2021/11/30

مفاوضات فيينا: الممكن والصعب للتوصل الى اتفاق

 

استأنفت في فيينا، يوم الاثنين في التاسع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر الحالي، المفاوضات بين إيران والدول (4+1)، بعدما كانت قد توقفت في الصيف الماضي بدون التوصل الى اتفاق يرفع جميع العقوبات الاميركية عن إيران كما يطالب الايرانيون، أو عودة إيران الى الاتفاق النووي الموقع عام 2015، وتنفيذ خطوة مقابل خطوة كما يريد الاميركيون.

 

وبالرغم من التفاؤل الحذر الذي يسود الأجواء في فيينا، ومحاولة بث الايجابية حول الجدية التي يبديها جميع الاطراف للتوصل الى اتفاق، لا يبدو الطريق معبداً أمام إتفاق سريع، وذلك لأن الهوة بين ما يطلبه الأميركيون والغرب بشكل عام، وما يمكن أن يقبل به الايرانيون، تبدو كبيرة.

 

وبكل الأحوال، إن أكثر المتفائلين لا يمكن أن يتوقع التوصل الى حلول للمشاكل والتعقيدات العديدة التي تحيط بالملف في الجولة الاولى من الحوار، وبالتالي يحتاج الأطراف الى جولات عدّة لتذليل العقبات والتوصل الى إتفاق، بشرط توافر الظروف المؤاتية ، والتي يجب أن تبدأ عبر الممهدات التالية:

 

أولاً: من ناحية الطرف الأميركي:

 

-       اعتراف أميركي أن سياسة الضغوط القصوى التي مارسها ترامب وقيامه بإعادة فرض عقوبات شاملة وقاسية على الايرانيين - والتي لم توفر الأماكن المقدسة- لم تؤدِ الى النتائج التي ينتظرها الأميركيون أو الى دفع إيران الى طاولة المفاوضات كما كان يدعوها ترامب. بالعكس، قامت إيران خلال هذه الفترة بزيادة مخزونها من اليورانيوم، وباتت أقرب الى القدرة على تصنيع سلاح نووي خلال أشهر (فيما لو أرادت ذلك).

 

-       إقتناع أميركي بعدم جدوى وعدم القدرة على إعادة إحياء الاتفاق الأصلي الذي تخطته الظروف والتطورات التي حصلت، فإيران لن تقبل العودة الى الوراء، كما أن مطالب الوفود الغربية بالسير بالاتفاق الأصلي، وكأن فترة السنوات الست التي مرّت منذ توقيع الاتفاق وكأنها لم تكن، لن تكون شرطاً مقبولاً عند الايرانيين لاستمرار المفاوضات.  بالمقابل، إن طرح إمكانية تراجع إيران عن برنامجها النووي أو تفكيكه من أجل رفع العقوبات، لا يبدو أنه أمر مطروح لدى الايرانيين، خاصة بعدما استطاع الاقتصاد الايراني استيعاب العقوبات القصوى وسجّل نمواً مقبولاً بعد سنوات من التراجع، وتحوّل الايرانيون شرقاً عبر توقيع اتفاق استراتيجي مع الصين.

 

-       ركزت الصحافة الاسرائيلية على إمكانيات الذهاب الى مواجهة عسكرية، ونقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن مصادر في الوفد الأميركي الى فيينا، أن واشنطن" لن تسمح لإيران بالحصول على سلاح نووي، هذا الأمر مفروغ منه حتى لو اضطرنا إلى استخدام القوة العسكرية". وتعكس هذه المقاربة، قلقاً إسرائيلياً أكثر مما تعكس إرادة أميركية حقيقية بالعودة الى الانخراط في نزاعات الشرق الأوسط، أو فتح جبهات جديدة يدرك الجميع استحالة الانتصار فيها.

 

إن رضوخ إدارة بايدن للضغوط الداخلية سواء من الحزب الجمهوري، أو من اللوبيات المختلفة للاستمرار في سياسة العقوبات على إيران، لن تؤدِ إلا الى مزيد من القدرة النووية الايرانية، وستعقّد الحل. كما أن التهديدات الاسرائيلية بمواجهة عسكرية وقصف المفاعلات النووية في حال التوصل الى اتفاق، لجرّ الأميركيين الى مواجهة شاملة في منطقة، يبدو نوعاً من الجنون الاسرائيلي،  في ظل عدم قدرة أي طرف على تحمل كلفة حرب شاملة في المنطقة، وفي ظل تأكيد إدارة بايدن على أولوية التوجه نحو آسيا لاحتواء توسع النفوذ الصيني العالمي.

 

-       يحتاج الأميركيون الى كلام صريح وواضح مع الحلفاء في المنطقة حول أهداف واستراتيجيات السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في ظل مشاهد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، والذي أظهر الولايات المتحدة بمظهر العاجز عن تأمين انسحاب جنودها ناهيك عن تأمين مظلة لحماية حلفائها. إن "تطمين الحلفاء" في المنطقة حول أمنهم وتعميق الشراكات الاستراتيجية بينهم وبين الولايات المتحدة بعد التوصل الى اتفاق جديد مع إيران، يبدو شرطاً أساسيًا لإدارة بايدن للتخلص من العراقيل والاشكاليات التي واجهت إدارة أوباما  في المنطقة بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران عام 2015.

 

ثانياً: من الناحية الايرانية:

 

من الطبيعي أن إيران هي الطرف الأكثر تضرراً من استمرار سياسة العقوبات ومن عدم التوصل الى حل أو الى اتفاق جديد، لذا فإن المفاوض الايراني الذي وضع سقفاً أعلى لمفاوضاته، يملك هامشاً من الحركة بين ما هو ممكن وما هو مستحيل القبول به.

 

تبدو بعض الشروط الايرانية صعبة التحقق. إن جزءًا كبيراً من العقوبات المفروضة على إيران يمكن إزالته، خاصة تلك التي فرضها ترامب عبر أوامر تنفيذية (هي من صلاحيات الرئيس الأميركي)، وبالتالي باستطاعة بايدن إلغاءها بأوامر تنفيذية أخرى. لكن،   في ظل الظروف الحالية التي تتسم بالانقسام العامودي، وفي ظل نظرة معادية لايران ثابتة تتخطى الانقسام الحزبي في الولايات المتحدة الاميركية، وفي ظل رغبة جمهورية وديمقراطية في خطب ودّ الناخبين الأميركيين على أبواب انتخابات نصفية، من الصعب على الإدارة الأميركية الحالية إلغاء العقوبات المفروضة على إيران من قبل الكونغرس الأميركي.

