2021/01/26

ناخبو ترامب 74 مليوناً: مَن هم ؟



استلم جو بايدن السّلطة كرئيس للولايات المتحدة الأميركيّة، وأعلن أنَّ مهمته الأولى هي توحيد الولايات المتحدة الأميركية بعد أن شهدت انقساماً غير مسبوق عزّزه ترامب بسياساته الشعبوية التقسيمية وخطاباته الحادة والاتهامات التي ساقها حتى آخر يوم من عهده بأنَّ الانتخابات مزوّرة.

 

ولعلَّ ما يعزز قلق الديموقراطيين من عدم قدرة بايدن على الوفاء بعهده ومصالحة المجتمع الأميركي وتوحيده، هو وجود "الظاهرة الترامبية" التي استطاعت أن تفرض وجودها في المجتمع الأميركي، بدليل أنَّ الرئيس ترامب عزَّز أصواته الانتخابيّة، وحصد حوالى 74 مليون صوت في العام 2020، في تقدم واضح بحوالى 11 مليون صوت إضافيّ عن انتخابات العام 2016.

 

ولمعرفة مدى صواب هذا القلق الديموقراطي الأميركي، يجب تشريح القاعدة الانتخابية التي انتخبت دونالد ترامب وأعطته عشرات الملايين من الأصوات، فمن هم هؤلاء؟

 

- حزب الشاي

هو حركة شعبوية محافظة نشأت من رحم الحزب الجمهوري في العام 2009، بعد تولي أوباما رئاسة الولايات المتحدة الأميركية. أطلق أعضاؤها على أنفسهم اسم "حزب الشاي" تيمّناً بالحركة التي نشأت في العام 1773، حين اعترض الأميركيون على دفع الضرائب لبريطانيا من دون تمثيل، من خلال رمي الشاي البريطاني الموجود في السفن الراسية في الميناء، والذي أدى في ما بعد إلى حركة أوسع أدّت إلى استقلال أميركا عن العرش البريطاني.

 

من أبرز رموز هذا الحزب سارة بالين ورون بول وتيد كروز وغيرهم. حارب هؤلاء خطّة أوباما للضمان الصحّي الشامل، وتبنّوا أفكاراً راديكالية محافظة على "يمين" الحزب الجمهوري، وهم ينادون، شأنهم شأن معظم المحافظين، بتشديد سياسات الهجرة، وإقرار قوانين ضد الإجهاض، وتقليص التدخل الحكومي، وزيادة موازنة الجيش الأميركي. بالنسبة إلى السياسة الخارجيّة، يؤمن هؤلاء بـ"الاستثنائية الأميركية"، ويدعون إلى خفض المساعدات الخارجية وتخفيف انخراط أميركا العسكري في الخارج.

 

لا شكّ في أنَّ ترامب عرف كيف يجسّد هذه الأفكار، فتحدَّث عن عظمة أميركا واستثنائيّتها، ولاحظنا أنّه - على الرغم من جائحة كورونا والحاجة إلى الضمان الصحّي الشامل - استمرَّ بمهاجمة خطّة أوباما الصحّية من دون تقديم بديل لها، كما خفض المساعدات الخارجية وقرّر سحب الجنود الأميركيين من مناطق النزاع.

 

وهكذا، يبدو أنَّ حزب الشاي الّذي تراجع الحديث عنه في العام 2012، والذي يشير العديد من الباحثين إلى أنَّ أفكاره خيّمت بشكل عام على كامل الحزب الجمهوري في العام 2019، تحوّل إلى "جماعة ترامب" أو "طائفة ترامب الخاصة"، كما يصفها العديد من المحللين الأميركيين.

 

- الكنائس الإنجيليّة

لا شكّ في أنَّ ترامب خدم الكنائس الإنجيلية ومؤيّديها بشكل خاص. في السياسات الداخلية، عيّن قضاة محافظين وحاول تمرير قوانين محافظة... أما في السياسة الخارجية، فقد قام بتحقيق النبوءات التوراتية التي يؤمن بها هؤلاء بخصوص قيام "إسرائيل" التي تمهّد - في رأيهم - لعودة المسيح مرة أخرى.

 

- أنصار اليمين الشّعبوي

من الأسباب الأخرى المحفّزة للتصويت الانتخابي، خطابات اليمين الشعبوي التي اعتمدها ترامب، والتي خاطبت غرائز كثر من مختلف المجموعات العرقية.

 

لا شكّ في أنَّ العديد من الأميركيين والمواطنين حول العالم تأثّروا بشكل أو بآخر بعولمة الاقتصاد وانفتاح الحدود، وباتوا يشعرون بالتهميش والاغتراب في مجتمعاتهم، وباتوا أكثر قلقاً من الناحية الاقتصادية والثقافية – الهوياتية. لذا، باتوا أكثر انجذاباً وتأثراً بخطابات اليمين الشعبوي في الغرب بشكل عام.

 

وهكذا، حصد ترامب أصوات الّذين دغدغت عواطفهم وغرائزهم مهاجمته لما أسماه "اليسار الراديكالي"، وسياساته العنصريّة، وتلك المناهضة للهجرة والداعية إلى بناء جدار مع المكسيك، وتعابيره التي تنطوي على كره الآخرين، والأهم بالنّسبة إلى العديد من هؤلاء أنهم ضاقوا ذرعاً بادّعاءات التفوق الأخلاقي، وخصوصاً من جانب النخب الليبرالية في الغرب، التي تعتبر أنها تملك "الحقيقة السياسية المقبولة" (political correctness).

 

- المدفوعون بالهمّ الاقتصاديّ

لا شكّ في أنَّ جائحة كورونا ضربت الاقتصاد الأميركيّ بشكل لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن الاتّهامات التي تساق ضد ترامب من قبل الديموقراطيين بأنَّ الكارثة الاقتصادية مردّها عدم تعامله بشكل صحيح مع الجائحة، لم تجد لها صدى لدى مؤيّديه الذين يعتبرون أن دعوته لفتح الاقتصاد كانت كافية لتخفيف الأزمة، وأن إغلاق الأسواق وفرض الحجر الإلزامي كانا السّبب في الانهيار الاقتصاديّ.

 

- المدفوعون بالخوف من خسارة الوظائف

اعتمد ترامب في سياساته فرض عودة الشركات إلى العمل في الولايات المتحدة، ما يؤدي إلى انخفاض مستوى البطالة في الداخل. ولا شكّ في أنَّ هذا الأمر ساعد الكثير من العمال الأميركيين قبل الجائحة.

 

من ضمن هذه الفئة أيضاً، حصد ترامب أصوات معظم من يسكنون في المناطق التي تكثر فيها الحقول النفطية والبتروكيمائية، والتي تتسبّب بالتلوث البيئي فيها. ونلاحظ أنَّ الخوف من خسارة الوظائف في تلك المناطق كان الهاجس الأكبر الذي دفع البيض والملوّنين والمواطنين من أصول لاتينيّة إلى التصويت لترامب، بسبب وعده بالإبقاء على تلك الوظائف وخروجه من اتفاقيات المناخ التي اعتبرها مضرّة بالوظائف والشركات الأميركيّة.

 

 إذاً، نستنتج أنَّ التركيبة السكّانية للمصوّتين لدونالد ترامب متنوّعة ومعقّدة، وفيها نسب كبيرة من الرجال البيض غير الحاصلين على تعليم جامعي، والمحافظين، وسكّان الأرياف، وذوي الأصول الإسبانية الذين يكرهون الأفكار الاشتراكية، والجماعات الإنجيلية، ورجال الأعمال والأثرياء الذين لا يريدون دفع الضرائب، والعمال...

 

وبناءً عليه، استطاعت الظّاهرة الترامبيّة أن تتغلغل في المجتمع الأميركيّ، ويبدو أنّها ستبقى لبعض الوقت. لذا، من المنطقي أن نجد استمرار الحزب الديموقراطي بمحاولة محاكمة ترامب في الكونغرس، على الرغم من خروجه من السلطة، وذلك لمنعه من إمكانية شغل أيّ منصب عام في المستقبل، ومنعه أيضاً من المشاركة في السباق الرئاسي في العام 2024. 

2021/01/25

لبنان: "الشعبوية" من الثورة الى الأحزاب

تاريخيًا، بدأت الظواهر "الشعبوية" في العالم كنتيجة لفقدان الثقة بالطبقات الحاكمة، وبدأت تبرز مجموعات داخلية سياسية تعلن أنها تتكلم باسم "الشعب" ضد النخب السياسية.

بهذا المعنى التقليدي كان للموجات الشعبوية التي نشأت في منتصف القرن التاسع عشر مثلاً في روسيا والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية والتي أرادت أن تدعم الفلاحين وسواهم من الطبقات الشعبية تأثير على السياسة الداخلية وعلى تطور أسس الديمقراطية في تلك البلدان.

لكن الحركات الشعبوية في العالم اليوم، باتت تأخذ اتجاهات مختلفة عما انطلقت عليه تلك الموجات التاريخية، فصرنا نجد:

-  "الشعبوية اليمينية" التي عمّت أنحاء أوروبا والولايات المتحدة الأميركية والتي تعاظمت قوتها بعد مجيء ترامب الى البيت الأبيض عام 2016، وتزامن معها خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، وصعود الأحزاب اليمينية في نختلف أنحاء أوروبا. وهذه تركّز على العوامل الثقافية وعلى صراع الهويات، وتهاجم المهاجرين والفئات الثقافية الأخرى.

- "الشعبوية اليسارية" التي انتشرت في أنحاء أميركا اللاتينية مع هيغو شافيز وغيره، وهي تركّز على الشق الاقتصادي وتدعو الى تغيير السياسات الاقتصادية النيوليبرالية. هذه تجد تجلياتها اليوم في العديد من الجمعيات التي تنادي بمسار مختلف للعولمة النيوليبرالية التي سحقت الطبقات الفقيرة والمتوسطة، والتي - برأيهم- أدّت الى موجة اغتراب في العالم خاصة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008.

وللمفارقة، بقي تأثير الشعبوية اليسارية مضبوطاً في الحيز الجغرافي العالمي، بينما كان لليمين الشعبوي في الغرب تأثير كبير، بدّل في وجه العالم خاصة بعد مجيء ترامب بسياساته العنصرية تجاه الآخرين متل السود والمسلمين ودول أفريقيا، واعتماده فكرة تفوّق العرق الأبيض في الداخل الأميركي وغيرها...

كيف يتصرف الشعبويون بشكل عام؟

بالرغم من التباين الايديولوجي بينهم، يؤمن الشعبويون من جميع الفئات (اليمينية واليسارية) أنهم "فئة مختارة" من البشر، وأنهم يتمتعون بالوعي والحنكة والبصيرة أكثر من غيرهم. ويصوّر هؤلاء أنفسهم أنه "المنقذ" من شرور ومصير أسود ينتظر الشعب.

كما يقومون عادة باستغلال أي أزمة للتصويب على السياسات المتبعة وعلى النخب التقليدية لإعلان فشلها، وهذا طبيعي جداً فلولا فشل السياسات السابقة في حلّ المشاكل لما ذهب الناس الى خيارات شعبوية، وللانجرار وراء أشخاص يعرفون كيف يخاطبون وجعهم وغرائزهم.

ويقوم الشعبويون بشكل عام باستخدام اسلوب البذاءة في التعبير والانحطاط في التخاطب السياسي والتنمّر واتهام الخصوم بالخيانة وبأقذع العبارات ويمارسون الكذب في السياسة بدون خجل.... فنجد مثلاً ترامب والرئيس الفليبيني والرئيس البرازيلي يستخدمون عبارات غير دبلوماسية وغير مألوفة عادة في السياسة العالمية، ويروجون لنظريات المؤامرة، ويتنمّر ترامب على هيلاري كلينتون وجو بايدن، ويقوم بتقليد أحد الأشخاص من ذوي الاعاقة الجسدية لإضحاك الجمهور! الخ....

من هنا، نجد أن انتفاضة 17 تشرين عام 2019، اعتمدت بشكل كبير على الأساليب "الشعبوية"، فأعلنت نفسها ضد النخبة السياسية كلها (كلن يعني كلن)، وأنها تتمتع بحس عالٍ من الفهم والوعي بينما مناصرو الأحزاب مجموعة من "الغنم والعبيد"، ولم تتوانَ عن استخدام تعابير سوقية تجاه الخصوم، ومن منا لا يذكر أغنية "هيلا هو"، والتعابير التي تعيّر رئيس الجمهورية بعمره وغير ذلك من الأساليب المعروفة تماماً والمستخدمة من قبل الشعبويين في أنحاء العالم.

قبل تلك الانتفاضة وبعدها، وفي فترة الانتخابات النيابية عام 2018، استخدم رئيس حزب الكتائب اللبنانية سامي الجميل استراتيجية شعبوية، وأعلن حزبه "ضد المنظومة الحاكمة بأكملها" بالرغم من انتمائه لعائلة سياسية بامتياز، وأن حزب الكتائب شارك في السلطة منذ عقود طويلة.وكما سامي الجميل، برز العديد من الوجوه الجديدة التي أعلنت أنها تترشح ضد الطبقة الحاكمة بأكملها في الانتخابات.

لكن، بعد انتفاضة تشرين، والشهرة التي حققتها باستخدام الاساليب الشعبوية، امتدت هذه الظاهرة الى العديد من الأحزاب، التي سوّقت أنها ضد المنظومة الفاسدة (كلهم ما عدا نحنا)، وأنها "صنف مختلف" أرقى وأفضل من الآخرين وأن "وجودهم في السلطة كان للخدمة العامة ومختلف عن وجود الآخرين"، وبات المحازبون على منصات التواصل الاجتماعي آداة للابتذال السياسي والشتائم التي تطلق على الآخرين، واستخدام الألفاظ السوقية ضد كل معارض للرأي، أو منتقد أو أي حزبي من الأحزاب الأخرى.

إذاً، كما في كل لحظة تاريخية، ومع ارتفاع الشعبوية في العالم، ارتفع منسوب الشعبوية في لبنان، وانتقلت من سياسييين وأفراد شعبويين الى أحزاب ومجموعات شعبوية شاملة. فهل نشهد انحساراً لهذا المدّ الشعبوي في لبنان برحيل ترامب الشعبوي وقدوم بايدن التقليدي؟ 

2021/01/20

ترامب يغادر: بداية الدراما وليس نهايتها


 

يغادر الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب البيت الأبيض ليعيش في فلوريدا، معلناً أنه لن يحضر تنصيب جو بايدن، ولن يسلّم الحقيبة النووية. يرحل، بالرغم من عدم إقراره بالهزيمة التي تعرّض لها في الانتخابات، معتبراً أنه تمّ الغدر به بنتيجة التزوير.

 

مخطئ من يعتقد أن رحيل الرجل في 20 كانون الثاني/ يناير 2021، هو نهاية صناعة "الدراما" التي يتقنها بشكل جيد، نتيجة عمله السابق في "تلفزيون الواقع"، ونتوقع أن ترامب - الذي يشعر بالخذلان والمرارة- سيتحوّل الى الداخل الأميركي لحاول تقويض أسس المؤسسة الحاكمة، ويمكن توقع ما يلي:

 

- فرط الحزب الجمهوري:

 

لا شكّ أن علاقة الحزب الجمهوري بترامب، يمكن وصفها تماماً بوقائع قصة "ماري شيللي" الشهيرة؛ بعنوان "فرانكنشتاين" عام 1818.

 

تدور أحداث القصة في إلمانيا، حيث يقوم شاب جامعي اسمه فيكتور فرانكشتاين، بخلق "مسخ"  بشع جداً، هائل الحجم، تدّب فيه الحياة فجأة فيهرب من مختبر الجامعة. وتبدأ مآسي فرانكشتاين، حيث يقتل المسخ أخاه، ويتم اتهام المربية بقتله فتدخل الى السجن. ثم تزداد خطورة المسخ حين يتعلم القراءة والكتابة، فيطلب من فرانكشتاين أن يصنع له زوجة، يقبل فرانكشتاين ثم يتراجع خوفاً. يغضب المسخ فتبدأ مرحلة القتل المتسلسل... حتى مقتل فرانكشتاين نفسه.

 

العبرة التي يمكن أخذها من الرواية، أن مسخ فرانكشتاين حقود لا يعرف الرحمة ولا الصفح، ولا يحفظ لصانعه فضل أنّه أوجده، ولا يتواني عن أن ينقضّ عليه ليدمر له حياته وحياة من يحب. ويمكن التوقع أن هذا ما سيكون عليه مصير الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأميركية، الذي قوّى الظاهرة الترامبية الشعبوية،  لتصل الى وقت تبتلع الحزب بأكمله، أو ستقوم بتفتيت الحزب من الداخل، وستقسمه إذا قرر ترامب تأسيس حزب جديد.

 

- تأسيس حزب جديد:

 

لا شكّ أن الأعداد الكبيرة التي حصل عليها ترامب في الانتخابات (ما يزيد على سبعين مليون ناخب أميركي) ليست كلها "ترامبية" الهوى، بل إن كثيرين صوتوا له كمرشح للحزب الجمهوري، ومنهم من صوّت لسياساته كرئيس حول البيئة والنفط الصخري وغيره.

 

لكن، "الغزوة" التي قام بها أنصار ترامب، والحماس الذي تشهده وسائل التواصل وغيرها، تشير الى أن "الترامبية" ظاهرة وُجدت لتبقى (أقلّه على المدى القصير)، وأن فترة بايدن الأولى، والانتخابات النصفية للكونغرس التي ستحصل بعد سنتين، ستكون مليئة بعدم الاستقرار، وقد يكون لترامب مرشحوه خارج إطار مرشحي الحزب الجمهوري.

 

تزدهر الظاهرة الترامبية بين فئات كبيرة من الأميركيين الذين يشعرون بالغضب تجاه الطبقة السياسية الحاكمة، ويعتبرون أن الحكومة قد خذلتهم، والاقتصاد خذلهم وقد تمّ تهميشهم على مدى عقود... لهؤلاء، يشكّل ترامب "الإله المنقذ" الذي أعلن عن نفسه بأنه آتٍ من خارج هذه السلطة التقليدية، ويؤمن انصاره أنه يتعرض للظلم من هذه المؤسسة الحاكمة وإعلامها. وبالتالي، سيجمع حزب ترامب الشعبوي كل من القوميين العنصريين، والمهمشين البيض من الأرياف وغير المتعلمين الخ.

 

وهكذا، قد يستفيد الحزب الديمقراطي من الشرذمة التي سيعانيها الحزب الجمهوري، لكن المجتمع الأميركي سيواجه مشاكل داخلية مرتبطة بقدرة ترامب على بثّ الانقسام أكثر فأكثر وإثارة الغرائز، وتحفيز الغضب الشعبي على المؤسسة الحاكمة.

 

ما العمل؟

 

يمكن أن يقوم القضاء الأميركي بمساءلة ترامب حول قضايا التهرب الضريبي، وعن تحريض المتظاهرين للدخول الى الكونغرس والاتهام بالتسبب بالقتل، وبالتالي أما يُسجن أو يتم إقامة "صفقة قضائية" معه تقضي بعدم ممارسته هو أو أولاده أي عمل سياسي.

 

في الحالة الأولى، سيستغل ترامب وأولاده ومناصروه القضية ليتحدثوا عن "مظلومية" سياسية، وبالتالي قد يتحول ترامب الى ظاهرة أكثر خطراً، خاصة إذا ما قامت ابنته ايفانكا بممارسة العمل السياسي والترشح الى الانتخابات متكلة على أصوات انصار والدها. وتبقى الحالة الثانية أقل خطورة، خاصة إذا ما اراد بايدن فعلياً تخفيف الاحتقان والانقسام الداخلي.

 

في الخلاصة، إن الظاهرة الترامبية التي أتت الى السلطة بسبب أخطاء المؤسسة السياسية الحاكمة، والتي استطاعت أن ترسّخ نفسها خلال أربع سنوات من حكم ترامب، ستسبب المتاعب للإدارة الأميركية، وستحتاج الى بعض الوقت للتخلص من آثارها، إن أحسنت المؤسسة الحاكمة التصرف، وتفرغت للداخل قبل انطلاقها لاحتواء خطر الصعود الصيني والروسي في العالم. 

2021/01/18

لبنان: أزمة أحزاب أم أزمة شعب؟

 


تعمّ الأزمات الوطن والمجتمع اللبناني منذ ما قبل مظاهرات 17 تشرين الأول 2019 ، والتي ترافقت مع أزمة إقتصادية ومالية ضربت لبنان وأزمات فساد نخر المجتمع والدولة حتى العظم ولم ينتهِ مع إنفجار المرفأ. وتعيش الأحزاب، وهي مرآة عن المجتمع اللبناني، أزمات قد تكون أعمق من تلك التي ضربت البنية اللبنانية.
تاريخياً، كانت نشأة الأحزاب اللبنانية مرتبطة بالظروف السياسية التي مرّ بها لبنان، فالجيل الأول أي جيل مرحلة الانتداب، تأسست الأحزاب وكأنها كتل سياسية. أما الجيل الثاني، أي أحزاب دولة الاستقلال وما بعدها، فكانت أكثر تنوعًا من الجيل الأول وأفضل تنظيمًا، وما من عقيدة قومية أو أممية وما من تيار سياسي إلا وكان له تمثيل حزبي في لبنان.
الجيل الثالث، أي جيل الحرب، أو التجربة غير المشرّفة في تاريخ معظم الأحزاب اللبنانية التي تحوّلت الى ميليشيات تمارس القتل على الهوية والترهيب وفرض الخوّات. بعض هذه الأحزاب، مَن تأثر بالأممية أو بطروحات القومية العربية، فاعتبر الوطن محطة لبلوغ هدف أسمى، والبعض الآخر طالب بإقامة دويلة طائفية (كونتون) والبعض نادى بـ "دولة إسلامية"، والقلّة فقط من هؤلاء آمنت بلبنان وطنًا نهائيًا لجميع أبنائه بطوائفهم المتنوعة كافة.
أما الجيل الرابع، أي مرحلة ما بعد الطائف ولغاية انسحاب السوريين (1990- 2005) ، فلقد خلعت ميليشيات الحرب ثوبها العسكري ولبست بدلة رسمية وتقاسمت حكم لبنان حيث سُرقت مقدرات الوطن وأغرقت الخزينة العامّة بكمّ هائل من الديون، وتفشّت المحسوبية والزبائنية بأبشع صورها.
فرض السوريون إيقاعهم، فتحجّرت الأحزاب وباتت أشبه بحزب واحد بعناوين عدّة. ولم يخرج عن إطار السلطة ويمارس إطار حزبي مختلف سوى ح ز ب الله، الذي غيّر قيادته الحزبية واحتكر العمل المقاوم وتراجع أو انسحب دور الأحزاب العقائدية وأحزاب المقاومة الوطنية اللبنانية السابقة من العمل المقاوم في الجنوب.
وحده التيار الوطني الحر كحزب سياسي، أتى كنتيجة للإنسحاب السوري من لبنان، بعدما كانت تجربته النضالية الشبابية قد استمرت على مدى سنوات المنفى التي عاشها العماد عون.
شكّلت تجربة التيار الوطني الحر الحزبية الجديدة عام 2005، ودخوله الى المعترك السياسي، الى تكتّل الاضداد السابقة ضده خصوصاً في الانتخابات النيابية، فأقامت تحالفاً رباعياَ تحوّل الى سداسي، تشكّل - بقدرة قادر- من مروحة كبيرة من جدًا من الأحزاب المتباينة الأهداف، والعقائد والايديولوجيات.
أما اليوم، فالأزمة التي تعانيها معظم الأحزاب اللبنانية هي:
1- ابتعدت الأحزاب اللبنانية عن الأطر المؤسساتية التي تطبع الأحزاب عادة، وبات الحزب اللبناني نمط جديد مبتكر من تجربة "الاقطاعي" القديم التي تقوم على شخصنة السياسة التي تستند الى تأليه الفرد- الزعيم / البيك، وطاعته طاعةً عمياء.
لقد ضربت الأحزاب اللبنانية كل المفاهيم القديمة التي حوّلت السياسة من ممارسة إقطاعية الى ممارسة حزبية:
- من المفترض أن تقوم الأحزاب بتوفير قنوات للمشاركة الشعبية وطرح بدائل، بينما يسعى الاقطاعي الى إبقاء القديم على قدمه، وتأبيد العلاقة الزبائنية بينه وبين الناخبين لتأمين استمراريته واستمرارية عائلته، وهو حال الأحزاب اللبنانية، التي تعمد الى استمرار "نظام الحماية" بحيث تستطيع من خلاله استغلال حاجات المواطنين في المنطقة، لتكريس استمرار الولاء.
- من مهمة الأحزاب عادةً إعداد النخب السياسية، عبر توفير تكافؤ الفرص بين المواطنين. أما ما يسعى اليه الاقطاع، فهو احتواء هذه الظاهرة، والعمل على ألا يخرج النفوذ السياسي من إطار العائلة، بل إنه يحاول أن يمنع المواطنين العاديين من الارتقاء والتقدم - وحتى من التعليم- خشية منافسته في الحيّز السياسي، وهو مأزق النخبة السياسية الحزبية.
2- الانقطاع ما بين المبادئ والواقع، فالمبادئ الطنانة الرنانة التي تأسست الأحزاب على أساسها، اصطدمت بالواقع السياسي، وبانخراط هذه الأحزاب في تسويات سياسية، لا ترقى الى مستوى تطلعات المحازبين والمناصرين، على سبيل المثال لا الحصر:
- المستقبل والتيار الوطني الحر، أقاما تسوية مخالفة لكل ما تربى عليه مناصروهم، فانفرط عقدها بعد مظاهرات 17 تشرين.
- ح ز ب الله الذي وعد مناصريه بمكافحة الفساد، عاد وتراجع عن ذلك معرباً عن قلقه من نشوب حرب أهلية، الى أن أتى خطاب السيد ن ص رالله الأخير ليؤكد أن الحزب لم يتخلَ عن ذلك الهدف.
3- عادت بعض الأحزاب لتنزلق الى حمل السلاح والخطاب المذهبي والغرائزي والتكفيري للآخر، ولو قُدّر لها لكررت التجربة البغيضة من الاقتتال الأهلي والتحارب الطائفي. ويمكن الإشارة الى حديث بعض المسؤولين القواتيين، والذي يترافق مع أحاديث شعبية عامة، عن قدرة القوات على تجنيد آلاف المقاتلين. كما نشير الى تيار المستقبل الذي تحوّل من تيار العلم الى حزب لديه ميليشيا مسلحة تقوم بترويع المواطنين كلما استثير الغضب المذهبي، ناهيك عن حركة أمل والاشتراكي وسواهم.
بكل الأحوال، الأمثلة كثيرة وتطول، لكن المفيد التأكيد، أن الفساد ينخر المجتمع اللبناني قبل سياسييه، والتأليه يصنعه مواطن لا يؤمن بقدرته على التحرر، وما الأحزاب وقيادييها إلا مرآة عن مجتمع وشعب، و"كما تكونون يولّى عليكم".
Leila Takla RS

2021/01/17

أميركا منقسمة.. لكنَّ نبوءة "الانهيار" مبسّطة

 

ليلى نقولا

يقف العالم متفرجاً على المشاهد الَّتي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام العالمي إثر "غزوة الكونغرس" التي قام بها أنصار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبعد الاتهامات التي أطلقها ترامب وأنصاره إثر خسارته الانتخابات، والتي تدّعي أنَّ الانتخابات سرقت، وأن تزويراً على نطاق واسع حصل، على الرغم من أن التدقيق التقني وقرارات المحاكم في الولايات أعلنا عدم وجود تزوير، وأشارا إلى أن نتائج الانتخابات صحيحة مئة في المئة.

 

وبعد هذه المشاهد، يتحدث العديد من المحللين في أنحاء العالم، وبعضهم في العالم العربي، عن "انهيار" سيحدث في الولايات المتحدة، ويرون أن الانقسام الحاد الذي يعيشه المجتمع الأميركي، إضافةً إلى الأزمة الاقتصادية، سيؤديان إلى انهيار أميركا، كما حصل للاتحاد السوفياتي سابقاً.

 

يشير التاريخ بشكل عام إلى أنَّ صراع الهويات الداخلي يؤثر بشكل سلبي في قوة الدولة، وأن هذا الصراع يبرز بشكل أكبر حين تضعف السلطة المركزية، وخصوصاً إذا ما ترافقت مع أزمة اقتصادية، لكن فرضية القياس هنا لتأكيد نظرية الانهيار الأميركيّ "الحتمي" دونها ملاحظات عدّة، وخصوصاً إذا ما تمّت مع دراسة للتاريخ الأميركي والانقسامات المجتمعية ومدى قدرتها على تأكيد حتمية الانهيار. وهنا يمكن العودة إلى المعطيات التالية:

 

 

 

1- الحديث عن انفصال الولايات

لا شكّ في أنَّ العديد من مواقع التواصل الاجتماعي أبرز إلى العلن حديثاً أميركياً عن الرغبة في الانفصال، وخصوصاً بعد خسارة ترامب. ولعل الأبرز في هذا الإطار تصريح رئيس الحزب الجمهوري في تكساس آلان ويست: "ربما يتعيّن على الدول التي تلتزم بالقانون الترابط معاً وتشكيل اتحاد من الولايات التي ستلتزم بالدستور" (بعد رفض المحكمة العليا النظر في قضية "تكساس ضد بنسلفانيا" لإبطال نتائج انتخابات 2020 في أربع ولايات).

 

لكنَّ هذا الحديث ليس جديداً، بل إنَّ العديد من الأميركيين عادةً ما يبدون رغبتهم في الانفصال أو الهجرة إثر الانتخابات الرئاسية. في العام 2009، وبعد انتخاب باراك أوباما رئيساً، تحدث حاكم تكساس (بشكل مبطن) عن حق الولاية في مغادرة الاتحاد. وبعد انتخاب دونالد ترامب في العام 2016، تحدث الكثير من الليبراليين عن رغبتهم في الهجرة إلى كندا (لم يحصل)، وكثر الحديث عن خروج كاليفورنيا من الاتحاد.

 

ولفترة طويلة من الزمن، حاول العديد من الأميركيين الدفع لخروج ولاياتهم من الاتحاد، وباءت جميع محاولاتهم بالفشل، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، مينيسوتا في العام 1997 (المطالبة بالانفصال والانضمام إلى كندا)، وتظاهرات فلوريدا 1982، والدعوى التي رفعت أمام المحكمة الفيدرالية في ألاسكا في العام 2006 لتأكيد حقّ الانفصال، وحركة كاليفورنيا للانفصال "CALEXIT" التي بدأت في العام 2010...

 

كل ما يقال اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي لا يعدو كونه كلاماً سياسياً وشعبياً، إذ لا يوجد أي أساس قانوني تستطيع من خلاله ولاية أن تنفصل عن الاتحاد، علماً أن دستور الولايات المتحدة لا ينصّ بأي شكل من الأشكال على أي إجراءات قانونية يمكن أن تستخدمها الولايات للانفصال، وهو يتضمن مواد قانونية حول ضمّ ولايات جديدة أو تقسيم الولايات القائمة، لكن لا يذكر مطلقاً حقّ الانفصال.

 

وفي تفسير الدستور، أقرّت المحكمة الفيدرالية العليا في قضية "تكساس ضد وايت" في العام 1869 بعدم جواز انفصال الولايات.

 

2- الانقسام المجتمعي الأميركي

المؤكّد أنّ مجيء ترامب إلى السّلطة أدى إلى زيادة الاستقطاب الأميركيّ، وعمّق انقسامهم "الإيديولوجي" إلى حدٍ كبير، وأنّ استمراره في السلطة لأربع سنوات إضافية كان ليؤدي إلى مزيد من الانقسام الذي يهدد الأمة الأميركية بشكل عام، لكن كتاباً حديثاً للمؤرخ الأميركي ريشارد كرايتنر صادراً في أيار/مايو 2020 يدرس تاريخ الانقسام المجتمعي الأميركي على مدى 400 عام، يؤكّد "أن أسس الأمة الأميركية كانت دائماً هشة"، ويشير إلى أن الولايات المتحدة الأميركية منذ تأسيسها، أي منذ تأسيس المستعمرات الـ13، لم يكن لديها هوية موحدة أو هدف مشترك قبل الثورة. ويضيف: "لفهم الانقسامات السياسية الحالية بشكل كامل، يجب أن نتوقف عن إخبار أنفسنا بأنه كانت هناك لحظة في ماضينا لم نكن فيها منقسمين بشكل جدي".

 

والأهم في الكتاب تأكيده "عدم حصول أي محاولات جدّية لتوحيد (الأمة) إلا وسط تهديدات خارجية، حقيقية أو متصورة". تاريخياً، "لقد ربط الخوف، وليس حب الوطن، الأمة ببعضها البعض".

 

أما الباحث ديفيد هندريكسون، فيؤكد أن الدستور الأميركي كان قبل كل شيء "ميثاق سلام" بين الولايات، إذ "تمّ الاتفاق على أنه لا ينطلق من منطلق الهوية الوطنية المشتركة، إنما لمنع القوى الأجنبية من استعادة السيطرة على الدول المستقلة حديثاً".

 

 

 

3- التعصب الديني

كان تأييد الكنائس الإنجيلية للرئيس ترامب العامل الأبرز في كسبه هذا الكمّ من الأصوات على مستوى الاتحاد، علماً بأن بدء صعود هذه المجموعات كان أثناء حملة ريغان الانتخابية تحت شعار "الولادة مرة أخرى كمسيحيين".

 

واستمرَّ صعود اليمين الديني المتطرف بشكل متسارع، إذ تشير إحدى الدراسات إلى أن التصويت الرئاسي في العامين 1988 و1992 تأثر إلى حد كبير بالرؤى والتوجهات التي أطلقتها هذه المجموعات الراديكالية، إلى أن أتى الرئيس جورج دبليو بوش إلى السلطة على أرضيّة اليمين الديني وتصويته المرجح، فشاركت قوى اليمين الديني المحافظ في الإدارة الأميركية للمرة الأولى.

 

 إذاً، من خلال ما سبق، وعلى الرغم من حدّة الاستقطاب الإيديولوجي الذي تعيشه أميركا، والذي طغى تأثيره على العوامل الاقتصادية التي كانت عاملاً مرجحاً في الانتخابات الأميركية على مدى عقود، وعلى الرغم من أن الأميركيين - بلا شكّ - يعيشون أزمة قيادة سياسية حقيقية، فإنَّ توقّع "انهيار أميركا" في المدى القصير لا يبدو واقعياً.

 

 إنَّ المشاكل التي تعانيها الولايات المتحدة الأميركية، والأثر السلبي الذي تركه ترامب داخلياً وخارجياً، سيجعل السياسة الخارجية الأميركية أكثر تواضعاً وأقل هجومية، وستحاول الإدارة الجديدة - وفي خضّم انشغالها بمشاكلها الداخلية - المحافظة على الاستقرار وترتيب إدارة "الانكفاء المرحلي لمحاولة العودة إلى الساحة العالمية بشكل أقوى"، لكن هل ينتظر الزمن والنظام الدولي والدول الأخرى أميركا لتعيد ترتيب نفسها لحكم العالم من جديد؟

 

2021/01/11

باسيل يعرّي "يمين" التيار ويؤكد الثوابت


كان المؤتمر الصحفي الذي عقده الوزير السابق جبران باسيل مناسبة للتأكيد على الثوابت الأساسية التي قام عليها التيار الوطني الحر، وتكرّست خلال مسيرة قيادة الرئيس عون للتيار في مرحلة ما بعد عام 2005.

لا شكّ أن الظروف التي يمر بها لبنان والمنطقة أثرّت بشكل أوبآخر على التيار الوطني الحر، خاصة مرحلة "الضغوط القصوى" التي شهدها لبنان، وشهدها التيار بالأخص كونه حليفاً لحزب الله. لقد أدّت هذه الضغوط لإعطاء مساحة علنية لطرح بعض الأسئلة الداخلية حول جدوى هذا التحالف ومدى التزام حزب الله بوثيقة التفاهم وأهمها بند "بناء الدولة". لكن الأهم، أنها سمحت بخروج العديد من المحسوبين على التيار بتصريحات علنية أقل ما يقال فيها أنها انقلاب على الثوابت والمبادئ التي أرساها العماد ميشال عون منذ عام 1988 ولغاية اليوم.

وعليه، كان خطاب باسيل في شقّه الاستراتيجي مفصلياً، لإعادة تصويب البوصلة وتكريس الثوابت وأبرزها:

أولاً- لا لتقسيم لبنان تحت أي عنوان صريح أو مقنّع:

لقد شهدت وسائل التواصل والاعلام تصريحات عدّة تريد أن تعيد لبنان الى خطابات الحرب الاهلية ومشاريعها التقسيمية التي دفع ثمنها اللبنانيون الغالي والنفيس ودفع المسيحيون خاصة من دمائهم، وكلّفتهم دورهم ووجودهم في النظام اللبناني، وأهمها طروحات التقسيم المقنّع تحت شعار "الفيدرالية ".

لا شكّ أن الفيدرالية نظام معتمد في العديد من البلدان المتقدمة وقد يكون وصفة جيدة للعديد من المجتمعات المتعددة، لكن الفيدرالية المطروحة في لبنان على أساس طائفي و/ أو مناطقي، ومع الانقسام العامودي الذي يعيشه لبنان، والسعار الطائفي والمذهبي في لبنان والمنطقة، والاختلاف حول الهوية والدور، والتباين في الرؤى حول السياسة الخارجية والدفاعية والنقدية (وهي اختصاصات الدولة المركزية)، ستكون وصفة لزيادة الشرخ الطائفي والمذهبي وتهميش الفئات الأقلوية في كل "كونتون" جغرافي أو طائفي.

كما نعرف لبنان وتركيبته، ندرك أن أي مشروع فيدرالي سيكون وصفة لإعادة أحلام "الكونتونات" السابقة، وعودة عنصرية ومحاولات إلغائية تحت عنوان "مناطقنا ومناطقهم / نحن وهم"، بالإضافة الى زيادة محاولات اللبنانيين الاستقواء بالخارج على شركائهم في الوطن.

بعبارات صريحة أكد باسيل " ... يلّي بيعتقد انو بتقسيم لبنان، هو بيسلم وبيقوى، هو خاوي!"، وهذا مبدأ أساسي قام عليه التيار الوطني الحر وكان أساس في مسيرة العماد عون النضالية "لبنان أكبر من أن يبلع وأصغر من أن يقسّم".

 

ثانياً: العداء مع "اسرائيل"

أكد باسيل على ثوابت التيار الوطني الحر التي تدرك أن النموذج "الاسرائيلي" القائم على العنصرية ويهودية الدولة هو نقيض لنموذج التعايش اللبناني القائم على التعددية والتسامح الديني. وصوّب على مَن يدعون الى الاستسلام تحت عنوان "تعبنا وبدنا نعيش"، بالقول أن السلام بدون عدالة وبدون إعطاء الحقوق الفلسطينية وأهمها حق عودة اللاجئين (الذين يعيش قسم كبير منهم في لبنان) هو وصفة لحرب أهلية لبنانية ونهاية وجود لبنان.

 

ثالثاً- العلاقة المميزة مع سوريا وحفظ العلاقات الجيدة مع دول العالم حتى المتخاصمة اقليمياً

انطلق باسيل في مقاربته للعلاقات اللبنانية السورية من المصلحة اللبنانية الأكيدة بحسن الجوار والعلاقات الجيدة مع سوريا ومع الدول العربية، والانفتاح على الغرب والشرق معاً. وأكد باسيل موقف التيار من الجدال اللبناني الداخلي حول الموقف من سوريا، بالتأكيد أن لبنان المتخاصم مع سوريا والمعادي لها سيكون أضعف اقتصادياً وسيسهل استهدافه اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً الخ.

وهذا مبدأ استمر عليه التيار الوطني الحر حتى في عزّ نضاله ضد الجيش السوري في لبنان، خلال فترة حرب التحرير وما بعدها في التسعينات، حين أكد العماد عون مراراَ : فلتخرج سوريا من لبنان ونقيم معها أفضل العلاقات المميزة.

 

رابعاً- إعادة التذكير بنهج الحريرية السياسية

بغض النظر عن التفاصيل المحلية المرتبطة بتشكيل الحكومة، لا شكّ أن باسيل كان يهدف في مقاربته للأمور المحلية بإعادة التذكير بإرث الحريرية السياسية الذي استقوى بالسوريين لتطبيق نهج اقتصادي سياسي اجتماعي أفقر لبنان وكرّس الفساد والمحسوبية والزبائنية والنظام الريعي، وهمّش المسيحيين في النظام، وجعل من رئيس الجمهورية "باش كاتب"... وبالتالي كيف يمكن إعادة إنتاج هذا النظام وتوقّع نتائج مختلفة!.

 

واقعياً، لقد كان خطاب باسيل متعدد الرسائل التي أطلقها في اتجاهات شتى خارجية وداخلية، ومنها أيضًا رسائل للمغردين خارج السرب من أنصار التيار والمحسوبين عليه، حين أكد بكلمات صريحة وواضحة، أن هناك أصوات "بتجنح... لأنها بتواجه عن حق حيط بيسدّ أفق الحل"، لكنه ومع إعطائه جزء من الأحقية (التي يعود جزء منها لليأس)، أكد أن التيار سيحافظ على الميثاق الوطني، ولن يدخل بمشاريع إنفصالية، وأنه سيبقى على طرحه الأساسي ورؤيته للبنان "دولة مدنية مع لامركزية موسعة". 

2021/01/08

بعد الانقلاب الفاشل: هل تشكّل ايران "فشة خلق" لترامب؟


 8 january 2021

في مشهد غير مسبوق في الولايات المتحدة، اقتحم مجموعة من المتظاهرين المؤيدين للرئيس الأميركي الخاسر دونالد ترامب، مبنى الكونغرس في محاولة لقلب نتائج الانتخابات الرئاسية وعدم التصديق على فوز جو بايدن.

 

واقعياً، لم تكن محاولة الانقلاب التي قام بها ترامب وأنصاره مفاجئة، فكل التقارير الصحفية والتصريحات المختلفة، كانت تشير الى أن ترامب ومعاونيه يدرسون بجدية القيام بانقلاب وأن صديقه ومستشاره (الخارج من السجن بعفو رئاسي) الجنرال مايكل فلين يحاول أن يضع تصوراً لإنقلاب عسكري يقلب بموجبه نتائج الانتخابات لصالح ترامب.

 

وكما يبدو، لم يكن في يد ترامب سوى تحريض أنصاره من الغوغاء لكي يقتحموا مبنى الكونغرس خلال التصديق على نتائج الانتخابات، بعدما أسقط من يده القدرة على استخدام الجيش الأميركي في الداخل، فقد أعلن العديد من القادة العسكريين ورئيس هيئة الأركان المشتركة - بوضوح - أن الجيش لن يتدخل في الانتخابات ولا في السياسة الداخلية، وأن القسم على الدستور يجعل من الجيش موالياً للدستور فحسب وليس لفرد أو ملك أو رئيس...

 

والآن، أين يتجه ترامب بعد محاولة الانقلاب الفاشلة؟

 

داخلياً-  يبدو ترامب في أضعف لحظة في مسيرته السياسية، خاصة بعد تخلي نائب الرئيس مايك بنس والعديد من أعضاء الحزب الجمهوري عنه، بعدما لمسوا أن تأييدهم لترامب قد يودي الولايات المتحدة الأميركية الى حرب أهلية، أو الى فوضى عارمة سوف تدمر أميركا من الداخل.

 

خارجيًا، وخاصة في موضوع التهديدات لإيران:

 

خلافاً للقيود التي ينصّ عليها الدستور حول تدخل الجيش الأميركي في الداخل وفي الانتخابات، فإن ترامب ولغاية آخر يوم من ولايته، يمكن له أن يأمر بشنّ ضربات على أهداف خارجية، وبالتالي، ما زال يملك الصلاحيات الكافية لذلك.

 

في هذا الإطار، يمكن أن تشهد الايام القليلة المتبقية من ولاية ترامب، سيناريوهان:

 

- السيناريو الاول: أن تكون محاولة الانقلاب الفاشلة قد أضعفت ترامب وجعلته يتراجع عن الأعمال العدائية التي كان ينوي القيام بها ضد إيران.

 

- السيناريو الثاني: أن يستغل ترامب الأيام الأخيرة المتبقية له في ولايته الرئاسية، فيقوم بالانتقام من الايرانيين ومن جو بايدن الذي يتحضر للعودة الى الاتفاق النووي، فيأمر بشنّ ضربات صاروخية على مواقع إيرانية بذرائع متعددة.

 

كما يبدو من مسار الأمور ومن شخصية ترامب النرجسية، لا نستبعد أن يستمر ترامب في التفكير في شنّ ضربات على إيران حتى بعد محاولة الانقلاب الفاشلة:

 

تتميز شخصية ترامب النرجسية بحاجته الدائمة الى إظهار القوة والانجاز، لذلك هو لا يتقبل الخسارة بسهولة، وكما لم يستطع تقبّل خسارة الانتخابات الرئاسية، فإنه لن يتقبل أن يكون قد فشل في استراتيجيته ضد إيران، بالرغم من كل الضغوط القصوى التي مارسها، لذا من المؤكد أنه ما زال يفكر جدياً في الانتقام من الإيرانيين.

 

وللدلالة على شخصيته التي لا تتقبل الهزيمة ولا تعترف بالخسارة، يكفي أن نقرأ في البيان المكتوب الذي أصدره ترامب بعد فشل الانقلاب الذي حضّر له، والذي قال فيه أنه "يتعهّد بالانتقال المنظم للسلطة في 20 كانون الثاني/ يناير على الرغم من إنه لا يتفق مع نتيجة الانتخابات"  وأضاف في جملة معبّرة؛ "بينما يمثل هذا نهاية أعظم ولاية أولى في تاريخ الرئاسة، إلا أنها مجرد بداية لمعركتنا لجعل أميركا عظيمة مرة أخرى!"

 

من ناحية أخرى، وبما أن ترامب يطمح الى أن يترشح للانتخابات في الدورة القادمة عام 2024، فإنه يعتقد أنه إمكانياته للفوز سوف تكون أفضل بضرب إيران لإرضاء القاعدة الانجيلية المؤيدة لإسرائيل التي انتخبته ومنحته مئات الملايين من الأصوات بالرغم من عدم كفاءته.

 

إذًا، يختصر وضع ترامب اليوم برئيس غاضب متهور، يملك بموجب الدستور الأميركي- في الوقت القليل المتبقي لديه -  الكثير من الصلاحيات الخارجية خاصة في المجال العسكري، وليس لديه ما يخسره على الصعيد الشخصي، لذا قد يلجأ الى إحداث الضرر على الصعيد الدولي وخاصة في منطقة الشرق الأوسط.

 

وعليه، نجد أن السيناريو الثاني هو الأكثر ترجيحاً، أي أن ترامب بعد محاولة الانقلاب الفاشلة لن يتراجع بل سيكون أكثر إصراراً على القيام بمغامرة عسكرية في الخارج لحفظ ماء الوجه والانتقام من الداخل والخارج معاً، وبالتالي سيشكّل الشرق الأوسط "فشة خلق"، إلا إذا رفضت قيادات البنتاغون تنفيذ الأمر الرئاسي، واستغلت ضعف ترامب لعدم جرّ منطقة الشرق الأوسط الى الفوضى.