2011/07/30

في تفشي عنصرية "الأنا" ضد "الآخر" : أي دور للبنان؟

نشر هذا المقال في مجلة لبجورنال الالكترونية
لم تأتِ حادثة النروج الارهابية خارجة عن نطاق السياق العنصري الذي يعم العالم منذ بداية تأريخ البشرية، وبالتحديد منذ حادثة قايين وهابيل. لكن عنصرية اليوم، والتي ظهرت جليًا في العلاقات الدولية بعد أحداث 11 ايلول الارهابية، أشّرت الى عودة بارزة للمقدس الى ساحة العلاقات الدولية بقوة من خلال استخدام مفردات دينية عنصرية “تحلّل” الغاء الآخر وابادته، تحت شعارات “نحن” و”هم” التي لبست طابعًا ثقافيًا ودينيًا، وأظهرت عمق الحقد الثقافي الذي تزرعه السياسات العنصرية، والتي جعلت من الدين متراسًا لمصالح دولتية وصولية فزجت الشعوب بحملات قتال على ملكية الله، وجعلت من حروب الامم وصراعها حروبًا للالهة على الارض.
لعل أبلغ من عبّر بوضوح عن عمق العنصرية الضارب في الذات الانسانية كانت سارتر بعبارته الوجودية الشهيرة:”الجحيم هم الآخرون”. فتاريخياً، تتكون الحضارات عادة عبر مواقف اقتباس وتفاعل مع الحضارات التي سبقتها، ورفض وقطيعة مع ما أتاها من الاخرين أو مما حاولوا فرضه عليها. وبالتأكيد، لم يكن التاريخ الحضاري للشعوب يومًا منقطعًا عن ذاته أو عن الآخرين ولا حتى عن الدين. فالدين استخدم الثقافة الموجودة، بأدبياتها ولغتها وتقاليدها ليدخل نفسه في نسيج ثقافة سائدة حاربته بداية، ثم ما ان استتب له المجال حتى طوّر عناصرها وازاح مكوناتها الاضعف، ففرض نفسه بديلاً حقيقيًا وفاعلاً لما كان سائدًا، وأصبح نواة الثقافة التي تستمد قيمها من تعاليمه و”تكفر” كل ما هو خارجه.
اذا، لطالما ترابط الدين والثقافة ولطالما كانت العلاقة بينهما علاقة جدلية، يأخذ الدين من الثقافة ليصيغ مفرداته وسلوكياته ثم ما يلبث ان يتحول نواة الثقافة فيفرض عليها مفردات وسلوكيات أخرى. من هنا، نرى الترابط الواضح بين عنصرية “الانا” ضد “الآخر” الثقافية، وعنصرية “الانا” الدينية ضد “الآخر” المختلف دينيًا. و
هكذا يجد قارئ التاريخ البشري نفسه، أمام كم هائل من صور حروب يعكسها مزيج من عنصرية “الانا” الثقافية والدينية والحضارية في قتال وتحدٍ مع “الآخر” الذي يصوّر دائمًا بشكل “عدو” مجرد من الصفات الانسانية، أو بدرجة أقل، كـ “بربري” همجي لا يعرف قيمة الحضارة التي تمتلكها الـ “نحن”. فبالنسبة لارسطو، مثلاً، كان الاخر هو الغريب الذي لم يتمكن من فهم واستخدام اللغة المشتركة اليونانية ونتيجة لذلك اصبح هذا ” الآخر” البربري هدفاً للمطاردة أي أصبح عبداً.
وتكمن المشكلة البشرية، عندما يجنح التمييز بين “نحن” والآخر” لياخذ منحى عنفيًا، ترفده عوامل قوة وهيمنة، فهذا يقود بسرعة الى تمييز خطير قد يؤدي الى ادعاء “حق” او بالاحرى “واجب” الغاء الآخر وابادته، ضمن نظرية (نحن= الخير” وهم = الشر)، وهي بالتحديد النظرية التي قسّم جورج بوش العالم من خلالها، وأقام مغامراته العسكرية على أساسها، والتي تعني فيما تعنيه، ان الصراع الازلي بين الخير والشر يفترض ان يحارب الخير الشر ويتغلب عليه ويزيله من الوجود… أي أن بوش كان يدعو الى “ابادة” تامة لذلك “الآخر” ضمن اطار الدعوة الى محاربة الشر، ومن هنا يمكن لنا ان نفهم المعيار القيمي الذي استند اليه “سفاح النروج” في قتل ضحاياه ضمن ما اعتبره “الواجب الوطني” او الانساني.
انطلاقًا من كل هذا، يبدو “لبنان” التعددي اليوم حاجة تاريخية وانسانية كونية. وعلى اللبنانيين أن يعوا أن على عاتقهم، لا بل من واجبهم الاطلاع بدور حضاري انساني عالمي يتجلى في بث روح تقديس حق الاختلاف بين الشعوب، وبذر بذور التسامح الديني والثقافي والحضاري بين ضفتي المتوسط، هذا البحر المقدس الذي انطلقت من ضفافه أديان الارض السماوية وانتشرت في أصقاع الارض.
نعم، هي رسالة لبنان الذي لم يكن مبرر وجوده يوماً نابعاً من حجم كيانه السياسي أو الجغرافي بل من كونه معجنًا لقيم التعدد الحضاري، ومن كونه رسالة، وصورة سماوية منحها الخالق زهو الوان باهية مزج فيها الحب اليسوعي مع الحكمة المحمدية تحت راية أرز الرب لتكون الاشعاع المضيء في ظلمات قرون من الجهل والتكفير والتعصب الاعمى.
في زمن التكفير الذي يقضي على كل امكانية لحرية التفكير، ان دول وشعوب العالم مدعوة اليوم أكثر من اي وقت مضى، إلى صياغة دستور جديد للسلوك الإنساني، يفصل بين العلاقات الافقية التي تقوم بين الأفراد وعلاقاتهم العامودية مع الله، والتي لا يجب أن تختلط وتتداخل باي شكل من الاشكال. فهل يكون اللبنانيون على قدر التحدي ويخطون بأنفسهم مدونة السلوك الانسانية تلك، ام سيتخلفون عن كتابة التاريخ كما فعلوا دائما فتحولوا الى متفرجين على تاريخ يكتب لهم وعنهم؟
اللبنانيون اليوم كما الانسانية جمعاء، بحاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى صياغة رؤية انسانية جديدة: رؤية تضرب بجذورها في أرض التواضع والاعتدال ونقد الذات، رؤية ترنو إلى عالم أفضل يستند إلى الاحترام المتبادل، وتقديس حق الاختلاف، والتسامح، والشهادة للحق، وحيث لا قيمة الا للانسان ولا عدل الا باحترام كينونته كانسان.
لن يستطيع العالم معرفة طريق الله ولا رؤية وجهها الا بالادراك الفعلي لمعادلة بسيطة مفادها أننا:
نولد احراراً… نعيش مختلفين… نموت متساوين.

• استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق