2021/02/02

أوهام "التقسيم" وأخطاء اللبنانيين التاريخية

 

تزامناً مع كل أزمة سياسية، تطل بعض الأصوات اللبنانية خاصة المسيحية لتطالب بتقسيم لبنان تحت مسمى "الفيدرالية" والتي وصلت بالبعض لتسويق خريطة المتصرفية للقول أن "لبنان الكبير فشل بحدوده وصيغته الحالية" وبالتالي على المسيحيين المطالبة بكيان أصغر والانفكاك عن الوطن "الأم".

 

واللافت أن معظم هؤلاء ينتمون الى فكر بشير الجميل، علماً أن الجميّل في بداية صعوده السياسي في القوات اللبنانية طرح فكرة "الكونتون المسيحي من كفرشيما الى المدفون"، ثم ما لبث أن تنازل عنها بعد وصوله الى رئاسة الجمهورية فنادى بـ 10452 كلم أي بلبنان الكبير بحدوده الحالية. ولقد أدّت محاولة القوات اللبنانية بعد اغتيال بشير الجميل لفرض هذا المشروع الى مآسي كبيرة دفع المسيحيون ثمنها غالياً.

 

ومع مجيء دونالد ترامب الى السلطة في الولايات المتحدة ودخول لبنان في أزمات سياسية وإقتصادية عميقة، تحمّس البعض لإعادة إحياء طروحات الفيدرالية، متكلين على خطاباته الشعبوية - اليمينية معتبرين أن الوقت حان لتطبيق الطروحات اليمينية في العالم بشكل عام، وبالتالي لا مشكلة من إعادة طرح فكرة "القومية اللبنانية" التي تجد أن لبنان الكبير كيان مصطنع غير قابل للحياة، وأن لبنان - المتصرفية، ككيان متخيّل - فيه غلبة طائفية- هو البديل الانسب لللمشاكل التي يعانيها اللبنانيون ولفشل نظامهم السياسي.

 

ولكن، المشكلة لدى هؤلاء وغيرهم، عدم الاتعاظ من التجارب، وعدم استخلاص العبر من التجارب الفاشلة لتحاشي تكرارها في المستقبل، خاصة محاولة ملاقاة التصعيد الأميركي في المنطقة الذي سرعان ما يتراجع ربطاً بالمصالح الأميركية في لبنان، ونذكر بعض الشواهد التاريخية على سبيل المثال لا الحصر:

 

- ثورة 1958:

 

مع اشتداد الصراع بين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي، أعلن الأميركيون عقيدة "الاحتواء" التي استندت الى أفكار "جورج كينان" لمحاصرة الاتحاد السوفياتي ومنع الشيوعية من الانتشار.

 

وتطبيقًا لتلك الاستراتيجية، نبّه الرئيس أيزنهاور من نظرية الدومينو، التي تعني أن وقوع أي دولة من الدول في قبضة الشيوعية، سيؤدي الى إضعاف الدول المجاورة ووقوعها هي الأخرى، ما جعله يطلق مشروعه لمنطقة الشرق الأوسط عام 1957، لسدّ الفراغ الاستراتيجي الذي تركه انحسار النفوذين البريطاني والفرنسي ولئلا يستغله السوفييت.

 

وبالطبع، كان للبنان حصته، فأيد الرئيس كميل شمعون مشورع ايزنهاور وانضم الى حلف بغداد، ما أدى الى ثورة عام 1958 دعمها الرئيس عبد الناصر.

 

لم يكن الدعم الذي قدمه الاميركيون لحليفهم اللبناني ولا العراقي كافيًا، فحصل انقلاب عسكري في العراق أطاح بالمملكة الهاشمية، وحصلت تسوية أميركية مع عبد الناصر، أوصلت العدو السياسي للرئيس شمعون، اللواء فؤاد شهاب، قائد الجيش الذي امتنع عن زج الجيش في الصراع الداخلي ولم يقمع الثورة كما أراده شمعون أن يفعل.

 

- فترة حكم أمين الجميل:

 

استغل الرئيس أمين الجميل علاقته الجيدة مع الأميركيين، لإطلاق تصعيد كلامي خلال زيارته لواشنطن، معتبراً أن "كل طلقة سورية تستهدف بيروت، سيرد عليها باستهداف دمشق"!. ردّ السوريون على ذلك الكلام بقصف بيروت، ولم يحرّك الأميركيون ساكناً، كما لم يحركوا ساكناً لحماية الجميل عند نهاية عهده، من النفي القسري الذي فرضته عليه "القوات اللبنانية".

 

- البطريرك صفير وسمير جعجع:

 

بعد انتهاء عهد أمين الجميل وتشكيل حكومة انتقالية برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون، بادر الأميركيون والسعوديون باتجاه البطريرك الماروني نصرالله صفير، ووعدوه باختيار رئيس جمهورية من بين لائحة مرشحين يختارهم بنفسه. لكنهم لم يفوا بوعدهم.

 

لكن هذا الخذلان، لم يمنع صفير من المساهمة في إضعاف ميشال عون والسير بمشروع "اتفاق الطائف" الذي قلّص صلاحيات الرئيس المسيحي في النظام وحوّل صلاحياته الى رئيس الوزراء والحكومة مجتمعة. كما لم يمنع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع من التحرك، بعد دعوة السفير الأميركي جون مكارثي له - خلال زيارته لإهدن- " للوفاء بوعده والتحرك ضد الجنرال ميشال عون". وبالرغم من تلك المساهمات في إسقاط حركة ميشال عون عام 1990، غضّ الأميركيون النظر عن سجن جعجع خلال عهد الهراوي.

 

- 7 ايار 2008:

 

خلال عهد جورج بوش الأبن، وفي عزّ استراتيجيته لتغيير وجه منطقة الشرق الأوسط، قام السفير الأميركي جيفري فيلتمان بتقديم الدعم اللوجستى والعسكري والتدريبي والتمويلي لبعض المجموعات والأحزاب اللبنانية لمواجهة حزب الله، كما كشفت وثائق ويكليكس.

 

وبنتيجة التصعيد الذي قام به الوزير وليد جنبلاط، والذي أعقبه قرارات حكومية أقرّتها حكومة السنيورة ضد شبكة اتصالات حزب الله، في 5 ايار 2008، حصلت أحداث 7 ايار 2008، واستطاع حزب الله أن يسيطر على الوضع الميداني في فترة قصيرة جداً... وكان أن اكتفت الإدارة الأميركية ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بإصدار "بيان إدانة" ودعوة تيار المستقبل والوزير جنبلاط للذهاب الى تسوية في الدوحة.

 

إذًا، هي أمثلة تشير الى أن الدول الكبرى لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها، وأنها سرعان ما ستتخلى عن حليف ضعيف، لم يستطع فرض قوته على الأرض، لتعقد تفاهمات مع أخصامه الأقوياء.

 

من هنا، فإن بعض اللبنانيين، الذي اعتقدوا أنهم قد يحصلون على دعم إدارة ترامب في المنطقة، لتحقيق أحلام الانفصال والكونتونات الطائفية والمذهبية - التي تخدم الفكرة الاسرائيلية حول "يهودية الدولة" وعدم امكانية التعايش من ضمن التعددية - لا يفهمون الجغرافيا ولا الجيوبوليتيك ولا يتقنون الاستفادة من عبر التاريخ.

 

فها هي إدارة ترامب قد رحلت، ورحل معها مشروعها للمنطقة، ليحلّ مكانها إدارة جديدة ترفع شعار " تعزيز التعددية الحضارية" ومكافحة "التمييز العنصري"، وبالتالي، لن يكون هناك مكان للطروحات التقسيمية اللبنانية خلال السنوات الأربع القادمة. لكن، وكما تشير التجارب، من المتوقع أن تعود لتظهر بالتزامن مع المشاكل السياسية الداخلية وفي ظل إطارٍ دولي وإقليمي مساعد. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق