2020/05/27

عشرون عامًا على التحرير: ربح ميداني وخسارة سياسية


تحلّ هذا العام، الذكرى العشرون لخروج الجيش الاسرائيلي مهزومًا وبدون تفاوض من الجنوب اللبناني، مكرسًا- ولأول مرة- في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، قدرة طرف عربي على دحر الاحتلال الاسرائيلي بدون قيد أو شرط، وبدون معاهدة سلام.

لقد أخبرت الدراسات والمذكرات التي أصدرها العديد من القادة الاسرائيليين المواكبين لتلك الفترة،  الكثير عن خفايا تلك الحقبة، ومنها كتاب بعنوان " الشفق: القصة الحقيقية لانسحاب جيش الدفاع الإسرائيلي من لبنان" مؤلفه عاموس غلبوع، رئيس وحدة الأبحاث السابق في "جهاز الاستخبارات العسكرية - أمان".

يتحدث الكاتب عن مواجهة بين المستويين العسكريّ والسياسيّ، حول الخروج من لبنان. اعتقد الاسرائيليون أن التوصل الى اتفاق مع سوريا، يجعل "لبنان تفصيلاً صغيرًا" يمكّنهم من الانسحاب بأقل الخسائر. لكن، فشل اللقاء الذي جمع الرئيسين بيل كلينتون وحافظ الأسد في جنيف، جعلهم يقررون الاسرائيليون الانسحاب من لبنان بناءً على اتفاق مع الأمم المتحدة، يستند على القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن، وذلك للتأسيس على "شرعية دولية تمنع حـزب الله من مواصلة القتال ضد اسرائيل أو مهاجمة الجليل".

في هذا الاثناء، استفاد حزب الله من القرار الاسرائيلي ورغبته بالانسحاب، فصعّد عملياته ضد قوات "جيش لحد"، مما سرّع بانهياره، وانهارت معه دفاعات الجيش الاسرائيلي، فحصل الانسحاب على وقع انهيارات دراماتيكية مباغتة، ما دفع بالاسرائيليين الى ترك الأعتدة العسكرية في مكانها، وعدم القدرة على حرق المنشآت والوسائل، وذلك بحسب ما قاله يهود باراك في مقابلة مع صحيفة معاريف.

الأكيد أن الاسرائيلي لم يهضم هذا الانسحاب المذلّ، فكانت حرب تموز 2006. وبعكس الاتهامات السياسية العربية واللبنانية التي اتهمت حزب الله بالتسبب بالحرب، كانت هناك اعترافات اسرائيلية واضحة بالتخطيط لتلك الحرب.

وفي تصريح له على القناة العاشرة - التلفزيون الإسرائيلي في 02/02/2008،  صرح قائد المنطقة الشمالية خلال حرب تموز الجنرال احتياط ايال بن رؤوبين:" أما وأن كل شيء قد بات واضحًا، فلا بد من إيقاف كل محاولات التذاكي وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية.... الجيش الإسرائيلي كان قد أعدّ خطة حربية، وكان ينتظر الفرصة المؤاتية، كما أجرى تدريبات مختلفة ومطوّلة على حرب محتملة ضد لبنان.."  ويضيف:"إذاً أنا أؤكد الآن أنه كانت هناك خطط معدّة للحرب منذ فترة طويلة نسبيًا قبلها، وإحدى تلك الخطط سُميت باسم "مياه الاعالي"، التي بدورها كانت خطة معدّلة عن الخطة التي وضعتها بنفسي".

إذًا، يُحسب للبنان هزيمة اسرائيل عسكريًا مرتين خلال عقد من الزمن، كانت نتيجتهما اكتساب قوة ردع وتوازن في وجة الآلة العسكرية الاسرائيلية، وبقاء التهديدات الاسرائيلية حبرًا على ورق، بسبب الكلفة العالية لتنفيذها.

