2011/07/30

في تفشي عنصرية "الأنا" ضد "الآخر" : أي دور للبنان؟

نشر هذا المقال في مجلة لبجورنال الالكترونية
لم تأتِ حادثة النروج الارهابية خارجة عن نطاق السياق العنصري الذي يعم العالم منذ بداية تأريخ البشرية، وبالتحديد منذ حادثة قايين وهابيل. لكن عنصرية اليوم، والتي ظهرت جليًا في العلاقات الدولية بعد أحداث 11 ايلول الارهابية، أشّرت الى عودة بارزة للمقدس الى ساحة العلاقات الدولية بقوة من خلال استخدام مفردات دينية عنصرية “تحلّل” الغاء الآخر وابادته، تحت شعارات “نحن” و”هم” التي لبست طابعًا ثقافيًا ودينيًا، وأظهرت عمق الحقد الثقافي الذي تزرعه السياسات العنصرية، والتي جعلت من الدين متراسًا لمصالح دولتية وصولية فزجت الشعوب بحملات قتال على ملكية الله، وجعلت من حروب الامم وصراعها حروبًا للالهة على الارض.
لعل أبلغ من عبّر بوضوح عن عمق العنصرية الضارب في الذات الانسانية كانت سارتر بعبارته الوجودية الشهيرة:”الجحيم هم الآخرون”. فتاريخياً، تتكون الحضارات عادة عبر مواقف اقتباس وتفاعل مع الحضارات التي سبقتها، ورفض وقطيعة مع ما أتاها من الاخرين أو مما حاولوا فرضه عليها. وبالتأكيد، لم يكن التاريخ الحضاري للشعوب يومًا منقطعًا عن ذاته أو عن الآخرين ولا حتى عن الدين. فالدين استخدم الثقافة الموجودة، بأدبياتها ولغتها وتقاليدها ليدخل نفسه في نسيج ثقافة سائدة حاربته بداية، ثم ما ان استتب له المجال حتى طوّر عناصرها وازاح مكوناتها الاضعف، ففرض نفسه بديلاً حقيقيًا وفاعلاً لما كان سائدًا، وأصبح نواة الثقافة التي تستمد قيمها من تعاليمه و”تكفر” كل ما هو خارجه.
اذا، لطالما ترابط الدين والثقافة ولطالما كانت العلاقة بينهما علاقة جدلية، يأخذ الدين من الثقافة ليصيغ مفرداته وسلوكياته ثم ما يلبث ان يتحول نواة الثقافة فيفرض عليها مفردات وسلوكيات أخرى. من هنا، نرى الترابط الواضح بين عنصرية “الانا” ضد “الآخر” الثقافية، وعنصرية “الانا” الدينية ضد “الآخر” المختلف دينيًا. و
هكذا يجد قارئ التاريخ البشري نفسه، أمام كم هائل من صور حروب يعكسها مزيج من عنصرية “الانا” الثقافية والدينية والحضارية في قتال وتحدٍ مع “الآخر” الذي يصوّر دائمًا بشكل “عدو” مجرد من الصفات الانسانية، أو بدرجة أقل، كـ “بربري” همجي لا يعرف قيمة الحضارة التي تمتلكها الـ “نحن”. فبالنسبة لارسطو، مثلاً، كان الاخر هو الغريب الذي لم يتمكن من فهم واستخدام اللغة المشتركة اليونانية ونتيجة لذلك اصبح هذا ” الآخر” البربري هدفاً للمطاردة أي أصبح عبداً.
وتكمن المشكلة البشرية، عندما يجنح التمييز بين “نحن” والآخر” لياخذ منحى عنفيًا، ترفده عوامل قوة وهيمنة، فهذا يقود بسرعة الى تمييز خطير قد يؤدي الى ادعاء “حق” او بالاحرى “واجب” الغاء الآخر وابادته، ضمن نظرية (نحن= الخير” وهم = الشر)، وهي بالتحديد النظرية التي قسّم جورج بوش العالم من خلالها، وأقام مغامراته العسكرية على أساسها، والتي تعني فيما تعنيه، ان الصراع الازلي بين الخير والشر يفترض ان يحارب الخير الشر ويتغلب عليه ويزيله من الوجود… أي أن بوش كان يدعو الى “ابادة” تامة لذلك “الآخر” ضمن اطار الدعوة الى محاربة الشر، ومن هنا يمكن لنا ان نفهم المعيار القيمي الذي استند اليه “سفاح النروج” في قتل ضحاياه ضمن ما اعتبره “الواجب الوطني” او الانساني.
انطلاقًا من كل هذا، يبدو “لبنان” التعددي اليوم حاجة تاريخية وانسانية كونية. وعلى اللبنانيين أن يعوا أن على عاتقهم، لا بل من واجبهم الاطلاع بدور حضاري انساني عالمي يتجلى في بث روح تقديس حق الاختلاف بين الشعوب، وبذر بذور التسامح الديني والثقافي والحضاري بين ضفتي المتوسط، هذا البحر المقدس الذي انطلقت من ضفافه أديان الارض السماوية وانتشرت في أصقاع الارض.
نعم، هي رسالة لبنان الذي لم يكن مبرر وجوده يوماً نابعاً من حجم كيانه السياسي أو الجغرافي بل من كونه معجنًا لقيم التعدد الحضاري، ومن كونه رسالة، وصورة سماوية منحها الخالق زهو الوان باهية مزج فيها الحب اليسوعي مع الحكمة المحمدية تحت راية أرز الرب لتكون الاشعاع المضيء في ظلمات قرون من الجهل والتكفير والتعصب الاعمى.
في زمن التكفير الذي يقضي على كل امكانية لحرية التفكير، ان دول وشعوب العالم مدعوة اليوم أكثر من اي وقت مضى، إلى صياغة دستور جديد للسلوك الإنساني، يفصل بين العلاقات الافقية التي تقوم بين الأفراد وعلاقاتهم العامودية مع الله، والتي لا يجب أن تختلط وتتداخل باي شكل من الاشكال. فهل يكون اللبنانيون على قدر التحدي ويخطون بأنفسهم مدونة السلوك الانسانية تلك، ام سيتخلفون عن كتابة التاريخ كما فعلوا دائما فتحولوا الى متفرجين على تاريخ يكتب لهم وعنهم؟
اللبنانيون اليوم كما الانسانية جمعاء، بحاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى صياغة رؤية انسانية جديدة: رؤية تضرب بجذورها في أرض التواضع والاعتدال ونقد الذات، رؤية ترنو إلى عالم أفضل يستند إلى الاحترام المتبادل، وتقديس حق الاختلاف، والتسامح، والشهادة للحق، وحيث لا قيمة الا للانسان ولا عدل الا باحترام كينونته كانسان.
لن يستطيع العالم معرفة طريق الله ولا رؤية وجهها الا بالادراك الفعلي لمعادلة بسيطة مفادها أننا:
نولد احراراً… نعيش مختلفين… نموت متساوين.

• استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

2011/07/29

الحرب ضرورة إسرائيلية.. لكنها لن تحصل

قياساً إلى النبرة العالية والثقة بالانتصار التي طبعت خطاب السيد نصر الله بمناسبة الانتصار، لا يبدو خطاب السيد خارجاً عن السياق العام، وصورة فائض القوة التي راكمتها المقاومة منذ انتصار تموز ولغاية الآن، فلقد بدت رسائله التي وجهها إلى الداخل والخارج محترفة في الشكل والمضمون، واضحة وموجهة إلى من يعنيه الأمر بأعلى درجات الدقة لتلقى من الاهتمام ومن ردات الفعل ما يلائمها.
استفاد السيد نصرالله من المتغيرات التي فرضتها حرب تموز، ومن المعادلات الجديدة في المنطقة، وقوة الردع التي أرساها فائض القوة المتراكمة لدى المقاومة، ليعد بنصر أكيد مقبل فيما لو فكرت إسرائيل بتكرار تجربة تموز العدوانية على لبنان، وقد استند السيد في ثقته بالنصر، بالإضافة إلى الانتصار المحقق في تموز، إلى جملة من المعطيات الاستراتيجية التي فرضت نفسها وأفقدت إسرائيل تفوقها الاستراتيجي، وذلك كما يلي:
أولاً: قبل 2006، كانت إسرائيل تملك قرارين أساسيين: قرار الدخول في الحرب وقرار الخروج منها وإنهائها ساعة تشاء، وبالشكل الذي تريد، وبناء على تجاربها السابقة، كانت إسرائيل مقتنعة تماماً أن "نزهة تدميرية" إلى لبنان كافية لإخضاعه وإخضاع المجتمع اللبناني وسحب سلاح حزب الله، وبالتالي حصد النتائج والانتصارات، لكن عدوان تموز على لبنان أظهر أن قراراً واحداً فقط كان بيد إسرائيل، وهو قرار الدخول في الحرب، لكن قرارالخروج منها وبأي ثمن وبأي خسائر قد فقدته إسرائيل لأول مرة في تاريخها، ولم تستعده لغاية الآن.
ثانياً: فقدان القدرة على أخذ "الحرب إلى أرض العدو"، وهكذا فقد المجتمع الإسرائيلي الأفضلية التي لطالما تمتع بها على شعوب المنطقة، أي أن يبقى المواطن الإسرائيلي بمأمن من أي تداعيات محتملة للحرب، بينما يعيش المواطن العربي مآسي الحديد والنار والموت والدمار. لكن التجربة التي فرضتها حرب تموز، وقدرة المقاومة على قصف العمق الإسرائيلي خلال الحرب، وبعدها إعلان المقاومة مبدأ "الأهداف المتقابلة المتكافئة" أي عاصمة مقابل عاصمة، ومدينة مقابل مدينة.. حوّل الإسرائيلي كما كان اللبناني والعربي دائماً، إلى هدف للحرب ودافع لأثمان باهظة جراء خيارات دولته الحربية وعدوانيتها المستمرة على العرب.
ثالثاً: فقدت إسرائيل معياراً أساسياً من معايير القوة والنفوذ المعتمدة في العلاقات الدولية، وهي القدرة على التأثير على قرارات الغير، من خلال التهديد والتهويل بالحرب، التي تعني أن يقوم العدو بما تريده أن يقوم به، أو يمتنع عن القيام بما لا تريده أن يفعله، وذلك من دون أن تضطر إلى الحرب.
لقد كانت إسرائيل في السابق، وبمجرد التهويل بالحرب، تتدخل في قرارات عربية كبرى وتصيغها لصالحها وتخلق في ذهن العرب أن كلفة الاستسلام أخف من كلفة الحرب، لكن بعد تموز وما قدمته المقاومة خلاله، بات الجميع يدرك أن التهويل بالحرب لم يعد يجدي وأن إسرائيل تخشى الحرب كما يخشاها الطرف الآخر تماماً، إن لم يكن أكثر.
رابعاً: بعد مغامرات بوش التدميرية وحرب 2006، وفي ظل الأنباء عن الأزمات المالية العالمية المستمرة منذ عام 2008، فقدت إسرائيل "دافع الفواتير" الجاهز، فلطالما اعتمد الإسرائيليون على قدرتهم على شن الحرب، وإجبار الغرب على دفع فواتيرها وتكاليفها، لا بل قبض المكافآت السخية نتيجتها، والآن تفقد إسرائيل هذا الامتياز، ليس لعدم رغبة الغرب في استخدام إسرائيل عصا تأديبية لشعوب المنطقة المتمردة، بل ببساطة لعدم الإمكانية نتيجة الإفلاس المالي الذي يغرق فيه الاقتصاد الأميركي والأوروبي.
خامساً: بعكس الواقع الدولي السائد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، أدى فشل السياسات الأميركية في المنطقة، التي أعقبها فشل عدوان تموز على لبنان، بالإضافة إلى صعود قوى جديدة على المسرح الدولي، إلى إرسال إشارات بما يشبه اليقين أن القوة الإسرائيلية عاجزة عن تأمين غطاء دولي سياسي وإعلامي لأي عدوان جديد لها على لبنان، فها هم الأميركيون يظهرون في مجلس الأمن وعلى الساحة الدولية "كأول بين متساوين" وليس كقوة عظمى لا يمكن رد طلباتها.
هكذا إذاً، وبالرغم من كل التهديدات التي تطلق والايحاءات التي تتحدث عن حرب مقبلة على لبنان أو إيران في أيلول المقبل، يبدو من النتائج التراكمية ومن المعطيات التي فرضتها حرب تموز 2006، أن إسرائيل اليوم أكثر من أي وقت مضى أعجز من أن تقوم بحرب عسكرية مباشرة على لبنان، وبالرغم من أن الإسرائيليين يحضّرون للحرب منذ 15 آب 2006، كما تحضّروا لحرب تموز منذ انسحابهم من لبنان عام 2000، لكن الرغبة في الحرب شيء والقرار بالدخول فيها شيء آخر، وها هم الإسرائيليون يشعرون أن ما كانوا قد امتلكوه لغاية حرب تموز 2006 قد خسروه، فالقرار بشن الحرب لم يعد سهلاً كما في السابق، ببساطة لأن القدرة على الانتصار فيها لم تعد مؤكدة، للأسباب التي ذكرناها سابقاً، بالإضافة إلى ما دلت عليه تجارب المناورات السنوية، وقياس مؤشر المناعة الاجتماعية الذي يقام كل سنة.
هكذا إذاً، لا يبدو أن إسرائيل ستشن حرباً على لبنان، ليس لانعدام الرغبة، ولا لنقص في الأدوات التدميرية، وليس لتخليها عما أسمته "عقيدة الضاحية" أو سياسة الأرض المحروقة.. بل ببساطة لأنها تدرك عجزها عن إمكانية تشكيل ظروف موضوعية مناسبة للانتصار في الحرب، وكل ما يقال غير ذلك هو من باب الحرب النفسية التي يحاول العدو فرضها على اللبنانيين لكسر إرادتهم، وهي ستفشل هذه المرة كما فشلت سابقاً، ولن يكون نصيب اللبنانيين المراهنين على ضربة إسرائيلية والمروجين لها أفضل من مصير جيش لحد من العملاء.
*أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

