2023/02/27

لماذا رفض الغرب مبادرة السلام الصينية؟

أتى الرفض الأميركي والغربي سريعاً ضد مبادرة السلام الصينية التي أتت عبر وثيقة تم توزيعها كأساس لمفاوضات بين كلٍ من الروس وأوكرانيا، عشية الذكرى الأولى لاندلاع الحرب.

وأتت الوثيقة الصينية متوازنة بين الطرفين وأبرز ما فيها:

1-  التأكيد على سيادة جميع الدول بالتساوي، واستقلالها وسلامتها الأقليمية ووحدة اراضيها، والتخلي عن المعايير المزدوجة.

2-  عدم السعي لتحقيق أمن دولة ما على حساب دول أخرى، أو تحقيق أمن المنطقة من خلال تعزيز أو توسيع الكتل العسكرية. ويدعو هذا البند الى المساعدة في تشكيل هيكل أمني أوروبي متوازن، وفعّال، ومستدام، مع مراعاة السلام والاستقرار في العالم على المدى الطويل.

3-  الصراع والحرب لا يفيدان أحداً، لذا يجب استئناف الحوار المباشر في أسرع وقت والتوصل في نهاية المطاف إلى وقف شامل لإطلاق النار.

4-  الحوار والتفاوض هما الحلّ الوحيد القابل للتطبيق في الأزمة الأوكرانية، ويجب تشجيع ودعم كلّ الجهود التي تُفضي إلى تسوية سلمية للأزمة.

5-  حل الأزمة الإنسانية، وتطبيق صارم للقانون الدولي الإنساني، عبر حماية المدنيين والأسرى الخ.

6-  تقليل المخاطر الاستراتيجية عبر الامتناع عن التهديد أو استخدام السلاح النوي، والحفاظ على سلامة المنشآت النووية.

7-  وقف العقوبات الآحادية، ومعارضة كل عقوبات غير مصرّح بها في مجلس الأمن.

8-  تسهيل تصدير الحبوب، والحفاط على سلاسل التوريد وعدم استخدام الاقتصاد العالمي كآداة أو سلاح لأغراض سياسية، والعمل على إعادة إعمار أوكرانيا.

لاشكّ أن البنود هذه جميعها يجب أن تحظى بموافقة ومباركة جميع الدول لأنها عبارة عن عناوين عريضة عامة، تؤكد على القانون الدولي وتلتزم تماماً بما يطلق عليه الغربيون دائماّ "النظام الدولي القائم على القواعد"، لكن المفارقة أن الرفض الغربي والاوكراني أتى سريعاً وذلك للأسباب التالية:

-       بالرغم من تأكيد الوثيقة على سيادة واستقلال ووحدة أوكرانيا، إلا أن الغربيين يؤمنون أن بامكان كييف تكبيد روسيا خسائر كبرى في هجوم مرتد يحضّر له بعد وصول الدبابات الى أوكرانيا في الربيع، لذا لا يريدون وقف النار والذهاب الى المفاوضات الآن.

 

-       يعتقد الغربيون أن الروس "مرهقون" ويريدون وقف الحرب لانهم لا يستطيعون الاستمرار بها، ولذلك لا يريدون إعطاء بوتين فرصة لالتقاط الأنفاس عبر وقف إطلاق النار.

 

لكن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" (CIA) وليام بيرنز اعتبر في مقابلة أن بوتين "واثق من أنه سيحقق نصراً نهائياً عبر الاستنزاف". وكان لافتاً في حديث بيرنز إشارته الى أن لقاءه مع رئيس الاستخبارات الروسية  شهد "شكلاً من التهور والتعالي المفرط" من قبل الروس.

 

-       لن يسمح الأميركيون للصين بأن تقود حملة عالمية لتحقيق السلام في أوكرانيا والنجاح بها، فهذا سيعطيها مكانة عالمية لا يريد الغرب منحها للصين لأنهم مصممون على احتوائها واحراجها واتهامها بالديكتاتورية والاستبداد لتبرير أي أفعال وتحرش عسكري بها في وقت لاحق.

-       لا يريد الغرب الاعتراف بمبدأ الامن الشامل، وإدانة العقوبات الآحادية خارج إطار مجلس الأمن لانها آداتهم الأفعل في وجه خصومهم، ويريدون استخدامها ضد الصين في المستقبل في حال نشوب نزاع.

 

-       لا يريد الأميركيون إعطاء الروس بنداً كانوا قد طالبوا به عشية الحرب على أوكرانيا وكبديل عن الصراع العسكري، وهو الاقرار بمبدأ "الأمن غير المجزأ" والاعتراف لروسيا بأحقيتها في الحافظ على أمنها القومي.

وعليه، يبدو واضحاً من المواقف والسلوك الغربي أن الغرب – لغاية الآن- لم يحقق أهدافه من دفع روسيا الى الانخراط في حرب مع أوكرانيا، فالانهيار الروسي الاقتصادي لم يحصل، وتفكك النظام لم يحصل والاطاحة ببوتين لم تحصل، و"إذلال" روسيا لم يحصل... وبالتالي، هم سيحاولون الاستمرار في تطبيق استراتيجية استنزاف روسيا الى أن يأتي النصر العسكري الروسي في الميدان بطعم الخسارة، حيث  يحتاج- حينها- الاقتصاد والمجتمع الروسي الى عقود طويلة للتعافي، وحيث لا تشكّل روسيا اي منافسة عالمية للأميركيين على المستوى العالمي لوقت طويل. يعتقد الأميركيون أن روسيا احتاجات الى عقد واحد تقريباً لبداية النهوض من خسارتها الحرب الباردة، لذا يجب على الغرب اليوم عدم التوقف عن استنزافها إلا بعد التأكد من أن الروس سيحتاجون بعد هذه المعركة الى عقود طويلة جداً للنهوض من جديد. 

2023/02/25

عام على حرب أوكرانيا: الأيديولوجيا للأميركي والأمن للأوروبي

كان واضحاً من خطابي كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي جو بايدن عشية مرور سنة على الحرب الأوكرانية، أن الصراع في أوكرانيا تحوّل فعلاً إلى صراع عالمي، إذ أراد كل طرف أن يعطيه عناوين خاصة، منها أنه صراع أيديولوجي بين رؤيتين للعالم وصراع للهيمنة، ومنها استدراج التاريخ لكشف أسس الصراع المستمرة منذ القرن التاسع عشر.

ولعل الخطابين المتقابلين يعكسان رغبة كل طرف في تسويق رؤيته للصراع العالمي الدائر حالياً في أوكرانيا، وهو على الشكل التالي:

التصور الأميركي: الصراع أيديولوجي

"الصراع العالمي الحالي هو بين الديمقراطية والديكتاتورية". هذا هو الشعار الذي لطالما رفعه بايدن منذ مجيئه إلى الحكم، فحاول رسم الصراع العالمي بمفاهيم أيديولوجية، لكونها الأقرب والأقدر على تأليب الرأي العام في الغرب وحشده في الصراع العالمي الجديد، ولعجز خطاب "التهديدات الأمنية" عن كسب التأييد في الداخل الأميركي بعدما استخدمه جورج بوش بصورة مفرطة لتبرير حروبه في الشرق الأوسط، بشكل بات من المتعذر استخدامه لتبرير انخراط الولايات المتحدة في حروب بعيدة عن أرضها مجدداً.

في خطابه الأخير في وارسو، كانت محاولة بايدن إعادة الصراع الأيديولوجي إلى الواجهة واستعادة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي السابق (مع روسيا اليوم) واضحة، وذلك لإعطاء الزخم الشعبي والقيمي للصراع. قال بايدن: "هجوم روسيا على أوكرانيا هو الأكثر همجية"، مؤكداً أنّ بلاده "ستدافع عن الديمقراطية وحق الأوكرانيين في العيش بحرية"، وأن "الديمقراطية ستنتصر حتماً".

في المقابل، رفض بوتين في خطابه تقسيم العالم إلى "دول حضارية ودول أخرى"، وهو ما يحاول الغرب أن يفعله في رسمه صورة الصراع، معتبراً أن من حق أهل الدونباس أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم، وأن يطلبوا مساعدة روسيا لتخلّصهم من اعتداءات النازيين الجدد في كييف المدعومين من الغرب.

وأكد أن هدف الغرب هو السيطرة والهيمنة وسحق روسيا، وأنَّ الضحايا البشرية هي أضرار جانبية لكسب الأموال، متذرعين بالديمقراطية لتحقيق مشروعهم.

في المقابل، لم يخلُ خطاب بوتين من محاولة إكساب الصراع بعداً أيديولوجياً مختلفاً عن تقسيم "ديمقراطية/ ديكتاتورية" الذي يحاول الأميركيون أن يعتمدوه. على العكس، اعتبر بوتين أنَّ الصراع الأيديولوجي الحالي هو صراع قيمي بين قيم العائلة (اتحاد بين الرجل والمرأة) والوطن (الأم) والله (الأب) التي تتمسك بها روسيا والعديد من الدول في العالم، وقيم غريبة تحاول تدمير العائلة واضطهاد المتدينين والترويج للمثلية الجنسية وتدمير المجتمع والتربية السليمة للأطفال.

التصور الأوروبي: الصراع حول الأمن 

بعكس الولايات المتحدة البعيدة جغرافياً عن روسيا وعن بؤرة الصراع في أوكرانيا، يعتمد الأوروبيون مقاربة مختلفة للصراع الدائر حالياً في أوكرانيا، هي الأمن. يسوّق الأوروبيون أنَّ هناك تهديداً وجودياً يشكّله الروس لدول أوروبا، ويرون أن "روسيا تهدّد وتعتدي على جيرانها، كما فعلت دائماً خلال تاريخها". لذلك، هم يدعمون أوكرانيا ويقاتلون دفاعاً عن الغرب وأوروبا على الأراضي الأوكرانية.

في المقابل، كان لبوتين مقاربة أمنية مختلفة أعاد فيها الصراع في أوكرانيا إلى كره تاريخي أوروبي لروسيا مستمد من تاريخ من الصراع بين الطرفين منذ القرون الوسطى. وقد استفاض في وصف "الخداع الغربي" في اتفاقيات مينسك، إذ اعتمدوا "الدبلوماسية كمسرحية" لتحضير مسرح الحرب وتسليح أوكرانيا لقتال روسيا وهزيمتها، فيما كانت الأخيرة مؤمنة بالمسار الدبلوماسي طيلة الوقت، وكانت تطالب بـ"الأمن غير المجزأ"، لكنهم رفضوا وبنوا مئات القواعد العسكرية لتطويقها. لذا، فإن ما يحصل هو "دفاع عن النفس" ووقف لحرب "شنوها عليها" ولمنع الغرب من اقتطاع مساحات من "أراضيها التاريخية منذ القرن الـ19".

ولعلّ ما يفيد بوتين في تسويق هذا التوصيف للرأي العام هو ما أعلنته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا هولاند، بقولهما إنَّ اتفاقيات مينسك عام 2014 كانت "خدعة" تهدف إلى منح أوكرانيا "الوقت الكافي" لتستعد للحرب ضد روسيا.

وفي موضوع تهديد الأمن القومي الذي تشكّله الحرب، كان بوتين واضحاً في رسالته للغرب بأن روسيا لا يمكن هزيمتها عسكرياً، وذهب أبعد من ذلك بتهديد الغرب بأن إعطاء كييف صواريخ بعيدة المدى يعني أن على الروس اكتساب المزيد من الأراضي الأوكرانية لإبعاد خطر الصواريخ عن الأراضي الروسية.