وهكذا، يكون لبنان الصغير مساحة وجغرافيا والأضعف قوة اقتصادية وعسكرية، قد حقق ما عجزت عنه دول كبرى قوية في المنطقة، تهرع اليوم للاستسلام والتطبيع مع اسرائيل.

لكن، ما حققه اللبنانيون في الميدان العسكري من بناء قوة ردع جعلت لبنان في مصاف الدول القادرة، أضاعه سياسيوه في حسابات ضيقة وهدر وفساد حتى بات لبنان "الأضعف" والأقل قدرة على مقاومة الضغوط الخارجية.

لقد استمر اللبنانيون في الهروب الى الأمام، وإضاعة الفرصة تلو الأخرى، فلم يقرروا بناء دولة قوية قادرة، ولم يسعوا لتذليل العقبات أمام بنائها. قام السياسيون اللبنانيون بتسويات سياسية، أطلقت يد الدولة العميقة في السرقة والنهب والفساد والإفساد، وممارسة الفجور مقابل سكوت الفئات الأخرى، حفاظًا على ما اصطلح تسميته "السلم الأهلي" و "درء الفتنة" و"التفاهم الوطني" وسواه... كل ذلك، رهن القرار اللبناني للخارج، وجعل اللبنانيين يتسولون على أبواب صندوق النقد الدولي، ولا يجرأون على تحدّي القرار الخارجي الذي يمنع التواصل مع سوريا، أو إقالة حاكم المصرف المركزي أو سواه من القرارات التي تعتبر شأنًا من الشؤون الداخلية اللبنانية.

نعم، ربح اللبنانيون الأرض والكرامة في معركتهم ضد اسرائيل، ولكنهم خسروا سياسيًا في معركة السيادة الوطنية، وخسروا في معركة بناء الدولة.. في ذكرى مرور عشرين سنة على تحرير لبنان، نبقى على أمل، أن لا نخسر الوطن إذا خسرنا معركة استئصال الفساد وحكم القانون واستعادة الأموال المنهوبة.

2020/05/25

لبنان وأزمة الغذاء.. حلول تحتاج لجرأة سياسية


كان لافتًا تحذير رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب من أزمة غذاء قد تضرب لبنان، كما معظم دول العالم بسبب وباء كورونا، علمًا أن لبنان يعاني منذ ما قبل كورونا من أزمة اقتصادية كبرى، سببها - بالدرجة الأولى- الفساد والسرقة ونهب الخزينة العامة التي قام بها السياسيون المتعاقبون على الحكم منذ 30 عامًا، بالإضافة الى نموذج الاقتصاد الريعي الذي شجّع دائمًا الاستيراد على الانتاج، والذي جعل من المتعذر على المزارع اللبناني انتاج الغذاء بسعر أقل من كلفة استيراده.

من هنا، يبدو من المنطقي أن تكون قضية "الأمن الغذائي" من أولويات الحكومة اللبنانية، أي العمل للوصول الى القدرة على توفير احتياجات الغذاء الأساسية لأفراد الشعب، وضمان وجود حد أدنى من تلك الاحتياجات بانتظام وبدون انقطاع، وبشكل يستطيع معه الجميع الوصول إليها.

ولكن، عندما نتحدث عن الأمن الغذائي، فأننا ندرك أن تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل قد لا يكون ممكنًا، أي أن الزراعات اللبنانية وحدها قد لا يمكنها سدّ كل ما يحتاجه اللبنانيون من احتياجات أساسية (أقلّه في المدى المنظور)، وعليه، يجب أن ننظر الى إمكانية تأمين هذه الاحتياجات من خلال الانتاج المحلي، واستيراد الجزء الآخر من الخارج. 

