2021/02/28

هل تقاضي واشنطن بن سلمان على قتل خاشقجي؟

 

حبس العالم أنفاسه بانتظار الكشف عن نتائج تقرير المخابرات الأميركية حول مقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي، والذي كشف اعتقاد المخابرات "أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وافق على عملية في اسطنبول بتركيا للقبض على الصحفي جمال خاشقجي أو قتله".

وبالرغم من الاجراءات التي أعلنتها الإدارة الأميركية عن فرض عقوبات وحظر تأشيرات تستهدف سعوديين متورطين في قتل  خاشقجي، لكنها لم تفرض أي عقوبات - من أي نوع كانت- على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

وبالرغم من الإدانات المتتالية التي صدرت في أنحاء العالم، وخاصة من محققة الأمم المتحدة في مقتل خاشقجي، أغنيس كالامار، والتي دعت الولايات المتحدة بأن "لا تمنح الحصانة لولي العهد السعودي، ولأخذ زمام المبادرة لضمان تحقيق العدالة"، إلا أن تحقيق العدالة الذي تطلبه كالامار من الولايات المتحدة من الصعب أن يتحقق للأسباب التالية:

1- في اللجوء الى القضاء الجنائي الدولي:

بالمبدأ، يختص القضاء الجنائي الدولي (باستثناء المحكمة الخاصة بلبنان التي تنظر في قضية إرهابية)  بالتحقيق بجرائم الحرب، وجرائم ضد الانسانية، وجرائم الحرب، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان كالتطهير العرقي وسواها.

وبغض النظر، عن التوصيف القانوني لقضية مقتل الخاشقجي (وهناك اجتهادات عدّة في الموضوع)، إلا أن الشروط الموضوعية لإحالة جريمة الخاشقجي الى المحكمة الجنائية الدولية الدائمة في لاهاي غير متوفرة، إذ أن السعودية ليست دولة عضو، ولم تحصل الجريمة على أرض دولة عضو، ومن الصعب صدور قرار من مجلس الامن بموجب الفصل السابع بتحويل القضية الى المحكمة الجنائية الدولية بسبب الفيتو والمصالح التي تربط الاعضاء الدائمين - جميعهم- مع المملكة العربية السعودية.

أما تأسيس محكمة دولية خاصة فيحتاج الى قرار من مجلس الأمن وهو غير متوافر. ويبقى الخيار الأخير المتوافر وهو تأسيس محكمة مختلطة، وهذا مستحيل لأنه يحتاج الى قرار سيادي سعودي بتشكيلها والى توقيع سعودي على اتفاقية مشتركة مع الامم المتحدة بهذا الخصوص.

2- المقاضاة عبر الولاية القضائية العالمية

 وهي آلية تمنح بموجبها بعض الدول محاكمها صلاحية معاقبة من يرتكب جريمة في الخارج ضد أحد مواطنيها، وهو ما يسمى بالاختصاص القائم على أساس "الجنسية السلبية" أو "الشخصية السلبية"؛ وعادة ما يشترط في هذه الحالة أن يكون الفعل المرتكب من الأفعال التي تعتبر من الجرائم في البلد الذي تقع فيه أيضًا، وألا يكون مرتكبه قد عُوقب عليه.

هنا، يمكن لخطيبة خاشقجي أو أحد أفراد عائلته أن يرفع قضية ضد محمد بن سلمان بصفته محرضاً على القتل، أمام قضاء إحدى الدول التي يسمح قضاؤها بذلك، على شرط أن يحمل الشخص المتضرر جنسية تلك الدولة.

لكن الموضوع هذا، وإن كان ممكناً من الناحية القانونية، إلا أنه يرتبط الى حدٍ بعيد بالإرادة السياسية للدولة التي ترفع الدعوى، أو التي يُطلب منها تسليم الشخص المتهم. علماً أن الحكم الصادر من محكمة العدل الدولية في قضية (الكونغو ضد بلجيكا)  في 14 شباط 2002  أكد على "ضرورة الإعتداد بحصانات المسؤولين السياسيين في مواجهة الدول الأجنبية ولو بمناسبة الجرائم الدولية المنسوبة إليهم؛ ما دامت دولة جنسية الجاني لم تتنازل عن الحصانة التى كفلتها له وما دامت صفته الرسمية لم تزل بعد". وهذا يعني أن أي قضية من هذا النوع، لن تتقدم في أي مجال طالما ولي العهد السعودي يتمتع بحصانة دولته. 

 

هذا من الناحية القانونية، أما من الناحية السياسية وبما يختص بالولايات المتحدة الأميركية، فإن عدم قيام إدارة بايدن بفرض عقوبات على ولي العهد السعودي يعيدنا بالذكرى الى موقف إدارة نيكسون من إعلان السعودية وأوبك الحظر النفطي ووقف إمدادات النفط الى الولايات المتحدة وأوروبا "لدفع الدول الغربية لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في حرب 1967".

 

خلال اجتماع سرّي حصل في 29 تشرين الثاني عام 1973، أي بعد أسابيع من إعلان الحظر النفطي، هدد مستشار الأمن القومي الأميركي هنري كيسنجر بـ"إنزال القوات الأميركية في السعودية لتقسم حقول النفط في المنطقة"، معتبراً أنه لا يجب الرضوخ لـ "الابتزاز" السعودي، ومعلقاً بغضب "إنه لأمر مثير للسخرية أن يعاني العالم المتحضر بسبب 8 ملايين متوحش". (راجع وثائق العلاقات الخارجية للولايات المتحدة، المجلد السادس والثلاثون، أزمة الطاقة، 1969- 1974، محضر الاجتماع)

لكن، بعد ثلاثة أشهر من ذلك الاجتماع، وحتى قبل رفع الحظر النفطي، كان كيسنجر داخل قصر الملك فيصل، يعد بتقديم مساعدات اقتصادية وتقنية وعسكرية أميركية للسعودية، ويعلن "هدفنا هو العمل مع جلالة الملك لتقوية صداقتنا على المدى الطويل".

وعليه، يمكن القول ان الدعوات للعدالة التي تجد صداها في الغرب، والمؤمنين أن العلاقات الأميركية -السعودية في عهد بايدن سوف تشهد تشجناً أو أسوأ من ذلك بسبب تورط بن سلمان في قتل الخاشقجي، سوف يخيب ظنهم. إن الأموال ومبيعات الاسلحة والاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة، بالأضافة الى الموقع الجغرافي ومحورية الدور السعودي في الخليج، يجعل من السعودية شريك أساسي للأميركيين في استراتيجيتهم في الشرق الأوسط، بغض النظر عن شخصية الحاكم فيها، وستكون مناداة بايدن وإدارته بتحقيق "القيم الأميركية" مجرد ورقة ضغط لأخذ المزيد من المكاسب من السعوديين.

2021/02/22

الرهانات على الخارج ستسقط في لبنان


 

ليلى نقولا

 

تستمر المراوحة الحكومية في لبنان، ويتبادل أطراف النزاع الاتهامات، ويُلاحظ تشكّل نوع من جبهة واسعة من المنظومة السياسية القديمة أي منظومة اتفاق الطائف نفسها تحاول أن تضغط على الرئيس عون للتنازل، فتطالبه بالاستقالة، والبعض منهم يطالب بالتدويل وبتحويل القضية الى الأمم المتحدة ، وكأن لا يكفي لبنان ما يعيشه من تدخلات خارجية في شؤونه ومن عقد مفتعلة وشروط يضعها الخارج لتشكيل الحكومة.

 

واليوم، يبدو أن الطاقم السياسي نفسه الذي تآمر على ظاهرة ميشال عون لتمرير اتفاق الطائف (زعماء الميليشيات القديمة)، وبغطاء من سيد بكركي (الراعي اليوم، صفير بالأمس) يحاول تكرار تجربة الاستقواء بالخارج، والتي شهدناه في 13 تشرين الأول 1990.

 

واللافت ان هؤلاء الذين يعتقدون أن إعادة عقارب الساعة الى الوراء ممكن، لا يدركون أن الظروف الداخلية والاقليمية والدولية مختلفة بشكل كبير عن ظروف عام 1990، حين انهار الاتحاد السوفياتي وتفرّد الأميركيون بحكم العالم، وعقدوا اتفاقاً مع الرئيس السوري حافظ الأسد، أطلقوا بموجبها يده في لبنان مقابل الدخول معهم في حلف دولي لتحرير الكويت.

 

هذا من ناحية المقارنة مع حقبة التسعين من القرن الماضي، أما بالنسبة للقراءة الموضوعية للتطورات الداخلية والخارجية الاقليمية والدولية، فيمكن أن نشير الى ما يلي:

 

1- بخسارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانتخابات، خسر المحور السعودي في المنطقة صديقاً وحليفاً وداعماً. واليوم، تتغير المقاربة الأميركية في المنطقة بشكل جذري مع وصول الرئيس بايدن، الذي سيتخلى عن سياسة الضغوط القصوى لصالح الدبلوماسية والعودة الى الاتفاق النووي مع إيران، وإدارة الأزمات في المنطقة بدل إشعالها.

 

وهكذا، عاجلاً أم آجلاً، سيضطر المحور السعودي الى تسهيل تشكيل الحكومة في لبنان.

 

2- خلال عهد ترامب، راهن بعض اللبنانيين على الاستقواء بالخارج وعلى انتصارات كبرى في المنطقة تتيح لهم التحكم بمفاصل السياسة اللبنانية وإقصاء الآخرين وإلغاءهم، ونذكر على سبيل المثال الشواهد التالية:

 

-  الرهان على عاصفة الحزم التي اعتقد البعض انها ستمتد من اليمن الى لبنان وتطيح بالخصوم بلا هوادة، ومن منا ينسى كيف خرج بعض المعلقين والسياسين (تشرين الثاني 2017 ) يهددون بعاصفة حزم على لبنان!.

 

- التهديد بنقل المعركة الى داخل إيران (ولي العهد السعودي، حزيران 2017)، والتسبب بعدم استقرار داخلي نتيجة الضغوط القصوى والعقوبات والتجويع، والرهان على قيام الشعب الايراني بالثورة والتخلص من نظامه!.

 

- الرهان على هجوم أميركي اسرائيلي على إيران يقضي على النظام الايراني برمته، وعندها يتم التخلص من حزب الله في لبنان!.

 

- الرهان بأن العقوبات على الشعب السوري وتجويعه نتيجة "قانون قيصر"، ستعطي بالسياسة نتائج لم يستطع الميدان أن يحققها، وبالتالي سيسقط الاسد في سوريا، وسيضعف معه حزب الله وحلفاؤه في لبنان!.

 

- الرهان بأن ثورة 17 تشرين الأول 2019، ستحقق انقلاباً  كبيراً في لبنان وستدفع الى تغيير سياسي يعطّل كل نتائج الانتخابات النيابية التي حصلت عام 2018، والتي أعطت الغالبية للتيار الوطني الحر وحزب الله وحلفائه.

 

نذكر نموذجاً عن الرهانات اللبنانية لملاقاة أجواء إقليمية ودولية، جميعها باءت بالفشل وخاب أصحابها. وبما أن التاريخ هو المعلم الأكبر، نستطيع أن نؤكد اليوم، أن أصحاب هذه الرهانات نفسها سيخيبون، وسيعودون الى التسوية الداخلية لكن بعد أن يكونوا قد هدروا الوقت وأضاعوا على اللبنانيين فرص الاستقرار الداخلي برهاناتهم.

  

2021/02/20

كيف نستفيد من التجربة الاميركية في منع "الانقلاب"؟


 

كشفت السنوات المنصرمة في العقد الماضي، خاصة منذ الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، أن المجتمعات في العالم أجمع هشّة، وأن النظام الرأسمالي يحمل بالفعل بذور انهياره من الداخل، كما تنبأ كارل ماكس يوماً.

 

لكن جائحة كورونا وارتفاع اليمين الذي سبقها، والذي شهدته أوروبا وأميركا منذ عام 2016، أثبت أن المجتمعات الغربية والطبقات السياسيةفيها لا تختلف كثيراً عن أولئك الذين يحكمون دول العالم الثالث، ولذلك مؤشرات عديدة:

 

- استثمار أي أزمة للتصويب على الخصوم، ولعل الاتهامات المتبادلة خلال فترة جائحة كورونا أثبتت بما لا يقبل الشكّ أن استراتيجية الشعبويين في كل العالم، بدون استثناء، هي الاستفادة من أي مشكلة أو كارثة طبيعية أو وباء لاستثمارها ضد السلطة السياسية واتهامها بالتقصير.

 

- يلاحظ المراقب للحملات السياسية والاعلامية في أوروبا وأميركا، انحدار مستوى التخاطب السياسي واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لشيطنة الخصوم، واستخدام الجيوش الالكترونية لسحق المعارضين، واختراع المعارك اليومية التي تبقي على التشنج السياسي مستمراً بدون توقف.

 

وكما في الغرب، كذلك في جميع دول العالم، تنتشر مجموعات سياسية وإعلامية تصنّف نفسها بأنها صاحبة الرأي الصحيح سياسياً politically correct، وتنصّب نفسها الحَكَم وصاحبة الكلمة الفصل، في ما يمكن قوله ولائق سياسياً وما لا يمكن قوله.

 

وبالرغم من أن هناك العديد من الحملات العالمية الأخلاقية الجيدة لمكافحة العنصرية، إلا أن ذهاب العديد من السياسيين و"قادة الرأي" لوسم كل رأي مخالف لهم بالعنصري، ومحاولات هؤلاء الراديكالية لإسكات أي صوت معارض أو مخالف للرأي السائد أو "الصحيح سياسياً"، حوّل هذا النمط من الحملات الى ما يشبه الأساليب "الفاشية" الحقيقية.

 

- بالرغم من أن استخدام الجيش في مواجهة الأزمات الداخلية والمحافظة على السلم والاستقرار، هو من سمات دول العالم الثالث، حيث تتمتع الجيوش بنفوذ متعاظم وميزانيات كبرى وتدريب خاص يجعلها قادرة على إدارة الأزمات بطريقة أفضل من المؤسسات المدنية، إلا أن اللافت كان استخدام الجيوش للمساعدة في مواجهة وباء كورونا في دول العالم الصناعية المتقدمة كالاتحاد الاوروبي، وفي الولايات المتحدة بعد مجيء بايدن.

 

- خلال سنة 2020، وخلال فترة السباق الانتخابي بين دونالد ترامب وجو بايدن، انكشف للعلن الكثير من الهشاشة والتمييز العنصري والهوة الطبقية بين الأميركيين. وكانت محاولة ترامب الاخيرة لقلب نتائج الانتخابات، عبر تشجيع أنصاره على "غزو" الكونغرس، مؤشراً واضحاً على أن الطبقات السياسية تتشابه في العالم أجمع ، فحين تجد أنها قادرة على تخطي القانون والنظام وأن لا سلطة تحدّها فإنها لن تتوانى عن أن تتعسف في إستخدام السلطة.

 

وهنا يأتي الفارق الحقيقي بين دول العالم، سلطة القانون!.

 

لا شكّ إن ما نفتقده في بلداننا هو سلطة القانون، وهو ما يجعلنا نغرق بالتخلف والفساد ونهب المال العام ويقضي على أي أملٍ بالإصلاح.

 

ما أنقذ الولايات المتحدة الأميركية من محاولات ترامب الانقلابية هو بالضبط سلطة القانون التي بقيت أعلى من كل شيء؛ فالمحاكم المختلفة على مستوى الولايات ردّت طعون ترامب الانتخابية. وسلطة القانون في الولايات المتحدة هي التي منعت سيادة منطق الزبائنية التي حاول ترامب أن يدخلها الى النظام الاميركي (أنا أعينّك لذلك عليك الولاء لي شخصياً). حتى قضاة المحكمة الاتحادية الذين عيّنهم ترامب ومنهم خلال السنة الأخيرة لعهده (في مخالفة واضحة لكل الأعراف القائمة)، بقي الدستور والقانون بالنسبة لهم هو الأساس، لانهم يعرفون أن إسقاط القانون في الولايات المتحدة يعني نهايتها ونهايتهم الشخصية.

 

من هنا يمكن القول، إن معيار تقدم الدول مرتبط باحترام القانون وقوة القانون فيها. الغنى والفقر الذي تتمتع به الدول لا يعني شيئاً في مقياس التصنيف بين دول متقدمة ودول متخلفة، ولنا في الدول التي تمتلك الكمّ الهائل من الموارد، والتي تعاني من التخلف والفساد والفقر أكبر دليل على ذلك.

 

أن التخلف والتبعية التي تعاني منها دول العالم الثالث، ومنها الدول العربية، سببها بالدرجة الاولى غياب سلطة القانون، التي جعلت من المسؤول أعلى من المحاسبة والمساءلة، وأدخلت القهر في نفس المواطن الذي يشعر بأن مخالفته للقانون هي بمثابة "رد اعتبار" على حقوقه المنتهكة يومياً، وهي التي جعلت الزبائنية وتبادل المصالح بين المرشح السياسي والزبون (الناخب) هي الصيغة الحاكمة لحكم الدولة وتسيير شؤونها.

 

لهذا، إن الوصفة الأولى واللبنة الأساسية لمحاولة التغيير الجدي في الدول العربية ليس في إضاعة الوقت في تغيير هياكل السلطة السياسية التي تتشابه بين السلطة والمعارضة الى حد كبير. إن الاستفادة من تجربة الولايات المتحدة في منع الانقلاب الذي قاده ترامب، ومنع التحوّل الى حكم فاشي يقوده شخص واحد بشكل مخالف للقانون، هو في تمكين القضاء والدفع نحو استقلاليته التامة، وتأسيس لمؤسسات فاعلة حيث يسمو القانون على ما عداه. بدون ذلك، سنبقى في دوامة تغيير وجوه وأشخاص بدون تغيير فعلي حقيقي.

  

2021/02/15

الحريري وحلم عودة الترويكا


 

يستمر رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري بالمماطلة والتسويف ووضع الشروط التعجيزية لتشكيل الحكومة، وهو أمر كان معروف ومتوقع له منذ تكليف الحريري، وهو ما حذّر منه الرئيس عون خلال فترة الاستشارات النيابية التي أوصلت الحريري الى أن يكون رئيساً مكلفاً بتشكيل الحكومة، حين وضع النواب أمام مسؤولياتهم ونبههم الى الحريري قد لا يريد ولا يستطيع تشكيل حكومة.

 

وهنا، يمكن القول ان هناك تحالفاً سياسياً عتيقاً ما زال يمنّي النفس بالعودة الى الترويكا واستعادة حقبة التسعينات من القرن الماضي، فقاموا بالإطاحة بحسان دياب ودفعوا حكومته دفعاً الى الاستقالة بدون التأكد من القدرة على إيجاد بديل في فترة مقبولة، كما استبسلوا للذهاب الى تكليف الحريري بدون مشاورات سابقة لتسهيل عملية التأليف كان خطأ إضافياً يضاف الى الاخطاء المتراكمة التي ارتكبت منذ 17 تشرين الاول 2019 ولغاية اليوم.

 

واليوم، يدخل لبنان مرة جديدة مرحلة من الاستعصاء الحكومي، وذلك لعدّة أسباب أهمها:

 

- إعتقاد سعد الحريري ومعه بعض القوى السياسية اللبنانية أنهم يستطيعون الضغط  للعودة الى حقبة التسعينات واستعادة مشهد رفيق الحريري مع الياس الهراوي. إن استغلال الأزمة الاقتصادية لابتزاز رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون لن ينجح، فلن يقدم رئيس الجمهورية على التنازل لا عن التدقيق الجنائي ولا عن الاشتراط على تضمين خطة إصلاحية في برنامج عمل الحكومة ولا بتكرار مشهد يعرفه اللبنانيون جيداً حين خرج السنيورة من عند المحقق متهماً بتبديد المال العام، ليصبح وزيراً (عيّنه الحريري الأب) مؤتمناً على المال العام، في خطوة تشبه ائتمان الديب على الغنم.

 

- إن قول البعض أن رئيس الجمهورية هو الحَكم وبالتالي يكون جميع الوزراء له،  وان الوزراء الاختصاصيين الذي يريد الحريري أن يعيّنهم لا ميول سياسية لهم، هو قول طوباوي يحاول ذرّ الرماد في العيون، فتجربة اميل لحود ما زالت ماثلة للعيان، وخاصة تجربته مع شارل رزق وطارق متري، ولن يؤخذ الرئيس عون بهذا الكلام المعسول الذي لا يُصرف في اي مكان، والجميع يعرف أن لا مستقلين فعليين في لبنان.

 

- إن الادعاء أن رئيس الجمهورية يتشاور فقط مع رئيس الحكومة ولا يحق له المشاركة في التأليف وإبداء الرأي في التشكيلة أو رفضها، تدحضه كل التفسيرات القانونية والدستورية من قبل المختصين والفقهاء الدستوريين.

 

احتفظ رئيس جمهورية ما بعد الطائف بصلاحيات قليلة (وهذه منها) وبالتالي لن يسجّل الرئيس عون على نفسه التفريط بصلاحيات رئيس الجمهورية وإعادة عقارب الساعة الى الوراء حين كان الحريري الأب والسوريين يقررون حكومة لبنان والهراوي يكتفي بالتوقيع.

 

بكل الأحوال، إن الشروط  التعجيزية التي يضعها الحريري لتشكيل الحكومة ولو كان البعض في الداخل (الترويكا القديمة) تشجعه عليها، فإن المعضلة الرئيسية تكمن في الافراج السعودي عن الحكومة وإعطاء الضوء الأخضر لسعد الحريري لتشكيل حكومة لبنانية، وهو أمر لن يحصل في المدى المنظور.

 

إن القلق السعودي مما سيحمله بايدن في جعبته للمنطقة وعودة التفاهم مع ايران، وما سيرتبه ذلك من خلط للأوراق، سيدفع المعنيين في السعودية الى الاحتفاظ بجميع الأوراق وعدم تسهيل حلّ أي من أزمات المنطقة التي تستطيع التأثير فيها وذلك لوضعها على طاولة المفاوضات حين يحين الأوان.

  

2021/02/14

الارهاب الفكري: "ثورة 17 تشرين" في لبنان نموذجاً

 


 

يعاني لبنان من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية منذ ما قبل "الثورة" في 17 تشرين الأول من عام 2019، والتي ما زالت مستمرة لغاية اليوم، والتي سببها الفساد المستشري والسياسات الاقتصادية الرعية والنهب المنظّم للخزينة العامة، والتي ازدادت حدّة بعد أزمتي كورونا ووقوع لبنان تحت تأثير سياسة "الضغوط القصوى" التي مارسها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

 

وبالرغم من بشائر الأمل التي حملتها الثورة، كان الأخطر الذي رافقها، هو الترهيب الفكري الذي مورس في الاعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، من قبل "نخب" تقود عملية تحفيز الجماهير و"الغوغاء" للهجوم على أي مخالف للرأي لإسكاته.

 

واذا كان لا بد من تفنيد هذه الظاهرة بسبب أهميتها، فإننا نرصد ما يلي:

 

أولاً - في التعريف

 

 بداية، وكما في حالة الارهاب بشكل عام، يختلف الباحثون في تعريف ظاهرة الارهاب الفكري. ويشير العديد منهم الى الارهاب الفكري يقوم على مبدأ محاولة فرض فكرة أو إيديولوجية معينة، وعدم قبول أي رأي مخالف لها، ولا يجب ظهوره بالأساس، ومصادرة حرية الآخر (المختلف) في الرأي والتعبير.

 

ويعتقد كثر من الباحثين أن الارهاب الفكري يعدّ أخطر من الارهاب العسكري الذي تمّت إدانته في العالم ومكافحته، ولاستخدامه وسائل غير مرئية معظم الاحيان. علماً أن الاثنان ينطلقان من منطلق واحد (امتلاك إطلاقية الحقيقة) ولو اختلفت أساليبهما، فالارهابي التكفيري يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة وأن لا حقيقة سواها، وبالتالي أن قتل أي فكرة معارضة أو مخالفة هو حق مشروع باسم إطلاقية الحقيقة التي يملكها.

 

تاريخياً، عرف العالم خلال فترات متعددة من الارهاب الفكري، خاصة خلال قرون الظلام الاوروبية، حين انتشرت محاكم التفتيش وساد التكفير والقتل والاتهامات الجاهزة بالهرطقة ضد كل مخالف لرأي الكنيسة. ثم مع الثورة الفرنسية، ترافق الارهاب والقتل مع موجة من الارهاب الفكري بحجة الحفاظ على قيم الثورة ونقاوتها.

 

أما اليوم، ومع انتشار وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وشهرتها، يمكن تعريف الإرهاب الفكري بأنه محاولة لإقصاء "الآخر المختلف في الرأي"، ومنعه من التعبير بحرية عن رأيه وأفكاره، عن طريق ممارسة الضغط الشعبي عليه وترهيبه، عبر إطلاق "موجة مبرمجة" لترهيبه عبر شيطنته، وإفلات مجموعة من "الغوغاء" والحسابات الوهمية للهجوم عليه وشتمه وتحقيره، من أجل إخافته وإسكاته.

 

ثانياً - الظاهرة في لبنان

 

واقعياً، هي ليست المرة الأولى التي يحصل فيها ترهيب فكري إعلامي وسياسي في لبنان، فقد شهدنا موجة مماثلة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حين استعمل تيار المستقبل وقوى 14 آذار عموماً، الترهيب الفكري ضد الآخرين، واصفين كل معارض لهم أو مختلف بالرأي، بأنه "صنيعة" أو موالٍ "للنظام الأمني السوري اللبناني"... ولم يكتفِ تيار المستقبل بذلك، بل أدرج ضمن حملته الانتخابية عام 2005 في عكار (شمال لبنان) والتي تلت عملت الاغتيال بأشهر، شعاراً مثيراً بعنوان "كل من ينتخب اللوائح المنافسة، فهو ينتخب قتلة الحريري"!.

 

ولا شكّ إن "ثورة 17 تشرين"  في لبنان، اقتبست معظم أساليب معظم "الثورات الملونة" في العالم، والتي تعتمد استراتيجيات إعلامية وإعلانية شعبوية، لتحقيق التغيير السياسي المنشود عبر:

 

- السيطرة عبر عملية ممولة لقيادة الوعي السياسي والاجتماعي وتغييره ليأخذ منحى جديداً يختلف عن المنحى السائد سابقاً، وذلك عبر اعتماد تقنيات إعلامية وإعلانية حديثة لتقويض ثقة الشعب بمؤسساته، ليس السياسية فحسب، بل والاجتماعية والأمنية (الجيش) أيضاً.

 

- التمكين وهو ما سماه غرامشي "الهيمنة الثقافية"، أي تقويض كل القيم التقليدية السائدة، سواء الأخلاقية أو أو الثقافية أو الدينية أو الاجتماعية أو السياسية الخ.. لخلق إطار بديل عنها يسوّق للافكار "الثورية" الجديدة وترسيخها في الوعي الاجتماعي والثقافي.

 

ويعتبر غرامشي أن الهيمنة الثقافية ضرورية من أجل نجاح أية سلطة، فلا يكفي للطبقة الجديدة التي تستلم الحكم أن تسيطر بالسياسة والعسكر والاقتصاد، بل عليها أن تخلق طبقتها الخاصة من المثقفين والفنانين والادباء ورجال الدين لتكريس تلك السيطرة وترسيخها، وهو ما نلاحظه في جميع الثورات الشعبوية في العالم.

 

وهكذا، نجد أن "ثورة 17 تشرين" في لبنان، وبالرغم من أنها لم تستطع أن تسيطر على السلطة وتشكّل إطاراً سياسياً بديلاً عن الطبقة السياسية الحاكمة، إلا أنها استمرت في استخدام نفس أسلوب الثورات الأخرى، أي الترهيب الفكري وشيطنة كل معارض للرأي وتخوينه. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، إطلاق صفات "الغنم والعبيد" على كل مواطن مناصر للأحزاب، ثم اتهام مناصري الأحزاب بدعم "القتلة" بعد انفجار المرفأ في 4 آب الخ...

 

ومع استخدام النعوت البذيئة والتحقيرية بهدف منع كل لبناني من المجاهرة برأي مخالف، على قاعدة " أو تكون مثلنا تماماً، أو لا يحق لك أن تكون"، تقلّص شعار "كلن يعني كلن"، واستمر بالتراجع والاستثناءات، حتى باتت الغالبية العظمى من "النخب" المنوطة بمهمة القيادة الفكرية للثورة، تركّز على طرفين وحيدين هما التيار الوطني الحر وحزب الله لشيطنتهما.

 

علماً أن هذا الانحراف ليس الوحيد الذي وقعت فيه "ثورة 17 تشرين" خلافاً لكل المعايير المعتمدة لنجاح الثورات الملونة في العالم. فمن أبرز عوامل النجاح في تلك الثورات، هو القدرة على الحصول على أوسع تأييد ممكن من شرائح المجتمع كافة، وهذا ما لم يتقنه "نخب الثورة.

 

الخطأ الذي وقع فيه "نخب الثورة" في لبنان مؤخراً والذي يتناقض مع "وصفات الثورات الملونة" هو العنصرية ضد فئة شعبية واسعة من المواطنين اللبنانيين. فلقد تحوّل "الخطاب الثوري" بعد مقتل لقمان سليم، من شيطنة الأحزاب السياسية الى شيطنة بيئة وطائفة بكاملها، عبر تقسيم عنصري للشيعة في لبنان "الشيعة المثقفون (جماعتنا) والشيعة المتخلفون (من هم ضدنا)".

 

بكل الأحوال، هي ليست معركة جديدة مع الارهاب الفكري والعنصرية، فمنذ القرون الوسطى ولغاية اليوم، عانت الكثير من الفئات المجتمعية من المآسي والظلم والترهيب والتنميط الثقافي، ومن أجل كسر ثقافة الإلغاء ضمن تنميط عنصري عنوانه "نحن الأخيار وهم الأشرار "، أو كما يقول سارتر "الآخرون هم الجحيم".

 

2021/02/08

هل يمكن إخضاع لبنان للوصاية الدولية والفصل السابع؟

حفلت الساحة الاعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي خلال اليومين الماضيين، بكلام من جهات متعددة المشارب السياسية، منها ما يطرح موضوع الوصاية الدولية على لبنان، ومنها ما يهدد بأن مجلس الأمن الدولي سوف يفرض حلاً في لبنان تحت الفصل السابع وغيرها.

واقعيًا، إنها ليست المرة الأولى التي تتوجه فيها أنظار اللبنانيين الى الخارج لاستجلابه أو التهديد به ضد الخصوم السياسيين، ولكن من المفيد أن نضيء على قدرة هؤلاء في ما يهددون به.

أولاً- في التهديد بوضع لبنان تحت "الوصاية الدولية"

 قبل البدء بتفنيد موضوع الوصاية، من المفيد التأكيد أن طرح "الوصاية الدولية" هو طرح سخيف وساذج، فلقد انتهى "نظام الوصاية" الدولي بشكل نهائي في العام 1994، بعدما استقلَّت جميع الدول التي كانت مشمولة بالوصاية من قبل الأمم المتحدة.

مع تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، كانت بعض الدول ما زالت خاضعة للأستعمار ولمبدأ الانتداب الذي اقرّته عصبة الأمم قبلها، لذا تمّ إنشاء نظام الوصاية الدولي (الفصل 12 و13 من ميثاق الأمم المتحدة)، للإشراف على الأقاليم المشمولة بالوصاية الموضوعة تحته، بموجب اتفاقات فردية مع الدول القائمة بإدارتها.

علماً أن ميثاق الأمم المتحدة نفسه، اقرّ في المادة 78 أن "الوصاية الدولية" تسقط بمجرد انضمام دولة إلى الأمم المتحدة، لأن مبدأ الوصاية يتناقض مع مبدأ أساسي وجوهري في الأمم المتحدة، وهو مبدأ "المساواة في السيادة بين الدول".

زد على ذلك، إنَّ مبدأ الوصاية الدولية يسقط أمام مبدأ حقّ الشّعوب في تقرير مصيرها، والَّذي يُعتبر من المبادئ الآمرة في القانون الدولي، وبالتالي إن مبدأين آمرين في العلاقات الدولية: سيادة الدولة، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.

من هنا، فإن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وسقوط نظام الوصاية نهائيًا باستقلال الدول المحددة التي كانت مشمولة بقرار الوصاية، يؤكدون أن طرح مبدأ "الوصاية على لبنان" لا يعدو كونه طرحاً سطحياً من غير أصحاب اختصاص، وساقط قانونياً.

ثانياً- في التهديد بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة

يندرج هذا الأمر ضمن إطارين قانوني وسياسي:

من الناحية القانونية؛ يختص الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة - كما يشير عنوانه - الى "حالات تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان". وتحدد المادة 39 (المادة الاولى ضمن هذا الفصل)، أن على مجلس الأمن أن "يقرر ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان" قبل الانتقال الى التدابير المذكورة في المواد اللاحقة. 

هذا يعني أن مجلس الأمن لا يصدر قراراته بموجب الفصل السابع إلا في حال اتفقت الدول المعنية (الخمس الكبرى) أن القضية المرفوعة تشكّل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين أو أنها عمل من أعمال العدوان. هذا في المبدأ، علماً أن اتفاق الدول على توصيف القضية يأخذ الكثير من الأخذ والردّ السياسي والمفاوضات بين الدول الخمس الدائمة العضوية، للاتفاق على التوصيف، الذي لا يصدر إلا بعد اخذ مصالح الدول الكبرى بعين الاعتبار.

ثم، في حال تمّ الاتفاق على توصيف القضية بأنها تشكّل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، فإن المواد اللاحقة في الفصل السابع (المواد 40 و41)  تحدد آليات تدريجية غير عسكرية يمكن أن يلجأ لها مجلس الأمن (مفاوضات، قطع علاقات دبلوماسية، حصار الخ...). وإذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها في المادة 41 لم تحقق الهدف، يجوز له أن يقرر الوسائل التي تساهم في حفظ السلم والأمن الدولي، اي استخدام الخيار العسكري.

إذًا، إن الاعتقاد أن الفصل السابع يعني حكماً استخدام القوة العسكرية من قبل الدول الكبرى للتدخل في سيادة الدولة المعنية، هو مجرد خطأ شائع. علماً ان مصالح الدول الكبرى هي التي تحدد الوسيلة المعتمدة، وفي معظم الأحيان، تتحاشى الدول التدخل العسكري المباشر بواسطة جنودها وذلك لئلا تزج بهم في منطقة نزاع قد تؤدي الى كلفة عسكرية بشرية كبيرة.

من هنا، نجد أن قفز اللبنانيين السريع الى تهديد الخصوم بالآليات الدولية مع كل أزمة داخلية ، قد يكون مرده الى تجربتهم خلال فترة عام 2005، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلاها من تدخلات دولية، وقرارات بالجملة حول لبنان من مجلس الأمن ومعظمها تحت الفصل السابع...

لكن الظروف الدولية اليوم اختلفت، فلا الأميركيين قادرين على تطويع مجلس الأمن كما كانوا يفعلون عام 2005، ولم يعد الاهتمام الأميركي بلبنان كما كان حينها، ثم إن تجربتي حرب تموز 2006، وتجربة اليونيفيل والقرار 1701، وتجربة أيار 2008،  تكبح رغبة الدول الكبرى بالتدخل المباشر في لبنان.

لذلك،ِ النصيحة الى اللبنانيين: تواضعوا، وعودوا الى لبنان واتفقوا، فالخارج له مصالحه، التي تكون دائماً على حساب الشعوب والدول الضعيفة وليس لمصلحتها. 

2021/02/05

خطة بايدن اليمنية: إنقاذ الأمن القومي السعودي

 

في كلمة متوقعة، أعلن الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن أن "الحرب في اليمن يجب أن تتوقف"، مُعلنًا أن بلاده ستتوقف عن دعم أي عمليات عسكرية وصفقات أسلحة مرتبطة بالهجوم السعودي على اليمين، ومؤكداً أن ما حصل في اليمن "كارثة استراتيجية". في المقابل، أكد أن بلاده ستواصل دعمها للسعودية للدفاع عن أمنها وسيادتها ومواطنيها.

 

وكانت السعودية قد بدأت تدخلها العسكري المباشر في اليمن، أو ما أسمته عاصفة الحزم، في 25 آذار/ مارس من عام 2015،  رداً على تحقيق الحوثيين انتصارات واسعة في الداخل اليمني ودخولهم الى صنعاء بعد نشوب الاقتتال الأهلي. وأنشأت السعودية تحالفاً من عدة دول عربية أطلقت عليه اسم "التحالف العربي"، وشاركت الولايات المتحدة وبريطانيا في تقديم الدعم اللوجستي، كما شاركت العديد من الدول الغربية في بيع الاسلحة المستخدمة في تلك الحرب.

 

أدت الحرب والقصف غير المسبوق من قبل التحالف الى مجاعة ونقص في الغذاء والدواء والمواد الحيوية ومقتل أعداد كبيرة من المدنيين وخاصة الأطفال ، جعلت الأمم المتحدة تصف الوضع في اليمن بـ "أسوأ كارثة إنسانية في العصر الحديث على الاطلاق".

 

وهكذا، يمكن اعتبار أن خطة بايدن الجديدة سيكون عنوانها "إنقاذ السعودية" خاصة بعدما تبيّن أن نتائج الاستراتيجية السعودية المطبقة منذ عام 2015، والهادفة الى ضمان أمنها أدّت الى إضعاف الأمن القومي السعودي أكثر، وباتت بحاجة الى إعادة مراجعة جذرية، ويمكن أن نشير الى الفشل السعودي ارتبط بأسباب عدّة أهمها:

 

- غياب الوضوح في تعريف الأمن القومي:

 

من وجهة نظر السعودية، كان نجاح الحوثيين في السيطرة على صنعاء وعلى العديد من المناطق اليمنية، انقلاب مدعوم من إيران على حدودهم الجنوبية، وبالتالي عليهم التحرك لضمان الأمن القومي للمملكة.

 

بالتأكيد، من الناحية الأمنية والعسكرية المطلقة، يشكّل تغيّر ميزان القوى الاستراتيجي في بلد مجاور للسعودية خطر على الأمن القومي السعودي، خاصة في ظل وضع اقليمي ضاغط وتنافس محموم في الخليج على اكتساب القوة، خاصة بعدما تمّ توقيع الاتفاق النووي بين ايران والدول الست عام 2015 أيضاً.

 

وهنا، تكمن المشكلة في استخدام السعودية للتعريف التقليدي للأمن القومي، والذي ساد في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، والذي ربط الأمن القومي بالتهديد العسكري، أو كما عرّفه  والتر ليبمان (1943): تتمتع الدولة بالأمن عندما لا تضطر إلى التضحية بمصالحها المشروعة لتجنّب الحرب، وتكون قادرة على الحفاظ على مصالحها من خلال الحرب إذا شعرت بالتهديد".

 

لكن الأمن القومي بمفهومه الحديث، لم يعد يقتصر على الحروب والقوة العسكرية، بل يتمّ تعريفه بأنه مزيج متناسب من "المرونة  والنضج السياسي، والموارد البشرية، والقدرة الاقتصادية، والكفاءة التكنولوجية، والقاعدة الصناعية وتوافر الموارد الطبيعية وأخيراً القوة العسكرية" التي تؤدي الى حفظ الدولة واستقلالها ومواردها وبقاءها ونفوذها الاقليمي.

 

من هنا، فإن الأمن القومي السعودي- حتى بمعناه التقليدي- لم يتم حفظه بعد حرب اليمن. فاليوم، وبعد ست سنوات على بدء تلك الحرب، حققت الإمارات العديد من الأهداف الاستراتيجية وسيطرت على الممرات البحرية وعززت مكانتها الاقليمية، بينما لم تحقق السعودية مكاسب واضحة، فهي أنفقت مليارات الدولارات، وعرّضت سمعتها الدولية للاهتزاز بسبب المجازر التي حصلت، وتعرّض الأمن القومي السعودي للخطر الشديد بعدما استمر الحوثيون في استخدام الطائرات بدون طيارات في قصف المدن والمطارات والبنى التحتية السعودية.

 

- غياب العقلانية:

 

يؤمن العلم السياسي وعلم العلاقات الدولية أن صانع القرار في الدولة هو شخص عقلاني، أي أنه عندما يواجه أزمة ما، فإنه يجمع المعطيات الكافية حولها، ويضع البدائل المختلفة فيدرسها؛ ليختار من بينها ما هو الأقل كلفة والأكثر ربحاً.

 

في هذا الإطار، بدا صانع القرار السعودي وكأنه يؤمن بأن السياسة "لعبة صفرية" أي أنه يستطيع أن يذهب الى خيار حرب بلا نهاية إلا تحت إطار "قاتل أو مقتول".

 

علماً أنه، منذ البداية،  كان واضحاً من خلال اعتماد نظرية الخيار العقلاني، أن خيار الحرب على اليمن هو خيار مكلف مادياً وبشرياً وإنسانياً، وبالتالي كان بإمكان صانع القرار السعودي، في معرض اختيار الوسائل الأنسب للردّ على التهديدات المتأتية من الاقتتال الأهلي اليمني، ان يختار طريق الدبلوماسية ورعاية حوار يمني - يمني، كما فعل سابقاً حين رعت السعودية "المبادرة الخليجية" عام 2011، والتي أمّنت انتقال سلس للسلطة بعد الثورة على علي عبد الله صالح.

 

واقعياً، لو اختارت السعودية أن تقوم مقام "الأخ الأكبر" لليمنيين، وترعى حوار يمني - يمني يؤدي الى توزيع عادل للسلطة بين القوى اليمنية المتصارعة، وقامت بدفع جزء من الأموال الطائلة التي انفقتها في الحرب على تنمية اليمن، والاستثمار في البنى التحتية والمدارس ومساعدة اليمن اقتصادياً واجتماعياً، لاستطاعت أن تحفظ أمنها القومي التقليدي (حماية اراضيها وحدودها من التهديدات)، وأن تجعل اليمن دولة صديقة، لا بل كان من الممكن أن تجعلها دولة حليفة تدور في الفلك السعودي.

 

عسى أن تكون خطة بايدن اليوم، وتقييم الخسائر التي تكبدتها السعودية على حرب اليمن، باب لفهم أوسع للأمن القومي الخليجي، فالسلام والتعاون المتبادل يمكن أن يحقق الأمن للجميع. 

2021/02/02

أوهام "التقسيم" وأخطاء اللبنانيين التاريخية

 

تزامناً مع كل أزمة سياسية، تطل بعض الأصوات اللبنانية خاصة المسيحية لتطالب بتقسيم لبنان تحت مسمى "الفيدرالية" والتي وصلت بالبعض لتسويق خريطة المتصرفية للقول أن "لبنان الكبير فشل بحدوده وصيغته الحالية" وبالتالي على المسيحيين المطالبة بكيان أصغر والانفكاك عن الوطن "الأم".

 

واللافت أن معظم هؤلاء ينتمون الى فكر بشير الجميل، علماً أن الجميّل في بداية صعوده السياسي في القوات اللبنانية طرح فكرة "الكونتون المسيحي من كفرشيما الى المدفون"، ثم ما لبث أن تنازل عنها بعد وصوله الى رئاسة الجمهورية فنادى بـ 10452 كلم أي بلبنان الكبير بحدوده الحالية. ولقد أدّت محاولة القوات اللبنانية بعد اغتيال بشير الجميل لفرض هذا المشروع الى مآسي كبيرة دفع المسيحيون ثمنها غالياً.