 

 

كما أنه من الصعب على الإدارة الأميركية الحالية، كفالة عدم قيام الإدارات اللاحقة بالتراجع أو الانسحاب من الاتفاق. إن قدرة أي قرار أو اتفاق على تخطي رغبات الرئيس الأميركي وصلاحياته في التنصل من أي اتفاق جديد، تحتاج الى أن يتم عرضه على الكونغرس للمصادقة عليه، كما يحتاج اي قرار للحصول على موافقة أغلبية ثلثي مجلسي النواب والشيوخ لكي يصبح ملزماً للرئيس الأميركي، وتخطي قدرته على وضع الفيتو عليه.

 

في المحصلة، وبالرغم من أن إدارة الرئيس رئيسي لا تبدو مهرولة نحو اتفاق جديد، لكن المصلحة الايرانية الأكيدة هي في رفع العقوبات لتحفيز النمو في الاقتصاد الايراني، ولجذب الاستثمار الأجنبي، لذا فإن التوصل الى إتفاق مرحلي جزئي يتم بموجبه إلغاء العقوبات التي فرضها ترامب مقابل تجميد عمليات تخصيب اليورانيوم، قد يكون مفيداً لجميع الأطراف، باستثناء اسرائيل طبعاً.

  

2021/11/29

مفاوضات فيينا: ما الخيارات أمام "اسرائيل" القلقة؟

ليلى نقولا
تبدأ المفاوضات حول الملف النووي الايراني في فيينا يوم الاثنين في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، وتعيش اسرائيل نتيجة لذلك قلقاً جديًا، بسبب التباين في النظرة للتعامل مع ذلك الملف بينها وبين الولايات المتحدة الاميركية، وبسبب ما أعلنه الاسرائيليون من أن برنامج ايران النووي قد تقدم خلال هذه الفترة بحيث تحتاج ايران الى شهرين فقط لصنع قنبلة نووية.
وكالعادة، وبغض النظر حول اسم رئيس الوزراء، وشكل الحكومة، هدد الاسرائيليون أنّ "استهداف المواقع النووية الإيرانية سيكون ضرورياً في حال توقيع الاتفاق". وتأتي هذه التهديدات، بعدما أعلن مسؤولون إسرائيليون أن المحادثات التي أجراها المبعوث الأميركي لشؤون إيران، روبرت مالي في اسرائيل، كانت سيئة للغاية، وبأنها ولّدت لديهم "خيبة أمل عميقة" حيث بدا مالي وكأنه معادٍ لاسرائيل، وأن الادارة الأميركية تندفع الى "استسلام مخزٍ للعدو"، ونُقل عن المدير العام لوزارة الخارجية لاسرائيلية أن "الحديث يدور عن اتفاق سيء يوفّر شرعية لبرنامج نووي عسكري لا ينوي الإيرانيون أصلاً التراجع عنه".
وبالرغم من التهديدات الاسرائيلية حول القيام بهجوم على مواقع نووية ايرانية في حال تمّ توقيع الاتفاق، نجد استحالة في هذا الامر، وذلك للأسباب التالية:
- إن قيام اسرائيل بضربة مباشرة للأراضي الايرانية، سوف تحتّم رداً إيرانياً مقابلاً ويمكن أن تتدحرج الامور لتصل الى حرب اقليمية على جبهات عدّة، لن يكون بمقدور اسرائيل الانتصار فيها.
- إن التهديدات الاسرائيلية تبدو رسالة موجهة بالدرجة الاولى الى الحليف الاميركي، لثنيه عن تقديم – ما يعتبره الاسرائيليون- تنازلات لإيران في ملفها النووي، ومطالبة المفاوضين الاميركيين والاوروبيين بالضغط للحصول على تنازلات من ايران في ملف الصواريخ الباليستية، ونفوذها في المنطقة. علماً أن ما يطلبه الاسرائيليون والاميركيون في هذا المجال يعتبر خطاً أحمر ايرانياً، وما لم يستطع ان يحصل عليه مفاوضو الغرب من حكومة روحاني في وقت سابق لن يستطيعوا الحصول عليه من حكومة رئيسي.
وعليه، وبما أن العمل العسكري المباشر ضد المفاعلات النووية الايرانية يبدو متعذراً ومحفوفاً بالمخاطر، فإن الاسرائيلي سوف يعمل جاهداً على خطين:
- محاولة الضغط الداخلي على إدارة الرئيس جو بايدن، لمنعها من عقد اتفاق مع ايران، أو على الاقل عدم تقديم أي تنازلات للايرانيين، ما يجعلهم ملزمين بالانسحاب من المفاوضات أو الاعلان عن تعثرها وتأجيلها.
- استخدام الحرب السيبرانية للقيام بضربة مموهة (غير مؤكدة المصدر) للمفاعلات النووية الايرانية أو لضرب منشآت حيوية ايرانية أو اغتيال شخصية ايرانية أساسية في الملف النووي، وذلك بهدف خلق أزمة وتوتر بين الايرانيين والأميركيين، الأمر الذي يمكن أن يعرقل المفاوضات أو يؤجلها، ما يعطي لاسرائيل هامشاً من الوقت، علّ الامور تتغير سواء في المنطقة أو في الداخل الاميركي.
وبكل الأحوال، لا تبدو الخيارات سهلة ومتوافرة أمام الاسرائيليين، والوقت يضيق أمام الغرب والاميركيين، وكلما تأخر الوصول الى اتفاق مع ايران، كلما طوّرت ايران برنامجها النووي، بحيث ستصبح الشروط الموضوعة في الاتفاق الاساسي لعام 2015، غير ذي جدوى، وبالتالي لا فائدة من العودة إليه. 

2021/11/23

لبنان: الانتخابات المنتظرة والأحلام المفرطة

منذ انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 ولغاية اليوم، يأمل كثيرون في لبنان بتغيير شامل لبنية النظام السياسي اللبناني، بينما يأمل العديد من الدول الخارجية بإمكانية الوصول عبر الانتخابات النيابية إلى تغيير خريطة توزع القوى اللبنانية، بحيث يتم تغيير سياسي شامل يقصي أو يحجّم نفوذ التيار الوطني الحر وحزب الله، عبر قوى مجتمعية "مدنية" بالأساس أو حزبية بغطاء مدني، لأخذ لبنان إلى سياسة خارجية مختلفة تفتح مسار التطبيع مع "إسرائيل" أو غير ذلك.

 

المشكلة أنَّ هذه الآمال، وإن كان بعضها مشروعاً، كحلم تغيير النظام السياسي عبر الأطر الديمقراطية، عاجزة عن فهم التعقيدات التي تحيط بالنظام السياسيّ والمجتمعيّ اللبناني واستعصاء إمكانية التغيير من دون التحوّل من الديمقراطية التوافقيّة إلى نظام غالبيّة برلمانيّة، وهو صعب في المجتمعات المتعدّدة كالمجتمع اللبناني.

 

منذ نشأته، ومنذ استقلال لبنان، يعتقد الكثير من المفكرين والباحثين اللبنانيين أنَّ التمثيل النسبي الطوائفي هو علة العلل في لبنان، وأن هذا النظام يستولد الأزمات، وهو الذي أدى إلى الحروب الأهلية. أما البعض الآخر، فاعتبره حلاً ممكناً، منطلقاً من مقولة أنَّ النظام الأكثري في ظلِّ تعدد طائفي ومجتمعات غير متجانسة قد يكون أشد إيلاماً من حكم الحزب الواحد في الأنظمة الأكثرية.

 

المعضلة تكمن في أن هناك احتمالات في الديمقراطيات المتجانسة بأن تتحوَّل الأقلية إلى أكثرية، بفضل تغيير توجهات الرأي العام الذي يغير مسار الانتخابات. أما في المجتمعات المتعددة وغير المتجانسة، فإن الأقلية الإثنية أو الطائفية أو اللغوية، محكوم عليها سياسياً بالبقاء أقلية، وبالعزل، ولا يمكنها الاعتماد إلا على نمو ديمغرافي متسارع، وهو متعذر.

 

لم ينشأ مفهوم الديمقراطية التوافقية كغيره من النماذج الديمقراطية التي انطلقت من أثينا، ومن مفكري وفلاسفة الأنوار، بل نشأ من التجارب المقارنة حول العالم. بداية، جرت دراسة هذا النموذج وتدويله من خلال بعض المؤلفات التي تتحدث عن أنظمة الحكم في كل من بلجيكا والنمسا وسويسرا وكندا، ثم امتد المفهوم إلى بعض بلدان العالم الثالث، وخصوصاً ماليزيا وقبرص وكولومبيا والأوروغواي ونيجيريا.

 

وقد صاغ العالم السياسي الهولندي ليبهارت (Arend Lijphart) هذا النموذج في كتابه، وعدّد خصائصه على الشكل التالي:

 

- حكومة ائتلاف واسع، الأمر الَّذي يميّز النموذج التوافقي عن النموذج البرلماني التقليدي الذي يقوم على "حكومة مقابل معارضة". وقد اعتبر البعض أن هذا النوع الائتلافي يحمي الأقليات الموجودة، ويعطيها مجالاً للمشاركة في الحكم لا تتيحه لها الأسس البرلمانية.

 

- نسبية في التمثيل بدلاً من قاعدة الأكثرية، وهذا ما يلاحظ في لبنان، من خلال توزيع المقاعد النيابية والوزارية والرئاسات على أساس طائفي.

 

- الفيتو المتبادل كوسيلة لحماية الأقلية ضد القرار الأكثري، فالمشاركة في الائتلاف الحكومي قد لا تكفي بالفعل لحماية الأقليات. لذلك، يجب إعطاء المجموعات حق النقض في الميادين ذات الأهمية الحيوية والمصيرية بالنسبة إليها وإلى وجودها.

 

- إدارة ذاتية للمجموعات في بعض الشؤون. لتلافي جمود سبل التقرير من خلال حق النقض، تمنح الديمقراطية التوافقية الثقافات الفرعية إدارة ذاتية في الميادين التي تخصها مباشرة. ونلاحظ هذا الأمر في لبنان من خلال إعطاء الطوائف الحرية في المحاكم الشرعية والأحوال الشخصية.

 

وهكذا، يمكن الإشارة إلى أن صيغة النموذج التوافقي اللبناني سبقت قيام الدولة اللبنانية، إذ امتدَّ منذ نظام الملل العثماني ونظام القائمقاميتين والمتصرفية، وفي إصلاحات شكيب أفندي، إلى أن ثبّته الفرنسيون خلال الانتداب، ثم كرسته الصيغة وميثاق 1943، وفي ما بعد اتفاق الطائف 1990.

 

وحتى في الإطار الفردي، وبصرف النظر عن مستوى إيمان الشخص وممارسته الدينية، كرّس النظام اللبناني الترابط بين المدني والديني في حياة الفرد، بحيث يستمدّ الفرد حقوقه من حقوق طائفته، ولا يصبح المواطن اللبناني عضواً في مجتمعه إلا إذا التزم تجاه الطائفة التزام ولاء، هو في الوقت نفسه التزام مدني وديني.

 

وعلى مستوى أوسع، ففي بلد مكوّن من مجموعة أقليات متحاربة، تحاول أن تفرض سطوتها بالاستعانة بالخارج في معظم الأحيان، تمّ تكريس الانتماء الطائفي مقياساً أساسياً للعلاقات مع الطوائف الأخرى، فالوعي بالخصوصية الثقافية تطوّر على مدى عقود، وبات مرتبطاً إلى حدٍ بعيد بممارسة العلاقات مع الجيران من الطوائف الأخرى.

 

هذا في المبادئ المؤسسة للدولة. أما في الممارسة، فقد حافظت الأحزاب السياسية دوماً على قدسية هذا التكوين الاجتماعي السياسي الذي تمَ التعبير عنه بـ"الميثاقية"، لإدراكها أنّ أيّ محاولة فصل بين المدني والديني، أو بين الاجتماعي الثقافي من جهة والسياسي من جهة أخرى، سوف يثير ردود فعلٍ عنيفة، ويمكن بالتالي أن يستثار الناس الذين سيشعرون بأنهم مهددون في صميم هُويتهم.

 

وعليه، إنَّ ارتباط الأحزاب السياسية ووجودها ودورها في الحفاظ على حقوق الطوائف وقدرتها في النظام، يلعب لمصلحة إبقاء النظام ذاته، كما أن نظام الفيتو الذي يبدو أنَّه أكثر تجذراً من أي مبدأ سياسي آخر، يعني عدم قدرة الأغلبيات البرلمانية على الحكم، بدليل أنَّ قوى 14 آذار امتلكت الغالبية في المجلس النيابي اللبناني منذ 2005 ولغاية 2018، ولم تستطع أن تحكم، ما أدى إلى تفكّكها وتشرذمها وكيل الاتهامات إلى بعضها البعض، بينما امتلك التيار الوطني الحر وحزب الله وحلفاؤه الغالبية منذ العام 2018، ولم يستطيعوا أيضاً أن يطبّقوا أيّ برنامج للحكم أو يدفعوا لبنان إلى تغيير سياساته الخارجية أو الاقتصادية أو السياسية الداخلية، وبقي الحال كما كان عليه سابقاً خلال سنوات ما قبل 2018.

 

انطلاقاً من كلِّ ما سبق، ومن دون الدخول في تفاصيل الأرقام الانتخابية ومؤشراتها التي لا تشير إلى إمكانية سهلة لتغيير الغالبية النيابية الحالية أو سهولة هزيمة الأحزاب الحالية عبر قوى مدنية، تبدو الحملات السياسية الداعية إلى تغيير سياسي شامل وإلى عقد اجتماعي جديد بين مواطنين، وليس بين طوائف، كما تبدو الدعوات الإعلامية والسياسية إلى إحلال غالبية نيابية "مدنية" لتطبيق برامج سياسية مختلفة، تكافح الفساد وتقوم بنزع سلاح حزب الله، أو تلك التي تطمح إلى أن يقرّ مجلس النواب "الجديد" السير بمسار التطبيع مع "إسرائيل" أو لفظ التعاون مع الشرق أو غير ذلك، نوعاً من الأحلام المفرطة التي لا تأخذ بعين الاعتبار كلّ التعقيدات المرتبطة بأسس النظام اللبناني التوافقي، وأسبقية وجود الطوائف على وجود الدولة ونظامها السياسي في لبنان. 

2021/11/22

انتخابات النقابات: مرايا الانتخابات النيابية القادمة

 

تقوم الاحزاب والتيارات، وأحزاب المجتمع المدني اللبناني بتقييم نتائج الانتخابات النقابية التي تجري على في لبنان، والتي يمكن أن تعطي فكرة – ولو مبدأية – عن الانتخابات النيابية عام 2022، ومن حيث تبدل التحالفات وتوزيع الاصوات وتوجهات الناخبين وما سوى ذلك.

 

وقد خاضت الأطراف المذكورة أعلاه انتخابات نقابة المحامين في بيروت وقبلها نقابة المهندسين، بتحالفات ووجوه تعكس الى حدٍ بعيد رغبتها في تكرار التجربة أو الاستفادة من عبرها في الانتخابات النيابية القادمة، ولعل أبرز الملاحظات على تلك الانتخابات وسواها، ما يلي:

 

-      ستخوض الاحزاب المختلفة انتخاباتها القادمة عبر وجوه "شبه مستقلة" أي انها ستعمد الى عدم تبنّي مرشحين حزبيين، وذلك لأسباب عدّة أهمها: تبني الفائز في حال ربحه الانتخابات وهو ما فعلته أحزاب كل من الكتائب والمستقبل وحركة أمل الذين أعلنوا دعمهم لناضر كاسبار في الدقائق الأخيرة من العملية الانتخابية، وبعدما بدأت موازين القوى الانتخابية تظهر لصالحه، بحسب المراقبين والصحفيين الذين واكبوا عملية انتخابات المحامين عن قرب.

 

-      كما بات واضحاً منذ انتفاضة 17 تشرين الاول 2019، ستقوم العديد من الأحزاب كالقوات اللبنانية والكتائب (على سبيل المثال لا الحصر) بإقامة "واجهات مدنية" تتلطى خلفها، فتقوم تلك الواجهات بعقد التحالفات مع أحزاب المجتمع المدني وخوض الانتخابات سوياً حين يكون لهؤلاء قدرة على تجيير أصوات لتلك الاحزاب، بينما ترشّح حزبيين في الدوائر حيث يستطيع التصويب الحزبي أن يحسم المعركة.

 

-      يعاني تيار المستقبل من مشاكل مادية وسياسية كبيرة ترتبط الى حدٍ بعيد بالمسار الذي اتبعه رئيسه سعد الحريري منذ إجباره على اعلان استقالته في السعودية عام 2017، وما تلاها من محاولات ترميم علاقته ببن سلمان، الامر الذي كلفه الكثير في الداخل بدون جدوى. لذا يمكن أن يكون أكبر الخاسرين في حال لم يستطع أن ينهض بماكينته الانتخابية من جديد.

 

-      سيكون أمام ح ز ب الله إشكالية كبيرة في الدوائر المختلطة طائفياً، فمن جهة هو ملتزم بتحالف "مقدس" مع حركة أمل ولا يمكن له أن يوزع أو يسمح بتشتيت أصوات الشيعة في ظل الهجمة الخارجية عليه، ومن جهة أخرى يجد نفسه ملزماً بدعم حليفه التيار الوطني الحر، بعدما بات واضحاً للجميع أن الخطة الجديدة – وبحسب تصريحات العديد من الأميركيين منذ فيلتمان ولغاية اليوم –لأحتواء نفوذ الحزب في لبنان وإضعافه يكون بسحب الغطاء "الوطني" العابر للطوائف الذي يوفره له التيار الوطني الحر، وذلك بإضعاف التيار سياسياً وانتخابياً وشعبياً، بعدما تعذر القيام بإضعاف الحزب نفسه.