ولعل تعليق مشاركة روسيا في معاهدة "ستارت" الجديدة لعام 2010 تأكيد على أن الهزيمة العسكرية الإستراتيجية لروسيا التي يريدها الغرب لن تحصل حتى لو اضطر الروس إلى استخدام السلاح النووي.

في النتيجة، للحرب العالمية الدائرة في أوكرانيا اليوم أبعاد أمنية وسياسية وأيديولوجية تاريخية، ولم يكن العالم ينتظر قول بوتين إنها تحولت إلى "حرب عالمية"، فقد كانت كذلك منذ الأيام الأولى لاندلاعها، وهو ما أراده الأوروبيون والأميركيون الذين "قرّروا وقف المفاوضات لأنهم كانوا يريدون تحطيم بوتين بدلاً من التفاوض"، بحسب رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت الذي قاد وساطة بين الطرفين في الأيام الأولى للحرب.

 

2023/02/20

القوى السياسية اللبنانية.. تفاهمات على "القطعة"


تتشابك الملفات اللبنانية وتتعقد مع تمدد الفراغ الرئاسي وارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي ومع تباين المواقف الحزبية والسياسية حول الملفات المطروحة، وتعقّد الأمور نتيجة المصالح المتشابكة والمتضاربة للقوى السياسية المختلفة.

وإذا كان المشهد يزداد خطورة على وقع الخوف من الفوضى والانهيار الاجتماعي والاقتصادي المتوقع نتيجة اضراب البنوك وانفلات انهيار الليرة اللبنانية في ظل معلومات عن عدم قدرة المصرف المركزي على التدخل، أو عدم رغبة لدى حاكمه بذلك، نجد أن خريطة تحالفات القوى السياسية قد خُلطت بحسب الموضوع والموقف السياسي، ونجد فيها ما يلي:

1-  تحالف وثيق بين كل من الرئيس نبيه بري والرئيس نجيب الميقاتي، يرفده موافقة واضحة وتأييد من حزب الله. وهذا التحالف ينسحب على الملفات التشريعية والحكومية ومصرف لبنان والتعامل مع ملف رياض سلامة والملفات النقدية، واجتماعات الحكومة التي لا تحظى بموافقة العديد من القوى السياسية والجلسات التشريعية.

2-  تقاطع في بعض الملفات بين التيار الوطني الحر وبعض قوى المعارضة، تنسحب هذه على رفض حضور الجلسات التشريعية وإن الأولوية هي لإنتخاب رئيس جمهورية قبل أي شيء آخر، وبالرغم من التباين في بعض الملفات الاخرى.

3-  تباين وتقاطع بين طرفي تفاهم مار مخايل: كان صريحاً قول السيد حسن نصرالله أن تفاهم مار مخايل يمر بفترة حرجة ويجب المحافظة عليه، وقبلها كان الطرفان قد أكدا ان التفاهم قائم طالما أراد الشريك بقاءه.

وجاء كلام جبران باسيل خلال لقاء مع طلاب التيار الوطني الحر، ليتقاطع مع حزب الله في بعض الأمور، وليتباين معه في أمور أخرى. فمن ناحية التقاطع، رفض باسيل "مرشح الفوضى" الرئاسي واعتبره كمرشح "الدبابة الاسرائيلية" وفي هذا رسالة قوية وواضحة المضمون تتقاطع مع حليفه الذي رفض الفوضى وهدد الأميركيين بأن "إدخال لبنان بالفوضى لفرض شروط سياسية ورئاسية سوف يجعلهم يخسرون كل شيء في لبنان، وأن ذلك سوف يدفع الحزب الى نقل الازمة الى "اسرائيل".

وكان رئيس كتلة الوفاء للمقاومة الحاج محمد رعد قد اعتبر أن "هناك من يحاول تجويع اللبنانيين ولي ذراعهم عبر الفوضى وارتفاع سعر الصرف"، وتساءل " كيف يمكن لنا أن نتفق على رئيس يريده العدو ولا يريد غيره من أجل أن يستخدمه في تنفيذ تعليماته فيما بعد؟».

وهكذا، يتقاطع الطرفان في اعتبار الفوضى مطلوبة خارجياً لفرض مرشح رئاسي، وبالتالي هم يرفضون السير بأي تسوية رئاسية تأتي نتيجة الفوضى المدبرة خارجياً.

لكن يتباين الطرفان في الموقف من حسم ملف رياض سلامة واجتماعات الحكومة، ومن ترشيح سليمان فرنجية، وهو ما أشار اليه باسيل أمس.

وهكذا نجد ان المرحلة السياسية الحاضرة في لبنان تتسم بالتفاهمات "على القطعة" وأن التقارب والتباين بين القوى السياسية المختلفة بات بحسب الملف والقضية والمصلحة وغابت عنه التحالفات السياسية والايديولوجية، باستثناء تحالف أمل حزب الله الذي ينسحب على كل شيء وكل الملفات بغض النظر عن رأي الاطراف الاخرى. 

الانفتاح السعودي على سوريا: حاجة وخيار سياسي إلزامي

على الرغم من نفي السوريين، انشغل الإعلام العربي والعالمي بما تناقلته وسائل الإعلام الروسية من تصريحات لمصدر سوري مسؤول، أعلن فيها أن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان سيزور دمشق قريباً، وذلك استكمالاً للحملة الإغاثية الإنسانية التي قام بها السعوديون عبر إرسال طائرات إغاثة ومساعدة للسوريين بعد الزلزال مباشرة.

وكان ابن فرحان قد قال في مقابلة مع "بلومبيرغ" في وقت سابق من هذا العام، إن دول المنطقة يجب أن تعمل معاً لإيجاد "حل سياسي" للحرب في سوريا وإيجاد طريقة للتعامل مع الحكومة السورية.

وبصرف النظر عن حصول الزيارة في القريب العاجل أو تأجيلها، فإن تحولات السياسة الخارجية السعودية تشي بأن التقارب السعودي السوري سيحصل عاجلاً أم آجلاً، نظراً إلى ما يلي:

السياسة الخارجية السعودية ما قبل الحرب الأوكرانية

عملياً، منذ ما قبل الحرب الأوكرانية، تبذل المملكة العربية السعودية جهوداً حثيثة للعودة كقائدة في منطقة الشرق الأوسط والتموضع في سياسة تسعى من خلالها لحجز مقعد لها في التطورات العالمية والبروز بصفتها دولة مهيمنة إقليمياً، وفي الوقت نفسه قادرة على الاستفادة من أي نظام عالمي جديد سيبرز في المستقبل بعد انتهاء الصراعات الحالية بين روسيا والغرب، والصين والولايات المتحدة الأميركية.

منذ "الربيع العربي" وما قبله، انخرطت السعودية في صراعات تنافس إستراتيجي مع تركيا وإيران، إضافة إلى قطر والإمارات العربية المتحدة اللتين حاولتا اكتساب موقع نفوذ إقليمي على حساب "الشقيقة الكبرى" السعودية.

لكن منذ وصول الأمير محمد بن سلمان إلى ولاية العهد في السعودية، وبعد انتهاء ولاية ترامب الذي شكّل مظلة سياسية دولية لكل ما يفعله ولي العهد السعودي، عادت السعودية إلى فتح قنوات حوار مع جيرانها، فتمت المصالحة مع قطر بعد حصار دام سنوات، وانفتحت المملكة على تركيا، وتمّ توقيع اتفاقيات للاستثمار السعودي فيها بعد توتر بين البلدين يعود إلى تباين سياستهما حول "الربيع العربي" ومقتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية المملكة في إسطنبول.

أما مع إيران التي تتسم العلاقة معها بالتوتر والصراع بالوكالة، فإن الحوارات الجارية بين الطرفين تفيد بأن الخيار الدبلوماسي بات الأجدى لحلّ الصراع والتنافس بينهما، وخصوصاً أن إيران قادرة على أداء دور مهم في الحرب الدائرة في اليمن التي تريد السعودية إنهاءها.

أما الإمارات التي تطمح إلى دور جيوسياسي وإستراتيجي أكبر في المنطقة، فإنها تبقي على علاقة جيدة مع السعودية، ولو في حدها الأدنى.

التغييرات الهيكلية الداخلية

أدت إستراتيجية البلاد للنمو الاقتصادي بعد النفط أو ما سمي "رؤية 2030" إلى تغييرات شاملة في المجتمع السعودي، فقد أصبحت البلاد أكثر ليبرالية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وبات التركيز داخلياً على تحرير المرأة من القيود السابقة وإلغاء دور المؤسسات الدينية في التحكّم في المجتمع ومحاربة الفساد، وهي من الأمور المطلوبة لتشجيع بيئة الاستثمار واستقطاب المستثمرين من الخارج.

تأثير الحرب الأوكرانية

أعادت الحرب الروسية في أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة النظر في أهمية السعودية ودورها لدى الغرب والعالم، وخصوصاً بالنظر إلى أن الرئيس الأميركي جو بايدن كان قد توعد بجعلها "دولة معزولة"، لكنه عاد - بضغط التطورات والحاجة إلى الطاقة - إلى زيارة المملكة ومقابلة ولي العهد السعودي والتراجع عن تهديداته. 

واليوم، تدرك المملكة أهمية دورها وقدرتها. لذلك، تقوم بممارسة سياسة متعددة الأقطاب تهدف إلى إثبات القدرة على أداء دور محوري في الاقتصاد والطاقة والاستثمار العالمي. لذلك، رفضت التحالف مع الغرب ضد روسيا والسير بالعقوبات الغربية المفروضة عليها، واستضاف السعوديون كلاً من الرئيس الأميركي جو بايدن والزعيم الصيني شي جين بينغ خلال عام 2022. 

وكان قرار صندوق الاستثمارات العامة السعودي عام 2022 إنشاء 6 صناديق توجه 24 مليار دولار لمصر وعُمان والعراق والأردن والسودان والبحرين من أوضح المؤشرات على إستراتيجية الرياض لتوسيع قوتها ونفوذها في المنطقة عبر التنمية والاستثمارات.

الانفتاح على دمشق: حاجة وخيار

ما زالت السعودية تنظر إلى إيران باعتبارها أكبر تهديد لطموحاتها الإقليمية. لذلك، تسير في مسار مزدوج: من جهة تشجيع العقوبات والضغوط القصوى الغربية على طهران والتنافس معها عبر حروب بالوكالة والضغط على حلفائها في المنطقة، ومن جهة ثانية المشاركة في محادثات مع الإيرانيين لخفض التصعيد.

بناء عليه، إن الانفتاح السعودي على الحكم في دمشق يمثل بالنسبة إلى السعوديين جزءاً من التخلص من إرث الحروب المكلفة السابقة، والتوجه نحو سياسة صفر مشاكل، لكنه في الوقت نفسه خيار يعتقد السعوديون أنه سيكون مفيد لاحتواء النفوذ الايراني في المنطقة، على أساس أن التقارب العربي مع الرئيس السوري بشار الأسد سيجعله قادراً على تنويع خياراته السياسية بدلاً من دفعه إلى البقاء في تحالف إستراتيجي إقليمي وحيد مع طهران، وخصوصاً بعدما أبدى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان نيّته التقارب مع دمشق، وانخرطت الإمارات في مسار مصالحة مع السوريين منذ سنوات.

 

2023/02/14

الولايات المتحدة: تحضير مسرح الحرب مع الصين

ليلى نقولا
شغل الأميركيون العالم والداخل الأميركي بقضية "البالون" الصيني الذي أسقطته طائرة حربية أميركية، واتُهمت الصين من خلاله بالتجسس على قواعد الصواريخ الأميركية وأماكن أخرى في البلاد.
حلّق المنطاد من دون أن يلاحَظ، ثم اكتُشف في 28 كانون الثاني/يناير، وأُسقط بعد أيام، في ظل أجواء إعلامية وحربية واتهامات للصين بالتجسس. وقد ألغى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن زيارته التي كانت مقررة لبكين، فيما نددت الصين بـ"رد الفعل المبالغ فيه بشكل واضح" في اتخاذ قرار استخدام القوة ضد المنطاد، وقالت إنه كان وسيلة مدنية لأبحاث المناخ انجرفت بشكل غير متوقع فوق الأراضي الأميركية.
في الواقع، وفي الوقت الذي انشغل العالم بقضية المنطاد، كانت الولايات المتحدة تستكمل محاولة تطويق الصين بحراً عبر توقيع اتفاقية جديدة مع الفلبين تضمن لها الوصول إلى 4 قواعد عسكرية إضافية، ما سيوفر لها قواعد أمامية متقدمة لمراقبة الصين في بحر الصين الجنوبي وحول تايوان.
ينصّ الدستور الفلبيني على عدم السماح بوجود قواعد عسكرية دائمة لأي جهة خارجية في البلاد. لذا، تمّ الاتفاق على أن يكون للأميركيين حق الوصول والتموضع في تلك القواعد من دون الحق بالتمركز بشكل دائم فيها.
على الرغم من ذلك، فإنَّ الولايات المتحدة الأميركية تكون قد اكتسبت -بموجب هذا الاتفاق الجديد- الحقّ بوضع معدات عسكرية وبناء منشآت في 9 مواقع في جميع أنحاء الفلبين، وهي المرة الأولى منذ 30 عاماً التي سيكون فيها للولايات المتحدة مثل هذا الوجود العسكري الكبير في هذا البلد.
يعدّ الوجود العسكري الأميركي في الفلبين مسألة حساسة للغاية يرجع تاريخها إلى استعمار الولايات المتحدة الأرخبيل في عام 1898، وإلى نشوب حرب استعمارية استمرت حتى عام 1913. حصلت الفلبين على استقلالها عن الولايات المتحدة عام 1946، لكنها ظلت تحت السيطرة الأميركية مع احتفاظ الجيش الأميركي بقواعد رئيسية وسلطات واسعة في البلاد، وبدعم الرئيس والجيش الفلبيني الذين يتهمهم كثيرون بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان.
بعد سنوات من الاحتجاج على القواعد العسكرية الأميركية وسقوط ديكتاتورية فرديناند ماركوس المدعومة من الولايات المتحدة، أجبر الفلبينيون الولايات المتحدة على إغلاق قواعدها في 1991-1992، وتم تحويل القواعد السابقة إلى استخدامات مدنية منتجة، بما في ذلك التسوق والمطاعم والترفيه والأنشطة الترفيهية والمطار المدني، لكن، لغاية الآن، يتهم الفلبينيون الأميركيين بالتسبب بأضرار بيئية طويلة الأمد، مع ما يصاحبها من أضرار صحية، فضلاً عن آلاف الأطفال الذين ولدوا وتركوا من قبل أفراد الجيش الأميركي وغير ذلك.
ارتبطت الولايات المتحدة مع الفلبين بمعاهدات أمنية دفاعية منذ سنوات طويلة، وتمّ توقيع اتفاق "التعاون الدفاعي المعزز" خلال فترة ولاية باراك أوباما عام 2014، وذلك في خضم الاستعداد لتطبيق إستراتيجية "التوجه نحو آسيا" لاحتواء الصين. وقد ساعدت القوات الأميركية الحكومة الفلبينية على قمع التمرد في البلاد، في مقابل السماح للجيش الأميركي بتخزين المعدات والإمدادات الدفاعية في 5 قواعد في أنحاء البلاد.
عملياً، أُضيفت تلك القواعد في الفلبين إلى سلسلة تتألف من 313 قاعدة عسكرية أميركية في شرق آسيا، وفقاً للقائمة التي نشرها البنتاغون، بما في ذلك القواعد الموجودة في اليابان وكوريا الجنوبية وغوام وأستراليا. ويرجح أن تكون القواعد الجديدة في الجزء الشمالي من الفلبين الذي يبعد 15 كيلومتراً فقط عن تايوان، ما يجعل القواعد الأميركية قاعدة متقدمة مناسبة في حال اندلاع النزاع مع الصين حول تايوان.
وبهذا الاتفاق الجديد، تكون واشنطن قد قامت باستكمال قوس التحالفات العسكرية حول الصين، الممتدة من كوريا الجنوبية واليابان في الشمال إلى أستراليا في الجنوب. وكانت الفلبين هي الحلقة الأخيرة المفقودة في ذلك القوس، وهي تحدّ اثنتين من أكبر بؤر الصراع المحتملة مع الصين، هما تايوان وبحر الصين الجنوبي.
وهكذا، يبدو أنَّ الولايات المتحدة تقوم بتعزيز جودها العسكري في الفلبين وعبر شرق آسيا وتطويق الصين بالقواعد والقوات، تماماً كما فعل حلف الناتو مع روسيا في وقت سابق، وأدى إلى اشتعال الحرب في أوكرانيا.

وعلى الرغم من التصريحات الأميركية المتعددة التي تقول إن إطار السباق مع الصين هو مجرد منافسة، وليس صراعاً وردعاً، كما كانت عليه الحال خلال الحرب الباردة أو كما هي الحال مع روسيا، فإن مؤشرات التحركات الأميركية في تلك المنطقة وانتشار القواعد العسكرية وإقامة التحالفات الدفاعية والأمنية تفيد بأنَّ الأمر هو تحضير لمسرح الحرب التي ستندلع بمجرد أن يستكمل الأميركيون استعداداتهم لها. 

2023/02/13

ما هو مستقبل "اسرائيل" القلقة من حرب داخلية؟



منذ منتصف القرن الماضي، تعيش "اسرائيل" فائض قوة يجعلها تحاول السيطرة والهيمنة على جيرانها، وتمارس البطش والقتل مع الفلسطينيين من دون رادع ولا قانون ولا عدالة. وكانت تتكل في قوتها وبطشها على ما يأتي:

أ‌- جيش قوي وسريع الحركة، مدعم بأحدث التكنولوجيا العسكرية التي ترفدها بها الدول الغربية، ثم صار الاستثمار في التكنولوجيا العسكرية محلياً.

ب‌- قدرة للجيش على السيطرة الكاملة في مجال القوة الجوية وفي مجال المدرعات وكثافة النيران والسيطرة عليها في الميدان.

ت‌- التفوق العسكري على الجيوش العربية، من النواحي التقنية واللوجستية، فهي لم تدخل حرباً منذ العام 1948 إلا وانتصرت فيها، وفي بعض الاحيان كان النصر سريعاً وبساعات معدودة، كما حصل في حزيران 1967 حين انتصرت على ثلاثة من الجيوش العربية بستة أيام، أو الأصح انها حسمت المعركة خلال الساعات الست الاولى.

ث‌- إحتكارها السلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط مما يؤمن لها عنصر الردع الاستراتيجي الحاسم والمطلق.

ج‌- إحتكار الدعم الأميركي والغربي السياسي والدبلوماسي والعسكري والاقتصادي.

لكن، هذا بدأ بالتحوّل والتغيّر مع الانتفاضات الفلسطينية في الداخل، ثم في انتصار لبنان في أيار 2000، ثم حرب تموز 2006، وبعدها صمود الفلسطينيين في قطاع غزة ونهوض وتمرد في المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية، بعدما استبيحت أرواحهم وأراضيهم وأرزاقهم وبيوتهم.

واليوم، يأتي التحذير من حرب أهلية داخلية، بعدما فقد المسؤولون الاسرائيليون القدرة على استخدام سياسة الهروب الى الامام التي كانوا يستخدمونها، فلطالما عمد المسؤولون "الاسرائيليون" الى الذهاب الى حرب كلما لاحت بوادر انقسام في الداخل أو كلما احتاجوا الى شدّ عصب الناخبين لربح الانتخابات، لكن عدم القدرة على الانتصار في الحروب وكلفتها الكبيرة والردع مع لبنان، جعل العوامل الداخلية تعود لتطفو على السطح مجدداً، وفيها:

- انقسام داخلي سياسي، وصعود القوة اليمينية المتطرفة التي تستخدم الدين والتعصب لإلغاء كل صوت معارض، وللتدخل بالقضاء وللقضاء على المؤسسات.

- قلق وجودي يعيشه الشعب الذي يحاول الكثير منه الحصول على الجنسية الأجنبية، حرصاً على مستقبل أطفالهم، خوفاً من انهيار الدولة في عقدها الثامن، ويحرصون على الهروب قبل وقوع الكارثة، كما يقولون.

- طموح المتدينين المتطرّفين في السيطرة على كل مؤسسات الدولة، وصولاً إلى السيطرة على عملية صناعة القرار بشكل كامل، ومحاباة العديد من السياسيين لهم طمعاً بالسلطة، ما يستتبع رفضاً من قبل شرائح واسعة من المجتمع التي تتخوف من هذا الاحتمال. وهذا الطموح توسع لمحاولة السيطرة على الجيش الذي يُظهر مزيداً من التطرف اليميني بين أفراده.

- يضاف الى ما سبق، التوجه نحو حمل السلاح لدى المستوطنين بحجة الحفاظ على أمنهم من هجمات الفلسطينيين ما يستتبع قلقاً إضافياً للقوى العلمانية واليسارية ودعاة السلام في الداخل.

- ولعل ما يؤشر الى حدّة الازمة الداخلية المتفاقمة هي الرسالة التي وجهها الرئيس "الإسرائيلي" إسحاق هرتسوغ الى الجمهور، حذّر فيها من صدام داخلي وحرب أهلية معتبراً أن "برميل البارود يكار ينفجر وان البلد على حافة حرب أهلية" وان "اسرائيل" اقتربت جداً من الصدام وحتى الصدام العنيف".

كل ما سبق، يشير الى احتمال كبير جداً أن تدخل "اسرائيل" مرحلة اللااستقرار الداخلي الذي من الممكن أن يؤثر على كل التطورات الاقليمية في منطقة الشرق الأوسط. فكيف ستتصرف القوى الاقليمية والدولية مع احتمال اندلاع حرب داخلية في "اسرائيل" ودخولها مرحلة عدم اليقين الوجودي؟

 

2023/02/06

الساحة اللبنانية الهشّة .. سيناريوهات التفجير المتعددة




لم يمر مرور الكرام عند المسيحيين ما أعلنه الوزير السابق علي حسن خليل حول انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية بقوله "اذا جمع رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية 65 صوتاً من دون الكتلتين المسيحيتين، سنمضي به، فأولويتنا التوافق لكن عندما تصبح المعركة معركة أرقام فكل طرف يقوم بمصلحته".

وإذا كان هذا الكلام استدعى رداً وتحركاً من النائب وليد جنبلاط لمحاولة التوصل الى رئيس توافقي، ورفضاً من القوى المسيحية، خاصة بكركي والنائب جبران باسيل، فإن صمت كثيرين من القوى السياسية أثار الريبة لدى القوى المسيحية، التي تعتبر أن هناك أموراً لا يجب التغاضي عنها وهي:

1- إن تمسك الثنائي بترشيح الرئيس نبيه برّي لرئاسة مجلس النواب كان أمراً محترماً لدى القوى السياسية الأخرى لفترة طويلة من الزمن، وإذا كان الثنائي قد احتكر التمثيل النيابي الشيعي في المجلس النيابي هذه الدورة البرلمانية إلا أن الأمر لم يكن كذلك في الدورات السابقة وبالتالي احترمت المكونات الأخرى خيارات أحزاب الطائفة الشيعية لممثليها، وهذا ما يجب أن يفعله الثنائي بتمثيل المكونات الاخرى.

2- هناك على ما يبدو هجمة متجددة ومحاولة لتفجير الوضع الداخلي بفتنة شيعية مسيحية حيث ترتفع مجدداً نغمة "التقسيم" لأنه "لم يعد هناك إمكانية للتعايش مع السلاح" ولأن "بعض اللبنانيين يدفعون الضرائب بينما آخرون لا يدفعون وبالرغم من أنهم يتمتعون بالقسم الأكبر من الانفاق العام". كما يتم التصويب على ح ز ب الله بموضوع التحقيق في انفجار المرفأ، بما يشير الى أن هناك محاولة استعادة لمشهد عام 2005- 2008، حين ارتفعت التصريحات السياسية بالاتهامات السياسية لعزل ح ز ب الله، الى أن حصلت الشرارة التي أدّت الى فتنة سنية شيعية حينها.

3- اعلامياً، كما فعلت دير شبيغل في أيار 2009، حين نشرت مقالاً ذكرت فيه بقدرٍ كبيرٍ من التفصيل كيف شاركت عناصر من ح ز ب الله في جريمة اغتيال الحريري، وكيف اكتشفت "لجنة التحقيق الدولية" ارتباط أولئك العناصر في حادث الاغتيال. وتحدثت المجلة أن أحد عناصر الحزب "ارتكب طيشاً لا يُصدَّق" حيث اتصل بصديقته بواسطة هاتف خليوي تمّ استخدامه في عملية الاغتيال، ما أتاح للمُحقّقين فرصة تحديد الرجل. وتوالت التسريبات، وتوالت السيناريوهات التي تربط ح ز ب الله باغتيال الحريري، وصولاً إلى القرار الاتّهامي الذي اتّهم أربعة عناصر من الحزب، ثم أُضيف إليهم شخص خامس.

واليوم، وبنفس الطريقة تقريباً، نشر الاعلام الالماني منذ فترة تقريراً ربط فيه ح ز ب الله بالنيترات التي كانت في مرفأ بيروت، وحالياً يعرض الوثائقي الفرنسي تحت عنوان "حزب الله.. التحقيق الممنوع"، التي يشير بعض الاعلام المحلي والخارجي أنه سيقوم بربط التفجير في مرفأ بيروت بمسؤولية ح ز ب الله عن النيترات التي كانت موجودة فيه. علماً ان تحقيق القاضي طارق البيطار الذي أثار الانقسام في لبنان، يركّز على الاهمال الوظيفي والتورط السياسي ولم يشر – أقلّه لغاية الآن- كيف وصلت النيترات الى المرفأ ولصالح مَن.

بالمحصلة، هذه الأحداث والخطابات السياسية والاعلامية تشير الى ان هناك مشروعاً فتنوياً يُعد للداخل اللبناني، وإن تحضير المسرح يحصل بوتيرة متسارعة، قد ينتهي باشتباك طائفي (شيعي – مسيحي). لذلك على الجميع مسؤولية تخفيف التشنج، وعدم السير بخيارات تمّ تجربتها سابقاً، ومنها محاولة عزل مكوّن أساسي التي أثبتت كارثيتها على لبنان منذ الحرب الاهلية وما بعدها، ولا الى سيناريوهات تفجيرية واستخدام فائض القوة لفرض خيارات سياسية، ولا الى مشاريع التقسيم البائدة.

 

2023/02/03

عسكرة ألمانيا: هل يتكرر التاريخ الأوروبي؟

المراقب لحركة المستشار الألماني أولاف شولتس الخارجية يجد أنها تشي بأنّ الألمان يسعون لدور عالمي أكبر في المستقبل، ولأدوار الهيمنة الأوروبية بعد تردّد طويل.

بالفعل، يمكن وصف اللحظة التاريخية التي دخل فيها الروس إلى أوكرانيا (كما وصفها شولتس) بأنها شبيهة بانهيار جدار برلين، فقد قرر الألمان معها التحوّل إلى قطب عالمي أوروبي، ولم يعد من المقبول بالنسبة إليهم التردد في الهيمنة.

.1ألمانيا التسعينيات: رجل اليورو المريض

مباشرة بعد انهيار جدار برلين الذي تلاه تفكّك الاتحاد السوفياتي، تحوّلت ألمانيا إلى دولة تتمتع بأكبر اقتصاد وديموغرافيا في أوروبا، لكنها عانت الكثير من المشكلات الاقتصادية والتحديات الناتجة من الوحدة، ما جعل "الإيكونوميست" تسميها "رجل اليورو المريض" (عام 1999).

على الرغم من تلك المشكلات، فقد ركّز العديد من الأكاديميين والباحثين في العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية على إمكانية تحوّل ألمانيا إلى القوة المهيمنة في أوروبا، على الرغم من أنها أكدت دائماً أنها ستبقى قوة مدنية، تعتمد في سياستها الخارجية على القيم التي تعتبرها غير قابلة للتفاوض، كتجنب استخدام القوة العسكرية وتأييد الاندماج الإقليمي الأوروبي والتوجه الغربي والدبلوماسية المتعددة الأطراف، كما أكدت أن الدور الإقليمي لألمانيا الموحدة لن يكون إلا استمراراً للنهج الذي تم تطويره في ألمانيا الغربية بعد عام 1949.

تاريخياً، استمرت ألمانيا في أداء دور العملاق الأوروبي "النائم"، فأحجمت عن التصرف كقائد إقليمي بسبب صعوبة التغلب على ماضيها النازي، ولأنها - لغاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين - كانت تعاني ضعفاً هيكلياً يتجسد في الاعتماد الكبير على صادراتها، وفي المعدلات المنخفضة المزمنة للاستثمار العام، وتزايد شيخوخة السكان، إضافة إلى النقص في اليد العاملة في الوظائف الصغيرة (المؤقتة والمنخفضة الأجر). والأهم من ذلك كله، كان الضعف العسكري "النسبي" وعدم الرغبة في زيادة الإنفاق العسكري.

.2ألمانيا – ميركل: المهيمن المتردد

وبعد مجيء ميركل، بدأت ألمانيا تصعد رويداً رويداً، وتتأهل لأخذ أدوار قيادية في أوروبا. وفي العقد الذي تلا عام 2009 (بداية أزمة اليورو)، والدور الذي قامت به ألمانيا في أزمة الديون اليونانية، والتصلّب الذي واجهت به اليونانيين ودعتهم إلى "خروج مؤقت من الاتحاد، وإلا الخضوع لشروطها"، بات نفوذها وقوتها حقيقة واقعة على حساب الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً فرنسا، بعد خروج بريطانيا منه.

وبسبب عقدة ألمانيا التاريخية من الظهور بمظهر المهيمن، صار التعاون الفرنسي الألماني يؤشر إلى وضع "تحتاج فيه فرنسا إلى ألمانيا لإخفاء ضعفها، وألمانيا بحاجة إلى فرنسا لإخفاء قوتها" (إيكونوميست 2011، نقلاً عن مسؤول أوروبي أثناء أزمة اليورو).

كان للاتفاقيات التي قام بها غيرهارد شروردر مع موسكو، واستمرَّت بها أنجيلا ميركل، الأثر الكبير في الاقتصاد والصناعات الألمانية التي استفادت من فارق القيمة ومن أسعار الغاز الروسي الرخيصة لتحسين شروط المنافسة التجارية في أوروبا والعالم، ثم كانت سياسات الانفتاح "الإنسانية" التي اتبعتها ميركل، حين أعلنت سياسة الأبواب المفتوحة للاجئين عام 2015، والتي كان لها تأثيرها الاقتصادي أيضاً، إذ استطاعت ألمانيا من خلال سياسة "توظيف اللاجئين" أن تسد النقص في العمالة غير الماهرة ذات الأجر المنخفض.

وهكذا، تحوّلت ألمانيا إلى عملاق شبه مهيمن على أوروبا، وتحوّلت في فترة قصيرة نسبياً إلى عملاق اقتصادي أوروبي، لكنه "نمر من ورق" عسكرياً، يعتمد على القواعد العسكرية الأميركية الموجودة على أرضه للحماية العسكرية، إلى أن حصلت الحرب الأوكرانية في شباط/فبراير 2022.

.3الحرب الأوكرانية: الفرصة المتاحة 

مع إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعترافه باستقلال الجمهوريات الانفصالية في أوكرانيا، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس إيقاف "نورد ستريم 2"، ثم تسارعت الأمور، فوافق على فرض عقوبات على المشروع الذي استثمرت فيه ألمانيا مليارات الدولارات، وقاومت كل التنمر والضغوط التي قام بها الأميركيون لإنهائه في وقت سابق

كانت القرارات العقابية لروسيا التي سار بها شولتس من الناحية الاقتصادية الألمانية مفاجئة، لأنها كانت تضر الاقتصاد الألماني أكثر من باقي الاقتصادات الأوروبية.

وبسرعة كبيرة لا تتعدى ساعات بعد التوغل الروسي في أوكرانيا، أعلن شولتس قرار تحوّل ألمانيا إلى دولة قوية عسكرياً، وأقرّ مجلس النواب الألماني تخصيص 100 مليار دولار كميزانية للدفاع، وتعهَّدت ألمانيا دفع 2% من الناتج القومي كمساهمة في موازنة الناتو، في خطوات يبدو أنه كان متفقاً عليها مسبقاً مع الأميركيين.

ومع هذا التوجه الجديد، تعود إلى بساط البحث فكرة "المجال الحيوي" التي انطلق منها الألمان عشية الحرب العالمية الثانية، ليتوسعوا ويسيطروا على جيرانهم. "المجال الحيوي" (بالألمانية Lebensraum) هو النظرية التي ترى أن الدولة كالكائن الحي، لديها حاجاتها ومتطلباتها للعيش.

لذا، عليها أن تتوسع لتؤمن احتياجات سكانها إن كانت قدراتها أكبر من مساحتها الجغرافية. هذه النظرية عرضها العالم الألماني فردريك راتزل في كتابه "الجغرافيا السياسية"، واستخدمها هتلر لتبرير السياسة التوسعية الألمانية.

وإذا كان متعذّراً عملياً أن تقوم ألمانيا بالسيطرة العسكرية على جيرانها، لأنَّ الدول لم تعد – في وقتنا الحالي - ترغب في القيام باجتياح عسكري لتهيمن على جيرانها (بسبب الكلفة العالية وعدم ضمان النجاح)، فإنَّ المسار الألماني التاريخي يؤشر الى أن الهيمنة (غير العسكرية) الألمانية على أوروبا ستكون واقعاً لا يمكن إغفاله، لكنه قد يؤدي إلى تمرد سيؤدي إلى مشكلات داخل الاتحاد.

والسؤال الأساسي يبقى: ماذا لو حصلت تطورات جعلت الألمان يتراجعون اقتصادياً (كتراجع التصنيع وهجرة الاستثمارات)؟ هل ينكفئون أو يعودون إلى فكرة "المجال الحيوي" الذي تحتاجه دولتهم للعيش؟