الذي تطرح فيه مسألة الحوار هو توقيت مهم وضروري وحاسم بالنسبة للبنانيين الذين لا يكاد يجدون قوت يومهم، أما بالنسبة للرافضين فمآسي اللبنانيين غير ذات أهمية. يتحضّر رافضو الحوار هؤلاء أنفسهم لحرب داحس والغبراء الانتخابية، وبالتالي إن تخفيف التشنج عبر الحوار لا يستوي مع التحريض الاعلامي والمذهبي والطائفي الذي يقومون به والذي سيزداد كلما اقتربت الانتحابات النيابية.

رابعاً: إن ارتباط هؤلاء بأجندات خارجية، يجعل من الحوار غير ذي جدوى. إن المرحلة الحالية في المنطقة هي مرحلة "تقطيع وقت" بانتظار نتائج مباحثات فيينا بين الأميركيين والايرانيين، وليس الوقت مناسباً لأي انفراجة لبنانية عبر الحوار:

-        يقوم الأميركيون بتمرير الوقت ولا يبدون أي استعداد لتحقيق انفراجات على الساحة اللبنانية كونها جزء من أدوات الضغط على الايرانيين في المفاوضات. بينما يمرر الايرانيون الوقت غير مستعدين لتقديم أي تنازلات قد تحتسب في إطار الضعف والتراجع على أبواب مفاوضات مفصلية في فيينا.

-        يحاول الاسرائيليون تمرير الوقت عسى أن تطرأ أحداث ما تعرقل مفاوضات فيينا، فتجعل الأميركيين ينسحبون من المفاوضات مع إيران ويعمدون الى فرض عقوبات أقسى عليها.

-        بينما يحاول السعودي تمرير الوقت، عسى أن يحصل ما يكرّس له انتصاراً - ولو شكلياً - في اليمن. علماً أن السعودي في الوقت الراهن يحاول أن يحني رأسه للعاصفة، أملاً في عودة ترامب الى الحكم في الولايات المتحدة، وبالتالي عودة الحرارة الى علاقته بالأميركيين، وقدرته على إعادة تعويم نفسه إقليمياً.

لكل هذه الأسباب، كانت دعوة الحوار في غير موعدها بالنسبة لطبقة سياسية أفقرت اللبنانيين وساهمت في تجويعهم، وهي تريد اليوم أن تستثمر في يأسهم وحنقهم ومأساتهم لتقودهم الى صناديق الاقتراع لإعادة التجديد لها.