2021/03/31

كيف نحوّل الدين الى آداة للمستقبل؟

ليلى نقولا

يعتبر بعض المفكرين أن أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأميركية هي التي فرضت عودة "المقدس" إلى العلاقات الدولية، بينما يشير البعض الآخر إلى أنَّ سقوط الصراع الإيديولوجي بين الشرق والغرب بسقوط الاتحاد السوفياتي هو الذي أبرز إلى السطح الخصوصيات الثقافية، التي سرعان ما تحوَّلت إلى أسباب للنزاع والتوتر والحروب، فانفجرت يوغسلافيا السابقة تحت وطأة الحروب الدينية والتطهير العرقي، وتبعتها رواندا، التي شهدت إبادة عرقية متبادلة بين الهوتو والتوتسي، وكرَّت السبحة.

 

أما في العالم العربي، فقد سعّر الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003 الصراع المذهبي في المنطقة بين السنّة والشيعة، والذي دخلت "إسرائيل" على خطّه بقوة. في العام 2008، ناقش مؤتمر هرتسيليا الذي يُعقد سنوياً في "إسرائيل" ما أُطلق عليه وصف "الشرخ الشيعي - السني، جذوره وأبعاده الاستراتيجية". وعلى مدى سنوات، اعتبرت توصيات المؤتمر أنَّ من مصلحة "إسرائيل" أن تسهم في تذكية ذلك الصّراع.

 

وخلصت توصيات المؤتمر نفسه في العام 2013 - وبكل وضوح - إلى "ضرورة تكريس الصراع السني - الشيعي، من خلال السعي إلى تشكيل محور سني من دول المنطقة، أساسه دول الخليج ومصر وتركيا والأردن، ليكون حليفاً لإسرائيل والولايات المتحدة، في مقابل "محور الشر" الذي تقوده إيران، والذي سيكون، بحسب التقسيم الإسرائيلي، محوراً للشيعة" (انظر توصيات مؤتمر هرتسيليا في العام 2013).

 

ومع انتشار موجات "الثورات" في العالم العربي في العام 2011، تفشّى الخطاب المذهبي والطائفي، وضرب الإرهاب الأبرياء والمدنيين، وساد خطاب التكفير، وبات الدين وحمايته ذريعة لممارسة أسوأ أصناف القتل والاغتيال والوحشية والتعذيب وقطع الرؤوس.

 

أما في أوروبا وأميركا، وعلى الرغم من أنَّ الأميركيين يعدّون أكثر تديّناً من الأوروبيين الّذين يعبّرون دائماً عن علمانيّتهم لتأكيد عدم عودتهم إلى القرون الوسطى، فإنَّ السعار الطائفي والإسلاموفوبيا ارتفعا بشكل كبير مع ارتفاع أسهم اليمين في الغرب، وخصوصاً بعد العام 2016، إذ فرض الرئيس السابق للولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب حظراً على دخول مواطني دول إسلامية عدّة، وارتفعت أصوات اليمين الأوروبي للتخويف من أنَّ الإسلام "سوف يكتسح أوروبا ويغيّر وجهها الثقافي".

 

ولا شكّ في أنَّ معظم قرارات ترامب الخارجيّة، وخصوصاً في الشّرق الأوسط، وتلك المتعلّقة بـ"إسرائيل" والقضية الفلسطينية، طغى عليها الطابع الديني الاستثماري لنصوص العهد القديم الَّذي يؤمن به مسيحيو الكنائس الإنجيلية في الولايات المتّحدة الأميركيّة.

 

هكذا، يجد العالم نفسه اليوم أمام مرحلة جديدة تستحضر الموروث الدينيّ لصياغة سياسات خارجيّة وداخليّة شعبوية، تشي بأنَّ استمرارها سيعيد العالم إلى قرون خلت، حين تسبّبت الصّراعات باسم الدّين بالكثير من الظلم والمآسي وقهر الشّعوب، وخصوصاً في منطقتنا العربيّة، فما العمل؟

 

المؤكّد أنّ أيّ دعوة لتنحّي الدين عن السياسة لن تجد صداها في عالم يجنح بسرعة للعودة إلى ما يُشبه ممارسات القرون الوسطى، إذ يترابط الدين والثقافة في علاقة جدليّة، فيأخذ الدين من الثقافة حتى يصوغ مفرداته وسلوكياته، ثم ما يلبث أن يتحول إلى نواة الثقافة، فيفرض عليها مفردات وسلوكيات أخرى. هكذا، نرى الترابط الواضح في عالم اليوم بين عنصرية "الأنا" الثقافيَّة ضدّ "الآخر"، وعنصريّة "الأنا" الدينيّة ضدّ "الآخر" المختلف دينياً.

 

كما أنَّ الدّعوات لنبذ الدّين والتديّن غير منطقية في مجتمعات يشكّل الدّين فيها جزءاً لا يتجزأ من الثقافة المجتمعية والسياسية، حتى الدعوات إلى الوعي السياسي العلماني، وتعديل القوانين لتكريس الدولة المدنية، وإلغاء الطائفية السياسية (كما يحصل في لبنان)، لن تستأصل ما في النفوس من عنصريّة وتعصّب طائفيّ ومذهبيّ ضد الآخر المختلف دينياً.

 

هكذا، يكمن الحلّ في التّعليم. وتشير الدّراسات إلى ترابط مستوى التعليم مع نزعة التطرّف العنيفة، فكلَّما زادت مستويات التعليم في المجتمع خفّ عدد المنضوين في المجموعات المتطرفة التي ترتكز على الدين للوصول إلى غايات سياسية.

 

ولكي لا يلجأ الطالب في العالم العربيّ إلى مصادر غير صحّية وتكفيريّة لاكتساب معارفه الدينية، على المناهج التربوية أن تتحلّى بالشجاعة لمواجهة هذه الآفة، بأن تتحوّل من "التعليم الديني" إلى "التثقيف الديني" ضمن حرية الاعتقاد للجميع، والذي يمكن أن يتضمّن فئات ثلاث، هي:

 

1- ثقافة عن الأديان: المقصود بهذه الثقافة تعليم الطالب عن دين معيّن (عادةً ما يكون دينه الخاص)، بهدف إكسابه القيم الروحيّة والأخلاقيّة والشّخصيّة، وبناء هُويته الدينية، وتعليمه كيفيّة ممارسة طقوس الدّين الَّذي ينتمي إليه.

 

2- ثقافة حول الأديان: هي الإطار الَّذي يمكن أن يمنح الطالب معرفةً واطلاعاً على أفكار ومبادئ أديان عدّة، فيكتسب ثقافة قبول الآخر، انطلاقاً من المبدأ القائل إنَّ "الإنسان هو عدوّ ما يجهل".

 

3- ثقافة من الأديان نفسها: تأخذ بعين الاعتبار التجارب الشخصيَّة للطلاب، بأن تترك هامشاً للطالب لتكوين فكره الخاصّ المستند إلى التعليم والتجربة، فيختار ما يناسبه وما يتلاءم مع تطلّعاته.

 

هذا التحوّل الَّذي يطوّر الدّين ولا يلغيه ولا يحاربه، يتطلّب شجاعة استثنائيّة يحتاجها العالم العربي بشدّة، للخروج من دوامة التّقاتل والتناحر باسم الدين، فهل من قيادات تتطلّع إلى المستقبل بدلاً من أن تغرقنا في التاريخ وحروبه ومآسيه؟.

2021/03/30

كيف خدم ترامب الصين في الشرق الأوسط؟

 

لا شكّ إن الاعلان عن توقيع الاتفاق بين كل من الصين وإيران يبدو علامة فارقة في تطور العلاقات الدولية في منطقة الخليج، خصوصاً في ظل تصاعد الحديث الأميركي عن ضرورة مواجهة الصين واحتواء نفوذها في العالم.

ولقد وقّعت إيران والصين اتفاقية إطار استراتيجي مدتها 25 عامًا، تتضمن "خارطة طريق متكامل" ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وعسكرية وتنموية وفي شؤون مكافحة الارهاب، ما يعطي الصين موطئ قدم راسخة في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً في ظل تضمين الاتفاق مبادرات استثمارية تمتد الى العراق وسورية.

ويأتي توقيع الاتفاقية متأخراً جداً، إذ أن الحديث عن تلك الاتفاقية كان قد تمّ في مطلع عام 2016، خلال زيارة الرئيس الصيني تشي جين بينغ الى طهران، والذي كان أول رئيس دولة يزور إيران بعد رفع العقوبات الدولية عنها. ولقد أعلن الرئيس الايراني حسن روحاني حينها عن نيّة الطرفين توقيع اتفاقية استراتيجية مدتها 25 عاماً، وزيادة التبادل التجاري بين البلدين الى 600 مليار دولار خلال عشرة أعوام.

وهكذا، وبعد خمس سنوات على زيارة الرئيس الصيني، يأتي توقيع الاتفاقية المتأخر ليعطي المؤشرات الآتية:

1- تريث الايرانيون في السير بمشروع الاتفاقية مع الصين خلال عام 2016، وذلك لإعتقادهم بأن من مصلحتهم إبقاء الباب مفتوحاً أمام الشركات الأوروبية للإستثمار في السوق الايراني ولعدم الدخول في توتر مع الأميركيين المستائين من

الصعود الصيني العالمي.

ولكن العقوبات التي أعاد ترامب فرضها على الايرانيين، وعدم قدرة (أو عدم رغبة) الاوروبيين على مواجهتها، وظهورهم بمظهر العاجز أمام هجومية ترامب ومحاولاته إخضاع الايرانيين وإنهاء الاتفاق النووي، أخرج من يد الايرانيين الذين بدا أن رهانهم على أولوية الاستثمار الاوروبي وأفضليته على الصيني قد خاب بشدة.

وهكذا، أتى توقيع الاتفاق المتأخر في وقت يعاني الاقتصاد الإيراني من أزمات حادّة نتيجة سياسة "الضغوط القصوى" التي مارستها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بالإضافة الى سلسلة من الكوارث الطبيعية التي ضربت إيران، وجائحة كورونا التي أدّت الى تعميق تلك الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.

2- يدرك الايرانيون أن مجيء بايدن الى البيت الابيض وانفتاحه على العودة الى الاتفاق النووي، يرتبط بأمرين: الضغوط الداخلية على الادارة الأميركية الحالية من قبل الكونغرس والجمهوريين وجماعات الضغط المؤيدة لاسرائيل من جهة أولى، وبقاء الديمقراطيين أكثرية في الكونغرس بعد الانتخابات النصفية عام 2022، ونجاح مرشحهم للرئاسة عام 2024.

وبالرغم من حديث المسؤولين الأميركيين الحاليين عن نيّتهم رفع العقوبات عن إيران والعودة الى الاتفاق النووي، يخشى الايرانيون أن يعود ترامب (أو أحد صقور الجمهوريين) الى البيت الأبيض عام 2024، وبالتالي العودة الى مبدأ العقوبات الأميركية الآحادية، ما سيؤثر على الاقتصاد الايراني مجدداً بعد أن يكون قد التقط أنفاسه خلال مدة أربع سنوات من حكم الديمقراطيين في الولايات المتحدة.

لقد تيقن الايرانيون من تجربتهم مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أن مبدأ استمرارية السلطة بالتزاماتها الدولية غير مضمونة في الولايات المتحدة، وإن أي اتفاق جديد تعقده اي إدارة أميركية لا يحظى بموافقة الكونغرس، لا يعوّل عليه، ويمكن نقضه بسهولة في المستقبل كما فعل ترامب.

وعليه، بدا اليوم من توقيع الاتفاق الصيني الإيراني، أن الايراني أيقن أن التعاون والانفتاح على الغرب سيبقى رهينة رغبات الرئيس الذي يأتي الى البيت الأبيض، في ظل عداء لإيران يتخطى الانقسام الحزبي في الكونغرس الأميركي.

