2021/11/22

الانتخابات الرئاسية الليبية.. بين السيادة ووصاية القضاء الدولي


 

قدّم سيف الإسلام، نجل الرئيس الليبي المخلوع المعمر القذافي، أوراق ترشحه رسمياً للانتخابات الرئاسية في لي المقررة في 24 كانون الأول/ديسمبر، بحسب ما أعلنت المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا. وبهذه المناسبة، أعلن الناطق باسم المحكمة الجنائية الدولية، أن مذكرة الاعتقال التي أصدرتها في عام 2011 بحق نجل الزعيم الليبي الراحل، لا تزال سارية.

 

وهكذا تعود الى الواجهة قضية القضاء الجنائي الدولي ودوره في التوازنات السياسية، سواء داخل البلد المعني أو في التوازنات الاقليمية المرتبطة بالدولة المعنية، وقدرتها على خلط الاوراق، وفي القضية هذه بالذات. ويمكن الاشارة الى اشكاليات عديدة، تطرحها مسألة العدالة الدولية، ونلمسها في القضية الليبية، ونشير الى ما يلي:

 

 

 

1- الاخلال بأسس المسؤولية الدولية

 

في المبدأ، إن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية  هو "مكمّل" للولايات القضائية الجنائية الوطنية، وليس بديلاً عنها، بحيث تمارس اختصاصها عندما تكون الأنظمة الوطنية "غير قادرة" أو "غير راغبة" عن التحقيق ومحاكمة "الأشخاص الطبيعيين" من مرتكبي الجرائم الدولية الأشد خطورة بمقتضى القانون الدولي.

 

ويبقى من واجب المحاكم المحلية تحقيق العدالة، بحيث تكون المحكمة الجنائية الدولية "الملاذ الأخير" تاركة للدول الأعضاء القيام بـ "واجب المقاضاة والتحقيق". وفي حال لم تستطع تلك الدول أن "تضمن" حقوق مواطنيها، أما بسبب العجز أو عدم الرغبة فإن قيام المحكمة الجنائية الدولية بالقيام بهذه المسؤولية يرتب على الدول "التزام التعاون" معها في تحقيق العدالة. هذا في المبدأ العام المرتبط بمبدأ المسؤولية الدولية.

 

وتطبيقاً على القضية الليبية، وبعد أيام من اندلاع الثورة التي أطاحت بمعمر القذافي، تبنى مجلس الأمن بالإجماع القرار 1970 (26 شباط/ فبراير2011 )، الذي حوّل الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والإبادة الجماعية المرتكبة في ليبيا منذ 15 فبراير/شباط 2011، الى المحكمة الجنائية الدولية للنظر فيها ومحاكمة مرتكبيها، مشيراً الى مبدأ المسؤولية في حماية المدنيين.

 

رفضت السلطات الليبية تسليم القذافي، وأصرّت على أن يقوم القضاء الليبي بتلك المحاكمات، انطلاقاً من حق الدولة الليبية بأن تقوم بنفسها بالمحاكمات، وهي "راغبة" و "قادرة" على القيام بذلك بحسب ما ينص عليه القانون الجنائي الدولي. وبالرغم من ذلك، بقي التنازع القضائي قائماً بين ليبيا والمحكمة الجنائية الدولية على الجهة المخوّلة بالتحقيق والمقاضاة.

 

2فرض وصاية على القضاء المحلي

 

يدرج نظام روما الأساسي نصاً صريحاً، يشير على أنه لا يجوز للمحكمة الجنائية الدولية محاكمة أي شخص عن الجرائم التي تختص بالنظر فيها إذا كانت محكمة أخرى قد أصدرت حكمها عليه، شرط أن تكون المحكمة التي نظرت في الدعوى قد مارست اختصاصها فعلاً وفصلت في الأفعال بشكل موضوعي (الفقرة الثالثة من المادة 20 من نظام روما الأساسي)

 

ويؤكد النظام أن المحكمة "مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية"، وانها لا تستطيع أن تحاكم شخصاً "قد تمت محاكمته بالفعل" ولا يجوز محاكمة أي شخص "حوكم من قبل محكمة أخرى" على جرائم تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية من قبل المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بنفس السلوك.

 

وبالفعل، في 28 تموز/يوليو 2015 أصدرت محكمة الجنايات الليبية حكمها في القضية رقم 630 / 2012  والتي وجهت فيه إلى 37 من أعضاء النظام السابق تهم تتعلق بمحاولة قمع "ثورة 17 فبراير". وتتضمَّن التهم التحريض على إثارة الحرب الأهلية والإبادة الجماعية وإساءة استخدام السلطة وإصدار أوامر بقتل المتظاهرين، وحكمت المحكمة على تسعة متهمين بالإعدام رميا بالرصاص، ومن ضمنهم ابن العقيد معمر القذافي سيف الإسلام القذافي.

 

وهكذا، إن قيام القضاء الليبي بالنظر في قضية القذافي ومحاكمته من المفترض أن يمنع المحكمة الجنائية الدولية من الاستمرار بالاحتفاظ بالقضية، وهو رأي محامي الدفاع عن القذافي والعديد من فقهاء القانون الجنائي الدولي.

 

وكما في معظم الحالات السابقة، حيث ترفض المحكمة التخلي عن قضية وقبول تحويلها الى القضاء الوطني بالرغم من النصوص الصريحة التي تعطي القضاء الوطني أسبقية على القصاء الدولي، أكدت غرفة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية في 9  آذار/ مارس 2020  بالإجماع قبول الدعوى المرفوعة ضد سيف الإسلام القذافي أمام المحكمة ورفضت استئنافه، معتبرة أن الحكم الصادر عن المحكمة الوطنية يجب أن يكون "نهائياً" قبل إعلان عدم قبول القضية من قبلها،  وبالتالي أن صدور الحكم غيابياً على القذافي، يعني أن حكم محكمة طرابلس ليس نهائيًا، لذا من حق المحكمة الدولية النظر في القضية.

 

 

 

3المسّ بحق الدولة في تطبيق آليات العدالة الانتقالية

 

أصدر البرلمان الليبي عام 2015 ( قانون  رقــم 6 / 2015)، والذي يمنح في مادته الأولى "عفواً عامًا عن جميع الليبيين الذين ارتكبوا جرائم خلال الفترة من تاريخ 15/فبراير/2011 وحتى صدور القانون، وتنقضي الدعوى الجنائية بشأنها وتسقط العقوبات المحكوم بها والآثار الجنائية المترتبة عليها، وتمحى من سجل السوابق الجنائية للمشمولين بهذا العفو متى توافر الشروط المنصوص عليها في هذا القانون".

 

استفاد سيف الاسلام القذافي والعديد من أركان حكم العقيد معمر القذافي، كما العديد من قادة المعارضة والتشكيلات المسلحة من هذا القانون.

 

بشكل عام، يتيح القانون الدولي للحكومة والبرلمان الوطني في أن يعتمد ما يراه مناسباً من اجراءات ضمن إطار العدالة الانتقالية، التي تتضمن مجموعة من الآليات التي تختار الدول أن تطبقها في مرحلة الانتقال، بحسب حاجات وقدرات البلد المعني وتحقيق الاستقرار فيه، حتى لو كانت الأليات المعتمدة تمسّ – فعلياً - بحق الضحايا بالعدالة والانصاف، كما معظم قوانين العفو التي تصدر على أثر أعمال عنف أو بعد حرب أهلية داخلية.

 

وبالعودة الى المحكمة الجنائية الدولية، أكدت دائرة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية بأن القانون الليبي رقم 6 (2015) فيما يتعلق بالعفو لا ينطبق على الجرائم التي أدين بها السيد القذافي من قبل محكمة طرابلس. وعليه ، فإن دائرة الاستئناف ترفض استئناف السيد القذافي وتعتبره غير مشمول بالعفو.

 

 

 

في النتيجة، نجد أن المحكمة الجنائية الدولية تجتهد للاحتفاظ بحقها في مقاضاة أركان نظام العقيد معمر القذافي، ومنهم ابنه وآخرين متهمين بقمع الانتفاضة. علماً أن التنازع بين القضاء الليبي والمحكمة الجنائية الدولية، يجب أن يبقى لصالح الدولة ذات السيادة بحسب القانون الدولي، خاصة أنه ليس للمحكمة أي آليات تنفيذية تستطيع من خلالها فرض قراراتها، وتبقى قدرتها على الفعل مرتبطة بتعاون الدولة نفسها.

 

علماً أن الهيئة العامة للمحكمة الجنائية الدولية، وانطلاقاً من  حرصها على احترام مبدأ سيادة الدول، كانت قد أقرّت استراتيجية "التكامل الإيجابي"، ودعت الى "تعزيز الإجراءات القضائية الوطنية وتمكينها من إجراء تحقيقات ومحاكمات وطنية حقيقية لمرتكبي الجرائم المدرجة في نظام روما الأساسي، بدون تدخل من المحكمة". على أن تضطلع المحكمة بمهام مساعدة الدول على تحقيق التزاماتها القانونية بمقاضاة مرتكبي الجرائم الكبرى، فيكون النجاح المحقق من قبل المحكمة في مهماتها هو تلك المساعدة التي تمد بها الدول لتحقيق العدالة، وليس بأن تكون بديلاً عنها، كما تحاول المحكمة أن تفعل في القضية الليبية. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق