2019/10/28

هل من خريطة للصراعات الاقليمية والدولية في حراك لبنان؟ ـ

د. ليلى نقولا - الثبات
بعد مرور 12 يومًا على التظاهرات في لبنان، وبعد أن هدأت موجة السباب والشتائم والغوغاء، وانتقلت الى مرحلة أخرى من التخطيط والتنظيم وكشف الوجوه، يمكن لنا إدراج بعض الملاحظات على الحراك كما يلي:

أولا- في الحراك العفوي: بالطبع نزلت الناس الى الساحات في أول أيام التظاهر بشكل عفوي وطبيعي لأنها لم تعد تحتمل كل هذا الفساد السياسي المفضوح والعلني، ولكن المقدمات التي سبقت الحراك لم تكن بريئة اطلاقًا:

الأزمات المفتعلة وبتدبير منظم تشي بأن شيئًا كان يُحضّر منذ فترة... فجأة، انهار كل شيء أمام أعين المواطنين؛ التهديد بانقطاع البنزين اسبوعيًا (ابحثوا عن الكارتيلات)، انقطاع الخبز (كارتيلات)، انقطاع الدولار من السوق (مصرف لبنان)، الحرائق والتي تبين أن معظمها مفتعل وغيره...

ثانيًا: يُلاحظ أن مجموعات التواصل الاجتماعي التي تضع عنوان الثورة وحسابات التويتر والواتساب وغيرها التي تدعو للثورة والتي تركّز على السيد نصرالله باعتباره جزءًا من منظومة الفساد، هي مجموعات أنشئت في منتصف أيلول الماضي، وليس مع بدء الحراك، أي بالتزامن مع الازمات المفتعلة التي ذكرناها سابقًا. يضاف الى ذلك المعلومات الموثقة عن تدريبات إعلامية لمواكبة التظاهرات وميدانية شبابية حصلت خلال شهر أيلول وقبله.

ثالثًا: تزامنت الأزمات والتحضير للحراك، مع تطورات هامة في المنطقة:

- في الاسبوع الاخير من أيلول وأول تشرين الاول، ترامب يعلن انسحابه من الشرق السوري وترك الاكراد لمصيرهم. وكان واضحًا منذ البداية أن هناك تفاهمًا أميركيًا روسيًا تركيًا إيرانيًا على ترتيبات الشرق السوري. وبالتأكيد، إن الانسحاب الأميركي من سوريا (باستثناء مناطق النفط) يفترض تعزيز النفوذ الأميركي الموجود اصلاً في كل من لبنان والعراق، لمنع ايران من زيادة نفوذها في البلدين، وهذا منطقي في العلاقات الدولية. 

- اقليميًا: من الطبيعي أن نتوقع أن تقوم بعض الدول الخليجية بمحاولة تعويض ما خسرته في سوريا بعد سنوات من الحرب والتمويل والتسليح، لهزّ النفوذ الايراني في المنطقة، من ضمن الصراع السني الشيعي.

- كما نلاحظ تجسد الصراع السنّي السنّي بشكل الحرب الناعمة، فنجد أن القطريين والاتراك يموّلون بعض الساحات كطرابلس على سبيل المثال لا الحصر، بينما تموّل السعودية والامارات ساحات أخرى، منها تظاهرات القوات اللبنانية على سبيل المثال لا الحصر.

- انفجرت التظاهرات في العراق، قبل لبنان بحوالي اسبوعين بشكل متطابق مع تظاهرات لبنان (تظاهرات شبابية لا قيادة لها، تدعو الى مكافحة الفساد وإلغاء النظام الطائفي وضد كل الاحزاب وغيرها ...) الفارق الوحيد أن تظاهرات العراق اتخذت شكلاً دمويًا منذ بداياتها.

ويلاحظ أن التظاهرات في العراق كانت في المناطق الشيعية بشكل كبير واتخذت شكل المطالب التي تطالب بإخراج النفوذ الايراني من البلاد، وتحدثت الحكومة عن وجود قناصة مجهولين يقومون بقنص المعارضين والشرطة معًا وطلبت من الجمهور مساعدتها في التعرف إليهم.

من هنا، قد يكون الخوف من دخول قناصة الى المشهد اللبناني، تستغل قيام القوى الامنية بفتح الطرقات أو الاشتباك مع المعتصمين لشيطنة القوى الامنية، وقتل المتظاهرين ودخول البلاد الى فوضى أمنية لا تبقي ولا تُذرّ... وقياسًا مع العراق، قد تقوم غرف سوداء باتهام حزب الله بقتل المتظاهرين، إذ سارعت بعض الجهات في العراق الى الحديث عن "ملثمي الفصائل المسلحة"، فيما راجت رواية أخرى عن وجود عناصر إيرانية تطلق النار على المتظاهرين، بينما تحدثت روايات رسمية أن العنف كان من قبل المتظاهرين أولاً مما اضطر القوى الامنية للردّ بالعنف.

وهكذا نستنتج، أنه وبالرغم من أحقية وجع الناس والمظالم المتراكمة منذ ثلاثين سنة ولغاية اليوم، وبالرغم من الفجور السياسي الذي فاق كل التوقعات، ورفض الامتثال للقضاء، وبعد التقارير عن صفقات فساد بالارقام والوثائق بدون محاسبة ومساءلة... إلا أنه من السذاجة عدم توقّع تدخلات سياسية داخلية تريد استغلال وجع الناس لتحقيق كيدية سياسية ومحاولة قلب موازين القوى الحكومية والانقضاض على التسوية الرئاسية، وجهات خارجية تسعى لفوضى في لبنان لقلب الموازين القوى الاقليمية بين محور خسر في سوريا يريد التعويض في لبنان والعراق، ومحور انتصر من مصلحته استقرار الوضع في كل من لبنان والعراق.

2019/10/21

لبنان: دروس انتفاضة الناس

لا شكّ ان الانتفاضة الشعبية التي عمّت مختلف المناطق اللبنانية، كانت نتيجة طبيعية لتفاقم أزمات السلطة السياسية التي أمعنت في صمّ آذانها عن صرخات الناس، واستسهلت فرض الضرائب والسرقات المكشوفة على مرأى من الجميع ومنعت كل إمكانية للمساءلة والمحاسبة وعطّلت القضاء والجهات الرقابية.

وأما وقد وصلت الأمور الى ما صلت إليه، يمكن استخلاص دروس مبكرة، ولو أن الانتفاضة الشعبية لم تصل الى خواتيمها بعد، ولا أحد يعرف كيفية إتجاه الأمور على الأرض بعد إعلان الحكومة ورقتها الاقتصادية، وهذه الدروس تتلخص في ما يلي:

أولاً، أثبت الشارع اللبناني أن ذرائع التستر بالطائفية والمذهبية لمنع المساءلة والمحاسبة للفاسدين وسارقي المال العام لم تعد تنطلي على أحد. لقد مسّت الازمة الإقتصادية كل مواطن لبناني في رزقه ومستقبل اولاده وقوتهم، لذا لم تعد تعنيه كل الخطوط الحمراء التي ابتدعوها لحماية أنفسهم وسرقة المال العام. كما أثبت أنه يمقت التعجرف السياسي والفوقية التي يعامله بها سياسيوه.

ثانيًا: إن الأزمات سواء الحقيقية أو المفتعلة التي ابتدعها أهل السلطة لإحراج بعضهم البعض أو لإحراج العهد، انفجرت في وجه الجميع دون استثناء. وبالرغم من أن الشارع قال كلمته ضد الجميع، إلا أن البعض حاول استثمار الشارع لتصفية حسابات سياسية، كدعوة فرنجية وجنبلاط الى استقالة باسيل وكأن باسيل هو المتهم بسرقة المال العام والسيطرة على مقدرات الدولة لمدة ثلاثين عامًا، وهو الذي استفاد من وجود السوريين ليخلق له كونتونات طائفية زبائنية.

ثالثًا: كان لافتًا مطالبة "القوات اللبنانية" باستقالة الرئيس، وهو أمر خطير جدًا من الناحية القانونية والسياسية وحتى المسيحية.

من الناحية القانونية، إن التعديلات الدستورية التي أتى بها الطائف عام 1990، انتزعت صلاحيات رئيس الجمهورية وأنيطت بمجلس الوزراء. وهكذا، لم تعد السلطة الاجرائية منوطة برئيس الدولة بل بمجلس الوزراء مجتمعًا.

وهكذا أصبح المسؤول الأول في السلطة الإجرائية هو رئيس مجلس الوزراء ولم يعد رئيس الجمهورية كما كان قبل تعديلات الطائف. وهكذا يكون رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول عن تنفيذ السياسة العامة للحكومة، كما تمّ تكريس استقلاله عن رئيس الجمهورية في إدارة شؤون الحكومة ان لجهة وضع جدول أعمال مجلس الوزراء ام لجهة ترؤس اجتماعاته ودعوته الى الانعقاد، الأمر الذي أدّى الى نقل مركز الحكم في لبنان من قصر بعبدا الى السرايا الكبير.

وأكثر من ذلك، فإنه باستثناء مرسوم تسمية رئيس الحكومة ومرسوم قبول استقالة الحكومة او اعتبارها مستقيلة، لا يحق لرئيس الجمهورية ممارسة ما تبقى له من صلاحيات، من دون توقيع رئيس الحكومة والوزير أو الوزراء المختصين (المادة 54 من الدستور).

وهذا يعني أن الرئيس غير مسؤول عن سياسة الحكومة بل هو حَكَم بين اللبنانيين، لذا فإن مسارعة القوات الى المطالبة باستقالته تعدّ نوعًا من الهرطقة الدستورية والخيانة العظمى للمسيحيين.

تعدّ رئاسة الجمهورية اللبنانية آخر موقع مسيحي في شرق تمّ تهجير المسيحيين منه، وبالتالي إن إضعاف موقع الرئاسة واستسهال إقالته كما تريد "القوات"، يعني استكمال مسلسل تهجير المسيحيين من المشرق وهو المخطط الذي يبدو أن "القوات اللبنانية" هي رأس حربة فيه.

وبالنتيجة، لقد قال الشارع كلمته بالفعل وأوصل رسالة شديدة اللهجة الى المسؤولين، ولكن المطالبات المبالغ فيها كاستقالة النواب وحلّ السلطة بأكملها وغير ذلك، تبدو إما نوعًا من الإنفصال عن الواقع أو التآمر على الوطن، إذ أن سيناريو كهذا - أقلّه- سوف يؤدي الى انهيار الليرة المترنحة أساسًا، وقد يستفيق اللبنانيون على 5000 ليرة مقابل الدولار الواحد. لذا، إن الاتعاظ والتغيير مع حفظ الاستقرار الأمني والاقتصادي يبقى الحل المقبول حاليًا ولو لم يكن الحل المرتجى.

2019/10/14

الأكراد والخطأ التاريخي للأقليات

في خضم الحديث عن دعوة الاكراد للجيش السوري للدخول الى مناطقهم وردّ العدوان التركي، تتحدث وسائل الاعلام العربية والغربية عن غدر ترامب بحلفائه وخذلان العالم للأكراد... وفي حديث لمجلة فورين بوليسي، يتحدث مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية في سوريا ،  بأنه "سيكون هناك تنازلات مؤلمة" للحكومة السورية وحلفائها الروس، معتبرًا ان الاكراد  لا يثقون بهم... ومن الصعب "معرفة من يجب أن تثق به...".
عمليًا، يتحمل الأكراد في سوريا المسؤولية الكاملة عما آلت اليه الاوضاع في شرق الفرات، اذ من غير الممكن تصوّر ان الاكراد لم يتوقعوا هذا المصير، فالولايات المتحدة الأميركية تخلت سابقًا أكراد العراق، والمسيحيين في العراق ولبنان وغيرهم...
بمراجعة بسيطة وشاملة للدعم الأميركي للحلفاء، نجد العديد من الحالات التاريخية، نستذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- الدعم الأميركي للرئيس اللبناني كميل شمعون الذي انخرط في حلف بغداد متكلاً على مشروع أيزنهاور، مما ادى الى ثورة في لبنان عام 1958، بتحريض من عبد الناصر آنذاك. قام الأميركيون باستعراض إنزال المارينز على شواطئ لبنان، ثم انتهت المناورات الاستعراضية باتفاق أميركي مع رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهو العدو السياسي اللدود للرئيس شمعون، اللواء فؤاد شهاب.
- عام 1982، بعد الاجتياح الإسرائيلي الثاني، وعلى أثر ترحيل المقاتلين الفلسطينيين عن لبنان، قام الأميركيون بإنزال المارينز على شواطئ بيروت، متذرعين بأن السياسة الأميركية تهدف الى استعادة لبنان سيادته واستقلاله كما صرح الرئيس الأميركي رونالد ريغن. واستمر الوجود الأميركي السياسي والعسكري خلال عهد الرئيس أمين الجميل، لكن ذلك لم يعطه قدرة على الحكم. وكلنا يذكر التصعيد الكلامي الذي أطلقه الجميل من واشنطن، معتبراً أن كل طلقة سورية تستهدف بيروت، سيرد عليها باستهداف دمشق، ولا ينسى أهل بيروت ذلك اليوم المأسوي الذي تساقطت فيه القنابل من كل حدب وصوب على مدينتهم وأحيائهم، ولم يحرّك الأميركيون ساكناً، بل لم يكترث الأميركيون حين أرغمت القوات اللبنانية الرئيس الجميل على القبول بالنفي القسري فور انتهاء عهده.

- دعوة السفير الأميركي جون ماكارثي من إهدن الى قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع، للوفاء بوعده والتحرك ضد الجنرال ميشال عون، الذي كان رأس السلطة التنفيذية آنذاك. وبسرعة، أطاع جعجع الأوامر وأدّت «القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع المهمة المطلوبة منها بالضبط، فدخل السوريون المناطق «الشرقية» بدعم أميركي واضح. وبالرغم من ذلك، رأت الإدارة الأميركية أن سجن قائد “القوات اللبنانية” ومحاكمته وإدانته في عهد الرئيس الياس الهراوي، أمر لبناني داخلي لا تستطيع التدخل فيه.
هي إذًا دروس تاريخية يجب أن تضعها الاقليات نصب عينيها، فلا الدول جمعيات خيرية ولا يُعرف عن الأميركيين التزامهم بحليف بعد أن يكون قد أدّى مهمته وبات عبئًا عليهم.

2019/10/07

شرق الفرات: أين يمكن أن يصل أردوغان بتهديداته؟

أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال اجتماع حزبي أنه سينفذ عملية عسكرية جوية وبرية شرق نهر الفرات في سوريا، وهاجم فيها الولايات المتحدة بسبب الدعم الذي تقدمه للأكراد. وقال أردوغان: "أجرينا استعداداتنا وأكملنا خطة العملية العسكرية في شرق الفرات، وأصدرنا التعليمات اللازمة بخصوص ذلك، وسنقوم بتنفيذ العملية من البر والجو". وأضاف غامزًا من قناة الأميركيين من دون أن يسميهم: "نقول لمن يبتسمون في وجهنا ويماطلوننا بأحاديث دبلوماسية من أجل إبعاد بلدنا عن المنظمة الإرهابية إن الكلام انتهى".

وادعى أردوغان إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أدرج مسألة انسحاب قوات بلاده من منطقة شرق نهر الفرات وإحلال القوات التركية مكانها، لكن من هم حوله لم يعملوا إلى الان بتوصياته. وهكذا، يبدو أن خطة تسيير دوريات مشتركة بين الأتراك والأميركيين قد باءت بالفشل.

واقعيًا، من الصعب التفكير بأن أردوغان سيتجرأ على القيام فعلاً بتلك الحملة العسكرية، متحديًا الولايات المتحدة الاميركية التي حذّرت على لسان المتحدث باسم "البنتاغون" من القيام بعملية عسكرية دون تنسيق معها... لكن، يمكن القول أن التهديد الذي أطلقه أردوغان، يحقق له مصالح عدّة، أبرزها ما يلي:

1- يريد أردوغان أن يستغل الإحراج الذي يعانيه ترامب في الداخل بعد الهجوم الديمقراطي عليه ومحاولة عزله، فيحقق بعض المصالح أو التنازلات في الملف السوري. في هذا الاطار، يريد أردوغان من ترامب أن يوكله بأمر الجغرافيا السورية بالنيابة عنه، وذلك في حال أعاد ترامب التأكيد على رغبته في الانسحاب.

2- يدرك أردوغان أنه حتى لو وافق ترامب على تلك العملية، فإنه لا يستطيع أن يقوم بها من دون موافقة كل من إيران وروسيا. والأكيد أن الايرانيين والروس يفضّلون أن ينفذ أردوغان تعهداته في إدلب، مقابل التوصل الى حلّ لمسألة شرق الفرات. فإذا كان الحل العسكري غير ممكن للتخلص من البؤرة الارهابية في إدلب، فلن يكون بإمكان أردوغان اللجوء الى الحلّ العسكري لحل مسألة شرق الفرات بالمقابل.

بالنسبة لكل من إيران وروسيا، يُفَضَل أن تقوم تركيا بنشر قواتها على حدودها مع سوريا، على أن ينتشر الجيش السوري في المناطق السورية المحاذية، والتي يسيطر عليها الأكراد اليوم. يدرك كل من الروس والايرانيين أن التلاعب بالجغرافيا وتقسيم الدولة السورية سواء عبر الموافقة الأميركية على إنشاء كونتون كردي أو إنشاء منطقة آمنة يسيطر عليها الجيش التركي بذريعة إسكان واستقبل اللاجئين من تركيا وأنحاء أوروبا، قد تتحول الى "دومينو" يهدد الشرق الأوسط برمته.

وعليه، لا يبدو من السهولة على أردوغان شنّ تلك الحملة، وسيبقى شرق الفرات مرتبطًا بإدلب فإما أن تحلّ القضيتان بالتوازي أو تستمر المماطلة الى أن يحين أوان الحلّ النهائي.