 

ومع مجيء دونالد ترامب الى السلطة في الولايات المتحدة ودخول لبنان في أزمات سياسية وإقتصادية عميقة، تحمّس البعض لإعادة إحياء طروحات الفيدرالية، متكلين على خطاباته الشعبوية - اليمينية معتبرين أن الوقت حان لتطبيق الطروحات اليمينية في العالم بشكل عام، وبالتالي لا مشكلة من إعادة طرح فكرة "القومية اللبنانية" التي تجد أن لبنان الكبير كيان مصطنع غير قابل للحياة، وأن لبنان - المتصرفية، ككيان متخيّل - فيه غلبة طائفية- هو البديل الانسب لللمشاكل التي يعانيها اللبنانيون ولفشل نظامهم السياسي.

 

ولكن، المشكلة لدى هؤلاء وغيرهم، عدم الاتعاظ من التجارب، وعدم استخلاص العبر من التجارب الفاشلة لتحاشي تكرارها في المستقبل، خاصة محاولة ملاقاة التصعيد الأميركي في المنطقة الذي سرعان ما يتراجع ربطاً بالمصالح الأميركية في لبنان، ونذكر بعض الشواهد التاريخية على سبيل المثال لا الحصر:

 

- ثورة 1958:

 

مع اشتداد الصراع بين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي، أعلن الأميركيون عقيدة "الاحتواء" التي استندت الى أفكار "جورج كينان" لمحاصرة الاتحاد السوفياتي ومنع الشيوعية من الانتشار.

 

وتطبيقًا لتلك الاستراتيجية، نبّه الرئيس أيزنهاور من نظرية الدومينو، التي تعني أن وقوع أي دولة من الدول في قبضة الشيوعية، سيؤدي الى إضعاف الدول المجاورة ووقوعها هي الأخرى، ما جعله يطلق مشروعه لمنطقة الشرق الأوسط عام 1957، لسدّ الفراغ الاستراتيجي الذي تركه انحسار النفوذين البريطاني والفرنسي ولئلا يستغله السوفييت.

 

وبالطبع، كان للبنان حصته، فأيد الرئيس كميل شمعون مشورع ايزنهاور وانضم الى حلف بغداد، ما أدى الى ثورة عام 1958 دعمها الرئيس عبد الناصر.

 

لم يكن الدعم الذي قدمه الاميركيون لحليفهم اللبناني ولا العراقي كافيًا، فحصل انقلاب عسكري في العراق أطاح بالمملكة الهاشمية، وحصلت تسوية أميركية مع عبد الناصر، أوصلت العدو السياسي للرئيس شمعون، اللواء فؤاد شهاب، قائد الجيش الذي امتنع عن زج الجيش في الصراع الداخلي ولم يقمع الثورة كما أراده شمعون أن يفعل.

 

- فترة حكم أمين الجميل:

 

استغل الرئيس أمين الجميل علاقته الجيدة مع الأميركيين، لإطلاق تصعيد كلامي خلال زيارته لواشنطن، معتبراً أن "كل طلقة سورية تستهدف بيروت، سيرد عليها باستهداف دمشق"!. ردّ السوريون على ذلك الكلام بقصف بيروت، ولم يحرّك الأميركيون ساكناً، كما لم يحركوا ساكناً لحماية الجميل عند نهاية عهده، من النفي القسري الذي فرضته عليه "القوات اللبنانية".

 

- البطريرك صفير وسمير جعجع:

 

بعد انتهاء عهد أمين الجميل وتشكيل حكومة انتقالية برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون، بادر الأميركيون والسعوديون باتجاه البطريرك الماروني نصرالله صفير، ووعدوه باختيار رئيس جمهورية من بين لائحة مرشحين يختارهم بنفسه. لكنهم لم يفوا بوعدهم.

 

لكن هذا الخذلان، لم يمنع صفير من المساهمة في إضعاف ميشال عون والسير بمشروع "اتفاق الطائف" الذي قلّص صلاحيات الرئيس المسيحي في النظام وحوّل صلاحياته الى رئيس الوزراء والحكومة مجتمعة. كما لم يمنع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع من التحرك، بعد دعوة السفير الأميركي جون مكارثي له - خلال زيارته لإهدن- " للوفاء بوعده والتحرك ضد الجنرال ميشال عون". وبالرغم من تلك المساهمات في إسقاط حركة ميشال عون عام 1990، غضّ الأميركيون النظر عن سجن جعجع خلال عهد الهراوي.

 

- 7 ايار 2008:

 

خلال عهد جورج بوش الأبن، وفي عزّ استراتيجيته لتغيير وجه منطقة الشرق الأوسط، قام السفير الأميركي جيفري فيلتمان بتقديم الدعم اللوجستى والعسكري والتدريبي والتمويلي لبعض المجموعات والأحزاب اللبنانية لمواجهة حزب الله، كما كشفت وثائق ويكليكس.

 

وبنتيجة التصعيد الذي قام به الوزير وليد جنبلاط، والذي أعقبه قرارات حكومية أقرّتها حكومة السنيورة ضد شبكة اتصالات حزب الله، في 5 ايار 2008، حصلت أحداث 7 ايار 2008، واستطاع حزب الله أن يسيطر على الوضع الميداني في فترة قصيرة جداً... وكان أن اكتفت الإدارة الأميركية ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بإصدار "بيان إدانة" ودعوة تيار المستقبل والوزير جنبلاط للذهاب الى تسوية في الدوحة.

 

إذًا، هي أمثلة تشير الى أن الدول الكبرى لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها، وأنها سرعان ما ستتخلى عن حليف ضعيف، لم يستطع فرض قوته على الأرض، لتعقد تفاهمات مع أخصامه الأقوياء.

 

من هنا، فإن بعض اللبنانيين، الذي اعتقدوا أنهم قد يحصلون على دعم إدارة ترامب في المنطقة، لتحقيق أحلام الانفصال والكونتونات الطائفية والمذهبية - التي تخدم الفكرة الاسرائيلية حول "يهودية الدولة" وعدم امكانية التعايش من ضمن التعددية - لا يفهمون الجغرافيا ولا الجيوبوليتيك ولا يتقنون الاستفادة من عبر التاريخ.

 

فها هي إدارة ترامب قد رحلت، ورحل معها مشروعها للمنطقة، ليحلّ مكانها إدارة جديدة ترفع شعار " تعزيز التعددية الحضارية" ومكافحة "التمييز العنصري"، وبالتالي، لن يكون هناك مكان للطروحات التقسيمية اللبنانية خلال السنوات الأربع القادمة. لكن، وكما تشير التجارب، من المتوقع أن تعود لتظهر بالتزامن مع المشاكل السياسية الداخلية وفي ظل إطارٍ دولي وإقليمي مساعد.