ولهذا، ليس في مصلحة الايراني أن يستمر في المراهنة على علاقة جيدة مع الغرب، ومع الأميركيين تحديداً، وبالتالي إن الحياد في المنافسة العالمية بين الغرب والصين سترتد على طهران سلباً ولن تأتي بالاستقرار للاقتصاد الايراني، فتمّ الحسم بالتوجه شرقاً.

2021/03/23

الولايات المتحدة... ترامب عائد!

لم يكن مفاجئاً اعلان المستشار والمتحدث باسم حملة دونالد ترامب للعام 2020 أنّ الأخير سيعود إلى وسائل التواصل الاجتماعي من خلال منصته الخاصة في غضون شهرين أو ثلاثة على الأرجح، متوقعاً أنَّ هذه المنصة ستجذب عشرات الملايين من المستخدمين الجدد و"تعيد صياغة قواعد اللعبة بشكل كامل".

 

منذ خسارته الانتخابات في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، يعيش ترامب وجمهوره في جو من الغضب والرغبة في الانتقام لما يسمّونه "سرقة الانتخابات" والتزوير وخيانة أعضاء الحزب الجمهوري الذين لم يقفوا صفاً واحداً لمنع التزوير وقلب النتائج.

 

ولا شكّ في أنَّ الظهور المتكرّر لترامب ورسائله السياسية وتحديه الإدارة الجديدة تشير جميعها إلى أنه ينوي الترشّح لولاية جديدة في العام 2024، وهو يضع نصب عينيه، ومعه الحزب الجمهوري، القيام بكل ما يلزم لقلب نتائج انتخابات الكونغرس النصفية في العام 2022.

 

ولعلَّ مراقب الحملات السياسية والإعلامية لكلا الفريقين يدرك أن ترامب وجمهوره الملتزم والمتعصب سيخلقون الكثير من المصاعب الداخلية لإدارة بايدن. نذكر بعض النماذج على سبيل المثال لا الحصر:

 

 

 

- العنصرية

تتجذّر العنصرية في المجتمع الأميركي بشكل كبير ومستمر منذ تأسيس الدولة. وبخلاف الاعتقاد الشائع بأنَّ العنصرية تنطلق من البيض تجاه السود فحسب، فإنَّها ترتسم لدى الأميركيين بشكل عمودي وأفقي أيضاً.

 

بشكل عمودي، تتجلى العنصرية والطبقية بين طبقات ثرية، بل فاحشة الثراء، ومجتمعات بائسة لا تجد قوت يومها وتعيش على هامش المجتمع في العراء. كما تمتد إلى العنصرية بين متعلمين يعيشون في المدن وغير متعلمين فقراء يقطنون في الأرياف أو في الشوارع في المدن الكبرى.

 

وقد ارتفعت العنصرية الطبقية بشكل كبير خلال الحملات الانتخابية الأخيرة، إذ يطلق الديمقراطيون على مناصري ترامب من البيض المتعصّبين والغاضبين وصف "صاحب العنق الأحمر" (redneck)، وهو مصطلح مزدرٍ يطلق بشكل رئيسي على الأميركيين البيض الفقراء الريفيين وغير المتعلّمين، والذين يعيشون عادةً في جنوب الولايات المتحدة، بينما يطلق على مجموعة "حقوق السود مهمة" وصف "المجرمين والخارجين عن القانون".

 

وتظهر العنصريّة أفقياً على خطّ العرق، فنجد العنصرية البيضاء ضد السود والأميركيين الأصليين والملوّنين بشكل عام، والتي تطبع القوانين والتعليم والسياسة والعمل وتعامل الشرطة مع المتّهمين وغير ذلك... كما تظهر في الانتماء الإثني، إذ شجَّع ترامب على الكراهية (المتجذرة أصلاً) ضد الأجانب والمسلمين والآسيويين، ما جعل الأميركيين من أصل صينيّ يتعرّضون لمضايقات عنصرية بعد انتشار وباء كورونا واتهام ترامب للصين بإرساله إلى الولايات المتحدة.

 

أدّى ذلك مؤخراً إلى إطلاق النار على مركز للتدليك في أتلانتا راح ضحيته 8 نساء آسيويات، علماً أنَّ الأمر لا يقتصر على عنصرية بيضاء تجاه الإثنيات الأخرى، إنما تنخرط فيها الأعراق الأخرى. وتشير الصّور الّتي تظهر أحد المواطنين السود يتعرَّض لرجل صيني طاعن في السنّ بشكل واضح إلى خطوط الصدع العنصري الأفقي في المجتمع الأميركي، والتي غذّاها ترامب بخطاباته الشعبوية.

 

 

 

- حملة مكافحة "كوفيد – 19"

منذ دخوله البيت الأبيض، وضع بايدن نصب عينيه أولوية مكافحة وباء كورونا، ووضع خططاً للإسراع في حملة التلقيح وإعادة الحياة الاقتصادية في الولايات المتحدة إلى طبيعتها. ولا شكّ في أنَّ الإدارة قامت بجهد جبار في هذا المجال، إذ يتمّ الإعلان عن تلقيح ما يقارب مليونين ونصف المليون مواطن أميركي يومياً.

 

ولكنَّ الحملة اصطدمت بعدم رغبة مناصري ترامب في تلقّي اللقاح والتمرّد على الحملة الحكومية للتلقيح الجماعي، ما دفع مدير المعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية وكبير مستشاري بايدن، الدكتور فاوتشي، إلى الطلب علناً من ترامب بأن يوعز إلى أنصاره بتلقّي اللقاح. وبالفعل، دعاهم إلى ذلك، ولكن بعد أن سجّل نقطة لمصلحته، مفادها: "لا يمكنكم النجاح بدوني".

 

- الهجرة غير الشّرعية

بعد شهرين من وصول بايدن إلى البيت الأبيض وإعلانه التعامل مع موضوع الهجرة بطريقة مختلفة عما فعله دونالد ترامب، شهدت الحدود مع المكسيك أزمة تدفّق اللاجئين بشكل غير مسبوق يصعب السيطرة عليه.

