2021/05/23

الانتصار الفلسطيني: بين التقييم الحسابي والنوعي

 

كما في حرب اسرائيل على لبنان في تموز / يوليو  2006، كذلك في الحرب الاسرائيلية على الفلسطينيين عام 2021، تقوم مجموعة من السياسيين والاعلاميين والناشطين على وسائل التواصل بالتركيز على الخسائر البشرية والمادية في غزة، لإنكار النصر الفلسطيني المتحقق، ولتعلن أن اسرائيل "انتصرت"، بدليل تفاوت الخسائر بينها وبين الفلسطينيين.

 

واللافت اختلاف التقييم هذا مع التقييم الاسرائيلي، ففي حرب تموز أيضًا، خرجت أصوات لبنانية تنكر على المقاومة انتصارها، بينما خرجت الأصوات الاسرائيلية وتقرير لجنة فينوغراد الاسرائيلية (المسؤولة عن تقييم حرب تموز) لتتحدث عن هزيمة اسرائيلية في ما أسموه "حرب لبنان الثانية". وكذلك في فلسطين اليوم، تخرج أصوات عربية تتحدث عن انكسار فلسطيني في وقت يتحدث السياسيون والاعلام الاسرائيلي، أن "المبادرة الإسرائيلية بوقف إطلاق النار من جانب واحد هي إقرار بالهزيمة أمام حماس التي سجلت في هذه الحرب أداء سياسياً وعسكرياً لافتاً، مقابل تراجع الحكومة الإسرائيلية".

 

 

 

وهكذا، وبعيدًا عن التقييم السريع والمرحلي، سنحاول أن نقارب الانتصار الفلسطيني من زاوية استراتيجية متوسطة المدى، إن لم يكن باستطاعتنا قياس كامل لجميع نتائجها على المدى الطويل وعلى وجود الكيان الاسرائيلي ككل، ولنلفت النظر الى عدم صوابية التقييم الحسابي للقضية بل من الأجدى التركيز على التقييم النوعي للأهداف المحققة.

 

 1- عدم دقة التقييم الحسابي

 

بداية، لا بد من الإشارة الى أن التقييم الحسابي الصرف للحرب بين الطرفين، وإقامة معادلات حسابية للخسائر المادية والبشرية، لا يستوي في حرب "لامتماثلة" كالتي حصلت في فلسطين، وقبلها في لبنان.

 

تختلف الحرب اللامتماثلة في أهدافها عن الحرب التقليدية التي يكون الهدف فيها هو الحسم العسكري، عبر تدمير العدو وضرب مراكز قوته العسكرية والاقتصادية وإجباره على تبني مواقف كان يرفضها قبل الحرب. إن تحقيق مثل هذا الهدف في الحروب اللامتماثلة هو مهمة صعبة للغاية. وهنا، وبما أن الطرف الضعيف لا يستطيع تحقيق النصر العسكري لافتقاده عوامل القوة المادية التي تؤهله لفعل ذلك، يصبح هدفه الأساسي التأثير السياسي وليس الحسم العسكري.

 

وفي الاطار نفسه، يقول بريجنسكي في كتابه "الاختيار" انه في الحرب اللامتماثلة لا يعرف النصر بنتائجه بقدر ما يعرف بالعمل نفسه. ويصف اللاتماثل بانه "قوة الضعف" حيث ينزلق القوي في ردود أفعال مذعورة ومبالغ فيها، مما يجعله يتحوّل من حيث لا يدري الى رهينة بيد الضعيف.

 

وهكذا، يمكن القول، إن منع نتنياهو من تحقيق أهدافه، وعجز الجيش الاسرائيلي عن اقتحام غزة يشير الى "عجز القوة" وبالتالي يكون الفلسطيني الضعيف قد انتصر طالما لم يسمح للقوي بتحقيق أهدافه، بالرغم من الفارق الحسابي بالخسائر البشرية والمادية بين الطرفين.

 

 

 

2- في تقييم الربح النوعي

 

منذ زمن بعيد، أنتجت اسرائيل عن نفسها صورة سياسية وإعلامية سوّقتها في العالم، وركّزتها في ذهن الرأي العام العالمي، وفيها:

 

-  اسرائيل تتمتع بـ"تفوق أخلاقي وحضاري" مقابل أعداء "إرهابيين منحطّين أخلاقيًا ومتخلّفين حضاريًا"، وهم بالمجمل "معادين للسامية".

 

- اسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط.

 

- لاسرائيل دور ووظيفة تؤديهما، ووجودها ضروري لحماية المصالح الاميركية والغربية في المنطقة.

 

- هي الضحية المظلومة التي تقاتل للدفاع عن نفسها ضد أعداء يريدون الغاءها.

 

- الجيش الاسرائيلي هو الجيش الاقوى الذي لا يُقهر، وأي حرب يخوضها يخرج منها منتصرًا بسهولة (سقطت هذه الصورة بعد حرب تموز).

 

وبالرغم من تناقض صورة الضحية مع صورة القوة التي لا تقهر، فقد استطاعت اسرائيل ان تجعل العقل الغربي يقبل صورتين متناقضتين: صورة الضحية المغلوب على أمرها المهددة في وجودها وصورة القوة العاتية التي لا تقهر، فبررت بطش القوة بمبدأ "الدفاع عن النفس".

 

 

 

واليوم، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت في قدرة الرواية الفلسطينية على اختراق الحظر الغربي والعالمي المفروض على كل صوت معادٍ لاسرائيل، تمّ تجييش الشعوب حول العالم نصرة لفلسطين، فانتشرت المسيرات المؤيدة لفلسطين وخرجت الأصوات المنددة بالجرائم الاسرائيلية حتى داخل الكونغرس الاميركي نفسه.

 

أما صورة "الدولة الديمقراطية"، فلا شكّ أنها بدأت تتهاوى بعد انخراط الفلسطينيين في الداخل في المظاهرات وحصول الاشتباكات في مناطق مختلطة لم تشهد أي مظاهرات في السابق، وتنديد العالم بما يفعله الاحتلال من تهجير واقتلاع للناس في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فأي دولة ديمقراطية هذه تمارس التمييز والفصل العنصري، ويفجّر رئيس وزرائها المنتهية ولايته نتنياهو الحرب هرباً من المساءلة أمام القضاء بتهم الفساد؟

 

أما فائض القوة، الذي بدأ يتهاوى منذ عام 2006 وما بعدها، فخسارته ليست بالأمر اليسير على الكيان، إذ يذكر تقرير فينوغراد في فقرته 63، ما يلي: "إن صحة مقولة "لا يوجد حل عسكري" تعني أن إسرائيل لن تستطيع البقاء في هذه المنطقة، ولن تستطيع الاستمرار فيها بسلام أو هدوء من دون أن تعتقد هي نفسها، فضلاً عن محيطها، بأن الجيش يمكن أن ينتصر، وأنه يوجد لدى إسرائيل قيادة سياسية وعسكرية وقدرات عسكرية ومناعة اجتماعية تسمح لها بالردع، وأنها لدى الحاجة قادرة على إلحاق الهزيمة بجيرانها الذين يريدون تصفيتها، ومنعهم - حتى بالقوة - من النجاح في تحقيق رغبتهم".

 

لا شكّ، إن خسائر إسرائيل السياسية، وتغيّر الصورة الاعلامية وخروج الأصوات والتظاهرات المنددة بالعدوان الاسرائيلي، وسقوط وهم القوة الاسرائيلية، سوف تؤدي الى خسارة اسرائيل دورها الوظيفي في الشرق الأوسط، ما يعني أن "القاعدة المتقدمة للدفاع عن المصالح الغربية في الشرق الأوسط" باتت بحاجة دائماً الى مَن يحميها، فأي وظيفة تؤديها؟.

 

إن هذه الخسائر الاسرائيلية ليست بالأمر الهيّن، فلقد أسقطت محصلة عقود من الجهود السياسية والاعلامية والدبلوماسية والعسكرية، وستظهر نتائجها مع القادم من الأيام، كما ظهرت نتائج حرب تموز التي كرّست معادلات ردع لم تستطع اسرائيل لغاية اليوم تخطيها مع لبنان. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق