2016/06/30

Dr. Leila Nicolas _Presenting herself in Bard College

ماذا بعد التصويت البريطاني؟

د. ليلى نقولا
انعقدت قمة الزعماء الأوروبيين في بروكسل على وقع التشنج الذي فرضه تصويت البريطانيين الإيجابي للرحيل من الاتحاد، وكان رئيس الوزراء البريطاني المستقيل دافيد كاميرون مع نظرائه الأوروبيين في اجتماعهم في بروكسل،قد طلب تأجيل التفاوض والرحيل إلى ما بعد انعقاد مؤتمر حزب المحافظين، واختيار رئيس حكومة جديد،أي في نهاية العام الحالي، علماً أن البعض يشير إلى أنّ رئيس الوزراء الجديد قد يماطل، وأنّ طلب الرحيل بموجب المادة 50 قد لا يأتي.

وتماماً كما حصل مع اليونان في السابق، يحاول الأوروبيون تدفيع بريطانيا ثمن استفتاء ذهبت إليه لتحقق مكاسب سياسية وتجعل منه قوة ضغط على الاتحاد الاوروبي، وبالرغم من عدم إمكانية المقارنة بين البلدين، إلا أن التهاون مع بريطانيا سيغري العديد من الشعوب الأوروبية لتكرار التجربة البريطانية، وسيدفع "اليمين" في كل أنحاء أوروبا إلى المطالبة باستفتاء حول البقاء أو الرحيل منه، وقد لا يكون البقاء هو الخيار المفضّل لدى الشعوب الأوروبية التي تأنُّ تحت وطأة الإرهاب واللاجئين والأزمات الاقتصادية.

واقعياً، لم يهضم البريطانيون من البداية فكرة الاتحاد السياسي الأوروبي، بل شكّل لهم منذ الأساس مجرد فكرة اقتصادية، تسمح بتجارة حرّة، وسهولة تنقّل البضائع، ومنافع اقتصادية.. وخارج الاقتصاد لم يقبض البريطانيون كثيراً الإعلانات العاطفية التي روّجت لها كل من فرنسا وألمانيا، كفكرة "كلنا أوروبيون"، لذا لم يستطيع معسكر "البقاء" - بالرغم من كل الظروف التي أحاطت بالعملية، والتي خدمت قضيته، ومنها اغتيال النائبة المؤيدة للبقاءمقتل جو كوكس - الحصول على أصوات كافية لكسب المعركة، بينما خدمت ظروف متعددة مؤيدي "الرحيل" عن الاتحاد الأوروبي.

لم يكن معسكر الرحيل الفائز بالتصويت، أصلاً موحَّداً حول رؤيته لما بعد الرحيل، أو حتى في أسباب المطالبة بالرحيل، فكل له أهدافه، وكل له أسبابه للرحيل؛ منهم مَن كان يعلّق شمّاعة الأزمة الاقتصادية والبطالة على الاتحاد الأوروبي، ومنهم من انطلق من شعور قومي يرتكز على أولوية الدولة الوطنية، ومنهم من صوّت بدافع الخوف من اللاجئين والهجرة غير الشرعية والإرهاب، خصوصاً في ظل إحصاءات وتقارير تشير إلى أنبريطانيا هي الوجهة المفضَّلة للاجئين، وأن العديد منهم أعلن عن رغبتهم بالهجرة إلى بريطانيا والعيش فيها حتى بعد حصوله على الجنسية الألمانية أو سواها من الجنسيات الأوروبية.

ويشير بعض المراقبين إلى أن المجتمع البريطاني، كباقي المجتمعات الأوروبية وحتى الأميركية، بات يعاني من انعدام الثقة بين المواطنين والمسؤولين، وهو ما تجلّى في اعتكاف الشباب عن التصويت بكثافة؛ فقد أشارت الإحصاءات إلى أن فئات الشباب بشكل عام كانت أكثر ميلاً للبقاء من الكبار، لكن نسبة التصويت لمن يحقّ لهم الاقتراع من الشباب كانت متدنية جداً وقاربت الثلث، بينما وصلت نسبة التصويت بين الكبار إلى 75%، وهو ما صنع الفارق لصالح الرحيل.

قد يكون البريطانيون والأوروبيون اليوم أمام معضلة كبيرة عنوانها "ماذا بعد"؟ إذ إن الغموض وعدم اليقين باتا يلفّا المشهد السياسي والاقتصادي في أوروبا برمّتها، وفي الداخل البريطاني في معسكرَي "البقاء" و"الرحيل" سوياً.

ينظر البريطانيون اليوم، خصوصاً مؤيدي الرحيل،إلى استراليا كمثال، ويعتبرون أن استراليا دولة قوية تُعتبر جزءاً من الغرب، وعقدت العديد من الاتفاقيات الاقتصادية الثنائية مع الدول الغربية، ولديها اقتصاد قوي، وتربطها علاقات قوية مع دول الكمنولث، وهي في نفس الوقت ليس جزءاً من إطار أوسع من الدولة الوطنية، يحرمها جزءاً من سيادتها القومية.

بكل الأحوال، وبغض النظر عما ستكون عليه عملية "الطلاق" بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، يمكن القول إن أوروبا برمتها باتت يعاني من أزمات كبيرة تهدد استقرارها واستمرارها ككيان موحَّد، وباتت تحتاج إلى حلول جذرية سريعة لمشاكل الهجرة واللجوء والإرهاب، وفعلياً، يكمن الحل في السياسة الخارجية الأوروبية، خصوصاً في الشرق الأوسط، أي أن على الأوروبيين الدفع نحو حل سياسي في سورية، يجعل من الابتزاز التركي غير ذي جدوى، ويسمح لهم بإعادة اللاجئين الذين رفضت طلباتهم، ويخفف من قدرة الإرهابيين على الحركة.

2016/06/23

الوثيقة الأميركية الاعتراضية... لضرب الأسد أو لدعم كلينتون؟


د. ليلى نقولا
تتجه الأنظار إلى المعارك التي تحصل في الشمال السوري، والتي ستزداد أهمية كلما اقترب موعد رحيل الرئيس الأميركي باراك أوباما من البيت الأبيض، أو على الأقل تحوّله - بالعرف الأميركي - إلى "بطة عرجاء"؛ لا يستطيع أن يقدّم الكثير أو يبدّل في موازين القوى السائدة، وذلك لأن الرئيس الذي ينوي أن يغادر سيحاول أن يحقق انتصاراً في المعركة ضد الإرهاب في كل من العراق وسورية ليقدّمها هدية لحزبه في الانتخابات المقبلة.

وفي خضمّ التطورات الحاصلة في المنطقة، صدرت عن مجموعة تزيد عن خمسين دبلوماسياً عاملاً في وزراة الخارجية الأميركية، وثيقة "اعتراضية" على أداء السياسة الخارجية للإدارة الأميركية، مطالبة الرئيس بتوجيه ضربات عسكرية إلى النظام السوري، "لإجباره على الامتثال والذهاب نحو الحل السياسي".

وتثير هذه الوثيقة "المسرّبة" تساؤلات عدّة، أبرزها ما يلي:

أولاً: كيف يمكن لدبلوماسيين أميركيين معنيين بملفات الشرق الأوسط أن يركّزوا الأضواء على النظام السوري، في الوقت الذي يضرب الإرهاب "الداعشي" قلب أميركا، متحدياً الأمن الأميركي في عقر داره؟ الأجدى بدولة تعرّضت لعملية غادرة ومجزرة إرهابية أن تنتقم وتركّز جهدها على مَن تسبب لها بهزّ الاستقرار وعرّض مواطنيها للموت، أي أن تركّز جهودها للانتصار على "داعش"، لا أن تعمد إلى قصف الجيش السوري، فكيف يمكن مواءمة هذه الوثيقة "الاعتراضية" التي تركّز على الأسد ونظامه وتتغاضى عن خطر "داعش"، مع المأساة الأميركية الداخلية التي حصلت بعد مجزرة أورلاندو؟

ثم، إن ادعاء المعترضين بأنه يكفي بضع ضربات جوية وصواريخ على مواقع الجيش السوري، ليعلن الأسد هزيمته ويستسلم للمعارضة، تبدو نوعاً من السذاجة أو الأحلام، فالتجارب العسكرية تفيد أن الحروب لا يُمكن أن تُربح من الجو، وبما أن التجربة الأميركية السابقة في تدريب "جيش سوري" للقتال، ما زالت ماثلة للعيان، لذا فإن الهدف المنوي تحقيقه سيدفع إلى زجّ الجيش الأميركي في حرب برّية، علماً أنه سيواجه على الأرض مزيجاً من المقاتلين السوريين واللبنانيين والعراقيين والإيرانيين و.. الروس.

ثانياً: دافع السفير الأميركي السابق في سورية روبرت فورد عن الوثيقة، ونصّب نفسه متحدثاً باسم العرب السُّنة، معتبراً في مقابلة أجرتها معه صحيفة "نيويوركر"، أن التركيز على "الدولة الإسلامية"  لن يكسب قلوب وعقول العرب السُّنة السوريين، لأنهم يعتبرون أن حكومة الأسد تشكّل المشكلة الأكبر لهم أكثر من "داعش"! لذلك، هو يدعو إلى "إحياء جهود تأمين المفاوضات لتشكيل حكومة جديدة، مع الصبر الاستراتيجي في الحرب ضد الدولة الإسلامية"،  فهل تملك الإدارة ترف "الصبر الاستراتيجي" مع منظمة استطاعت أن تضرب الولايات المتحدة في عقر دارها، لتوفّر جهدها لتشكيل حكومة سورية جديدة أو لضرب النظام السوري؟

ثالثاً: والأغرب الذي يسوّقه روبرت فورد في مقابلته، كان تأكيده على أنه "لا خلاف مع الإدارة في الأهداف الاستراتيجية، بل في التكتيك"، مؤكدًا أن "الجميع تعلّم من درس العراق أن تغيير النظام ليس الوسيلة الأفضل لتحقيق تغيير سياسي إيجابي، وأنه في حالة الحرب الأهلية يجب أن يكون هناك مفاوضات بين المعارضة والحكومة"، كما تأكيده عدم قدرة المعارضة السورية على الانتصار، لأنها غير موحَّدة، ولا تتعاون مع بعضها البعض، كون الجهات الداعمة لها غير موحَّدة.. وهنا، يعترف فورد بأن الحل في سورية هو سياسي بالضرورة، وأن الاعتراض هو على الوسائل التي تعتمدها الإدارة للوصول إلى الحل السياسي، أي أن الهدف من الوثيقة هو استعمال الخيار العسكري للوصول إلى حل سياسي!

واقعياً، يبدو هؤلاء الدبلوماسيون "المعترضون" منفصلين عن الواقع الأميركي الداخلي والواقع الشرق أوسطي، فالاستجابة لدعوات الخيار العسكري ليست خياراً يمكن للإدارة الأميركية أن تتبناه بسهولة، لأنه خيار عالي المخاطر وذو تكلفة عالية جداً، يبدأ بتشجيع حرب مباشرة بين الأطلسي والروس فوق السماء السورية، ولا ينتهي بتحديات في مناطق استراتيجية أخرى حيث يحتك الطرفان، مع كل ما يمكن أن ينتج عن ذلك من تطورات في ظل التشنج الذي يعيشه الطرفان بعد نشر الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية.

بالنتيجة، لن تؤدي هذه الوثيقة الاعتراضية إلى تغيير في السياسية الأميركية، ولن تضغط على الرئيس الأميركي في أواخر عهده، وهو الذي تعرّض لضغوط أكبر ولم يستسلم - كما أعلن في مقابلته مع "ذي اتلانتك" - بل قد تكون نوعاً من الترويج السياسي للمرشحة الأميركية هيلاري كلينتون في حملتها الانتخابية، وهي التي لطالما دعت إلى اعتماد الخيار العسكري ضد الأسد في سورية.

2016/06/09

ترامب وكلينتون.. أيهما الأخطر على العرب؟ _ مقابلة على روسيا اليوم

بوتين والأسد... يوم تبادل الرسائل


د. ليلى نقولا
في الوقت الذي كان الرئيس السوري بشار الأسد يتحدث في الجلسة الأولى لمجلس الشعب السوري المنتخَب حديثاً، كان رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو يزور موسكو؛ في لقاء تاريخي بمناسبة مرور 25 سنة على إعادة العلاقات بين البلدين.

تزامن الحدثين، وما قيل فيهما، وقد يعطي إشارة واضحة إلى عدم الوضوح الذي يعتري العلاقة بين الحليفين الروسي والسوري، خصوصاً في ظل تصاعد الدور الروس في المنطقة، والقلق مما يمكن أن يقوموا به سواء على صعيد الصراع العربي - "الإسرائيلي" أو على صعيد رسم مستقبل سورية الذي يدور حوله مجمل الصراع في المنطقة، علماً أن الشكل الذي يتخذه مستقبل سورية سيطبع شكل ومستقبل الدول في المنطقة بأسرها.

وقد يكون التناقض في الخيارات الروسية في المنطقة وعدم وضوحها، هو ما جعل الرئيس السوري يوجه معظم رسائله إلى الحليف قبل العدو، وهي كما يلي:

-          بالرغم من أن الأسد في خطابه شكر كلاً من إيران وروسيا والصين، ودافع عن خيار "وقف العمليات القتالية" الذي فرضته موسكو على الجميع وقبلته دمشق، إلا أنه ومن خلال رسم الخطوط العريضة لسياسة الدولة السورية المستقبلية، حدد المعايير التي تقبل بها دمشق والخطوط الحمراء التي لا يمكن لها القبول بها، ولو أتت من قِبَل موسكو أو غيرها.

-          وفي تكرار وتأكيد لما كان قد قاله سابقاً في مناسبات عدّة، جدد الأسد التأكيد على عدم القبول بتقسيم سورية، وعلى مفصلية معركة حلب (التي شبّهها سابقاً في خطاب وجّهه لبوتين بستالينغراد)، كما أعاد التأكيد على أن الجيش السوري سيحرر كل شبر من الأراضي السورية؛ مثلما فعل في تدمر، وهو ما كان قد أعلن عنه في مقابلة سابقة، وأنتج استياءً روسياً عبّر عنه المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين.

-          وبالرغم من أن الاسد أبدى انفتاحاً على إمكانية تشكيل حكومة وحدة وطنية، إلا أنه أعلن - وبكل وضوح - أن المعركة السياسية الحقيقية هي على صياغة الدستور السوري المستقبلي وليس على الحصص داخل الحكومة أو تقاسم الوزارات بين النظام والمعارضة. ولعل الرفض الصريح والواضح لنموذج المحاصصة الطائفية تحت شعار "التوافقية"، قد يكون رسالة موجهة إلى موسكو التي سرّبت ما يسمى "مسوَّدة الدستور السوري" ثم عادت وتراجعت، نافية أن تكون قد وضعت هذه المسوَّدة. لقد بيّن الأسد أن النظام الطائفي الذي يشبه النظام اللبناني ما هو إلا وصفة لتقسيم السوريين، واستجلاب الوصاية الخارجية تحت ذريعة حماية المكونات الطائفية الموجودة داخل الوطن.

هذا في رسائل الأسد لروسيا، أما الرسائل الروسية لمحور المقاومة فكانت أوضح من خلال المؤتمر الصحفي الذي أقامه الرئيس الروسي مع رئيس الوزراء "الإسرائيلي" نتنياهو، حين بالغ بوتين في مديح دور "إسرائيل" في مكافحة الإرهاب، معتبراًأن "إسرائيل" تعرف هذه الظاهرة، ليس بالسمع، وأنها "تحارب الإرهاب"، مؤكداً أن روسيا وإسرائيل "حليفتان من هذا المنظور".

وبهذا المعنى، يكون الرئيس الروسي قد رفع "إسرائيل"إلى مرتبة أعلى بكثير من الأوروبيين والأميركيين، الذي ما انفك يعلنهم مجرد "شركاء"، علماً أن بوتين قدّم لـ"إسرائيل" في هذه اللفتة أكثر بكثير مما قدّمه نتنياهو لموسكو بإبداء الرغبة في منحها دوراً سياسياً أكبر في الشرق الأوسط، من خلال القبول بدخولها شريكاً في الرباعية، وفي مفاوضات التسوية مع الفلسطينيين،والتي لا يريدها نتيناهو أصلاً.

والسؤال الأهم: كيف يمكن أن يكون بوتين حليفاً لحزب الله في المعارك ضد الارهابيين في سورية، ويكون في نفس الوقت حليفاًلـ"إسرائيل" في مكافحة الإرهاب (وهو بتوصيف الإسرائيلي يعني حزب الله والمقاومة الفلسطينية ولا يعني - بالتأكيد - النصرة وداعش، باعتبار أن الإسرائيليين يمدّون المجموعات الإرهابية في الجولان بالدعم والرعاية والخدمات الطبية)؟

وتكمن الخطورة في التقارب الروسي - "الإسرائيلي"، في محاولة "الإسرائيليين" التأثير على موسكو لكي تأخذ بعين الاعتبار المصالح "الإسرائيلية" حين الاتفاق على مستقبل سورية، وهذه المصالح - بالمفهوم "الإسرائيلي" - تعني: تحجيم الدور الإيراني في سورية، وإضعاف حزب الله وتوقّف شحنات السلاح إليه، والامتناع عن المقاومة في الجولان، وهو ما كان قد دسّه دي ميستورا في ورقته سابقاً؛ بالحديث عن الالتزام بـ"المقاومة السلمية في الجولان".

وهكذا، تبادَلَ الحليفان الرسائل في يوم واحد، وحدد كل منهما نظرته للصراع ومستقبل المنطقة، لكن ما لم يحسبه الروسي جيداً أن سورية كانت قد صمدت خمس سنوات قبل قرارهم بالتدخّل العسكري، ثم إن الإنجاز الذي حققه الروس بما سمّوه "عاصفة السوخوي" لا يجعل منهم قوة قاهرة لا يُردّ لها طلب، لذا من الأفضل لأي قوة صاعدة في المنطقة ألا تبالغ في قدرتها على فرض شروطها، بل أن تحسب جيداً تبدُّل سيكولوجية الشعوب الشرق أوسطية، فعرب المشرق في القرن الحادي والعشرين ليسوا كعرب بداية القرن العشرين، الذين استعملوا وقوداً في المخططات الخارجية ضد بلادهم، ثم استمروا بالندب طيلة مئة عام.

2016/06/02

نتائج الانتخابات البلدية : لا للنفاق السياسي

د. ليلى نقولا
خلطت الانتخابات البلدية الأوراق جميعها في لبنان؛ تبدّلت التحالفات واختلطت وظهرت قوى وتراجعت أخرى، وبدا أن الديمقراطية هي المنتصر الوحيد في هذا الوطن، بعدما تبارى المسؤولون في نحرها بالتمديد لأنفسهم خلافاً للقانون والدستور.

لقد حجّم اللبنانيون جميع القوى السياسية بدون استثناء، فلم تسلم أي قوة من هزائم كبرى في ساحاتها، ما يشير إلى أن الاتجاه السياسي العام من الآن فصاعداً يجب أن ينحو بقوة نحو التواضع ومعرفة القدرات الحقيقية، وعدم الوقوع في فخ وإغراء وهم فائض القوة الشعبية.

لعل ما حصل في طرابلس وقبله في بيروت، من صدمات لـ"تيار المستقبل"، وقبلها الصدمات التي تعرّضت لها القوى السياسية الأخرى، يفيد بأن هناك حاجة لمراجعة جذرية لكل الخطاب والسلوك السياسيّين لمختلف الأطراف اللبنانية، التي تحتاج إلى إعادة تقييم شاملة لكل مسارها السياسي منذ خروج الجيش السوري من لبنان ولغاية اليوم، فما حصل بالتأكيد يؤشّر إلى عهد جديد لن تستطيع بعده الطبقة السياسية أن تقود جمهورها وتشدّ عصبه إلا بتغيير جذري للخطاب السياسي، بحيث تستعمل أولاً الصدق والنزاهة، وتبتعد عن القرارات الفوقية التي لا تقيم وزناً لجمهور ولا لرأي عام، ثانياً.

لطالما عرفت العلوم السياسية والعلاقات الدولية ظاهرة الازدواجية بين الخطاب والسلوك السياسي (النفاق)، فقد كانت أكثر التصرفات السياسية عدوانية ولا أخلاقية، تتدثر بغطاء قيمي مثالي، وترفع شعارات أخلاقية جذابة تجعل من الصعب على الناس العاديين عدم تأييدها. وقد تكون السياسات الاستعمارية الاوروبية في القرن التاسع عشر التي رفعت لواء "جلب الحضارة والتمدن" للشعوب المستعمَرة، ثم شعارات "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" التي رافقت حروب جورج بوش، أكبر مثال على الازدواجية تلك. واقعياً، إن أكثر دعاة التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى، هم المثاليون الذي يعتبرون أن حقوق الإنسان تفرض واجب التدخل لحمايتها، علماً أن ما من تدخّل إلا وسبّب مآسٍ، أين منها المآسي السابقة للتدخل، والتي خرج هؤلاء بذريعة "الواجب الأخلاقي" لإنهائها.

قد تكون ديمقراطية الإعلام والإعلان التي سادت بعد ثورة الاتصالات، وقدرة أي كان عن التعبير عن نفسه وإبداء رأيه، قد أدخلت مفاهيم جديدة إلى الساحة السياسية، فلم يعد السياسي "المنافق" هو السياسي الناجح، بل إن حرية الوصول إلى المعلومات ووفرتها، بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وعدم قدرة السياسات التقليدية على حلّها، وانكشاف شبكات المافيات، أدت إلى تبدُّل في مزاج الناخبين. ظاهرة ترامب في أميركا، وبروز اليمين في أوروبا، تثبتان هذه الفكرة. فقد كشفت الانتخابات في أوروبا وأميركا، والانتخابات البلدية في لبنان، أنّ مَن يستطيع أن يستثمر النقمة الشعبية لدى فئات واسعة من الناخبين ضد أداء السلطات الحاكمة، ويعرف كيف يستغل شعور الإحباط وخيبات الأمل لدى لجمهور العريض من قياداته، ويحاول أن يقدم خطاباً مغايراً لكل الخطاب السياسي السابق، باستطاعته أن يحصد تأييداً شعبياً يؤهّله للوصول إلى السلطة.

نعم، تحتاج الظواهر الانتخابية اللبنانية للدراسة المعمَّقة، ولا ندّعي أن بإمكان أي أحد أن يحيط بها ويقدّم تحليلاً للسلوك الانتخابي للبنانيين في الانتخابات الأخيرة بدون دراسات ميدانية حقيقية على الأرض، لكن تستدعي ظاهرة انتخابات طرابلس وقفة تأمّل، كما وتستدعي بعض التساؤلات:

- هل فعلاً استطاع الوزير أشرف ريفي الانتصار على "محدلة" من القوى السياسية المتكتّلة ضده، لأن الطرابلسيين نبذوا الاعتدال وانحرفوا نحو التطرف؟هل يمكن أن نقول إن الرئيس ميقاتي، على سبيل المثال لا الحصر، خلال وجوده في السلطة، مارس حقًا اعتدالاً ووسطية؟ ألم يقم الميقاتي نفسه بتشجيع الظواهر الإرهابية التي خطفت طرابلس وأخرجتها من تعايشها وعروبتها، ولنا في قضية شادي المولوي التي تشارك هو والصفدي في ارتكابها، خير مثال على ذلك؟

- هل الوزير أشرف ريفي هو الوحيد الذي يطلق خطابات نارية؟ وماذا عن الخطابات الفاشية الطائفية التي تطلقها الأحزاب والمجموعات الأخرى؟ ألا يمكن أن نقول إن الطرابلسيين اختاروا ريفي "لصدقه مع نفسه وناسه"، وليس بالضرورة لتطرُّفه السياسي والطائفي؟

علّمتنا التجارب أن الأقوياء أو الأكثر تطرفاً في ساحاتهم هم الأقدر على صنع التسويات، بينما يغرق الضعفاء والوسطيون ويضيعون بين حدّين: الهجوم الذي يتعرضون له من المتطرفين على يمينهم، وحاجتهم لإثبات أنفسهم وعدم خيانتهم لمبادئهم، فيعمدون إما إلى النفاق، أو إلى إضاعة الوقت بالتردد وعدم الجرأة على اتخاذ قرارات مصيرية. لذلك، على الأقوياء في ساحاتهم أن يعرفوا أن اختراع حيثيات سياسية في الساحات المقابلة لم يعد مقبولاً، ولن يؤدي إلى تسويات وحلول.

من الأفضل للقوى السياسية في لبنان، أن تعترف ببعضها البعض، وألا تحاول أن تختار الأضعف في الساحات الأخرى للسيطرة عليها.. يصح هذا خصوصاً في الساحة المسيحية، والآن في الساحة السُّنية، لذا فلتكفّ السلطة السياسية عن النفاق، ولتعترف بأن السياسات التقليدية أفلست وباتت أعجز من أن تسيّر الرأي العام لمصلحتها.