2011/07/21

المعارضة... وسراب الدعم الخارجي

لم يأت الموقفان الأوروبي والفرنسي الداعمان للحكومة اللبنانية خارج سياق التطورات الإقليمية، وخارج إطار التحولات في الوضع السوري، وهكذا يبدو أن تعويل المستقبل وحلفاؤه على العودة إلى الحكم مستندين إلى ضغوط خارجية تواجه الحكومة اللبنانية مرفقة باختلال أمني واقتصادي - كما كانت الخطة تقضي - ستبوء بالفشل.
من الناحية الأمنية، يكتشف المستقبل وأذرعه الأمنية يوماً بعد يوم أن الفتنة خط أحمر، وأن اللعب بالاستقرار الأمني لن ينجو منه أحد، وبالتالي سيرتد سلباً على محاولي إشعاله، أما من الناحية الاقتصادية والتي منّى الحريريون النفس، بهز الاقتصاد اللبناني وتجويع اللبنانيين وتهديدهم بلقمة عيشهم كوسيلة للعودة إلى الحكم على حصان أبيض، فيظهر أيضاً أنها لن تكون خطة صالحة للعمل بموجبها بدليل المناخات العربية التي عبرت عنها أكثر من دولة عربية وخليجية بتشجيع حركة السياحة العربية إلى لبنان، والتعامل مع حكومة نجيب ميقاتي بصفتها حكومة لبنان الكاملة الشرعية والمشروعية.
تعكس الأجواء العربية أجواء الخيارات الجديدة للأميركيين والأوروبيين بالتعاون مع الحكومة اللبنانية، والتي تمثلت في رسالة الدعم الأوروبية الواضحة التي عبر عنها وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، والرسالة الفرنسية الواضحة أيضاً في هذا المجال، ويأتي التطور الأوروبي في إعلان النوايا الايجابية من الحكومة اللبنانية، مترافقاً مع المناخات الأميركية المتحولة في التعامل مع سورية بعدما رفضت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، الموجودة على بعد أميال من مقر المؤتمر السوري المعارض في اسطنبول، لقاء أقطاب المعارضة السورية، بالإضافة إلى التصريحات الأميركية المختلفة التي عكست اقتناع الأميركيين بضرورة استعمال "الخيارات الأخرى المتاحة" في القضية السورية وذلك نتيجة فشل الخيارات السابقة.
يعكس الموقف الأميركي المستجد من سورية، فشل الخيارات التي راهنت على قدرة نجاح المشاريع السلفية والإخوانية في هز أركان النظام السوري، أو قدرتهم على السيطرة الأمنية التامة على بعض المناطق السورية في محاولة لخلق مناطق عازلة على الحدود مع تركيا تمهيداً لتكرار السيناريو الليبي، كما بدا التهويل بتدخل عسكري أممي من قبل مجلس الأمن أو تفويض تركيا بهذا التدخل فارغاً من أي مضمون بعد الموقفين الروسي والصيني الرافضين بشدة لأي تدخل، وأخيراً وليس آخراً فشل محاولات إغراء قادة من الجيش السوري للانقلاب على النظام.. وهكذا بقي النظام السوري محافظاً على تماسكه، وبقي التأييد الشعبي للأسد محافظاً على معدلاته المرتفعة.
يعكس فشل كل تلك الخيارات أن "الثورة" في سورية لم تتوافر معطيات نجاحها من الأساس، فالثورات بشكل عام تحتاج إلى تقاطع عوامل خارجية وداخلية عدة لنجاحها، فإن نضجت الظروف الخارجية ولم تتوفر الظروف الداخلية، ضاعت اللحظة التاريخية المناسبة للثورة والعكس صحيح.
في المعطيات الداخلية لنجاح الثورات، يجب أن يكون النظام قد وصل إلى نقطة القطيعة النهائية مع شعبه بسبب ظلم كبير لا يطاق وظهوره بمظهر الخطر الشديد على مستقبل البلاد، فتنأى النخب السياسية والاقتصادية والعسكرية بنفسها عن النظام أو تنقلب عليه، وأن تستطيع المعارضة تأليب غالبية الرأي العام ضده، فتصبح الأغلبية العظمى من الطبقات الاجتماعية - الاقتصادية شريكاً في الثورة ضد النظام القائم الخ.. أما في العوامل الخارجية، فيجب أن تتكون ظروف موضوعية إقليمية ودولية ضد النظام القائم، تترافق مع امتناع الحلفاء أو عدم رغبتهم في تقديم الدعم للنظام أو المحافظة عليه.
من هنا، لا تبدو عوامل النجاح في سورية قائمة، فالجيش السوري أثبت تماسكه وولاءه لنظامه، كما أن الفئات الاجتماعية المختلفة ما زالت حتى الآن لا تجد في النظام السوري خطراً على مصالحها، لأسباب عدة:
•- الفئات الشعبية الفقيرة: وهنا لا بد من لفت الانتباه، الى أن المواطن السوري، وبالرغم من الفقر المنتشر في الأرياف، يتمتع قياساً إلى الشعوب العربية الأخرى التي انتفضت، بنوع من الأمن الاجتماعي والاقتصادي، فالدولة السورية تؤمن له الحد الأدنى من متطلبات التعليم والصحة والطبابة ورغيف الخبز وغيرها، بينما نجد أن الملايين من المصريين على سبيل المثال يعيشون في المقابر ولا يتمتعون بالحد الأدنى من مقومات العيش وهو ما لا نجده في الحالة السورية.
•- الطبقات البرجوازية: ترى أيضاً في الاستقرار الذي فرضه نظام الأسد والأمن الذي تمتعت به سورية سابقاً، ضرورة لاستقرار لمصالحها ومصدراً للاستثمار الاقتصادي، لذلك هي تخشى التغيير الذي قد يجلب معه فوضى أمنية وعدم استقرار، أو تشكيل "إمارة" تجعل أصحاب رؤوس الأموال المحلية والخارجية تهرب إلى الخارج.
•- الفئات الاجتماعية - الطائفية: وهي تنقسم إلى فئتين: أقلية وأكثرية، ترى الفئات الأقلية في نظام الأسد ضماناً لوجودها وترى في البديل خطراً وجودياً أساسياً، أما الفئات الأكثرية فلم يستطع المعارضون، خاصة معارضة الخارج، أن تكسب الأغلبية منهم إلى جانبها، لسبب رئيسي هام وهو أن هذه المعارضة تسير عكس الحس الشعبي والقومي التاريخي للشعب السوري بكافة أطيافه، وخاصة بعدما قدموا الدليل على ارتباطهم بالموساد الإسرائيلي، من خلال مؤتمر باريس الذي أعده برنار ليفي وحضره شخصيات صهيونية وإسرائيلية وتكلم باسم السوريين عضو سابق في الكنيست الإسرائيلي.
أما بالنسبة للعوامل الخارجية، فالواضح أن أعداء النظام السوري لم يستطيعوا امتلاك القدرات التي تخولهم عزله دولياً بسبب امتلاكه للكثير من الأوراق الاستراتيجية الهامة، كما لم يظهر من الحلفاء أدنى رغبة بالتخلي عنه كما فعلت أميركا مع حليفيها مبارك وبن علي.
وهكذا إذاً، تنعكس التطورات الإقليمية على لبنان، وتعكس الرسائل الأوروبية الإيجابية رغبة أوروبية ببقاء نفوذهم في الشرق الأوسط، بعدما وضعهم الأميركيون في مواجهة مع نظام الأسد بإغلاق باب التفاوض من خلال العقوبات التي أعقبها موقف متشدد للوزير المعلم تجاه أوروبا، وبالرغم من كل شيء، يبقى المراهنون اللبنانيون على الخارج ورقة في مهب الرياح الإقليمية وتطورات المواقف الدولية منها، والمؤسف أن هؤلاء لم يتعظوا من تجاربهم السابقة في الاتكال على الدعم الخارجي، بالضبط كما لم يتعظ المعارضون السوريون من تجارب من سبقهم، ومنها تجارب حديثة في التخلي الأميركي عن الحلفاء الاستراتجيين كمبارك وبن علي، عندما دقت ساعة تحقيق المصالح بالتغيير.
*أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

2011/07/14

نصر تموز.. حفظ الحدود البحرية

في الذكرى الخامسة لحرب تموز 2006، يعيش اللبنانيون على وقع حديث عن محاولة إسرائيلية جديدة للاعتداء على السيادة اللبنانية من خلال التوقيع الإسرائيلي من جانب واحد على خريطة الحدود البحرية، والتي تقتطع فيها جزءاً من المياه الإقليمية اللبنانية، وهكذا يكون انتهاك إسرائيل للسيادة اللبنانية امتد بحراً ليقضم المياه الإقليمية ويغتصب حقوق لبنان بالغاز بعدما استمر طويلاً بالاعتداء عليه براً وجواً.

وبالرغم من مرور خمس سنوات على تلك الحرب العدوانية على لبنان، وعلى أبواب صراع جديد يفتح من بوابة المياه الإقليمية، يمكن لنا أن نرصد تشابه التصرفات العدوانية الإسرائيلية القائمة على اغتصاب الأراضي، فإسرائيل لا تتبدل، ولا يمكن أن تتخلى عن طبيعتها العدوانية، لكن ما تغير هو الجانب المقابل أي قدرة لبنان على كبح شهية الإسرائيليين المفتوحة دوماً على العدوان.

كما أظهرت لجنة فينوغراد، لم تكن الحرب على لبنان وليدة ظروف مستجدة أو نتيجة خطف الجنديين الإسرائيليين، بل كان القرار الإسرائيلي بالحرب على لبنان متخذ منذ انسحابهم من لبنان في أيار 2000، وينتظر أمرين: الجهوزية والظروف المكانية والزمانية.
وانطلاقاً مما كان بن غوريون قد أكده عند تأسيس الدولة العبرية أن "إسرائيل ممكن أن تهزم العرب مئة مرة، ولكن إن هُزمت مرة واحدة فذلك يعني نهايتها"، تقوم إسرائيل منذ انتهاء حرب تموز بالتحضير لشن حرب جديدة على لبنان وتجهد لاستعادة قوتها الردعية وهيبتها العسكرية التي تزعزعت، ما تسبب لها بكارثة استراتيجية لم تستطع أن تتخطاها حتى اللحظة، ويأتي في هذا الإطار، المناورات التي تقام كل سنة من أجل تحصين الجبهة الداخلية وتحسين أدائها خلال الحرب، ومنها المناورة الأخيرة "نقطة تحول ـ 5"، التي أكدت، باعتراف الإسرائيليين أنفسهم، عدم استعداد الجبهة الداخلية لمواجهة أي حرب محتملة، وعلى فشل إسرائيلي في ترميم المناعة الاجتماعية وفي إقناع الشعب بجدية المناورة والاستجابة لمتطلباتها والانخراط في العملية التدريبية التنفيذية التي تفرضها، حيث إن نسبة التجاوب الشعبية مع تلك المناورات تراوحت بين 15 و30% من السكان فقط.

لكن، ومع التأكيد أن طبيعة إسرائيل العدوانية ثابتة ولا تتغير، فإن المشهد على الطرف الآخر من الحدود قد تغير جذرياً عما كان عليه منذ عقود، بعد تجربة العدوان الفاشل على لبنان في تموز، باتت إسرائيل تتحسب جيداً لأي مغامرة جديدة يمكن أن تقدم عليها في العدوان على لبنان، كما باتت تدرك أن مبدأ "القتال على أرض العدو" لم يعد صالحاً، فالمقاومة تملك من القدرات القتالية والجهوزية لنقل القتال إلى داخل فلسطين المحتلة كما أعلن السيد حسن نصر الله، وصواريخ المقاومة ستطال جميع المنشآت والمدن الإسرائيلية في أي حرب جديدة بناء على سياسة "الأهداف المتكافئة والمتقابلة" التي أعلنتها المقاومة أيضاً.

وهكذا، وفي ظل التهديدات الإسرائيلية الدائمة للبنان، وفي ظل استمرار إسرائيل بسياساتها العدوانية والتي ظهرت مجدداً في محاولتها اغتصاب الحقوق اللبنانية في المياه الإقليمية والاستفادة من الغاز الطبيعي الموجود فيها، تبرز مدى أحقية الطرح الذي يطالب بنزع سلاح المقاومة والذي أمطرنا به نواب الأمة خلال مناقشة البيان الوزاري، وهنا يصح التساؤل: ماذا يمكن للبنان الرسمي أن يفعل الآن في ظل قضم إسرائيل لأرضه لو لم يكن لديه مقاومة أثبتت قدرتها وفعاليتها، وامتلكت من القوة ما يردع إسرائيل أو على الأقل يجعلها تدفع ثمنًا باهظاً جراء أي عدوان على لبنان؟ كيف يمكن للبنان منع إسرائيل من قضم حدوده البحرية في ظل موازين القوى الدولية المسيطرة على الأمم المتحدة وفي ظل ضرب إسرائيل عرض الحائط لكل القرارات والمواثيق والاتفاقيات الدولية؟ هل يكون الحل بالبكاء والنحيب كما فعل السنيورة يوماً؟

الأكيد، أنه بعد تجربة تموز 2006، لم تعد إسرائيل، كما في السابق، تتصور أنها يمكن أن تعتدي على لبنان وتقضم الأراضي وتشن الحروب وتضرب بالقانون الدولي عرض الحائط، من دون مساءلة ولا محاسبة، لم يعد بإمكانها الاتكال على مبدأ "القوة تفرض الشرعية" فقد امتلك لبنان قوة تستطيع أن تحمي حقوقه وتحافظ على سيادته، بعدما تخلى عن النظريات البالية التي نظر لها بعض اللبنانيين، مثل "قوة لبنان في ضعفه"، "الشرعية الدولية تحمي لبنان"وغيرها.

إن فائض القوة الذي راكمته المقاومة منذ عدوان تموز ولغاية الآن، يعد وجهاً من وجوه الدفاع السلبي، يمنع العدو من الهجوم ويمنع الخسارة في الوقت نفسه، من خلال جعل الإسرائيلي يتحسب لردة الفعل اللبنانية قبل أن يقدم على عدوانه أو يقضم الحدود البحرية اللبنانية، إن مجرد وجود المقاومة وقوتها وقدرتها على إلحاق الأذى بكل من تسول له نفسه الاعتداء على لبنان، يقوض أي مناخ استثماري في المنطقة المقابلة للشاطئ اللبناني، ويجعل شركات التنقيب عن النفط في مياهنا وأرضنا هدف لأعمال مقاومة مشروعة، وهي مغامرة لن يقدم عليها المستثمرون بالطبع، وهذا نوع من الردع للإسرائيليين يمنعهم من المغامرة بالتنقيب في أرضنا.

لذا، إن الحديث اليوم عن سحب سلاح المقاومة والقول بأن المقاومة أدت مهمتها ولا بد من انخراطها بالدولة هو في غير محله بتاتاً، بل يعد ضربًا من الجنون، ففي وقت لا تملك فيه الدولة القدرة على الدفاع، إضافة إلى عدم قدرة الأمم المتحدة على الضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي المتبقية، ولكف عدوانها المستمر والمتكرر على لبنان وآخرها محاولة الاعتداء على المياه الإقليمية، تبقى المقاومة ضرورة وطنية لبنانية للاستمرار بالمطالبة بالحقوق، ولحماية الانجازات السابقة، ولحماية أرض لبنان وسيادته وشعبه ونفطه.
* أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

2011/07/07

المعارضة : صراخ لا يتجاوز الحدود

لم يكد يصدر القرار الاتهامي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حتى ارتفعت أصوات المعارضة تارة متهمة حزب الله، وطوراً متحدثة عن تمثيل المتهمين لأنفسهم، مع إشارة واضحة، في نفس الخطاب، إلى الطلب من حزب الله التنحي في عبارة، وعكسها، وفي اجتهاد ونقيضه، وفي تصويب صريح على السلاح المقاوم ما يؤكد أن المعارضة الجديدة قد فتحت صفحة جديدة من صفحات التحريض المذهبي الفتنوي عنوانها اتهام حزب الله بالاغتيال، والادعاء بأن السلاح موجود لحماية المتهمين، لذلك يجب إزالته، ما يؤدي طبعاً إلى كشف لبنان أمام التهديدات الإسرائيلية المستمرة، وآخرها ما كان إعلام المعارضة قد تحدث عنه، وهو التحضير لحرب إسرائيلية مقبلة على لبنان.

وفي وقت سادت الأجواء الخطابية التحريضية جلسات الثقة في البرلمان اللبناني، استعاد جمهور المستقبل وحلفاؤه مفردات غابت عن اللبنانيين منذ زمن بعيد، تتحدث عن أخطار جمة، وأساطيل وسفن، في محاولة يائسة لإشاعة أجواء تخويفية للمواطنيين حول ما يسمونه "عواقب دولية وخيمة" جراء رفض الحكومة اللبنانية التعاون مع المحكمة أو التملص منها، مهولين على اللبنانيين بأن المحكمة وجدت تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وأن هذا الفصل يعطي مجلس الأمن الحق في اتخاذ تدابير من نوع العقوبات الاقتصادية والسياسية، وحتى العسكرية، في حال امتناع أي دولة عن تنفيذ قراراته، وهكذا ستجد الحكومة اللبنانية نفسها محاصرة بالأساطيل الأطلسية إذا لم تمتثل وتسلم المتهمين وتتعاون مع المحكمة!
وبالرغم من أن في هذه الأجواء ما يثير الاستغراب، فقد جرب هؤلاء التهديد سابقاً بـ(يو أس أس كول) الأميركية، التي قالوا إنها ستأتي لتنقذ السنيورة، وغيرها من أحلام التدخلات الخارجية التي لطالما وعدوا بأنها ستأتي لتخلصهم من حزب الله، ولم يحصل شيء، وبالرغم من هذا، سنحاول علمياً تفنيد هذه التهديدات مستندين إلى مضامين العلاقات الدولية الجديدة، وإلى تجارب مجلس الأمن الفعلية لمعرفة إلى أي مدى يمكن فعلاً لمجلس الأمن تهديد لبنان بسبب عدم التعاون مع المحكمة.
بالنسبة إلى التدخل العسكري الموعود أنه سيحصل لاعتقال المتهمين، يتحدث المعارضون عن سيناريوهات تدخل عسكري مباشر أو تعديل مهام اليونيفيل لتقوم بهذه المهمة، وفي دراسة هذا الخيار وإمكانياته سنعتمد المنطق الدولي، والواقع الفعلي على الأرض، وهما بطبيعة الحال لا ينفصلان.
تدل تجارب مجلس الأمن الدولي، على أن إقرار التدخل العسكري في بلد من البلدان يحتاج إلى شروط صعبة جداً لإقراره، ويرتبط بشكل رئيسي بتوازن القوى داخل مجلس الأمن ومصالح الدول الكبرى في التدخل، على أن يكون هناك اتفاق بين الدول الأعضاء على خطورة الوضع وتهديده للسلم والأمن الدوليين، وعلى القصة السببية التي ستثيرها الدولة - القائد الدافعة نحو التدخل، أو أن يكون هناك انتهاك كبير لحقوق الإنسان وأعمال إجرامية تقوم بها دولة ضد مواطنيها، وأن تكون السلطة القائمة في البلد المتدخل فيه فاقدة الشرعية وغير فاعلة، هذا بالإضافة إلى أن مجلس الأمن لن يقوم بتفويض شن حرب أو تدخل عسكري في دولة ما من أجل اعتقال متهمين بجريمة قتل، ولنا في اعتقال (ملاديتش) الأخير بعد 16 سنة من صدور قرار اتهامه من قبل المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا مثال واضح.

هذا في المنطق العام، أما بالنسبة إلى موازين القوى على الأرض، وبما أنه ليس لدى الأمم المتحدة قواتها العسكرية الخاصة بعد، فالسؤال البديهي: من هي الدول التي ستقبل بإرسال جنودها للغرق في المستنقع اللبناني لسحب سلاح حزب الله، والتجارب التاريخية ماثلة أمام أعينهم، وتجربة إسرائيل في حرب تموز 2006 لم تنسَ بعد؟ وهل يمكن للأطلسي أن يقحم قواته في حارات الضاحية الجنوبية لبيروت بحثاً عن متهمين مفترضين في اغتيال الحريري؟ وهل هناك من يعتقد أن اليونيفيل التي تحتاج إلى الجيش اللبناني لحمايتها في جولاتها الجنوبية، ستكون جاهزة ومستعدة لإقحام نفسها في أمر كهذا، من أجل عيون جماعة المستقبل وحلفائهم، لإعادتهم إلى السلطة؟ وما هو الثمن الذي يمكن لليونيفيل أن تدفعه؟

أما التهديد بالعقوبات الاقتصادية على لبنان، والتهويل على اللبنانيين بخطر انهيار اقتصادي كبير، فلا بد من الإشارة إلى أنه بعد تجربة العقوبات الاقتصادية على العراق، وما نتج عنها من مآسٍ كبيرة أضرّت بالشعب العراقي ولم تؤثر على صدام حسين، لم تعد المضامين الدولية الجديدة تسمح بعقوبات اقتصادية دولية على دول أو شعوب بأكملها، بل باتت العقوبات تفرض على أشخاص أو منظمات أو شركات، وهو ما تم ملاحظته في التجربة السورية الحديثة، فقد حاذر الأوروبيون والأميركيون فرض عقوبات اقتصادية تؤثر تأثيراً مباشراً على الشعب السوري، بل طالت العقوبات أفراداً ومؤسسات ارتبطت بالنظام بشكل مباشر، وتطبيقاً على الحالة اللبنانية، أقصى ما يستطيع أن يفعله الأوروبيون والأميركيون هو فرض عقوبات اقتصادية على أفراد من حزب الله، أو مؤسسات تابعة بشكل مباشر له للضغط لضرورة التعاون مع المحكمة.

لا شيء في الواقع الداخلي وموازين القوى المحلية والدولية يؤشر إلى إمكانية تحقيق الأحلام التي تراود جمهور المستقبل وحلفائه، فموازين القوى في مجلس الأمن، وكما دلت التجربة السورية الحديثة، تؤكد أنها مختلفة تماماً عما كانت عليه عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث استغلت الولايات المتحدة الواقع الجديد لتشرع تدخل الأطلسي في مناطق عدة تارة بذريعة التدخل الإنساني، وطوراً بحجة فرض الديمقراطية وغيرها. كما أن موازين القوى الداخلية والإقليمية والدولية، عادة ما تفرض نفسها على إيقاع القانون الدولي والمحاكم الدولية، فما نلاحظه من تجربة المحاكم الدولية التي سبقت محكمة لبنان، أنها محاكم المنتصر التي تنشأ لمحاكمة المهزومين وهو ما حصل منذ نورمبرغ وطوكيو وحتى الآن، وهكذا نجد أن محكمة لبنان وداعميها يحاولون السير عكس حركة تاريخ العلاقات الدولية، الذي يفيد بما لا يقبل الشك أن المنتصر هو الذي يكتب التاريخ، ويسن القوانين، ويقيم المحاكمات للمهزومين.

* استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

2011/07/01

محكمة لبنان.. أداة عقاب جماعي!

مع صدور القرار الاتهامي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، واتهام عناصر من حزب الله في الاغتيال، من المفيد التنبه إلى مسألة بالغة الأهمية والخطورة قد تنتج عن هذا الامر، بالرغم من التبسيط الذي تمارسه بعض الدول، والادعاء بأن اتهاماً كهذا لن يؤثر ولن يغير في مسار الأحداث، وبالرغم من التصريحات التي تحدثت عن تمثيل المتهمين لأنفسهم، لكن الامر ليس بهذه البساطة، ويمكن – بحسب القانون الجنائي الدولي- أن يؤدي إلى اتهام وإدانة "جميع من ينتمي إلى الحزب"، وذلك في سابقة أخرى تضاف إلى السوابق التي اعتمدت في إقرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
لعل أخطر ما ينتظر المتهمين القرار الاتهامي، بالإضافة إلى ما ورد في نظام المحكمة الأساسي حول مسؤولية الرئيس عن المرؤوس الواردة في المادة الثالثة من النظام الأساسي، هو الإدانة بموجب مبدأ قضائي مستحدث في القانون الجنائي الدولي يطلق عليه اسم "المشروع الجنائي المشترك" joint criminal enterprise، والذي تعتمده المحاكم الدولية منذ عام 1999، وبالتحديد منذ الحكم الذي أصدرته محكمة يوغسلافيا في قضية تاديتش، والذي اعتبر علامة فارقة في القضاء الجنائي الدولي، والسابقة التي اعتمدت عليها المحاكم الدولية الأخرى لإدانة المتهمين بموجب "القصد المشترك" أو "الهدف المشترك"، وهو ما ورد في النظام الأساسي للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان صراحة أيضاً.
ما هو هذا المبدأ؟ وكيف يتم استعماله في المحاكم الدولية؟
بداية، يمكن تلخيص هذا المبدأ بما يلي: يعتبر كل عضو في "مجموعة منظمة" مسؤول مسؤولية جنائية فردية عن الجرائم التي ترتكبها المجموعة ضمن الخطة المشتركة أو الهدف المشترك، وهذه الإدانة مختلفة بالطبع عن الإدانة بالتحريض أو المساعدة.
ويميز القرار الذي اعتمدته محكمة يوغسلافيا في إدانتها لتاديتش، بين فئات ثلاث متمايزة من المسؤولية ضمن هذا المبدأ، وهي:
•- الفئة الأولى: تتمثل في الحالات التي يكون فيها جميع المتهمين يعملون بقصد مشترك، ويملكون نفس النية الجرمية، أي إنهم على سبيل المثال تشاركوا في خطة القتل، وحتى لو كان كل واحد منهم أدى دوراً مختلفاً، لكنهم جميعا يملكون النية الجرمية.
وهنا على الادعاء الإثبات أن المتهم اشترك طوعياً بطريقة أو بأخرى في القصد المشترك، أو أنه ولو لم يشارك مباشرة في القتل، إلا أنه كان يملك النية للوصول إلى هذه النتيجة.
•- الفئة الثانية: وهي تشبه تقريبا الفئة الأولى، وهي حالات "معسكرات الاعتقال"، وهي تعتمد أيضاً على مبدأ الهدف المشترك، حيث يدان كل العسكريين والإداريين الذين أداروا هذه المعتقلات، اي جميع الاشخاص الذين عملوا وفقاً لخطة منسقة.
•- الفئة الثالثة وهي الأخطر والأكثر إشكالية، والتي أخذت حيّزاً واسعاً من الانتقادات الفقهية القانونية على الصعيد الدولي، وهو الإطار الموسع من مبدأ القصد المشترك الذي يقول: يدان جزائياً جميع أعضاء "المجموعة المنظمة" في حال كانت الجريمة "نتيجة طبيعية ومتوقعة" للهدف المشترك الذي وضعته المجموعة لنفسها، حتى لو لم يكن هذا الهدف المشترك جرميا في الأساس.
وضمن هذه الفئة الثالثة تمّت إدانة تاديتش، فقد اعتبرت المحكمة أن الهدف المشترك للمجموعة وهو تحقيق"صربيا الكبرى"، فإن الجرائم المرتكبة بحق غير الصربيين كان نتيجة طبيعية ومتوقعة لهذا الهدف المشترك.
وفي حكم آخر أدانت المحكمة كاراديتش بموجب ست أهداف استراتيجية مشتركة للمجموعة التي يقودها، وقد اعتبرت ان من الأهداف المهمة والرئيسية "فصل الصرب عن المجموعات الوطنية الأخرى"، كما اعتبرت أن الهدف المشترك بـ"تقوية نفوذ الصرب وتوطيد سلطتهم في البلدية" أدى إلى الضغط على غير الصرب، من خلال بروباغندا إعلامية ساهمت في إشاعة جو من الرعب والترويع بين غير الصرب، وساهمت في تغذية الحقد الذي أدى فيما بعد إلى جرائم تطهير عرقي كـ"نتيجة طبيعية ومنطقية".
وبالرغم من أن النظام الأساسي للمحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة لم ينص صراحة على مبدأ "القصد المشترك"، بل تضمن مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية وليس الجماعية، وبالرغم من الانتقادات الحادة التي تعرض لها هذا المبدأ، خصوصاً الفئة الثالثة منه، لأنه يمس بابسط مبادئ القانون الجنائي التي تعتبر أن "لا إدانة من دون جرم"، ولانتهاكه لمبادئ حقوق الانسان، ويمس بمصداقية الاحكام، ويعطي المدعي العام للمحكمة سلطات استنسابية واسعة.. فقد استخدمته المحاكم الدولية كمحاكم كيوغسلافيا ورواندا وكمبوديا وتيمور الشرقية وغيرها، ولو بطريقة انتقائية.
من هنا، ينبغي الالتفات إلى أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أدرجت في (المادة الثالثة - البند الاول) من النظام الأساسي عبارة واضحة وصريحة حول "المجموعة ذات الهدف المشترك"، وهنا الخطر الأكبر، وهذا يعني أن المحكمة تتحضر لمساءلة جزء كبير أو "كل" من ينتمي إلى حزب الله، وتحميلهم مسؤولية جنائية فردية، لوجود هدف مشترك أو أهداف مشتركة، كفرض سيطرة حزب الله، أو تقوية نفوذه، أو غير ذلك من الأهداف التي قد تعتبر المحكمة أن "الاغتيال" يأتي "نتيجة طبيعية ومنطقية لها". كما أن التوصيف الذي أُطلق على جريمة اغتيال رفيق الحريري بأنها جريمة ارهابية يجعل الإشارة إلى الاتفاقيات الدولية لمكافحة الإرهاب أهون وأسهل بالنسبة إلى المحكمة لإدانة أعضاء حزب الله بموجب مبدأ "الهدف المشترك"، وعليه ستتم الاستدعاءات، وسيطلب من الحكومة اللبنانية التعاون وتسليم المطلوبين بموجب اتفاقيات "مكافحة الارهاب" التي وقعها لبنان سابقاً، إن لم يكن بموجب بروتوكول التعاون مع المحكمة.
يوماً بعد يوم تكشف المحاكم الدولية، ومثلها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، أنها أداة لتسييس العدالة واستخدامها لتصفية حسابات سياسية ودولية، وإذا لم تكن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قد بدأت المحاكمات بعد للحكم عليها، لكن تجارب تحقيقاتها، وطريقة إقرارها وقضية شهود الزور التي تنصلت منها وغيرها، تنبئ بأن لبنان قادم على تحديات كبيرة قد ترهن مستقبله ومستقبل الأجيال المقبلة، وستعرضه لضغوط كبيرة وتضعه تحت رحمة قضاة دوليين يتكشف يوماً بعد يوم مدى "مصداقيتهم"، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر القاضي ريتشارد غولدستون، الذي تراجع عن تقريره في مقال صحفي أطلق فيه أحكاماً وتراجع عن أخرى من دون تحقيق ولا تثبت؛ فقط لكسب الرضى الإسرائيلي!
·         استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية