2021/05/31

سوريا: الانتخابات تفصيل.. والحلّ السياسي مؤجل

ليلى نقولا 


انتهت الانتخابات السورية بنتيجة معروفة سلفاً، كما أتى البيان المشترك الذي وقّعته كل من الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا وبريطانيا والمانيا وإيطاليا متوقعاً أيضاً في مفرداته وتعبيراته التي رفضت الاعتراف بشرعية الرئيس السوري المنبثق عن هذه الانتخابات.

وبغض النظر عن حجم التصويت الانتخابي والمشاركة الكثيفة والاحتفالات التي عمّت سوريا بعد الانتخابات، لا بد من أن نشير الى أن الانتخابات الحالية أتت كتفصيل في مشهد تمّ تكريسه ميدانياً أدى الى معادلات وموازين قوى معروفة على الأرض، وهو ما يمكن أن نعطي بعض أبرز مؤشراته كما يلي:

- ثبات الحكم السوري تحت سلطة عائلة الأسد التي قاتلت واستبسلت في الدفاع عن نفسها وحكمها لمدة ما يزيد على عشر سنوات، واستطاعت بتحالفاتها الخارجية المتنوعة سياسياً وعسكرياً، وبواسطة الجيش السوري، أن تعيد ما يزيد عن 75% من الجغرافيا السورية تحت سيطرة الدولة السورية، بعدما كانت المجموعات المعارضة والمجموعات الارهابية قد سيطرت على العديد من المناطق بواسطة الدعم والتمويل والتسليح الخارجي.

- فشل الرهان الغربي على إسقاط نظام الحكم في سوريا وتغيير المعادلة الداخلية والاقليمية كنتيجة لهذا السقوط. وكما بات واضحاً، يبدو أن هناك أجزاء من المعارضة السورية كانت قد أعطت وعوداً للخارج بتغيير السياسة الخارجية السورية في العديد من القضايا المرتبطة بإيران والخليج وتركيا واسرائيل...

- إن التصريحات المبكرة التي تحدثت عن رفع علم اسرائيل في العاصمة دمشق، ثم قيام الاسرائيليين بدعم المجموعات الارهابية القريبة من حدود الجولان المحتل ومدّها بالسلاح، وإدخال عناصرها الى مستشفيات فلسطين المحتلة للعلاج، كله يؤشر الى أن وعودًا كانت قد قطعت للخارج بفتح صفحة جديدة من العلاقات مع اسرائيل والوصول الى السلام والتطبيع (ولربما كانت الوعود تتضمن التنازل عن الجولان). ومع وصول سورية الى هذه المرحلة اليوم، تكون المعادلات الميدانية قد أسقطت هدفاً من أهداف الحملة ضد سورية، وهو توقيع اتفاق سلام اسرائيلي - سوري.

- سقوط قانون قيصر فعلياً وعملياً وإن لم يكن من الممكن إسقاطه في الكونغرس الأميركي. بعودة العرب الى سوريا وعودة العديد من السفارات الى دمشق، ومع رحيل ترامب من البيت الأبيض (الراعي الرسمي للعقوبات الاقتصادية غير التمييزية) يكون عملياً قد سقط قانون قيصر للعقوبات على سوريا.

منذ قيام الأمم المتحدة بفرض عقوبات على العراق ضمن برنامج "النفط مقابل الغذاء" وبعد الكوارث التي سببتها على الصعيد الانساني والمجاعة وموت الاطفال، لم يعد مقبولاً على الصعيد الدولي اعتماد عقوبات اقتصادية غير تمييزية، بل بات القانون الدولي يفرض اعتماد عقوبات تمييزية أي تلك التي تستهدف أشخاصًا وكيانات بحد ذاتها وعلى أن لا تؤثر على معيشة السكان وحياتهم.

لكن وكما في تعامله مع المعايير الدولية الأخرى، فرض ترامب عقوبات قاسية شاملة وغير تمييزية على الشعب السوري، بحيث فرض عقوبات على المواد الحيوية التي يحتاجها السكان للعيش، وسيطر على النفط السوري. وبحسب التقارير السورية، قامت قوات التحالف بحرق حقول القمح السوري، إسهاماً منها في الضغط الاقتصادي والسعي الى تجويع السوريين.

- الواضح من الانتخابات ونتائجها، ان الحلّ السياسي في سوريا مؤجل، وذلك لعدم قدرة الاوروبيين والأميركيين على التراجع عن الخطة الأساسية للتغيير في سورية، وبسبب عدم قدرتهم على تسويق العودة للتعامل مع دمشق في قضايا أمنية وإنسانية وعودة اللاجئين بدون الاعتراف بشرعية الأسد وهو ما لا يمكن تسويقه للرأي العام الغربي في ظل ما تمّ استثماره إعلامياً وسياسياً على مدى سنوات في هذا الإطار.

في المحصلة، تبدو الانتخابات السورية تفصيلاً في تركيبة معقدة ومتشابكة من المصالح والأهداف الاستراتيجية التي فرضت حرباً عالمية - بكل ما للكلمة من معنى- على سورية. وفي القادم من الاشهر،  وبالرغم من أن الحل السياسي يبدو مؤجلاً في سورية، ستشهد سورية انفراجات بالتوازي مع الانفراج في الاقليم، والذي ينتظر تبلور نتائج الانتخابات الايرانية في الشهر القادم.

 

2021/05/30

الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط: حقيقة أو مناورة؟

 

راقب العديد من المحللين والمتابعين لشؤون الشرق الأوسط، باهتمام زيارة الجنرال كينيث ماكينزي، قائد القيادة الوسطى الأميركية، الى الشرق الاوسط والتعليقات التي أدلى بها خلال جولته. وكان لافتاً التحذير الذي اطلقه ماكينزي من أنه " من المرجح أن تعمل روسيا والصين على توسيع نفوذهما في الشرق الأوسط حين تسحب الولايات المتحدة قواتها من المنطقة"، وسيعمدون الى استغلال الفراغ الذي يمكن أن يتركه الأميركيون في المنطقة. وبحسب ماكينزي، "ستحاول روسيا بيع أنظمة دفاع جوي وأسلحة أخرى إلى أي دولة تتطلع إلى الشراء، بينما يتمثل هدف الصين طويل المدى في توسيع القوة الاقتصادية وإنشاء قواعد عسكرية في الشرق الأوسط في نهاية المطاف".

 

بالمبدأ، هناك شيء من الصحة في هذا التحذير، إذ إن أي فراغ استراتيجي يتم تركه في أي بقعة من العالم، ستحاول الدول المهيمنة الأخرى، سواء كانت دول عظمى أو إقليمية، أن تغتنم تلك الفرصة المؤاتية لتوسيع نفوذها. ويمكن بالفعل أن تقوم كل من روسيا والصين باستغلال مبيعات الأسلحة وعقود الاستثمار المختلفة كوسيلة لكسب التأييد في المنطقة.

 

وبالرغم من ذلك، وكما يبدو واقع الحال في الشرق الأوسط اليوم، ليس من السهل تخطي أو إزاحة نفوذ الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، حتى في ظل انسحاب الجيش الأميركي من افغانستان. وهنا، يمكن أن نشير الى أن التحذيرات والتصريحات التي يطلقها المسؤولون الأميركيون ( ومنهم ماكينزي) قد لا تعكس دائماً الواقع الميداني والسياسي السائد،  بل قد تكون جزءًا من التصريحات التي توظّف في كثير من الأحيان بالتنافس الداخلي، وكجزء من الصراع بين الأجهزة التي تتسم بالتعقيد والتشابك داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها.

 

وهنا، يجب أن نشير الى أنه في العلاقات الدولية، تصاغ استراتيجيات السياسة الخارجية، بموجب نمطين:

 

- النمط الأول: نموذج "المنارة"

 

وفي هذا النمط التقليدي، يكون هناك استراتيجية واضحة محددة، متعددة الوجوه والمراحل، مع أهداف طويلة وقصيرة ومتوسطة الأجل، على أن تلعب الاستراتيجية والخطة المرسومة سلفاً دور "المنارة" التي تقود كل العمليات الخارجية في منطقة محددة.

 

هذا النمط، تستخدمه الصين بشكل أساسي، حيث يتم اعتماد خطط طويلة المدى وخطط خمسية، وخطط سنوية. وتعمل جميع الأجهزة من عسكرية ودبلوماسية وسياسية واقتصادية وتنموية الخ. في نسق متكامل لتحقيق الأهداف المرسومة، مسترشدة بضوء الاستراتيجية المرسومة من قبل الدولة المركزية، التي تلعب دور المنارة.

 

- النمط الثاني: نموذج " المرايا"

 

بموجب هذا النمط، يقوم صنع استراتيجية السياسة الخارجية بناء على تعدد المصالح والمجموعات ومجموعات الضغط والقطاع الخاص والمؤسسات الحكومية، التي يكون لكل واحدة أهدافها ومصالحها، وتتنافس فيما بينها للتأثير على السياسة الخارجية وقراراتها، وتكون الاستراتيجية الموضوعة انعكاساً ومرآة لمجموعات متعددة من المصالح وتنافسها بين بعضها البعض.

 

ويُعتمد هذا النموذج بشكل أساسي في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تتنافس اللوبيات ومجموعات المصالح للتأثير على السياسة الخارجية، ولعل تضارب مصالحها هو الذي - غالباً - ما يولّد انطباع  لدى العامة بعدم تناسق الاستراتيجيات الأميركية، وهو أمر غير صحيح. لا شكّ أن هناك مبادئ وثوابت في الاستراتيجيات الأميركية في صنع السياسات الخارجية، مع الاحتفاظ بهامش كبير لأصحاب المصالح للتأثير وفرض وجهة نظرهم حول الوسائل والسبل الأمثل لتحقيق تلك الأهداف.

 

إنطلاقاً مما سبق،  يمكن القول أن التحذير الذي أطلقه ماكينزي حول الانسحاب العسكري الأميركي من الشرق الاوسط، يعكس وجهة نظر جهة أو جهات ضمن المؤسسات الأميركية، وهو قد يكون رسالة الى أصحاب ومجموعات المصالح الأخرى أو لأصحاب القرار لتغليب وجهة نظر البنتاغون على وجهات النظر الأخرى الداعية الى انسحاب عسكري من الشرق الأوسط.

 

مع العلم أن النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط لا يرتبط بعدد الجنود المنتشرين في المنطقة، فالحروب الجديدة (الحروب الهجينة) لم تعد تعتمد على الآليات العسكرية فحسب، بل هي تعتمد على التكنولوجيا، والطائرات المسيّرة وغيرها، بالاضافة الى الوسائل السياسية والتكنولوجية والاقتصادية وأدوات التأثير عبر المجتمعات المدنية وغيرها. واليوم، إن الولايات المتحدة لا تقاتل في حروب تقليدية، وانخراطها العسكري لم يكن يوماً يحتاج لأعداد كبيرة من الجنود خاصة في ظل اعتماد مبدأ عسكري منذ ما بعد حرب العراق 2003، وهو " لا جنود في الميدان" no boots on the ground .

 

أضف الى  ما سبق، أن إدارة بايدن لم تعلن  - لغاية تاريخه- عن وجود أي خطة أميركية للانسحاب من الخليج أو من سوريا أو العراق. وماكينزي نفسه كان قد أعلن في وقت سابق أن الولايات المتحدة: "لن تخفض عديد قواتها في العراق، بناءً على رغبة الحكومة العراقيّة، بل قد تزيدها".

 

وفي كل الأحوال، وبغض النظر عن الانسحاب العسكري المحدود الذي ستقوم به الولايات المتحدة، يبدوالأكيد اليوم أن هناك خطة واضحة للرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، بتهدئة الأمور في الشرق الأوسط والعودة الى الاتفاق النووي الايراني مع حفظ مصالح الولايات المتحدة الأميركية، للتفرغ لجبهات ثلاث تبدوان أكثر أهمية: تقوية الداخل والقيام بما يجب من بنى تحتية وغيره لعودة أميركا الى سوق المنافسة العالمية أكثر قوة، احتواء النفوذ الصيني في العالم والتفوق على الصين اقتصادياً وتكنولوجياً، واحتواء النفوذ الروسي وتحجيم سوق السلاح الروسي الذي شهد قفزة نوعية هائلة من عام 2008 ولغاية اليوم. 

2021/05/24

هل يدفع الحريري ثمن التسوية الاقليمية؟

 

راقب اللبنانيون اجتماع المجلس النيابي لمناقشة رسالة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، والتي هي من صلاحياته التي أقرّها له الدستور في المادة 53 (الفقرة 10). كما راقب المشاهدون الكلمات التي ألقيت فيها، والخلاصات التي خرج بها المجلس _كما كان متوقعاً- وهي التأكيد على ما هو وارد في الدستور اللبناني، لناحية تشكيل الحكومة الللبنانية وهما أمرين:

 

- التأكيد على الفقرة 4 من المادة 53 من الدستور اللبناني، والتي تنص على أن "رئيس الجمهورية يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء او اقالتهم"، وهذا يعني أن كل الكلام الذي ساقه الحريري في معرض شرحه لوجهة نظره بأنه يريد التشكيل منفرداً وأنه لا يريد لرئيس الجمهورية أن يتدخل في عملية التشكيل، لا يُبنى عليه دستورياً ولا قانونياً، ولا يُصرف في أي مكان.

 

- الأكيد أن المجلس النيابي لا يستطيع تحديد مهلة لرئيس الحكومة المكلف لتشكيل الحكومة، لأن الدستور ايضاً لا ينص على مثل هذه المهلة، وهذا ما أكده اجتماع المجلس.

 

هذا في القانون، أما في السياسة والواقع العملي، فالأزمة السياسية اللبنانية، لها وجه داخلي ووجه خارجي، والاثنان يرتبطان ارتباطاً وثيقاً، وذلك على الشكل التالي:

 

أولاً: أزمة ثقة داخلية

 

لا شكّ أن استقالة الحريري بعد 17 تشرين الأول 2019، وبدون التنسيق مع شركائه في الحكم، خلقت نوعاً من عدم الثقة بينه وبين رئيس الجمهورية، خاصة وأن الرئيس عون كان قد اعتبر الحريري ابناً له بعد أزمته في السعودية عام 2017. ولقد ظهرت تلك الاستقالة والمواقف التي اتخذها الحريري فيما بعد، انقلاباً على التسوية الرئاسية التي أتت به الى رئاسة الحكومة وأتت بالعماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية.

 

أزمة الثقة هذه من الصعب أن تزول، خاصة ان رئيس الجمهورية يشترط أن تنفّذ الحكومة القادمة برنامجاً اصلاحياً وتعتمد التدقيق الجنائي، وكما هو واضح من المواقف الحريرية ومن الدعم والمواقف المعلنة لتحالف الترويكا، بأن الحريري لن ينفذ أي إصلاح جدّي، ولن يلتزم بمكافحة الفساد ولا التدقيق الجنائي، وهو ما يعتبره الرئيس عون معركته الشخصية ولا يريد أن تنتهي ولايته بدون تحقيقه.

 

ثانياً: الموقف الاقليمي

 

يرتبط الموقف السعودي الرافض لعودة الحريري الى رئاسة الحكومة، باعتقاد سعودي بأن الحريري غير قادر على مواجهة حزب الله والنفوذ الايراني في لبنان بل هو بالعكس ساهم في تقوية هذا النفوذ، ومن هنا أتت قضية استدعائه الى السعودية وإجباره على الاستقالة عام 2017.

 

وبالرغم من كل المحاولات التي قام بها الحريري لإرضاء ولي العهد السعودي، والوساطات التي قامت بها دول متعددة قصدها الحريري لهذا الغرض، يبدو أن بن سلمان لن يقبل بالحريري رئيساً لحكومة لبنان مهما كان الثمن.

 

وبما أن المنطقة تتجه الى تسويات اقليمية بدأت تباشيرها تظهر بعودة التفاوض على الملف النووي الايراني، واللقاءات السعودية الايرانية في العراق، والكلام الايجابي الذي صدر عن ولي العهد السعودي في هذا الإطار، فإن تشكيل الحكومة اللبنانية بات مؤجلاً الى حين نضوج تلك التسويات، أي بعد الانتخابات الايرانية وبعد التقدم في الملف النووي الايراني، والذي سيتبعه انفراج في الملف الخليجي الايراني.

 

من هنا نفهم سبب تمسك الثنائي الشيعي بالحريري وقيام الرئيس بري بثنيه عن الاعتذار عن تشكيل الحكومة والذي كان يهمّ بتقديمه الاسبوع الماضي. فبما أن التسوية قادمة، وان الحريري سيكون ثمن لهذه التسوية عاجلاً أم آجلاً، يجب أن يكون هناك تنازلات من الأطراف الأخرى، وثمن مقابل تخلي الثنائي الشيعي عن الحريري، مثلاً: يتراجع الرئيس عون بموضوع التدقيق الجنائي وهو ما يهمّ فريق الرئيس بري وجنبلاط، ويتم التفاوض مع السعودية على اسم رئيس حكومة غير استفزازي وهو ما يهمّ حزب الله، أو قد يكون هناك أشياء أخرى غير معروفة اليوم يمكن أن تكون مادة للتفاوض في الأروقة الاقليمية والدولية حول التسوية الاقليمية.

 

بكل الأحوال، التسوية ستأتي عاجلاً أم آجلاً، والى أن يأتي أوانها، سيدفع اللبنانيون الثمن كما دائماً، مآسٍ ومشاكل اقتصادية واجتماعية وفقر ومجاعة وطوابير على الخبز والبنزين الى ما لا نهاية. 

2021/05/23

الانتصار الفلسطيني: بين التقييم الحسابي والنوعي

 

كما في حرب اسرائيل على لبنان في تموز / يوليو  2006، كذلك في الحرب الاسرائيلية على الفلسطينيين عام 2021، تقوم مجموعة من السياسيين والاعلاميين والناشطين على وسائل التواصل بالتركيز على الخسائر البشرية والمادية في غزة، لإنكار النصر الفلسطيني المتحقق، ولتعلن أن اسرائيل "انتصرت"، بدليل تفاوت الخسائر بينها وبين الفلسطينيين.

 

واللافت اختلاف التقييم هذا مع التقييم الاسرائيلي، ففي حرب تموز أيضًا، خرجت أصوات لبنانية تنكر على المقاومة انتصارها، بينما خرجت الأصوات الاسرائيلية وتقرير لجنة فينوغراد الاسرائيلية (المسؤولة عن تقييم حرب تموز) لتتحدث عن هزيمة اسرائيلية في ما أسموه "حرب لبنان الثانية". وكذلك في فلسطين اليوم، تخرج أصوات عربية تتحدث عن انكسار فلسطيني في وقت يتحدث السياسيون والاعلام الاسرائيلي، أن "المبادرة الإسرائيلية بوقف إطلاق النار من جانب واحد هي إقرار بالهزيمة أمام حماس التي سجلت في هذه الحرب أداء سياسياً وعسكرياً لافتاً، مقابل تراجع الحكومة الإسرائيلية".

 

 

 

وهكذا، وبعيدًا عن التقييم السريع والمرحلي، سنحاول أن نقارب الانتصار الفلسطيني من زاوية استراتيجية متوسطة المدى، إن لم يكن باستطاعتنا قياس كامل لجميع نتائجها على المدى الطويل وعلى وجود الكيان الاسرائيلي ككل، ولنلفت النظر الى عدم صوابية التقييم الحسابي للقضية بل من الأجدى التركيز على التقييم النوعي للأهداف المحققة.

 

 1- عدم دقة التقييم الحسابي

 

بداية، لا بد من الإشارة الى أن التقييم الحسابي الصرف للحرب بين الطرفين، وإقامة معادلات حسابية للخسائر المادية والبشرية، لا يستوي في حرب "لامتماثلة" كالتي حصلت في فلسطين، وقبلها في لبنان.

 

تختلف الحرب اللامتماثلة في أهدافها عن الحرب التقليدية التي يكون الهدف فيها هو الحسم العسكري، عبر تدمير العدو وضرب مراكز قوته العسكرية والاقتصادية وإجباره على تبني مواقف كان يرفضها قبل الحرب. إن تحقيق مثل هذا الهدف في الحروب اللامتماثلة هو مهمة صعبة للغاية. وهنا، وبما أن الطرف الضعيف لا يستطيع تحقيق النصر العسكري لافتقاده عوامل القوة المادية التي تؤهله لفعل ذلك، يصبح هدفه الأساسي التأثير السياسي وليس الحسم العسكري.

 

وفي الاطار نفسه، يقول بريجنسكي في كتابه "الاختيار" انه في الحرب اللامتماثلة لا يعرف النصر بنتائجه بقدر ما يعرف بالعمل نفسه. ويصف اللاتماثل بانه "قوة الضعف" حيث ينزلق القوي في ردود أفعال مذعورة ومبالغ فيها، مما يجعله يتحوّل من حيث لا يدري الى رهينة بيد الضعيف.

 

وهكذا، يمكن القول، إن منع نتنياهو من تحقيق أهدافه، وعجز الجيش الاسرائيلي عن اقتحام غزة يشير الى "عجز القوة" وبالتالي يكون الفلسطيني الضعيف قد انتصر طالما لم يسمح للقوي بتحقيق أهدافه، بالرغم من الفارق الحسابي بالخسائر البشرية والمادية بين الطرفين.

 

 

 

2- في تقييم الربح النوعي

 

منذ زمن بعيد، أنتجت اسرائيل عن نفسها صورة سياسية وإعلامية سوّقتها في العالم، وركّزتها في ذهن الرأي العام العالمي، وفيها:

 

-  اسرائيل تتمتع بـ"تفوق أخلاقي وحضاري" مقابل أعداء "إرهابيين منحطّين أخلاقيًا ومتخلّفين حضاريًا"، وهم بالمجمل "معادين للسامية".

 

- اسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط.

 

- لاسرائيل دور ووظيفة تؤديهما، ووجودها ضروري لحماية المصالح الاميركية والغربية في المنطقة.

 

- هي الضحية المظلومة التي تقاتل للدفاع عن نفسها ضد أعداء يريدون الغاءها.

 

- الجيش الاسرائيلي هو الجيش الاقوى الذي لا يُقهر، وأي حرب يخوضها يخرج منها منتصرًا بسهولة (سقطت هذه الصورة بعد حرب تموز).

 

وبالرغم من تناقض صورة الضحية مع صورة القوة التي لا تقهر، فقد استطاعت اسرائيل ان تجعل العقل الغربي يقبل صورتين متناقضتين: صورة الضحية المغلوب على أمرها المهددة في وجودها وصورة القوة العاتية التي لا تقهر، فبررت بطش القوة بمبدأ "الدفاع عن النفس".

 

 

 

واليوم، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت في قدرة الرواية الفلسطينية على اختراق الحظر الغربي والعالمي المفروض على كل صوت معادٍ لاسرائيل، تمّ تجييش الشعوب حول العالم نصرة لفلسطين، فانتشرت المسيرات المؤيدة لفلسطين وخرجت الأصوات المنددة بالجرائم الاسرائيلية حتى داخل الكونغرس الاميركي نفسه.

 

أما صورة "الدولة الديمقراطية"، فلا شكّ أنها بدأت تتهاوى بعد انخراط الفلسطينيين في الداخل في المظاهرات وحصول الاشتباكات في مناطق مختلطة لم تشهد أي مظاهرات في السابق، وتنديد العالم بما يفعله الاحتلال من تهجير واقتلاع للناس في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فأي دولة ديمقراطية هذه تمارس التمييز والفصل العنصري، ويفجّر رئيس وزرائها المنتهية ولايته نتنياهو الحرب هرباً من المساءلة أمام القضاء بتهم الفساد؟

 

أما فائض القوة، الذي بدأ يتهاوى منذ عام 2006 وما بعدها، فخسارته ليست بالأمر اليسير على الكيان، إذ يذكر تقرير فينوغراد في فقرته 63، ما يلي: "إن صحة مقولة "لا يوجد حل عسكري" تعني أن إسرائيل لن تستطيع البقاء في هذه المنطقة، ولن تستطيع الاستمرار فيها بسلام أو هدوء من دون أن تعتقد هي نفسها، فضلاً عن محيطها، بأن الجيش يمكن أن ينتصر، وأنه يوجد لدى إسرائيل قيادة سياسية وعسكرية وقدرات عسكرية ومناعة اجتماعية تسمح لها بالردع، وأنها لدى الحاجة قادرة على إلحاق الهزيمة بجيرانها الذين يريدون تصفيتها، ومنعهم - حتى بالقوة - من النجاح في تحقيق رغبتهم".

 

لا شكّ، إن خسائر إسرائيل السياسية، وتغيّر الصورة الاعلامية وخروج الأصوات والتظاهرات المنددة بالعدوان الاسرائيلي، وسقوط وهم القوة الاسرائيلية، سوف تؤدي الى خسارة اسرائيل دورها الوظيفي في الشرق الأوسط، ما يعني أن "القاعدة المتقدمة للدفاع عن المصالح الغربية في الشرق الأوسط" باتت بحاجة دائماً الى مَن يحميها، فأي وظيفة تؤديها؟.

 

إن هذه الخسائر الاسرائيلية ليست بالأمر الهيّن، فلقد أسقطت محصلة عقود من الجهود السياسية والاعلامية والدبلوماسية والعسكرية، وستظهر نتائجها مع القادم من الأيام، كما ظهرت نتائج حرب تموز التي كرّست معادلات ردع لم تستطع اسرائيل لغاية اليوم تخطيها مع لبنان. 

2021/05/17

العالم وفلسطين.. كوّة في جدار سميك

 

ليلى نقولا

 

بالرغم من الدعم العالمي السياسي والاعلامي والعسكري والدبلوماسي الذي يقدمه العالم الغربي ل"اسرائيل"، إلا أن المشهد المتبدل الذي شهدناه الاسبوع الماضي منذ قيام الاحتلال بطرد الفلسطيينين من بيوتهم في الشيخ الجرّاح واقتحام الأقصى وبعدها في الصواريخ المتساقطة على الاراضي الفلسطينية المحتلة، تشي بالتبدل في موازين القوى والتوجهات العالمية، ولو كانت ما زالت في بداياتها.

 

ومن ظواهر هذا التبدل ما يلي:

 

أولاً- في الداخل:

 

- تبدل المشهد الفلسطيني الرافض للاحتلال والذي امتد الى كافة الاراضي الفلسطينية وانخرط فيه عرب 48، وانتقل الى المدن المختلطة، والتي لم تشهد انتفاضات في السابق.

 

إن المشهد العام في تلك المناطق هو أقرب الى حرب أهلية، وتشي بأن ما فعلته "إسرائيل" من إقرار قانون القومية اليهودية وسياسات اليمين الاسرائيلي ومحاولة قضم الأراضي الفلسطينية ومعاملة الفلسطينيين من حملة الجنسيات الاسرائيلية بأنهم مواطنون درجة ثانية، لم تعد مقبولة.

 

- التردد الاسرائيلي في دخول قطاع غزة برياً، واستمرار الصواريخ في استهداف المدن الاسرائيلية بالرغم من كل التهديدات والقصف الاسرائيلي اللامتناسب على الأحياء المدنية والتسبب بمجازر راح ضحيتها عشرات الضحايا معظمهم من الاطفال، يؤكد على ضعف اسرائيلي بنيوي وسقوط هيبة الردع العسكري.

 

ثانياً- في العالم:

 

- تعمّ المظاهرات الرافضة للممارسات الاسرائيلية أنحاء العالم. وإذا كان العرب قد اعتادوا التظاهر نصرة لفلسطين، إلا أن التظاهرات التي تعم العالم الغربي وخاصة الولايات المتحدة الأميركية يعدّ أمراً غير مسبوق من ناحية الأعداد والمشاركين، وانخراط سياسيين وقوى اجتماعية في تلك المظاهرات.

 

- على صعيد الإدارة الأميركية، وبالرغم من أن بايدن أعرب مراراً بأن "من حق اسرائيل الدفاع عن نفسها"، إلا أن الواضح ومنذ مجيئه الى البيت الأبيض، لا يرتاح بايدن الى تصرفات نتنياهو حليف ترامب وصديقه، والذي حاول مراراً أن يحرج بايدن وإدارته في المنطقة، كما حصل حين شنّ الاسرائيليون هجوماً على المفاعل النووي الايراني خلال زيارة وزير الدفاع الاميركي الى اسرائيل.

 

وبكل الأحوال، لا يتبنى بايدن صفقة القرن، ويريد بشكل أساسي أن يتوقف اليمين الاسرائيلي عن زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، لكي يتفرغ بايدن للداخل الأميركي ولمواجهة الصين.

 

- في الكونغرس، كان لافتاً قيام العديد من أعضاء الكونغرس الأميركي بإدانة ما تقوم به اسرائيل، والتقدم بعريضة وقع عليها عشرات النواب الأميركيين، تطالب وزارة الخارجية الأميركية بمنع اسرائيل من إخلاء منازل الفلسطيين بالقوة، واتهمت العريضة اسرائيل بانتهاك القانون الدولي الانساني والقيام بجرائم حرب.

 

وكان لافتاً الخطاب الذي ألقته النائبة الأميركية من أصل فلسطيني، رشيدة طليب،  في الكونغرس والذي أخذ حيزًا واسعاً من التأييد الاعلامي في الولايات المتحدة الأميركية.

 

- شكلت حركة اليسار التقدمي في الحزب الديمقراطي وهو رافعة الحزب الذي أوصل بايدن الى الرئاسة، اساسًا للانتقادات التي تم توجيها الى ما تقوم به اسرائيل، ووجهوا انتقادات الى بايدن، معتبرين أن خطاباته في القضية تناصر المعتدي وتشجع اسرائيل على ارتكاباتها. وفي نيويورك ومعظم المدن الأميركية الأخرى، قام العديد من النواب الديمقراطيين بالمشاركة في التظاهرات المؤيدة لفلسطين ومطالبة الإدارة بمنع اسرائيل من استخدام المساعدات الأميركية العسكرية في استهداف المدنيين الفلسطينيين.

 

هي إذًا بداية، تحتاج الى الكثير من المتابعة وبذل الجهود السياسية والاعلامية في العالم لكي تثمر تحولاً جذرياً في مسار حل القضية الفلسطينية، إلا أنها بداية مشجعة، فلكل تغيير نقطة بداية. 

2021/05/16

كيف نواجه حرب التضليل الاسرائيلية على وسائل التواصل؟

ليلى نقولا

بعد أيام من التضامن العالمي غير المسبوق مع فلسطين، بدأت حرب التضليل الإسرائيلية في وسائل التواصل في العالم، وفي لبنان تحديداً. فجأة، ومن دون سابق مقدِّمات، تحوّل جانب من التضامن مع فلسطين، في وسائل التواصل، إلى اشتباك حول العَلَم اللبناني والأرزة اللبنانية، بحيث قام نشطاء بـ"تشويه العَلَم اللبناني في معرض التضامن مع فلسطين"، الأمر الذي أثار حساسية مجموعة من اللبنانيين، الذين ردّوا بانفعال عاطفي، وتحوّلت منصة "تويتر"، في بعض عناوينها ومساحاتها، من تضامن لبناني مع فلسطين إلى اشتباك بشأنها!

 

وفي توقيت مستغرَب أيضاً، قام بعض المغرِّدين في "تويتر" وفي صفحات "الفيسبوك" الناطقة بالعربية، بإثارة النعرات المسيحية الإسلامية في الموضوع الفلسطيني تحديداً. ودأبت صفحات أخرى على التذكير بحوادث تاريخية متفرّقة في التاريخين الفلسطيني والعربي، والتركيز عليها لتشير إلى عدم صوابية وعدم أحقية التضامن مع الفلسطينيين في هذا الوقت.

 

وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن التدقيق في هويات مُطلقي الحملة والجذور الأولى لانطلاقتها، بغضّ النظر عن المتفاعلين والمتأثّرين بها في وقت لاحق، يشير الى حرب تضليل إسرائيلية واضحة، يقوم بها عملاء إسرائيليون لإثارة الغرائز والنعرات الطائفية، وتفتيت حملة التضامن العالمية مع فلسطين.

 

وسنُورد فيما يلي ركائز حروب التضليل الإعلامية الإسرائيلية المُعتَمَدة، ونشير إلى بعض الوقائع على سبيل المثال، لا الحصر:

 

1- وحدات خاصة من "المستعرِبين" في وسائل التواصل

كما في الحرب والعسكر وقمع المدنيين، كذلك في الإعلام ووسائل التواصل، أنشأ الإسرائيليون وحدات في "الجيش الإسرائيلي" سُمِّيت "المستعرِبين"، أو "مستعرفيم" بالعبرية، أغلبيّة أفرادها من اليهود الشرقيين، أو من العملاء العرب والفلسطينيين، ومهمتهم الانتشار بين المتظاهرين والنشطاء، ويعتمرون  الكوفيات، ويقومون بكل ما يجب لتعزيز ثقة النشطاء بهم، فيحصلون على معلومات استخبارية مهمة، وينقضّون عليهم حين تحين الفرصة.

 

تأسست وحدة "المستعرِبين" في ثلاثينيات القرن العشرين، ونشطت في جمع معلومات استخبارية أو اختطاف شخصيات، أو تصفية مقاومين فلسطينيين، أو تفريق متظاهرين. وينتحل أفرادها، من أجل تحقيق هذا الهدف، شخصيات متعددة: طواقم طبية؛ صحافيين؛ مقاومين في الميدان. وينتحلون اليوم صفة "نشطاء في وسائل التواصل".

 

وهكذا، تحت أسماء عربية وهمية ومستعارة،  يتغلغل "المستعرِبون" بين النشطاء لكسب ثقتهم. ثم، حين يحين الأوان، يقومون بإدارة حملة إعلامية لتحويل الأنظار عن الحقائق وبثّ الإشاعات، والحصول على معلومات استخبارية، وحرف الموضوع والنقاش في وسائل التواصل إلى ما يُفيد الإسرائيليين في حربهم ضدّ الفلسطينيين.

 

2- "شيطنة" العدوّ ضمن إستراتيجية طويلة الأمد

في تحقيق استقصائي مطوّل باللغة الإنكليزية في آب/أغسطس 2020، يُدرج موقع grayzone، المتخصّص بالحروب الإعلامية وكشف حروب التضليل، أن الاتهامات الإعلامية التي تمَّ تسويقها بعد انفجار مرفأ بيروت مباشرة، بشأن "ارتباط حزب الله بنيترات الأمونيوم التي انفجرت في المرفأ" ليست جديدة. ويشرح التحقيق، بالوثائق والإثباتات،  كيف أن جهاز المخابرات الإسرائيلي قام بزرع سلسلة من القصص الإعلامية منذ عام 2012 حتى عام 2019، والتي تزعم أن "حزب الله سعى للحصول على نيترات الأمونيوم كمتفجر مفضّل للعمليات الإرهابية".

 

ووفقاً للرواية التي تمّ تسويقها إعلامياً، عبر المواقع الإعلامية والصحف الصديقة للموساد، فإن "حزب الله خطَّط، على ما يبدو، لتخزين المادة المتفجرة سرّاً في مواقع، من جنوبي شرقي آسيا، إلى أوروبا والولايات المتحدة، ليتم إحباطها بصورة متكررة من جانب الموساد!". ويشير التحقيق الاستقصائي إلى أن الوقائع الحقيقية، والتحقيقات التي أقامتها الدول المعنية، وفي كل واحدة من هذه الحالات، أكّدت كذب الروايات الإعلامية تلك.

 

3- الغش والخداع الإعلاميّ

في تقرير نشرته "نيويورك تايمز"، في 14 أيار/مايو 2021، تتحدث الصحيفة عما سَمّته "الخداع والتضليل الإسرائيليين في الحرب الدائرة في فلسطين"، بحيث أعلن "جيش" الاحتلال الإسرائيلي (في تويتر وفي رسائل نصية للصحافيين) أن قواته البرية بدأت "بمهاجمة قطاع غزة"، تلتها تأكيدات رسمية من جانب متحدث رسمي باسم "الجيش الإسرائيلي".

 

في غضون ساعات، تم تصحيح الخبر، وألقى مسؤولون إسرائيليون اللوم على "الترجمة وضباب الحرب". ويتحدث تقرير الصحيفة الأميركية عن أن التضليل والخداع كانا مقصودَين، لإيهام مقاتلي "حماس" بأن الغزو بدأ ليختبئ عناصر "حماس" في الأنفاق فيتمّ قصفها وقتلهم.

 

وبغضّ النظر عن دقّة تقرير "نيويورك تايمز" المذكور، وعما إذا كان التضليل مقصوداً، أو أن التقرير المذكور نُشر لتبرير عدم التنسيق والإحراج الإسرائيليين الإعلاميين، إلاّ أن الخداع والتضليل الإعلاميين تمارسهما "إسرائيل" بصورة دائمة، ولطالما استخدمته في الحروب المتعددة، ويجب التشكيك دائماً في صحة ما يعلنه الإسرائيليون، وخصوصاً في تسويق أنفسهم ضَحيةً، وتصوير الفلسطييين كـ"إرهابيين"، أو "باعوا أرضهم"، أو غير ذلك.

 

4- حملات الترهيب الإعلامية

كما في الميدان، كذلك في الجامعات ووسائل الإعلام، تنتشر وحدات منظَّمة من الإسرائيليين والمتعاطفين مع "إسرائيل" ومن عملائها حول العالم، لمراقبة المحتوى الذي يتمّ تدريسه في الجامعات الأميركية والأوروبية، والذي يُنشَر أيضاً في وسائل الإعلام ووسائل التواصل.

 

في الجامعات، يتمّ ترهيب الأساتذة والطلاب الذين يتجرأون على انتقاد "إسرائيل" وسياساتها العنصرية، ويتمّ اتهامهم بمعاداة السامية، ويجري تحريض الطلاب على توزيع بيانات تطالب بمحاسبة من يتجرأ على "إسرائيل"، وتضغط على إدارات الجامعات. وتتم، عادة- بسبب الضغوط الشديدة- معاقبة هؤلاء وطردهم من الجامعة.

 

أمّا في الإعلام وفي وسائل التواصل، فيتمّ الترهيب وإطلاق مئات الحسابات الوهمية لشتم كل من يتجرّأ على فضح الانتهاكات الإسرائيلية وإهانته، ثم التبليغ عنه في حملات منظَّمة لإقفال الحساب. وعادة، تكون منصّات "فيسبوك" و"إنستغرام"، وما يماثلها، مستعدةً للقيام بما يجب لقمع كل صوت مؤيّد لفلسطين، أو للأقصى، حتى مع تبليغات تدعو إلى الإقفال، أو من دونها.

 

وفي هذا الإطار، كشف تحقيق استقصائي أميركي، في موقع theintercept، أن "فيسبوك" والمنصات المملوكة منها، أدرجت منذ عام 2019 (بصورة سرّية) كلمة "صهيوني" في قائمة كلمات "خطاب الكراهية" المحظور في المنصة، واعتبرت أنها تعني "إهانة لليهودي"، وأنها "معاداة للسامية". وخلص التحقيق إلى أن "فيسبوك" تمارس قمعاً لحرية التعبير، بحيث تمنع أيَّ ناشط في وسائل التواصل من انتقاد السياسات الإسرائيلية، تحت طائلة إقفال الحساب.

 

في الخلاصة، تكشف الدراسات العلمية، في ما يتعلق بالحروب النفسية وحروب التضليل الإعلامي، أن نجاحها مرتبط بالفرد وميله إلى التصديق، كما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى قدرة "العميل" على تسويق نفسه واندماجه في الجماعة. فإذا كان مستوى الاندماج عالياً، كانت قدرته أكبر على بثّ الرعب والتضليل، وإثارة الفتن والقلاقل في مجتمع العدو.

 

وهكذا، قد لا يكون سهلاً كشفُ العميل والجاسوس الإسرائيليّ الميدانيّ، لكنّ المسؤولية والحسَّ النقدي  للنشطاء في وسائل التواصل يجب أن يكونا عاليَّين، لتعطيل قدرة الإسرائيلي على النجاح في حرب المعلومات والتضليل التي يمارسها في حروبه ضد العرب، فيكون على النشطاء طرح أسئلة، مثل: مَن يطرح الموضوع؟ لماذا يطرحه؟ ما هي أهدافه؟ ما الذي يُفيد قضيتي إن تفاعلت سلباً أو إيجاباً؟ 

2021/05/12

الإخلاءات في الشيخ الجراح في منظار القانون الدولي

في وقت يقف العالم مذهولاً بفعل حجم الإجرام والفظائع التي يرتكبها الإسرائيليون بحقّ الفلسطينيين العزّل في القدس واقتلاعهم من أرضهم في حيّ الشيخ الجراح، عطّلت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن اتفاقاً في مجلس الأمن حول نصّ بيان يطالب "إسرائيل بالتوقف عن اعتداءاتها على الفلسطينيين، واحترام مبدأ حرية العبادة وحقهم في ممارسة شعائرهم الدينية في المسجد الأقصى من دون خوف أو ترهيب".

 

 

 

وعلى الرغم من أن نصّ البيان متواضع أمام حجم الارتكابات الإسرائيلية، فإنَّ إدارة الرئيس بايدن اعترضت عليه، معتبرة أنَّ من غير المفيد توجيه رسالة عامة في هذه المرحلة. وفي كلّ الأحوال، وفي ظلّ فشل مجلس الأمن في إصدار بيان إدانة ضد "إسرائيل"، فإنَّ القانون الدولي واضح في توصيف الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني.

 

 

 

وفي هذا الإطار، نورد في ما يأتي بعض الملاحظات القانونية حول الانتهاكات التي تقوم بها "إسرائيل" في حي الشيخ الجراح حصراً، آخذين بعين الاعتبار أن "إسرائيل" تنتهك حقّ الفلسطينيين في أرضهم وفي تقرير مصيرهم، وغير ذلك من الحقوق الأساسية، كشعب وأفراد، وخصوصاً الحقّ في الحياة والكرامة، إذ تقوم بقتلهم والتنكيل بهم واعتقالهم تعسفياً، وهي ممارسات مستمرة منذ بدء الاحتلال ولغاية اليوم.

 

 

 

1 - صلاحيّة المحاكم الإسرائيليّة في أراضي القدس الشرقيّة

 

بغضّ النظر عن الاتفاق الثنائي بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونتنياهو، والذي تمت تسميته "صفقة القرن"، والذي لا يعني شيئاً في المعيار القانوني، فإنَّ القانون الدولي والمعاهدات الدولية وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بفلسطين ما زالت تعتبر القدس الشرقية جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبالتالي لا صلاحية للمحاكم الإسرائيلية عليها، إذ ينصّ القانون الدولي الإنساني على أن "على السلطة القائمة بالاحتلال واجب احترام الممتلكات الخاصة في الأراضي المحتلة، ولا يمكنها مصادرتها، ويجب عليها احترام القوانين السارية في البلد المحتل."

 

 

 

وعليه، لا يحق لـ"إسرائيل" أن تفرض مجموعة قوانين خاصة بها في الأراضي المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، لطرد الفلسطينيين من منازلهم وتوطين آخرين مكانهم. وتنص المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة على الآتي: "لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحّل جزءاً من سكانها المدنيين أو تنقلهم إلى الأراضي التي تحتلّها"، كما يحظر "النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة".

 

 

 

 

 

 

 

2 - تهجير السكّان في القانون الدولي الإنساني

 

تؤكّد اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية المرتبطة بها، إضافة إلى نظام روما الأساسي (نظام المحكمة الجنائية الدولية)، أن تشريد السكان المدنيين أو ترحيلهم أو نقلهم بشكل قسري يعتبر جريمة حرب، وقد يرقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية. تتأتى أهمية هذا التوصيف من أن الجرائم ضد الإنسانية هي الجرائم الواسعة النطاق أو الممنهجة التي تحصل خلال الحرب أو في أوقات السلم، وهو ما يميّزها عن جرائم الحرب التي تحصل خلال النزاعات المسلّحة فحسب.

 

 

 

 

 

 

 

أ - التهجير والإبعاد القسري للفلسطينيين جريمة ضد الإنسانية

 

ينصّ نظام روما الأساسي على أنّ إبعاد السكان أو نقلهم قسراً يشكّل "جريمة ضدّ الإنسانية" متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو ممنهج موجّه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين (المادة 1: 7 – د).

 

 

 

يتأكّد هذا الجرم في حال كان إبعاد السكان ونقلهم بشكل قسري من المنطقة التي يتواجدون فيها بصفة مشروعة (بالطرد أو بأيّ فعل قسري آخر) نهجاً سلوكياً يتضمّن ارتكاب هذا الأمر بشكل متكرّر ضد تلك المجموعة من السكان، تنفيذاً لسياسة دولة تقضي بارتكاب هذا الهجوم أو تعزيزاً لتلك السياسة.

 

 

 

بالفعل، إنّ موجة الإخلاءات القسرية المتتالية التي تقوم بها "إسرائيل" ليست مجرد سياسة عشوائية أو طارئة، بل تأتي ضمن إطار سياسة "دولة" ممنهجة، تهدف إلى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم لتوسيع الاستيطان، وهو ما يؤكّد ارتكابها جريمة ضد الإنسانية، بحسب القانون الدولي الإنساني.

 

 

 

 

 

 

 

ب - الاستيطان ونهب القرى الفلسطينيّة جرائم حرب

 

تشير المادة 8 من نظام روما الأساسيّ إلى أنَّ "قيام دولة الاحتلال، على نحو مباشر أو غير مباشر، بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلّها، أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها"، يشكّل جريمة حرب.

 

 

 

 كما تؤكّد المادة نفسها أنّ "نهب أيّ بلدة أو مكان، وإن تم الاستيلاء عليه عنوة"، أو "تدمير ممتلكات العدو أو الاستيلاء عليها، ما لم يكن هذا التدمير أو الاستيلاء مما تحتمه ضرورات الحرب"، يشكل جرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي.

 

 

 

 

 

 

 

3 - الإخلاءات القسريّة انتهاك لقانون حقوق الإنسان الدوليّ

 

تنتهك عمليات الإخلاء القسري التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في حي الشيخ الجراح المادة 17 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تنصّ على أنه "لا يجوز تعريض أي شخص لتدخل تعسفي أو غير قانوني في حياته الخاصة أو أسرته أو منزله...". كما قد تنتهك عمليات الإخلاء القسري الحقّ في حماية الأسرة (المادة 23).

 

 

 

وتؤكّد السوابق القانونية واجتهادات المحاكم أنّ تهجير السكان قسراً يعدّ انتهاكاً للحقوق المكرسة في المواثيق الدولية؛ ففي عدّة قضايا متشابهة، وجدت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان أن تنفيذ قرار الإخلاء القسري يعدّ انتهاكاً لحقوق الإنسان، معتبرة أن من الواجب على السلطات أن تمتنع عن تشريد السكّان بشكل تعسّفي، وخصوصاً إذا كان الشخص الذي يتمّ تهجيره مسؤولاً عن قاصرين.

 

 

 

 

 

 

 

4- انتهاك حقوق الفلسطينيين في الصّلاة في الأقصى

 

جاء في المادة 27 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: "لا يجوز، في الدول التي توجد فيها أقليات إثنية أو دينية أو لغوية، أن يُحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة من حقّ التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائره أو استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم".

 

 

 

نستنتج مما سبق أنّ كلّ ممارسات الاستيطان والتهجير والإخلاءات القسرية التي تقوم بها "إسرائيل" بحق المواطنين الفلسطينيين مخالفة لكلّ القوانين والمواثيق الدولية، ناهيك بالشرائع الإنسانية والأخلاقية والدينية، لكن بما أنَّ المبدأ الوحيد الثابت في العلاقات الدولية هو أن القانون الدولي يثبت الحق، ولكنه لا يحميه، بل إنّ الحقّ يحتاج إلى قوة لتحصّله وتحميه، فما على الشعب الفلسطيني إلا الاتّكال على نفسه، وعلى شاباته وشبابه، لتحصيل الحقوق، ومنع التعسّف، ومنع الاقتلاع والتهجير الممنهج الّذي تعتمده "إسرائيل".