 

ويتَّهم الإعلام المحافظ بايدن وإدارته بأنهما يفرضان تعتيماً إعلامياً على الموضوع، وأنَّ الأمر ينذر بكارثة على الحدود، إذ تعمل مرافق الجمارك وحماية الحدود بشكل يفوق طاقتها، بعد أن تدفَّق أكثر من 100 ألف مهاجر على الحدود في شباط/فبراير الماضي، في حين زادت أعداد الأطفال المهاجرين في مراكز الاحتجاز بشكل كبير.

 

ومع تركيز الإعلام الجمهوري على الحدود، أدلى ترامب بدلوه في القضية، إذ أصدر بياناً اتهم فيه بايدن بأنه حوّل "انتصاراً وطنياً إلى كارثة وطنية"، معتبراً أنه سلّم إدارة بايدن "الحدود الأكثر أماناً في التاريخ".

 

وبطريقة غير مألوفة سابقاً، حيث يغيب الرؤساء الأميركيون الخارجون من السلطة عن الإعلام، يطلّ ترامب بشكل شبه يومي في وسائل الإعلام، سواء عبر تصاريح أو مقابلات أو في لقاء مع المناصرين، لإطلاق الأحاديث المناهضة لإدارة بايدن، وتحفيز المناصرين والحزب الجمهوري للتصويت بكثافة للمرشحين الموالين له في الانتخابات القادمة، وإقصاء كلّ من يعتبره غير موالٍ أو "خائناً" له.

 

من هنا، يبدو أنَّ ظاهرة ترامب باتت جزءاً من المشهد السياسي الأميركي، على الأقل في المدى المنظور، وأن التخلص منها بات أمراً صعباً، إذ لا يمكن للحزب الجمهوري أن يتخلَّص من الرجل الذي يشكّل رافعته الجماهيرية، ولا يبدو أنَّ بايدن سيستطيع أن يحكم بفعالية من دون أن يسبّب له ترامب الكثير من الصداع... هكذا، تبدو أميركا أمة منقسمة يهدّدها الأخير - العائد قريباً إلى منصات التواصل الاجتماعي- بالتفتيت. 

2021/03/22

احذروا الانفجار الامني قبل الوصول للتسوية


ليلى نقولا

يعاني لبنان منذ ما قبل الحرب الأهلية، تداعيات كونه ساحة للتنافس الدولي والاقليمي، وهي التي تجعله عرضة لعدم الاستقرار الدائم كنتيجة للتوتر الذي يطبع علاقات الاطراف الدوليين والاقليميين، او أن يشكّل أحياناً جائزة ترضية على طاولة التسويات الاقليمية، والتي عادة ما تكون مرحلية، فتنفجر الساحة اللبنانية ما أن ينفرط عقدها. ولقد شهد لبنان مراحل عدّة ابرزها:

 

- مرحلة ما بعد الحرب الاهلية (1990- 2005)

عاش لبنان بعد الحرب الأهلية مرحلة استقرار سياسي وأمني مقبولين، كنتيجة لقيام الأميركيين بتوكيل (السعودية وسوريا) بالملف اللبناني، حيث فرضت الأولى هيمنتها على القطاعين المالي والاقتصاد عبر الرئيس رفيق الحريري، وفرضت سوريا سطوتها الامنية عبر جيشها المنتشر في لبنان، وتقاسم الاثنان النفوذ السياسي.

 

- مرحلة ( 2005- 2008)

ما ان دخل الأميركيون الى العراق عام 2003، حتى أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن مشروع "دمقرطة المنطقة" التي ستنطلق كالدومينو وتلف المنطقة بأكملها، فتنتقل الديقراطية من العراق الى سوريا ولبنان وايران وسواها...

وهكذا، بدا أن التسوية التي قام بها الرئيس جورج بوش الاب مع الرئيس حافظ الاسد (وتفويضه بحكم لبنان كنتيجة لدخوله في التحالف لتحرير الكويت)، قد انتهت مفاعيلها، فطلب وزير الخارجية الأميركي كولن باول من السوريين الانسحاب من لبنان.

وباغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلاها من انسحاب للسوريين عام 2005، وقيام التحالف الرباعي في الانتخابات التي تلتها، بدا أن النفوذ السعودي بات الأقوى اقتصادياً ومالياً وسياسياً في لبنان. وجاءت نتائج حرب تموز 2006، بعكس ما كان يريده الأميركيون وحلفاؤهم في المنطقة، فلم تؤدِ الى هزيمة حزب الله ولا نزع سلاحه، فبقيت السيطرة الأمنية مشتركة.

وهكذا استمرت التوترات الداخلية الى أن حصل اشتباك داخلي أدى الى أحداث 7 ايار 2008، فحصلت التسوية في الدوحة، واعتُرف لحزب الله بوجوده الأمني وكرّس الحلف الاميركي - الخليجي نفوذه السياسي بانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وعودة السنيورة رئيساً للحكومة (بالاضافة الى النفوذ المالي الذي يحتكره منذ التسعينات).

 

- عام 2011 - 2016

مع حلول موجة "الربيع العربي" على المنطقة، بدا أن هناك محاولة أميركية لإحلال الاسلام "الاخواني" الذي تتزعمه تركيا، مكان حلف "الاعتدال" في المنطقة الذي تتزعمه السعودية. ورحبت إيران  المعروفة بعلاقاتها الجيدة مع الاخوان وتركيا، بما اعتبرته "الصحوة الاسلامية".

وكما في كل حركة اقليمية، يتفاعل لبنان - الساحة مع التطورات سلباً أو ايجاباً، فتمت الاطاحة بحكومة سعد الحريري باستقالة ثلث أعضائها. ومع اندلاع الحرب في سوريا، وانخراط اللبنانيين فيها (من جميع الجهات)، باتت الساحة اللبنانية وحركتها السياسية تعيش على وقع تماوج الأرباح والخسائر الميدانية في سوريا.

وهكذا، وبعد توقيع الاتفاق النووي الايراني عام 2015، ودخول الروس الى سوريا، وقيام الجيش السوري وحلفائه بتحرير حلب وتبدل في موازين القوى العسكرية في المنطقة، وعلى مشارف نهاية عهد أوباما، تمّ انتخاب الرئيس عون رئيساً للجمهورية.

 

- من عام 2017- لغاية اليوم:

مع مجيء دونالد ترامب الى البيت الأبيض، تبدلت التوزازنات والتفضيلات الأميركية في المنطقة، فتعامل ترامب مع السعودية كحليف مفضّل (بعد اسرائيل طبعاً)، وفصل المسار السوري عن المسار اللبناني، فتعامل مع لبنان كجزء من حربه المفتوحة ضد ايران، ومع سوريا كجزء من علاقته مع الروس. وتوترت الساحة اللبنانية من جديد كساحة كباش اقليمي، خصوصاً بعد حصول حزب الله وحلفائه على غالبية المقاعد في المجلس النيابي عام 2018.

واليوم، وبمجيء جو بايدن الى البيت الأبيض، يعيش اللبنانيون المفجوعون بانفجار بيروت، تحت وطأة كارثة اقتصادية - اجتماعية وحجز أموالهم في البنوك، وتحت وطأة معضلة سياسية، من المرجح أن تستمر  طالما الكباش مستمر في المنطقة.

 

وهكذا، ينتظر اللبنانيون أن يحين أوان جلوس الاميركيين والايرانيين الى طاولة المفاوضات، فيتم عندها اللجوء الى "تسوية ترقيعية" تسمح ببعض الاستقرار فترة من الوقت، وهنا يكون التخوف من ان يندفع أحد الأطراف الخاسرة وفي حركة استباقية الى محاولة جرّ الشارع الى اشتباك أمني، ستكون أكلافه عالية لبنانياً، وهو ما حذّر منه السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير، ودفع جنبلاط لزيارة القصر الجمهوري. وهكذا، الى أن يحين أوان التسوية الاقليمية التي ستنسحب على لبنان، على اللبنانيين التنبه الى أن البلد مفتوح على جميع الاحتمالات وأن الجميع خاسر فيما لو انفجر الوضع الأمني نتيجة استمرار التعنت ومحاولات الاستقواء بالخارج. 

2021/03/18

لماذا يحتاج بايدن للخروج من استراتيجية الاستنزاف؟

ليلى نقولا

إنَّ المراقِب لمسار التفاعلات والتطوّرات في الشرق الأوسط، والحركة الروسية في الخليج، والزيارات التي يقوم بها كل من وفد حزب الله ووزير الخارجية الإسرائيلي إلى روسيا، يجد أنّها تشي كلّها بوجود محاولة لتحريك المياه الراكدة في الشرق الأوسط، بعدما وصلت الأمور إلى درجة الاستعصاء وعدم قدرة أيّ طرف دوليّ أو إقليميّ على التقدم في استراتيجيَّته لفرض قوته وتكريس نفوذه المطلق.

 

يعيش الشرق الأوسط منذ بداية ما سُمي بـ"الربيع العربي" مرحلة غير مسبوقة، أُعيد فيها رسم خطوط التحالفات والصراعات بطريقة مختلفة عما عاشه بعد مرحلة الانهيار السوفياتي. ومنذ عهد أوباما الثاني في البيت الأبيض، وخصوصاً بعد فشل مشروعه الأساسي، دخلت المنطقة مرحلة "الاستنزاف"، وما تزال لغاية تاريخه. وعلى الرغم من انخراط دونالد ترامب في مسار تحالفيّ مختلف عن سياسة أوباما، فإنّ "استراتيجية الاستنزاف" الأميركية بقيت على حالها.

 

ولكي نفهم السياقات الأميركية لتطبيق "استراتيجية الاستنزاف" التي طبَّقها أوباما واستكملها ترامب، وإمكانية استفادة بايدن من الاستمرار في تطبيقها، لا بدَّ من العودة إلى أهداف الاستراتيجية الأميركية في المنطقة بشكل عام منذ جورج بوش وحتى اليوم:

 

 

 

استراتيجيّة بوش: الانخراط الشامل لمكافحة الإرهاب

بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001، قامت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش بتنفيذ خطة "طموحة" لتغيير شامل في الشرق الأوسط، يبدأ من العراق، ويمتدّ كالدومينو إلى كل أنحاء العالم العربي، لكن فشل الخطّة وتسبّبها بكلفة مالية ضخمة قدّرت بتريليونات الدولارات، وغرق الجيش الأميركي في المستنقع العراقي، واستنزاف العراق في حرب أهلية طائفية.. فرضت كلها تغييراً شاملاً في الاستراتيجية الأميركية، وأدّت إلى توقيع الاتفاقيات الأمنية واتفاقية الإطار الاستراتيجي في العام 2008.

 

في هذه الفترة، وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وفي ظلِّ انخراط الولايات المتحدة واستنزافها في الشرق الأوسط، وعى الأميركيون أن الصين استطاعت أن تحقق قفزات هائلة على الصعيد الاقتصادي العالمي والجيوبوليتكي في منطقة شرق آسيا، وبدأت مراكز التفكير الأميركية ومنشورات الجيش الأميركي تتحدَّث عن أنَّ تقدّم الصين على الولايات المتحدة وتشكيلها تحدياً حقيقياً على صعيد القيادة العالمية هما مسألة وقت فقط.

 

 

 

استراتيجيّة أوباما: ترتيب الشرق الأوسط لـ"التوجّه نحو آسيا"

مع مجيء أوباما إلى البيت الأبيض في العام 2008، كان أمامه مهمات ثلاث أساسية: احتواء الصين، وإخراج أميركا من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت داخلياً بانهيار البنوك الأميركية، وتصفية التركة الثقيلة التي تركها له بوش في الشرق الأوسط.

 

هكذا، أعلن استراتيجية "التوجّه نحو آسيا"، التي تعني القيام بترتيبات تسمح بحفظ المصالح الأميركية في الشرق الأوسط من دون انخراط مباشر (القيادة من الخلف)، وتوجيه القدرات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية لاحتواء الصين، فانخرط الأميركيون في مشروع هيلاري كلينتون لتحقيق المصالح الأميركية وترتيب الشرق الأوسط، عبر التحالف مع الإسلام السياسي "الإخواني" (بقيادة تركية) لحكم العالم العربي، كبديل من "حلف الاعتدال" الذي تتزعّمه السعودية، تحت عنوان ثورات "الربيع العربي".

 

تحوّلت الثورات إلى فوضى عارمة داخل الدول المعنيّة لأسباب عديدة لا مجال لذكرها. ومع انتهاء عهد أوباما الأول، بدا أن مشروع هيلاري كلينتون فشل كلياً. وقد أدّى فشله إلى انخراط أميركي أكبر في المنطقة، بدلاً أن يخففه لمصلحة "التوجه نحو آسيا"، وتَدخَّل الروس والصينيون، وانتشرت الجماعات الإرهابية، وعاد الجيش الأميركي إلى العراق في العام 2014، بعد أن انسحب منه في العام 2011.

 

هكذا، تحوّل الأميركيون في عهد أوباما الثاني إلى "استراتيجية الاستنزاف"، أي قيام الأميركيين بالاستفادة من "حرب الكل ضد الكل"، للاستفادة من تحقيق توازن عسكريّ يؤدي إلى استنزاف الروس والإيرانيين وحزب الله في قتال حتى الموت مع المجموعات المسلّحة والإرهابيين في سوريا والعراق ولبنان... لكنَّ ذلك لم يحصل.

 

 

 

ترامب: تفكيك التّحالفات المتشكّلة حديثاً

مع مجيء ترامب، أبدى رغبته في الانسحاب من المنطقة، وفضّل التفاهم مع الروس على ترتيبات تسمح له بالخروج من المنطقة للتفرغ لاحتواء الصين (بحسب أولويات الاستراتيجية الأميركية). كانت خطَّته تقضي بتفكيك التحالفات التي تشكّلت خلال عهد سلفه باراك أوباما، وخصوصاً التحالف الصيني - الروسي والتحالف الروسي - الإيراني، وذلك عبر إعطاء مكاسب لروسيا في سوريا وأوكرانيا مقابل خروجها من التحالفات المتشكّلة، ما يسهّل مواجهة كلّ من الصين وإيران (وهي الخطة نفسها التي أدّت إلى تفكيك "البريكس").

 

 واجهت ترامب عراقيل عدّة داخلية وخارجية منعت تطبيق الخطة الأولية، فكان الاستمرار في استنزاف الإيرانيين وحلفائهم عبر الوسائل الاقتصادية، وليس العسكرية، كما فعل أوباما. استفاد الروس من علاقات ترامب الشخصية مع بوتين عبر توسيع مساحة نفوذهم في الساحة السورية، وإعادة حوالى 75% من الجغرافيا السورية إلى كنف الدولة.

 

 

 

جو بايدن: أولويّة التفرّغ للدّاخل الأميركيّ

لا شكّ في أنَّ أمام بايدن مهمّات صعبة جداً خارجياً وداخلياً، فقد ترك له ترامب عالماً مختلفاً. لقد أدّت قيادة الأخير للولايات المتّحدة إلى مشاكل مع الحلفاء، وخروج من الاتفاقيات والمنظمات الدولية، ومجتمع أميركيّ منقسم على ذاته، ارتفعت فيه نسبة العنصرية وجرائم الكراهية، وساد فيه الانقسام السياسي حتى طال العِلم والجيش الأميركي وكورونا واللقاح. وكما يبدو، لن يستطيع الديمقراطيون التخلّص من سطوة ترامب الداخليّة بسهولة.

 

وعليه، وعلى الرغم من أن أولويات الاستراتيجية الأميركية ما زالت احتواء الصّين وروسيا، لكن ماذا يفيد الأميركيين الانصراف إلى الردع والمواجهة الخارجية في وقت يتداعى الهيكل الداخلي؟

 

هكذا، يبدو أنَّ التهدئة وإدارة النزاع وتخفيف الانخراط اليوميّ الأميركيّ في شرق أوسط ملتهب، عبر ترتيبات سياسية تحفظ المصالح والنفوذ الأميركيين في المنطقة، كما تحفظ أمن "إسرائيل"، هي المسار الأفضل الذي يمكن أن يحقّق لجو بايدن وإدارته أمرين؛ الأول التفرغ للأولويات الداخلية لتحقيق إنجازات تمهّد للانتخابات النصفية في العام 2022 والانتخابات الرئاسية 2024، والآخر احتواء الصين التي بدأ اقتصادها يتعافى من جائحة كورونا، بينما لم يخرج الأميركيون من الجائحة بعد.

 

يبدو هذا المسار منطقياً من الناحية العقلانيّة وحسابات "الربح والخسارة"، ولا شكَّ في أنه سيفيد منطقة الشرق الأوسط وشعوبها، لكن تبقى العوائق أمامه مرتبطة بموقف إدارة بايدن وحلفائه الأوروبيين من روسيا، وعدم رغبتهم في إعطائها دوراً أكبر من مساحة نفوذها في سوريا في منطقة الشرق الأوسط، والضّغوط الداخليّة والحملات الإعلاميّة من الجمهوريين، والَّتي قد تفرمل اندفاعته وخطّته الأولى في تخفيف التّشنّج والاقتتال في المنطقة.

  

2021/03/15

من أين يبدأ الحلّ في لبنان؟

 

ليلى نقولا

 

لا شكّ أن المرحلة التي يمر بها لبنان غير مسبوقة وسط أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية، باتت تسحق اللبنانيين سحقاً. ويبدو الانهيار الاقتصادي رأس جبل الجليد، بعد نهب منظّم للخزينة العامة، وفي ظل سياسات اقتصادية أفقرت لبنان، وشجعت الريع والزبائنية. لكن الاستعصاء اللبناني يبدو أوسع بكثير، ليشمل ما يلي:

 

1- الدستور اللبناني نفسه

 

يبدو الدستور اللبناني بتعديلاته التي أقرّت في الطائف، سبباً من أسباب التعطيل السياسي، اذ تغيب النصوص الدستورية التي تسمح بحلّ دستوري قانوني حين يتحوّل الاستعصاء السياسي الى مشكلة كالتي نشهدها اليوم، كأن يتمّ الاحتكام الى صناديق الاقتراع أو حلّ البرلمان أو سواها.

 

زد على ذلك، إن الدستور نفسه لم ينصّ على مهل دستورية، لا لرئيس الجمهورية للدعوة الى استشارات نيابية يلزمه باجرائها في حال استقالة الحكومة، ولا مهلة لرئيس الحكومة المكلّف بتشكيل الحكومة، تمنعه من أن يضع التكليف في جيبه ويجوب العالم غير آبه بالأزمات المتفاقمة.

 

- الدولة العميقة وتعطيل التدقيق الجنائي

 

بعد كل الأزمات التي شهدها لبنان على مدى سنة ونصف تقريباً، وبعد التوتر والتصرفات الميليشياوية في الشوارع اللبنانية التي أعادت الى الذاكرة ممارسات الحرب الأهلية، يرى اللبناني أن ما حصل هو انعكاس حقيقي لكلام سماحة الإمام موسى الصدر، الذي وصف السياسيين اللبنانيين بأنهم "بلا قلب"  وأنهم "لا يتوانون عن اللجوء الى حرب أهلية للحفاظ على امتيازاتهم".

 

وبالفعل، إن ما حصل في الشوارع اللبنانية من رسائل سياسية تصب جميعها في اتجاه الرئيس عون، تعطينا فكرة واضحة أن الموضوع الرئيسي الذي يهم الطبقة السياسية اليوم هو تعطيل التدقيق الجنائي بأي شكل من الأشكال، حتى لو تمّ سفك الدماء في الشارع. وعليه، وجدنا الدولة العميقة بكافة سياسييها وإعلامييها وأمنييها وبنوكها الخ، قد نزلت بثقلها في المعركة للحفاظ على تلك الامتيازات.

 

- خوف الطوائف

 

يعكس كلام القيادي في تيار المستقبل الدكتور مصطفى علوش الى صحيفة "القدس العربي" بتاريخ 13 آذار 2021، حقيقة ما تعيشه معظم المجموعات اللبنانية الطائفية، من هواجس وخوف. يقول علوش أن "السنّة في لبنان هم الطرف الأكثر ضعفاً وهشاشة بين الطوائف اللبنانية كونهم متروكين في ظل انعدام موازين القوى في الإقليم". ويخشى علوش من "تفكك البلد" وبالتالي حصول فراغ في مناطق السنّة و"فوضى مفتوحة قد يصبح معها التدخل التركي بتفاهم دولي هو الحلّ لضبط تلك الفوضى في ظل غياب الخيارات الأخرى".

 

وعلى المقلب المسيحي، يشعر المسيحيون أيضاً بالخوف والقلق على المصير كما معظم اللبنانيين، وتزداد هواجسهم في ظل محاولات الرئيس المكلف سعد الحريري الاستئثار بتسمية الوزراء السنّة والمسيحيين معاً، في محاولة منه لتكرار تجربة والده في الحكم، وتهميش دور المسيحيين كما في التسعينات.

 

- التوتر الاقليمي

 

تنتظر الشعوب في كل من لبنان والعراق وسوريا واليمن، نتائج السياسة الاميركية الجديدة في المنطقة بعد إعلان الرئيس الأميركي "جو بايدن" نيّته الانفتاح على ايران والعودة الى الاتفاق النووي. ولا شكّ، ان تطورات هامة تنتظر المنطقة في الاشهر القليلة المقبلة، أهمها: نتائج المعركة الميدانية في اليمن، الانتخابات الاسرائيلية، والانتخابات السورية، والانتخابات الايرانية في حزيران القادم، والتي سينتظر الاميركيون نتيجتها للانطلاق الجدّي في العملية التفاوضية.

 

إذاً، هي مجموعة عوامل متشابكة تدفع الى الاستعصاء في لبنان، ولكن حلّها - ولو بدا مستحيلاً اليوم- لن يكون مستحيلاً غداً. المدخل الحقيقي للحلّ، يبدأ من العامل الأقليمي الذي ستُفتح بعده مجالات الحلول الداخلية. أما الخطأ الذي نتمنى أن لا يقع فيه اللبنانيون، هو أن يتم الاكتفاء بانسحاب التسوية الاقليمية على الداخل، فيتم "الترقيع" بدون حلّ شامل لكل العقد الداخلية الأخرى، وأهمها تعديل الدستور اللبناني.

  

2021/03/10

كيف فشلت "محاولة الانقلاب" الأخيرة في لبنان؟

 

ليلى نقولا

 

ما أن عمدت الحكومة اللبنانية الى فتح الاسواق بعد إقفال دام أكثر من شهرين بسبب الكورونا، حتى أعلنت بعض المجموعات اللبنانية نيّتها بالقيام بالتظاهرات وإقفال الطرقات داعية الى استقالة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وإسقاط السلطة السياسية. وهكذا عاش اللبنانيون أياماً عصيبة وإذلالاً غير مسبوق على الطرقات، في مشهد يذكّر بممارسات الحرب الأهلية، وأهمها الاذلال الذي كان اللبنانيون يعيشونه على المعابر بين المناطق.

 

وبالنظر الى القوى التي شاركت في قطع الطرقات على الأرض، وخريطة الزيارات التي قام بها السفير السعودي وليد البخاري قبل الاحتجاجات، ولقائه المطوّل بقائد القوات اللبنانية سمير جعجع، كان واضحاً أن السعودية  كانت تجرّب في محاولة أخيرة القيام بتحسين أوراقها في الساحة اللبنانية، كساحة أخيرة من الساحات التي تمتلك فيها نفوذاً في المنطقة والتي خسرت فيها جميعها وأهمها اليمن، فكان أن حاولت دفع بعض الاطراف اللبنانيين الى القيام بـ "محاولة أنقلاب" وإسقاط رئيس الجمهورية.

 

وهكذا، وبعد ايام من التظاهر وإحراق الدواليب والتلاعب بسعر صرف الدولار، قام الجيش اللبناني بفتح جميع الطرقات، وتبين أن محاولة الانقلاب قد فشلت للأسباب التالية:

 

أولاً-  عدم مشاركة معظم مجموعات 17 تشرين "الثورية"

 

بدت معظم المجموعات" الثورية" التي ساهمت في انتفاضة 17 تشرين 2019 غير معنية بالحراك الدائر، ولم تنجرّ الى الشارع لأسباب متعددة، منها معرفتها بالأهداف الحقيقية للمجموعات الحزبية التي تعمد الى إقفال الطرقات وإذلال المواطنين، ومنها غياب الرغبة والمصلحة لممولي بعض المجموعات، وغير ذلك.

 

ثانياً- انفراط عقد "جبهة المعارضة" الحزبية ضد الرئيس عون

 

لقد بدا واضحاً من خريطة التظاهرات وقطع الطرقات أن المجموعات الحزبية التي شاركت في تلك التظاهرات خاصة في اليومين الأخيرين بعد لقاء بعبدا الاقتصادي، اقتصرت على مجموعات القوات اللبنانية وتيار المستقبل، مع مجموعات متفرقة من المتظاهرين الأفراد الذين انساقوا أما بدافع الفقر والعوز وانعدام الفرص، أو مقابل بدل مادي.

 

في أولى أيام التظاهر، شارك بعض الشباب الغاضب في قطع الطرقات في الضاحية الجنوبية وطريق المطار وغيرها، وقيل كلام كثير ضد رئيس الجمهورية في تلك التظاهرات. إلا أن بياناً مشتركاً من حزب الله وحركة أمل، قطع الطريق على محاولات جرّ بعض الشباب المتحمس للانخراط في تلك المظاهرات، خاصة من حركة أمل التي تنصّلت من الأمر. وبعدها هدأت المسيرات الليلية وإقفال الطرقات في الضاحية والخندق الغميق وسائر المناطق المحسوبة على الثنائي الشيعي.

 

أما الوزير السابق وليد جنبلاط، فبدا غير معني بالانجرار الى جبهة ميدانية تستخدم الشارع لإسقاط رئيس الجمهورية، في بلد يعرف هو تماماً ان اسقاط رئيس الجمهورية "المسيحي" يعدّ من سابع المستحيلات، فكيف برئيس مدعوم من حزب الله، وكان السيد حسن نصرالله قد حدد موقف الحزب من إسقاط العهد منذ بداية التظاهرات في تشرين الأول من عام 2019، حين أعلن صراحة "العهد ما فيكم تسقطوه"!.

 

يضاف الى ما سبق، أن جنبلاط قارئ جيد للتطورات الاقليمية والدولية، وهو يدرك تماماً أن مجيء بايدن الى البيت الأبيض ودعوته للانفتاح على إيران، وموقفه من ولي العهد السعودي، لا يسمح بمغامرات قتال شوارع شبيهة بمغامرة 7 ايار الشهيرة. ولقد ظهر جلياً من الحديث المسرّب لوليد جنبلاط والذي اعتذر عنه في ما بعد، أن جنبلاط يدرك أن الرهان السعودي على جعجع لن يأتي بنتيجة فعلية على الارض، ولن يغيّر في المعادلات الاقليمية ولن يعطي السعودية دفعاً فقدته في جميع الساحات الاقليمية الاخرى.

 

وهكذا، بقيت القوات اللبنانية وتيار المستقبل الطرفين السياسيين الأبرز المشاركين بقطع الطرقات، الأول بتشجيع من المملكة السعودية، والثاني لتعويم موقفه التفاوضي في الحكومة، ولتحسين صورة سعد الحريري لدى المملكة التي ما زالت تعتبر انه أخطأ بعقد التسوية مع الرئيس عون، وغاضبة مما حصل بعد استدعائه الى السعودية وإجباره على الاستقالة عام 2017.

 

ثالثاً- تراجع البطريرك الماروني بشارة الراعي

 

حاولت القوات اللبنانية وباقي الأطراف المعارضة، أن تأخذ  من المواقف التي أطلقها البطريرك الماروني ودعوته الى مؤتمر دولي، غطاءً للتحركات التي قامت بها في الشارع، وهذا ما عكسته تصريحات المتظاهرين من القوات على الشاشات، وهي عادةً ما تكون تصريحات متفق عليها "تحت الهواء" وليست عفوية كما يعتقد البعض.

 

الجواب السريع على دعوة البطريرك "التدويلية" أتى من نائبة المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان نجاة رشدي، من أن عقد المؤتمر الأممي يرتبط بإرادة الدول المشاركة، وموافقة الأطراف في الداخل على هذا المؤتمر، وأكدت للبطريرك ضرورة قيام حوار داخلي لبناني يسبق الخطوة. هذا الجواب أحبط مبادرة البطريرك في مهدها. ثم إن الزيارة التي قام بها وفد حزب الله الى البطريركية وزيارة اللواء عباس ابراهيم، ومشاهد الذل على الطرقات خاصة في المناطق المسيحية، كانت حافزاً لقيام البطريرك الى دعوة صريحة بعدم قطع الطرقات على المواطنين، بعد يومين من قطعها والتسبب بمقتل 4 اشخاص.

 

هذا في خريطة اللبنانية الداخلية، أما في الخارج فيبدو من خريطة المجموعات المشاركة، أن الدول التي دعمت وساهمت في دعم ثورة 17 تشرين، ومنها الولايات المتحدة لم تكن مشاركة في الحركة الانقلاب التي حاولت السعودية أن تقوم بها كمحاولة أخيرة لتعويم نفسها في ساحة من ساحات الاقليم، لكن - على ما يبدو - أعطتها فترة سماح محدودة زمنياً لترى مدى قدرتها على تحقيق أهداف سياسية من خلالها. وبفشل الخطة الميدانية، والذي كان متوقعاً، فُتحت الطرقات وتراجعت الحركة "الثورية" في الشارع، وعاد كل طرف الى حجمه. وفشل الانقلاب!