2017/01/26

مقررات آستانة بمحاربة الارهاب: هل يلتزم التركي؟


د. ليلى نقولا
لم تكن المجموعات المسلحة الحاضرة في مؤتمر آستانة وراعيها الاقليمي - أي التركي- في موقف تحسد عليه في المفاوضات غير المباشرة التي جرت بين وفد الدولة السورية ووفد المجموعات المسلحة، إذ إن النتائج عكست فعلاً موازين القوى على الساحة السورية. وبالرغم من كل العراضات الاعلامية المعارِضة، لم يؤخذ بتحفظات المعارضة على البيان الختامي ولا تمّ استبعاد الايرانيين كما طالبوا، ولم يتمّ التطرق لا من قريب ولا بعيد الى مرجعية جنيف 2012، التي تعكس موازين قوى ميدانية عفا عليها الزمن ولم يعد من الممكن مجرد التفكير بطرحها.

ولعل وجود ترامب في البيت الأبيض، بالاضافة الى الواقع الميداني المتبدل على الساحة السورية هو الذي فرض ايقاع البيان الختامي لمحادثات آستانة، وقبول الأتراك بفقرة واضحة وصريحة تنص على أن " الوفود المشاركة تعيد التأكيد على إصرارها على القتال مجتمعين ضد تنظيمي “داعش” و”النصرة” الإرهابيين وعلى فصلهم عن التنظيمات المسلحة المعارضة"، وهو أمر إن تحقق فعلاً، ولم يكن مجرد مناورة تركية أخرى، فسيكون له تأثير كبير على مجريات الحرب الدائرة في سوريا منذ ستة أعوام.

وقد يكون ترامب لم يفصح لغاية الآن، عن رؤيته للعلاقات الأميركية - التركية، وعن موقفه من الأكراد في سوريا والذين شكّلوا حليفًا استراتيجيًا للإدارة الأميركية السابقة، ولكن ما قام به الرئيس المنتخب وفريقه لغاية الآن يوضح معالم تلك السياسة والتي قد لا تريح الأتراك وتزيد من قلقهم:

- اعلان وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون خلال جلسة الاستماع في الكونغرس، أن الإدارة الأميركية الجديدة تعتبر جماعة "الأخوان المسلمين" من المجموعات الارهابية مثل داعش والقاعدة، مرتبًا الأولويات بحيث تكون الاولوية للقضاء على تنظيم داعش، ما يمنح الأميركيين الفرصة للقضاء على التنظيمات الإرهابية الأخرى مثل "القاعدة" و "الإخوان المسلمين".

وتشير التقارير الى أن هذه الفكرة تجد تأييدًا من العديد من الشخصيات في فريق الرئيس المنتخب ومنهم مايك بومبيو  (وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) وجيمس ماتيس، المرشح لتولي وزارة الدفاع. وقد أعد السيناتور الجمهوري تيد كروز مشروع قرار يقترح إدراج "الإخوان المسلمين" على لائحة المنظمات الإرهابية لعام 2017، لرفعه إلى مجلسي الكونغرس لمناقشته والتصديق عليه.

- الاتصال الذي أجراه الرئيس ترامب بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ، وأكد فيه على دعمه في مجال مكافحة الارهاب والتطرف، وأكد "التزامه مواصلة تقديم المساعدات العسكرية إلى مصر والعمل معها للتأكد من أن هذه المساعدات تدعم المعركة العسكرية ضد الإرهاب"، مع ما يشكّله هذا الاتصال من إحراج لأردوغان وللأتراك الذين دعموا جماعة الاخوان المسلمين ضد ما سموه "انقلاب" الجيش المصري.

ولعل تخصيص الرئيس المصري بالاتصال الأول من قبل الرئيس المنتخب وتقديم الدعم له، يعدّ رسالة واضحة من الرئيس الأميركي الجديد، بالقطيعة مع سياسات أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون التي كانت عرابة مشروع "أخونة العالم العربي" وتقديم النموذج التركي الإخواني باعتباره "نموذجًا اسلاميًا معتدلاً" على الدول العربية والاسلامية أن تقلده وتسير في ركابه وهو ما اشعل الحرائق في كافة أنحاء العالم العربي تحت مسمى "الربيع". علمًا أن أوباما دشن سياسته الشرق أوسطية بخطاب شهير في مصر عام 2009، أعلن فيه تصالح الإدارة مع الاسلام، ونمقه بخطابات الانفتاح والاعتدال والحضارة المشتركة، لكنها سرعان ما تحوّلت تدخلاً أميركيًا في شؤون العالم الاسلامي ورغبة بتنصيب الاخوان المسلمين بقيادة تركيا حكامًا للعالم العربي.

لهذه الأسباب وغيرها، دأب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأعضاء حكومته في الفترة الأخيرة على إطلاق التصريح وعكسه في ما خص القضية السورية. وبالرغم من البيان الختامي الايجابي الذي صدر عن مؤتمر آستانة، لكن الأكيد أن الأتراك لن يلتزموا بتعهداتهم وسيحاولون الاحتفاظ بالقدر الأكبر من أوراق القوة للتفاوض لبيعها للأميركيين فيما بعد.

لقد وصلت الرسالة الأميركية الى الأتراك في وقت سابق، فمستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي مايكل فلين، وفي مقال مكتوب، اعتبر أنه يجب إعادة الاعتبار للعلاقات التركية الأميركية، لكنه كان واضحًا بتحديد "أهمية" تركيا بكونها حليف مهم في محاربة داعش في سوريا والعراق، لكن لم يتطرق أحد من الإدارة الأميركية الجديدة، الى موضوع الأكراد في الشمال السوري، لذا لن يتنازل أردوغان عن دعم النصرة ولن يسمح بفصلها عن المجموعات المسلحة الأخرى- ولو تعهد بذلك في آستانة- قبل أن ينجلي الموقف الأميركي. عندها فقط، من الممكن أن يبيع أردوغان رأس النصرة وداعش الى الأميركيين مقابل إسقاط حلم الأكراد بدولة مستقلة.

2017/01/19

هل تكون آستانة مركزًا للحل السوري؟

د. ليلى نقولا
تتسارع الاستعدادات لتنظيم الدعوات وإعلان النيات حول مؤتمر آستانة المنوي عقده في كازاخستان، برعاية روسية - ايرانية- تركية، ويتجه كل طرف الى تحديد أولوياته من ذلك الاجتماع، والى وضع تصوراته حول الهدف المرتقب من ذلك الاجتماع.
وفي وقت أعلنت جميع الأطراف تقريبًا أن الاجتماع سوف يثبت الهدنة في كل أطراف سوريا، تباينت المواقف حول العديد من الأمور منها قدرة المؤتمر على إنضاج الحل السياسي، وحضور الأطراف المعنية، ففي وقت أعربت كل من روسيا وتركيا عن أملها في أن تقوم إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإرسال خبراء الى المؤتمر ورحبت بدعوة واشنطن إليه، أعلنت ايران على لسان وزير خارجيتها رفضها لمشاركة الولايات المتحدة الأميركية الانضمام الى هذا المؤتمر.
ويومًا بعد يوم، تبدو الاتجاهات الاقليمية حول مؤتمر الآستانة  أوضح من ذي قبل، على الشكل التالي:
- تركيا: تحاول تركيا الاستفادة من المؤتمر على خطوط عدّة، أولاً كسب الوقت لتحسين أوراق التفاوض وإعادة تسليح المجموعات المسلحة تمهيدًا لمعركة قادمة في الشمال السوري ستكون - لو حصلت - المعركة الأخيرة التي ستحدد مصير سوريا، ومصير الشرق الأوسط برمته، ولا نبالغ إذا قلنا، أن نتائجها ستكون حاسمة بالنسبة لمستقبل أردوغان السياسي، وقدرة تركيا على تخطي الصعوبات والتحديات التي تعانيها في الداخل. لذا، يمكن القول أن الهدنة المزمع تثبيتها تحتاجها تركيا لإعادة هيكلة ودعم المجموعات المسلحة فإما أن تستخدمها في فرض شروط على الحل السياسي، أو القتال من جديد.
- ايران: استطاع الايرانيون فرض أنفسهم طرفًا أساسيًا في الرعاية للحل، بعدما حاول الروس والأتراك استثناؤهم،  وها هم اليوم يحاولون تثبيت ما تمّ تحقيقه من انتصارات ميدانية. لذا يريد الايرانيون من تثبيت الهدنة المرتقب أن يخفف الأعباء الحربية عنهم وعن حليفهم حزب الله. بالمقابل، يقوم الايرانيون بدعم صمود الدولة السورية ماديًا واقتصاديًا ويساهمون في إعادة الاعمار. ولعل الطرف الايراني كان الأسبق للتحضير لمرحلة ما بعد الحرب، إذ قام خلال الأيام الماضية بتوقيع اتفاقيات اقتصادية هامة، منها تشغيل الخلوي السوري، وميناء نفطي ايراني على الساحل السوري وغيرها.
- اسرائيل: تبدو الأكثر تبرمًا من المؤتمر، لذا تحاول الدفع الى التصعيد في سوريا عبر طيرانها، وعبر المجموعات المسلحة، لتجر السوريين الى رد تسقط معه الهدنة ويسقط المؤتمر.
- السعودية، وتجد نفسها غير قادرة على تعطيل المؤتمر ولو كانت راغبة بذلك، كما تنزعج بعدما أصبحت خارج رعاية الحل كما كانت خلال السنوات الماضية، بعدما احتكرت المعارضة التابعة للسعودية تمثيل المعارضة السورية. وبالرغم من أن الأتراك سمحوا لمحمد علوش ( الموالي للسعودية)  بترؤس الوفد المعارض الى آستانة، للتخلص من الضغوط السعودية الميدانية في الداخل السوري بإسقاط الهدنة، إلا أن السعوديين يريدون على الأقل الحدّ من خسائر المؤتمر وذلك من خلال حصر أجندته بتثبيت الهدنة وتأجيل البحث بالحل السياسي لمرحلة قادمة قد يكونون فيها أفضل حالاً على الصعيد الميداني.
- الولايات المتحدة: في هذه الفترة الانتقالية الموسومة بالتحدي بين إدارتين متعاقبتين، وهو أمر لافت في السياسة الأميركية التي لطالما عُرفت بانتظام المؤسسات واحترام تداول السلطة السلس، لا يبدو أن الأميركيين قادرين أو راغبين بتعطيل مؤتمر أستانة، لعلمهم الأكيد أن الحل لن يكون سوى بإرادتهم في نهاية المطاف، وأنهم قادرون - من خلال الأوراق التي يمتلكونها- على فرضه أو تعطيله حين يشاؤون.
- روسيا: يبدو الروس المنتصر الأكبر في كل هذه المعمعة الاقليمية الشرق أوسطية، فلقد استطاعوا دعم الجيش السوري لتحرير حلب، وأثبتو بما لا يقبل الشكّ أنهم لاعب اساسي لا يمكن تخطيه في الشرق الأوسط، وأفشلوا خطة أوباما باستنزافهم في المستنقع السوري، وها هم اليوم يرعون حلاً سوريًا، سيبذلون الكثير من أجل تحقيقه، وخاصة في ظل وجود إدارة صديقة في البيت الأبيض.
إذًا، سيكون اجتماع آستانة محطة من محطات النزاع في سوريا، لا يعوّل عليها لحلّ الأزمة بشكل كلي، ولكنها قد تكون مقدمة لتخفيف حدّة النزاع العسكري المتفلت من كل ضوابط، فإن استطاع تثبيت الهدنة كما يعبّر أطرافه، فهو يكون قد ساهم في تخفيف معاناة السوريين، أما التفاؤل بأنه سيكون مقدمة لحل سوري نهائي، فهو تفاؤل مفرط لم يحن أوانه بعد.

2017/01/12

الهدنة السورية: تركيا في مرحلة اللايقين


د. ليلى نقولا
بالرغم من أن الهدنة الحالية في سورية تُعتبر أفضل من سابقاتها، إلا أن الخروقات المتعددة والاتهامات المتبادَلة تدفع إلى الاعتقاد أن الهدنة القسرية التي فرضت نفسها على الأطراف المعنيين، لا يمكن إلا أن تكون ناراً تحت رماد التوتر، والتحسُّب لما سيأتي،والذي تعيشه جميع الأطراف بانتظار مجيء ترامب إلى البيت الأبيض، خصوصاً بعدما أظهرت التقارير أن المخابرات التركية ما زالت تراهن على قلب الوضع الميداني، وأن هناك تخوُّفاً حقيقياً لدى الجيش السوري وحلفائه من أن يُقدم الأتراك على مغامرة ما، تحاول إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل تحرير حلب.

وفي انتظار ترامب ومؤتمر الأستانة، تعيش الأطراف المنخرطة في الحرب السورية أوضاعاً متأرجحة بين الانتظار والقلق، ويبقى الأتراك الأكثر قلقاً، حيث يمكن وصف الحالة التركية الحالية الداخلية والخارجية بأنها تعيش في حالة من عدم اليقين، تدفع إلى القيام بأمور وضدها، وإطلاق تصريحات وعكسها؛ في إشارة واضحة إلى حجم المأزق الذي يعيشه الأتراك اليوم.

يعيش الأتراك تناقضاً بين سياستهم الداخلية والخارجية، فالحاجة إلى التحالفات الداخلية اللازمة لتغيير الدستور في الداخل وفرض الديكتاتوية في الداخل يحتاجان إلى تصعيد الخطاب ضد الرئيس السوري بشار الأسد والدعوة لإسقاطه، والاستمرار في التحذير من الخطر الخارجي، والذي يتآمر على تركيا ويريد أن يحجم الدور التركي (بحسب الرواية الرسمية)، والخطر الداخلي المتمثل بالإرهاب (يوسم الأتراك كلاً من جماعة غولن و"داعش" والأكراد بالإرهاب)، بينما الظروف الخارجية وحاجة تركيا إلى الروس تدفعهم إلى التواضع والقبول بنتائج الحرب التي خاضوها في سورية، وهي التخلّي عن مطلب إسقاط بشار الأسد، والقبول بالذهاب إلى طاولة مفاوضات يتصدّرها ممثلو الحكومة السورية الحالية.

أما على الصعيد الاستراتيجي، فتعيش تركيا أسوأ كوابيسها الإقليمية والدولية منذ الحرب الباردة ولغاية اليوم، فالتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية تعرّض لخضّات كبيرة في عهد أوباما، خصوصاً بعدما حدد الأميركيون الأكراد بوصفهم الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية، ما يعني تهديداً مباشراً للأمن القومي التركي، وتمّ إفشال كل محاولات أردوغان لحلف "الناتو" بالتدخّل إلى جانبه لإسقاط الأسد وقيام منطقة آمنة، وأخيراً رفض التحالف الدولي (حلف الناتو ضمنًا) استنقاذ الأتراك في معركة الباب، التي كبّد فيها "داعش" الأتراك خسائر كبيرة، إلى أن قام الروس بتغطية الجيش التركي جوياً في تلك المعركة التي لم تنتهِ بعد.

يحتاج أردوغان في هذه الفترة الفاصلة إلى أن يُقنع ترامب بأن الأتراك ما زالوا قادرين على القيام بـ"وظيفة أساسية" في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، وأنه في حال قرر ترامب استكمال الخطة الأميركية السابقة في سورية، فإن الأتراك وجماعاتهم المسلحة هم الأقدر على تنفيذ هذه المهمة، لذا لا يتخلّى أردوغان عن خطة تسليح تلك المجموعات، بل وتشير التقارير إلى قيام تركيا بإعادة تسليح تلك المجموعات ووعدها بمزيد من الدعم؛ في تناقُض صريح مع التفاهم التركي - الروسي المعقود في وقت سابق.

أما في حال قرر ترامب القطيعة مع استراتيجية أوباما السابقة، والانتقال إلى استراتيجية جديدة قوامهاالتعاون مع الروس في مكافحة الإرهاب، وضمناً التعاون مع الجيشين العراقي والسوري لهزيمة "داعش"، فيريد أردوغان أيضاًأن تكون تركيا حجر زاوية في هذه الاستراتيجية الجديدة، وذلك من خلال التخلي عن دورها السابق كرأس حربة في قتال الروس في سورية، وإبراز الجيش التركي بأنه الأقدر على تلك المهمة، بالإضافة إلى ملاقاة ترامب في منتصف الطريق، أي العداء مع الإيرانيين، وذلك لرغبة ترامب الواضحة، والتي عبّر عنها مراراً بتحجيم الدور الإيراني في المنطقة، وإعادة العقوبات على إيران، والقطيعة مع عهد أوباما الانفتاحي على الإيرانيين، ولقد ظهرت رغبة الأتراك في التصدي لهذه المهمة من خلال الجدال التركي - الإيراني حول شرعية وجود الإيرانيين في سورية، ومطالبة الأتراك بانسحاب حزب الله من سورية.

وفي كلا الحالتين، ومهما تكن أسس الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، سيحاول أردوغان أن يقنع ترامب بالتخلي عن الأكراد بشكل نهائي، والعودة إلى الاستراتيجية الأميركية القديمة لمرحلة ما قبل الحرب السورية، حيث كان التركي "الحليف الاستراتيجي" الطبيعي والدائم للأميركيين، يستطع تنفيذ "المهام" الموكولة إليه، وهو - كان- وما زال يملك الأوراق اللازمة لخدمة الأهداف الأميركية، سواء كانت تتجلى بالاستنزاف في سورية والاستمرار بتأجيج الحرب من خلال المجموعات المسلحة التي يقودها في الداخل السوري، أو بتحجيم إيران وحلفائها، وإقامة التوازن الإقليمي بين كل من الروس والأميركيين، الذي يتّجهون لعقد تفاهمات شاملة، سواء في الشرق الأوسط أو في أوروبا الشرقية.