 

-      يلوم العديد من المراقبين أحزاب المجتمع المدني على تشتت أصواتها وتفرّق أصواتها ما يسمح لأحزاب "السلطة" – بحسب تعبيرهم- على الفوز بالانتخابات. إن هذه النظرة والرؤية عاجزة عن فهم أن قوى المجتمع المدني ، تشبه الى حدٍ بعيد التركيبة المجتمعية اللبنانية، وبالتالي، ستفشل العديد من المحاولات – خاصة الخارجية – التي تحاول ان تفرض على تلك القوى ائتلافات مع قوى سلطوية تاريخية كحزب الكتائب على سبيل المثال، أو مع أحزاب أخرى لها أجندات خارجية وداخلية لا تشبه تلك القوى بشيء.

 

تتعرض قوى المجتمع المدني اللبناني لضغوط  خارجية من قبل مموليها لتوحيد جهودها، ولكن ما لا يدركه هؤلاء أنه لا يمكن إقناع الناخب اللبناني، بالتصويت للائحة "تغييرية" تحت عنوان "الثورة" تضم ورثة سياسيين لهم باع طويل في السياسة اللبنانية وفي الاستفادة من مغانم السلطة وحصة في الفساد والتوظيفات الزبائنية، أو تضم أحزاباً سياسية ما زالت تتوارث وتشارك في السلطة منذ ثلاثينات القرن الماضي بحجة أنها الآن "شلحت ثوبها ولبست الثورة"....

 

بالنتيجة، سيكون لبنان أمام انتخابات نيابية هامة كما كل الانتخابات السابقة، ولكن الخيبة ستصيب من يروّج أو يؤمن بحصول تغيير شامل وساحق يلغي مكوّن أساسي من مكونات المجتمع اللبناني أو بالاحرى مكوّنين سياسيين (التيار الوطني الحر وح ز ب الله). الظاهر أن كلمة السر الانتخابية الجديدة (كما نلاحظ من العديد من الصحفيين والمحللين)،  تريد أن تحفر في القاموس الاعلامي والسياسي اللبناني أن التيار وح زب الله وحدهما يشكلان السلطة و"أحزاب المنظومة"، وبالتالي ستخاض الانتخابات ضدهما، على أن تشكّل أحزاب المجتمع المدني وورثة الاقطاع السياسي التاريخي، بالاضافة الى حركة أمل والمستقبل والاشتراكي والقوات اللبنانية والكتائب "قوى التغيير الثوري" الجديدة للبنان الجديد!.

الانتخابات الرئاسية الليبية.. بين السيادة ووصاية القضاء الدولي


 

قدّم سيف الإسلام، نجل الرئيس الليبي المخلوع المعمر القذافي، أوراق ترشحه رسمياً للانتخابات الرئاسية في لي المقررة في 24 كانون الأول/ديسمبر، بحسب ما أعلنت المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا. وبهذه المناسبة، أعلن الناطق باسم المحكمة الجنائية الدولية، أن مذكرة الاعتقال التي أصدرتها في عام 2011 بحق نجل الزعيم الليبي الراحل، لا تزال سارية.

 

وهكذا تعود الى الواجهة قضية القضاء الجنائي الدولي ودوره في التوازنات السياسية، سواء داخل البلد المعني أو في التوازنات الاقليمية المرتبطة بالدولة المعنية، وقدرتها على خلط الاوراق، وفي القضية هذه بالذات. ويمكن الاشارة الى اشكاليات عديدة، تطرحها مسألة العدالة الدولية، ونلمسها في القضية الليبية، ونشير الى ما يلي:

 

 

 

1- الاخلال بأسس المسؤولية الدولية

 

في المبدأ، إن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية  هو "مكمّل" للولايات القضائية الجنائية الوطنية، وليس بديلاً عنها، بحيث تمارس اختصاصها عندما تكون الأنظمة الوطنية "غير قادرة" أو "غير راغبة" عن التحقيق ومحاكمة "الأشخاص الطبيعيين" من مرتكبي الجرائم الدولية الأشد خطورة بمقتضى القانون الدولي.

 

ويبقى من واجب المحاكم المحلية تحقيق العدالة، بحيث تكون المحكمة الجنائية الدولية "الملاذ الأخير" تاركة للدول الأعضاء القيام بـ "واجب المقاضاة والتحقيق". وفي حال لم تستطع تلك الدول أن "تضمن" حقوق مواطنيها، أما بسبب العجز أو عدم الرغبة فإن قيام المحكمة الجنائية الدولية بالقيام بهذه المسؤولية يرتب على الدول "التزام التعاون" معها في تحقيق العدالة. هذا في المبدأ العام المرتبط بمبدأ المسؤولية الدولية.

 

وتطبيقاً على القضية الليبية، وبعد أيام من اندلاع الثورة التي أطاحت بمعمر القذافي، تبنى مجلس الأمن بالإجماع القرار 1970 (26 شباط/ فبراير2011 )، الذي حوّل الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والإبادة الجماعية المرتكبة في ليبيا منذ 15 فبراير/شباط 2011، الى المحكمة الجنائية الدولية للنظر فيها ومحاكمة مرتكبيها، مشيراً الى مبدأ المسؤولية في حماية المدنيين.

 

رفضت السلطات الليبية تسليم القذافي، وأصرّت على أن يقوم القضاء الليبي بتلك المحاكمات، انطلاقاً من حق الدولة الليبية بأن تقوم بنفسها بالمحاكمات، وهي "راغبة" و "قادرة" على القيام بذلك بحسب ما ينص عليه القانون الجنائي الدولي. وبالرغم من ذلك، بقي التنازع القضائي قائماً بين ليبيا والمحكمة الجنائية الدولية على الجهة المخوّلة بالتحقيق والمقاضاة.

 

2فرض وصاية على القضاء المحلي

 

يدرج نظام روما الأساسي نصاً صريحاً، يشير على أنه لا يجوز للمحكمة الجنائية الدولية محاكمة أي شخص عن الجرائم التي تختص بالنظر فيها إذا كانت محكمة أخرى قد أصدرت حكمها عليه، شرط أن تكون المحكمة التي نظرت في الدعوى قد مارست اختصاصها فعلاً وفصلت في الأفعال بشكل موضوعي (الفقرة الثالثة من المادة 20 من نظام روما الأساسي)

 

ويؤكد النظام أن المحكمة "مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية"، وانها لا تستطيع أن تحاكم شخصاً "قد تمت محاكمته بالفعل" ولا يجوز محاكمة أي شخص "حوكم من قبل محكمة أخرى" على جرائم تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية من قبل المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بنفس السلوك.

 

وبالفعل، في 28 تموز/يوليو 2015 أصدرت محكمة الجنايات الليبية حكمها في القضية رقم 630 / 2012  والتي وجهت فيه إلى 37 من أعضاء النظام السابق تهم تتعلق بمحاولة قمع "ثورة 17 فبراير". وتتضمَّن التهم التحريض على إثارة الحرب الأهلية والإبادة الجماعية وإساءة استخدام السلطة وإصدار أوامر بقتل المتظاهرين، وحكمت المحكمة على تسعة متهمين بالإعدام رميا بالرصاص، ومن ضمنهم ابن العقيد معمر القذافي سيف الإسلام القذافي.

 

وهكذا، إن قيام القضاء الليبي بالنظر في قضية القذافي ومحاكمته من المفترض أن يمنع المحكمة الجنائية الدولية من الاستمرار بالاحتفاظ بالقضية، وهو رأي محامي الدفاع عن القذافي والعديد من فقهاء القانون الجنائي الدولي.

 

وكما في معظم الحالات السابقة، حيث ترفض المحكمة التخلي عن قضية وقبول تحويلها الى القضاء الوطني بالرغم من النصوص الصريحة التي تعطي القضاء الوطني أسبقية على القصاء الدولي، أكدت غرفة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية في 9  آذار/ مارس 2020  بالإجماع قبول الدعوى المرفوعة ضد سيف الإسلام القذافي أمام المحكمة ورفضت استئنافه، معتبرة أن الحكم الصادر عن المحكمة الوطنية يجب أن يكون "نهائياً" قبل إعلان عدم قبول القضية من قبلها،  وبالتالي أن صدور الحكم غيابياً على القذافي، يعني أن حكم محكمة طرابلس ليس نهائيًا، لذا من حق المحكمة الدولية النظر في القضية.

 

 

 

3المسّ بحق الدولة في تطبيق آليات العدالة الانتقالية

 

أصدر البرلمان الليبي عام 2015 ( قانون  رقــم 6 / 2015)، والذي يمنح في مادته الأولى "عفواً عامًا عن جميع الليبيين الذين ارتكبوا جرائم خلال الفترة من تاريخ 15/فبراير/2011 وحتى صدور القانون، وتنقضي الدعوى الجنائية بشأنها وتسقط العقوبات المحكوم بها والآثار الجنائية المترتبة عليها، وتمحى من سجل السوابق الجنائية للمشمولين بهذا العفو متى توافر الشروط المنصوص عليها في هذا القانون".

 

استفاد سيف الاسلام القذافي والعديد من أركان حكم العقيد معمر القذافي، كما العديد من قادة المعارضة والتشكيلات المسلحة من هذا القانون.

 

بشكل عام، يتيح القانون الدولي للحكومة والبرلمان الوطني في أن يعتمد ما يراه مناسباً من اجراءات ضمن إطار العدالة الانتقالية، التي تتضمن مجموعة من الآليات التي تختار الدول أن تطبقها في مرحلة الانتقال، بحسب حاجات وقدرات البلد المعني وتحقيق الاستقرار فيه، حتى لو كانت الأليات المعتمدة تمسّ – فعلياً - بحق الضحايا بالعدالة والانصاف، كما معظم قوانين العفو التي تصدر على أثر أعمال عنف أو بعد حرب أهلية داخلية.

 

وبالعودة الى المحكمة الجنائية الدولية، أكدت دائرة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية بأن القانون الليبي رقم 6 (2015) فيما يتعلق بالعفو لا ينطبق على الجرائم التي أدين بها السيد القذافي من قبل محكمة طرابلس. وعليه ، فإن دائرة الاستئناف ترفض استئناف السيد القذافي وتعتبره غير مشمول بالعفو.

 

 

 

في النتيجة، نجد أن المحكمة الجنائية الدولية تجتهد للاحتفاظ بحقها في مقاضاة أركان نظام العقيد معمر القذافي، ومنهم ابنه وآخرين متهمين بقمع الانتفاضة. علماً أن التنازع بين القضاء الليبي والمحكمة الجنائية الدولية، يجب أن يبقى لصالح الدولة ذات السيادة بحسب القانون الدولي، خاصة أنه ليس للمحكمة أي آليات تنفيذية تستطيع من خلالها فرض قراراتها، وتبقى قدرتها على الفعل مرتبطة بتعاون الدولة نفسها.

 

علماً أن الهيئة العامة للمحكمة الجنائية الدولية، وانطلاقاً من  حرصها على احترام مبدأ سيادة الدول، كانت قد أقرّت استراتيجية "التكامل الإيجابي"، ودعت الى "تعزيز الإجراءات القضائية الوطنية وتمكينها من إجراء تحقيقات ومحاكمات وطنية حقيقية لمرتكبي الجرائم المدرجة في نظام روما الأساسي، بدون تدخل من المحكمة". على أن تضطلع المحكمة بمهام مساعدة الدول على تحقيق التزاماتها القانونية بمقاضاة مرتكبي الجرائم الكبرى، فيكون النجاح المحقق من قبل المحكمة في مهماتها هو تلك المساعدة التي تمد بها الدول لتحقيق العدالة، وليس بأن تكون بديلاً عنها، كما تحاول المحكمة أن تفعل في القضية الليبية. 

2021/11/15

كيف ستكون الخريطة الانتخابية الآتية بالتغيير؟

تندفع الاطراف اللبنانية من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني الى السباق الانتخابي القادم، وتدفع الدول الغربية والعربية لتلك الانتخابات، على أمل أن تشكّل تلك الانتخابات فرصة لتغيير لم يكن بالامكان حصوله عبر العديد من المحطات (خاصة 17 تشرين الاول) التي كادت تفرضه ولكن تعذّرت امكانية ذلك.

وانطلاقاً من هذا التحضير والاندفاعة الى الانتخابات القادمة، يمكن إبداء الملاحظات التالية:

1-  إن استعصاء التغيير السياسي في لبنان، يرتبط الى حدٍ بعيد بأسبقية الطوائف والملل على النظام السياسي والقانوني اللبناني وأسبقية قيام الدولة. بعكس الكثير من الدول في العالم، فإن الطوائف في لبنان هي التي توافقت على إنشاء الدولة، ووضعت أسس النظام السياسي الحاكم وليس العكس. يعتقد كثيرون أن الدولة في لبنان أعطت الطوائف حقوقاً واعترفت بها، بينما يظهر من الممارسة السياسية المستمرة منذ تأسيس الدولة ولغاية اليوم، أن حقوق الطوائف أكثر رسوخاً، وأن النظام الطائفي أكثر تجذراً من النظام السياسي والقانوني، وأن الاحزاب السياسية رسّخت حكم الطوائف وجعلت إمكانية التغيير تقريباً مستحيلة.

2-  إن المشهد المستمر منذ ما قبل 17 تشرين 2019 ولغاية اليوم، لا يعكس بالفعل إمكانية تغيير سياسي شامل بالرغم من كل المحاولات الحثيثة، الخارجية والداخلية، لاسقاط الطبقة السياسية برمتها وفرض تغيير بالشارع. إن شعارات "كلن يعني كلن" انحسرت عند كل طرف وفئة لبنانية لتعني "كلن إلا فريقي السياسي"، بينما تراجعت أهداف المجتمع المدني من إسقاط المنظومة السياسية بأكملها، الى هدف كسب الانتخابات عبر التحالف مع جزء من المنظومة السياسية ضد جزء آخر. فاي تغيير شامل يمكن توقعه عبر خلط الاوراق ذاتها وبنفس الأحزاب؟

3-  لا شكّ أن الحالمين بتغيير سياسي شامل وكاسح من خلال الانتخابات النيابية سوق يصابون بخيبة أمل، فتوزيع المقاعد الطوائفي على الاحزاب السياسية قد لا يتغير الى حدٍ بعيد. تشير التوقعات الداخلية والخارجية الى خريطة انتخابية على الشكل التالي:

- سيحصد الثنائي الشيعي، وفي أي وقت وأي ظروف انتخابية، جميع المقاعد الانتخابية في المناطق ذات الاغلبية الشيعية، وحتى أكثر المتفائلين بالتغيير يتوقعون خرقاً نيابياً للوائح الثنائي، بمقعد أو اثنين على أبعد تقدير.

- ستتوزع المقاعد الدرزية على الأحزاب الأساسية ذاتها.

 - التغيير في الشارع السنّي مرتبط بقدرة تيار المستقبل على خوض الانتخابات، ورغبة سعد الحريري بالعودة الى السلطة، علماً أن الخرق الانتخابي قد يكون عبر أفراد، ولا يبدو- حتى هذه اللحظة- أن هناك قوة تغييرية واعدة أو حزب سياسي فاعل يستطيع أن يقلب المشهد في الشارع السنّي.

- على المقلب المسيحي، والذي يقال انه سيشهد أم المعارك الانتخابية، وذلك لرغبة الخارج بإضعاف التيار الوطني الحر لسحب الغطاء عن ح ز ب الله، بعدما تمّ التيقن بعد القدرة على اضعاف الحزب نفسه في الداخل.

 وهنا، تشير تقديرات القوى التي تسعى للتغيير، من أن وجوه المجتمع المدني القادرة على النجاح لن تكون كثيرة، لذلك سيكون الهدف الأساسي، وهدف الداعمين الخارجيين، ايصال أكبر عدد من النواب للكتائب، والقوات اللبنانية، وبعض أبناء السياسيين السابقين، والشخصيات السياسية الموجودة أصلاً في الساحة السياسية. لذا يتمّ السير بمسارين: إنشاء واجهات مدنية camouflage  لأحزاب سياسية وهو ما حصل خلال انتفاضة 17 تشرين، والضغط على القوى المدنية للتحالف وتشكيل جبهة موحدة مع بعض احزاب السلطة أو مع واجهاتها المدنية.

 

وهكذا،  ومن خلال الخريطة الانتخابية المتوقعة، تعود الاشكالية السياسية اللبنانية ذاتها، حيث يبدو أن "أحلام التغيير" تسعى الى أن تغرف من الطبق السياسي الموجود نفسه، ما يجعل الأكثرية النيابية "الموعودة" و "المطلوبة" و"المدعومة" من الخارج هي أشبه بتركيبة السلطة السياسية اللبنانية قبل عام 2018، اي مجلس نواب تسيطر عليه غالبية من قوى 14 آذار، ومعها ستسقط شعارات "كلن يعني كلن"، وسيعود المواطن اللبناني الى بيته يجتّر السلطة السياسية نفسها مرة تلو المرة، ولكن مع انهيار اقتصادي واجتماعي واخلاقي وقيمي هذه المرة.


2021/11/08

"استراتيجية الخروج" الاميركي من العراق

مثّلت محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي خلطاً جديداً للأوراق في العراق، بعدما كانت السلطات العراقية مطالبة بالكشف عن المتورّطين في قتل المتظاهرين الذين نزلوا الى الساحات للاعتصام والاعتراض على الانتخابات النيابية التي ما زالت نتائجها سبباً للتشنج والتوتر السياسي والأمني في العراق بعد اتهامات بالتزوير.

 

وتأتي هذه التطورات على بُعد شهرين من الانسحاب الأميركي المتوقع من العراق، بموجب مذكرة التفاهم بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي (تمّ توقيعها في تموز/يوليو 2021) والتي تمّ الاتفاق بموجبها على إنهاء المهام القتالية للقوات الأميركية في العراق في الحادي والثلاثين من كانون الأول/ ديسمبر عام 2021، وأن "العلاقة الأمنية سوف تنتقل بالكامل إلى دور خاص بالتدريب وتقديم المشورة والمساعدة وتبادل المعلومات الاستخبارية".

 

وأكدت المذكرة أن القواعد العسكرية التي استخدمتها القوات الأميركية "هي قواعد عراقية تعمل وفقاً للقوانين العراقية"، وأن الجنود الدوليين المتمركزين في هذه القواعد كانوا فقط للمساعدة في الحرب على "داعش".

 

وهكذا، وفي إعدادها لانسحاب قواتها من العراق، تحاول إدارة بايدن - بعد انسحابها المتسرّع  والفوضوي من أفغانستان - أن تحقق انتصاراً داخلياً وخارجياً عبر سحب القوات الأميركية من العراق بموجب مذكرة التفاهم الموقّعة مع الكاظمي.

 

وتحاول الدول المتدخّلة عسكرياً عادةً أن تضع "استراتيجية خروج" exit strategy تعطي انطباعاً بأنها خرجت بملء إرادتها لا من خلال الضغط الذي مارسته المقاومة الداخلية أو الدولية عليها. لذا، قد تعمد الى تأخير انسحابها للإيحاء بأنها قوية، وليست مرغمة على الانسحاب، إذ إن الانسحاب السريع يعطي إشارات سيّئة الى دول العالم والى الحلفاء والخصوم على حدّ سواء. بالنسبة إلى الحلفاء، قد يبدو "الخروج" كأنه قطع للالتزامات المعقودة، ما يؤدي الى فقدان المصداقية، بينما بالنسبة إلى الخصوم فإنهم بالتأكيد سيحاولون تصويره على أنه هزيمة وتراجع.

 

لذلك، إن تصميم استراتيجيات الخروج غالباً ما تعبّر عن محاولة لمعالجة تضارب الضغوط الداخلية والخارجية والميدانية على الشكل التالي:

 

-       عندما تكون الضغوط الخارجية أو الداخلية على الإدارة مقبولة ومتوسطة، تجهد الدولة لإبراز صورة "عدم الخسارة" الميدانية والعسكرية، فتعمد الى اتباع استراتيجية "الخروج الطويل الأمد"، الذي يقوم على اتفاق تفاوضي يسبق الانسحاب، ويحفظ ماء الوجه، ويؤدي الى انسحاب عسكري محدود الخسائر المادية والمعنوية. وهو ما يحاول الأميركيون فعله في العراق.

 

- عندما تكون الضغوط كبيرة جداً، فمن المرجّح أن تنتهج الدولة استراتيجية خروج سريع، بالرغم من تكاليفها الكبيرة وتبعاتها على سمعتها وهيبتها، وهذا ما حصل للأميركيين في أفغانستان.

 

وبما أن العراق يمثّل قاعدة محورية للأميركيين في سياستهم الشرق أوسطية، ويبدو أساسياً في احتواء النفوذين الإيراني والروسي في المنطقة، فإن "استراتيجية الخروج" الأميركية من العراق، يجب أن تكون مدروسة الى أبعد حدّ، ويجب أن تتضمن، بحسب العلم الاستراتيجي، الإجابة عن الأسئلة التالية:

 

-كيف ومتى تخرج القوات؟

 

- ما هي العواقب وكيف يمكن التخفيف منها الى أقصى حد؟

 

- كيف نوازن بين عملية سحب القوات والحفاظ على المصالح الأميركية في العراق وفي المنطقة؟

 

وانطلاقاً من كل ما سبق، تجد الإدارة الأميركية طريقها نحو سحب القوات الأميركية في أواخر العام الحالي، لكنها بحاجة إلى القيام بترتيبات معينة تحفظ لها مصالحها في العراق، وتكفل لها السيطرة على القرار فيه، وتثبيت نفوذها في مرحلة ما بعد سحب القوات، ويمكن الإشارة الى ما يلي:

 

1. إبقاء الوجود العسكري بصفات مموّهة:

 

يعتقد العديد من العراقيين أن سحب القوات هو مجرد تغيير صفة تلك القوات على الورق، وبالتالي سيبقى الوجود العسكري الأميركي في العراق لتحقيق التوازن مع النفوذ الإيراني فيه، وللسيطرة على التفاعلات الإقليمية، وخاصة لردع روسيا من أي محاولة لتوسيع نفوذها من سوريا الى العراق.

 

2. محاولة تغيير المعادلات السياسية

 

مثّلت الانتخابات النيابية العراقية فرصة للأميركيين لتغيير المعادلات في الداخل العراقي، والترويج عبر العديد من مراكز التفكير والإعلام العربي والغربي أن نتائج تلك الانتخابات تشير الى أن الأحزاب الموالية لإيران قد فقدت ثقة الناس. وهنا تجدر الإشارة الى أن حاصل الأصوات الانتخابية التي نالتها هذه الأحزاب هو نفسه الذي حصلت عليه عام 2018، ولكن القانون الانتخابي  الجديد (2019) أدّى الى نتائج مغايرة.

 

كما يشير العديد من الكتّاب الأميركيين والإعلاميين الى أن نجاح الكتلة الصدرية في الانتخابات مردّه الى قيام الصدر بالنأي بنفسه عن الطبقة السياسية واعتماده الشعبوية، ما يشير الى أن العراقيين سئموا الطبقة السياسية (خاصة الموالية لإيران) وصوّتوا ضدّها. وهنا أيضاً، يحتاج هذا الاستنتاج الى تدقيق أكبر، ومراجعة حجم الحاصل الانتخابي بالأرقام لكل كتلة من الكتل قبل الحكم النهائي.

 

وهكذا، فإن التطورات الميدانية والاشتباكات التي أعقبت ظهور نتائج الانتخابات النيابية، ومحاولة الاغتيال الفاشلة لرئيس الوزراء العراقي وسواها، كلّها تظهر أن العراق مقبل على مرحلة صعبة، فالشدّ والجذب الإقليميّين لا يبدوان مرشحين إلا لمزيد من التفاقم، وبالتالي سيستمر الصراع بالوكالة على أرض العراق، الى أن تحصل التسوية الإقليمية أو تفرض التطورات العراقية الداخلية على الأطراف اللجوء الى تسوية موضعية مرحلية مؤقتة.