وعلى هذا الأساس، على الحكومة اللبنانية، النظر الى الأمن الغذائي بنظرة اقتصادية شاملة، أي بالتركيز على السياسات الاقتصادية ككل، والأداء الوظيفي للإقتصاد اللبناني الشامل، فالقضية أبعد من توازن بين عدد السكان وانتاج الغذاء محليًا، بل يكمن في توفير قدرة الصناعات اللبنانية على التصدير، وهكذا يتوازن التصدير والاستيراد بالحد المقبول، فيستورد لبنان حاجاته الاستهلاكية ويصدّر الفائض لديه، فينشأ توازن مقبول نوعًا ما في الميزان التجاري.

وهكذا، نجد أن معضلة "نقص الغذاء" هي معضلة تعانيها معظم الدول التي تعاني التعثّر الاقتصادي، ولا تعني فقط عدم القدرة على انتاج الغذاء، أو عدم وجود وفرة من الغذاء في الأسواق، بل عدم قدرة المواطنين على شراء تلك المواد بسبب أسعارها الباهظة، أو بسبب عدم امتلاكهم القدرة الشرائية لتأمين الكافي من الغذاء.

وفي تفكير بحلول لما طرحه رئيس الوزراء اللبناني في مقاله في الواشنطن بوست، يمكن الحديث عن بضعة حلول آنية، وأخرى طويلة الأمد:

- أولاً: على الحكومة اللبنانية، التفكير بالامن الغذائي اللبناني بشمولية أكبر من قضية غذاء وانتاج زراعي، بالرغم من أهميته. على الحكومة العمل فورًا على آلية تشجيع الصناعة اللبنانية، والاستفادة من الخبرات المحلية والخارجية في مجال الجودة، بالاضافة الى تخفيض الرسوم والضرائب على المعامل اللبنانية، وذلك لتحقيق توازن اقتصادي مطلوب بقوة لتحقيق الأمن الغذائي الشامل.

ثانيًا: الانفتاح على السوق السوري والعراقي في أقرب وقت ممكن واستيراد المواد الغذائية والاستهلاكية من الجارتين الأقرب. وتشير الدراسات أن العراق قد استطاع في السنوات الأخيرة تأمين الاكتفاء الذاتي من الطحين والحنطة وبدأ بالتصدير. لذا فإن التباكي بأن أوكرانيا وروسيا - التي يستورد منهما لبنان القمح - قد أعلنتا وقف التصدير الى الخارج، هو عمليًا أمر سهل الحلّ وقد يكون مناسبة لتحقيق الانفتاح على الجوار الاقليمي.

إن مكابرة بعض اللبنانيين، والتلطي بالأمور السياسية والضغوطات الخارجية لعدم الانفتاح على سوريا، لن يؤدي سوى الى زيادة الصعوبات على اللبنانيين. إن إقفال المعابر غير الشرعية، هو أمر صحي ومفيد  للبلدين، ويجب أن يستبدل بتعامل حدودي رسمي. أما التذرع بالعقوبات الأميركية على سوريا، فيمكن للبنانيين أن يتفاوضوا مع الأميركيين بإصرار، كما فعل العراقيون وحصلوا على استثناء من العقوبات المفروضة على إيران... وهنا تكمن أهمية الموقف اللبناني السيادي في هذا الإطار.

2020/05/20

التطبيع وصفقة القرن:الآتي أخطر

فجأة وبدون مقدمات، دبّت الحياة في حملات "دعم التطبيع مع اسرائيل" في الدول العربية، وبات الحديث الاعلامي والسياسي بدون وجل ولا خجل حول ضرورة - واستفادة - الدول والشعوب العربية من علاقات جيدة مع "اسرائيل". وترافقت تلك الحملات مع ظهور مسلسل "أم هارون" على الشاشة العربية في رمضان، مع ما يسوّقه من ضرورة قراءة التاريخ العربي من زاوية أخرى، لإثارة التعاطف مع اليهود في الدول العربية باعتبارهم مواطنين تمّ التمييز ضدّهم وتهجيرهم.

علمًا أن هذه الحماسة والحمأة المستجدة، لا تبدو مستغربة ومثيرة للتساؤل، إذا ما قرأناها بالتكامل والتكافل كجزء لا يتجزأ من تسويق "صفقة القرن" التي تحاول إدارة الرئيس ترامب فرضها على الفلسطينيين والعرب.



وفي قراءة متأنية من زاوية مختلفة لصفقة القرن، لفهم السياق الاعلامي والثقافي المستقبلي الذي ستسير فيه الخطة خارج الإطار الأمني، نرى أن القادم من الأيام سوف يكون مرهونًا بقدرة داعمي الصفقة على تطبيق الشق الأخطر المرتبط بها والمؤدي الى التطبيع، وذلك ضمن ما يلي:



1- ضرورة البدء بالتطبيع "على الفور"

بالرغم من أن الوثيقة تعترف بأن الصراع الاسرائيلي الفلسطيني يمنع التطبيع مع الدول العربية الأخرى، ما يعني - منطقيًا- ضرورة حلّ الصراع قبل البدء بالتطبيع، لكن الوثيقة تلحّ على أن يبدأ التطبيع "على الفور"، للضغط لحلّ ذلك الصراع (بالاحرى تصفيته).

تقول الوثيقة: "مَنَع الصراع بين دولة إسرائيل والفلسطينيين البلدان العربية الأخرى من تطبيع علاقاتها والسعي المشترك لمنطقة مستقرة وآمنة ومزدهرة.... نعتقد أنه إذا قام عدد أكبر من الدول الإسلامية والعربية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، فسوف يساعد ذلك على دفع حلّ عادل ومنصف للصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ويمنع المتطرفين من استخدام هذا الصراع لزعزعة استقرار المنطقة".

وتضيف: "كما تأمل الولايات المتحدة أن تبدأ الدول العربية داخل المنطقة، التي لم تحقق السلام بعد مع دولة إسرائيل، على الفور في تطبيع العلاقات مع إسرائيل والتفاوض في نهاية المطاف على اتفاقات سلام مع إسرائيل".



2- تسويق رواية "التطبيع للمنفعة الاقليمية"

لا نستغرب إذا بدأ الاعلام في المرحلة القادمة بالتحدث عن منافع يأتيها التطبيع للعرب واسرائيل، إذ تذكر الوثيقة بأن "إسرائيل وجيرانها العرب الآن لديهم تصورات متشابهة بشكل متزايد حول التهديدات التي تهدد أمنهم (من قبل ايران)...لذا، فإن التطبيع وتسيير "رحلات جوية مباشرة بين دولة إسرائيل وجيرانها، ونقل الأشخاص والتجارة، وفتح الفرص لملايين الأشخاص لزيارة المواقع الدينية المقدسة" يخدم هذه الدول.



3- تغيير الروايات في العقل الجمعي العربي

يومًا بعد يوم، سوف نرى مزيدًا من محاولات تغيير سردية توصيف الصراع، فمن صراع على حقوق وأرض مغتصبة، سوف يتم صياغة روايات جديدة مختلفة السياقات تمامًا. من هنا، تأتي أهمية وضرورة تمويل وتسويق مسلسلات مثل "أم هارون" والذي لن يكون الأخير بالتأكيد...

وفي هذا الاطار تقول الوثيقة " إن قراءة الروايات السابقة حول الصراع غير مثمرة". ويجب " أن تتوقف كل الروايات التي تشكك في جذور الشعب اليهودي الأصيلة في دولة إسرائيل".



أما بالنسبة للصراع، فليس بعد الآن صراع بين محتل ومن احتلت أرضه، بل يجب تبنّي الرواية التي تتحدث عن أن الصراع الرئيسي في الشرق الأوسط اليوم - بحسب الوثيقة- هو "بين القادة الذين يرغبون في خلق فرص اقتصادية وحياة أفضل لشعوبهم، وأولئك الذين يتلاعبون بالدين والأيديولوجية من أجل إثارة الصراع وخلق أعذار لإخفاقاتهم".



- تسويق فكرة "المساواة في الظلم والحقوق" بين الفلسطينيين واليهود

تتحدث الوثيقة عن أن "الصراع العربي الإسرائيلي تسبب في مشكلة اللاجئين الفلسطينيين واليهود على حد سواء". وتقول بأن "عدد اللاجئين اليهود الذين طردوا من الأراضي العربية بعد فترة وجيزة من قيام دولة إسرائيل، مماثل لعدد الفلسطينيين المهجرّين"، لذا "يجب أيضًا معالجة قضية اللاجئين اليهود، بما في ذلك التعويض عن الأصول المفقودة". وعليه، "إن إسرائيل تستحق التعويض عن تكاليف استيعاب اللاجئين اليهود من تلك البلدان".



- الترويج لثقافة الاستسلام تحت عنوان "السلام"

من المطلوب من آلة الدعاية الاعلامية، أن تركّز على ما تسميه الوثيقة "ثقافة السلام"، والتي تعني: "وضع حد للتحريض، بما في ذلك في وسائل الإعلام، وكذلك وضع حدّ لتمجيد العنف والإرهاب والشهادة". والمطلوب من العرب والفلسطينيين: "حظر الدعاية المعادية، وتغيير الكتب المدرسية والمناهج والمواد ذات الصلة بما يحقق هدف اتفاق السلام الإسرائيلي الفلسطيني".



- شيطنة أشكال المقاطعة

تؤكد الوثيقة على ضرورة إنهاء "أي مقاطعة لدولة إسرائيل". وتنظر الولايات المتحدة إلى "حركة المقاطعة على أنها مدمرة للسلام".

في المحصلة، يمكن القول انه بموازاة الشق الأمني والسياسي يسير الشق الاعلامي والثقافي، وقد يكون الأخطر لاعتماده على القوة الناعمة، لتسويق صفقة القرن ولجعل قضية فلسطين مجرد قضية اقتصادية، مبنية على قضية يستغلها حكام متعصبون طائفيًا للتغطية على فشلهم في إدارة بلدانهم، وللقضاء على أي فرص للسلام يمكن أن تعيشها الشعوب جنبًا الى جنب في الشرق الأوسط... فإذا سارت هذه الرواية، انتهت قضية الحق وصارت مجرد جزء من صراع نفوذ بين محورين.

2020/05/18

لبنان: ننجح معًا أو نسقط جميعنا

أعلن رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب إعادة فتح البلاد تدريجيًا، بعدما تبين عدم قدرة اللبنانيين على الاستمرار في تحمّل تبعات الإقفال، خاصة وأن لبنان يعاني من الإقفال ومن الضغوط الاقتصادية منذ ما قبل ثورة 17 تشرين.

وفي الحديث عن إعادة فتح الأسواق وإنهاء العام الدراسي، حصل كثير من الانتقادات للقرار الحكومي، وذلك على خلفية ما قاله وزير الصحة من أن "المناعة التدريجية" هو الهدف الذي يجب أن نصل إليه. علمًا أن قرار المناعة التدريجية أو ما يسمى "مناعة القطيع" هو ما تطبقه جميع الدول في العالم، بعدما تبين أن الفيروس قابل للتحوّل كما أعلنت منظمة الصحة العالمية، وأن على البشر أن يتعاملوا معه بأنه سيستمر بيننا، وأن اللقاح قد لا ينفع مع فيروس يصيب البشر والدول بطريقة مختلفة ومتحوّلة دائمًا.

وكانت دول عدّة، منها السويد على سبيل المثال، قد سارت باستراتيجية مناعة القطيع ولم تقفل الأسواق، وفرضت على مواطنيها اجراءات "غير قسرية" توصي بالتباعد الاجتماعي، ومارست حماية الفئات الأضعف، وإقفلت المدارس الخ..

ولنجاح هذه الاستراتيجية، يمكن أن نشير الى ما قاله الرئيس حسان دياب، من ضرورة عزل المناطق التي ينتشر فيها الوباء، وهذا أمر منطقي يسمح لباقي مناطق لبنان بالعيش ضمن اجراءات مقبولة في ظل فتح الأسواق.

وهذا الأمر سيعطي البلديات صلاحيات أوسع، وهو الأمر الذي يجب ان تتجه اليه جميع الخطط الحكومية في المستقبل، ففي معالجة أزمة النفايات، وبالرغم من أن الأزمة ستكون أسهل في حال عالجت كل بدلية نفاياتها، لكن الحكومات المتعاقبة استمرت تشدد على الحلّ المركزي للنفايات وذلك لأسباب عدّة أهمها؛ استفادة السياسيين وأزلامهم من تلزيم الشركات لجمع وطمر النفايات، كما في حالة سوكلين ورامكو وغيرها، وقيام وزارات المالية المتعاقبة بحجز أموال البلديات لفترات طويلة، ما منع الإنماء وهمّش المناطق الريفية.

واليوم، على البلديات أن تقوم بدورها، في مراقبة وتتبع حالات الوباء في محيطها، والقيام باجراءات العزل والتعقيم، وفرض الحجر الالزامي على العائدين ومنع التفلت وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا عبر السلطات المحلية، وعلى المعنيين إعطاء الصلاحيات والموارد اللازمة للسلطات المحلية، بعدما تبين فشل الحلول المركزية، والتي ستؤدي الى موجة جديدة من الانتشار الوبائي الذي لا يمكن احتواؤه.

في المحصلة، حسنًا فعلت الحكومة اللبنانية بقرارها الجريء بمواجهة الوباء، وعدم الاستمرار في سياسة الحجر المنزلي التام، التي ستؤخر عملية المناعة، وستدمر الاقتصاد، وستدفع البلاد الى مزيد من الانهيار. وإذا كانت التجربة اللبنانية اليوم مقلقة بالطبع للعديد من الناس الخائفين على صحتهم وصحة أولادهم وأحبائهم، يمكن للبنان الاستفادة من تجارب أخرى في العالم، لكن يبقى على الحكومة والقوى الأمنية ممارسة أقصى درجات التشدد في ضبط المخالفين، ومنهم العائدين الذين يتصرفون بلا مسؤولية، والمصابين الذين يرفضون حجر أنفسهم، والمتظاهرين الذين ينزلون الى الساحات معرّضين الجميع للخطر، تحت ذريعة "حق التظاهر المشروع"...

لبنان أمام مفترق تاريخي، والالتزام والتضامن مطلوب من الجميع بدون استثناء، فإما أن ننجح معًا في كسب المناعة المجتمعية كما نجحنا في احتواء الوباء في المرحلة الاولى، وإما نسقط جميعنا وننتقل من مراقبة عداد الدولار، الى مراقبة عداد وفيات الكورونا.

2020/05/12

سقوط "الترامبية"؟


للشهر الرابع على التوالي، ما زال العالم يضجّ بأخبار فيروس كورونا المستجد، ويحاول التأقلم مع نتائجه. وبالرغم من إعلان معظم دول العالم عن توجهها لإعادة فتح الأسواق والمعامل خلال شهر أيار/ مايو الحالي، إلا أن تداعيات الفيروس لن تتوقف على النتائج الاقتصادية بل ستتعداها الى العديد من النتائج السياسية في الولايات المتحدة والعالم، وأهمها قد يكون سقوط الظاهرة "الترامبية".

ومن المفيد الذكر، أن الظاهرة الترامبية، لا تعني حصرًا، الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحده، بالرغم من أنه بصفته قائدًا للغرب، يعتبر من الملهمين لكثير من القيادات التقليدية المحافظة واليمين الذي يأخذ جرعات دعم من صمود ترامب في الولايات المتحدة ومواقفه المثيرة للجدل.

أما المقصود بالترامبية، فهي ظاهرة السياسيين أصحاب النزعة الشعبوية غير الدبلوماسية، والذين استفادوا من ممارسة السياسات اليمينية التي نمت بسرعة بفضل عودة المشاعر الوطنية أو القومية في كل ركن من أركان العالم تقريبًا، ولكن بشكل خاص في معظم أنحاء أوروبا والولايات المتحدة. وكان ترامب، الواصل على سدة الرئاسة في الولايات المتحدة عبر شعار "أميركا أولاً" يشجع البلدان التي تسير بالفعل على هذا الطريق (المصلحة الوطنية أولاً) على مواصلة السير فيها وحثّ الآخرين على اعتمادها.

وهكذا، تضم الترامبية العديد من قادة دول العالم، مثال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وغيرهم ممن يتشابهون مع ترامب في المواصفات القيادية، والعبارات النابية، والخطابات القومية الشعبوية الخ.. أما من ناحية السياسات، فيتشابه هؤلاء في رفضهم لسياسات الهجرة واعتبارها مصدرًا لخراب الاقتصاد وتدميرًا للهوية الوطنية، كما رفض السياسات العالمية ذات الطابع التعاوني التعددي وتفضيل الاتفاقات الثنائية طمعًا بتحقيق المكاسب الأكثر الخ..

وفي التعامل مع جائحة كورونا، نجد أنه - كما ترامب - تعامل الرئيس البرازيلي مع الجائحة باستخفاف، وشجع الناس على الخروج لمزاولة العمل ومنع انهيار الاقتصاد، لكن الأمر اسقط من يده بعدما حسمت المحكمة العليا الأمر، واعتبرت أن القرار يتخذه حكام الولايات والبلديات، فما كان منه إلا أن دعا أنصاره للنزول الى الشارع للاحتجاج على أوامر الإغلاق. وفي ردٍ على سؤال بشأن تخطي حصيلة الوفيات نتيجة الوباء عتبة الخمسة آلاف، أجاب بولسونارو باستخفاف "وإن يكن" ما أثار موجة من الإستياء والسخط في البرازيل.

أما جونسون، فقد دعا الى عدم الاغلاق في بداية الأزمة، طالبًا من البريطانيين تقبّل فكرة وداع أحبائهم، قبل أن يضرب الوباء بريطانيا بشدّة ويضطر معها الى إعلان الاغلاق، وإصابة جونسون نفسه بفيروس كورونا ودخوله المستشفى.

وهكذا، نجد أن الترامبية لم تعرف كيف تتعامل مع الوباء وظهرت أنها تفضّل الاقتصاد على صحة الناس، وأن الخطابات الشعبوية لم تستطع أن تقدم حلولاً للناس في ظل أزمات وبائية خطيرة. وفي مقارنة نتائج استطلاعات الرأي ما قبل وما بعد كورونا، نجد أن اليمين الاوروبي في إلمانيا والسويد وغيرها، والذي كان يسجّل أرقامًا قياسية في كانون الثاني وشباط المنصرم، قد تراجع بشكل دراماتيكي، بينما نجد أن حزب ميركل وحليفها البافاري في إلمانيا، والحزب الاشتراكي الديمقراطي في السويد قد ارتفعت أسهمهم بقوة بعد النجاح في مواجهة كورونا.

وعليه، هل فعلاً سنشهد سقوط الترامبية وزوالها بعد كورونا؟

واقعيًا، وبالرغم من أن الديمقراطيين في أميركا واليسار الليبرالي في العالم، سيركّز في معركته مع اليمين على فشل السياسات اليمينية في التعامل مع الوباء وعلى الركود الاقتصادي الذي سيصحبه، لكن سقوط الترامبية، أو التيار اليميني صاحب النزعة القومية، يبدو مرتبطًا الى حد بعيد بقدرة ترامب على الصمود والنجاح في الانتخابات القادمة.

إذا استطاع ترامب الفوز في الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني المقبل 2020، تكون الأزمات الاقتصادية الناتجة عن كورونا أثبتت أنها غير قادرة على كسر السياسات القومية الشعبوية، أما إذا فشل ترامب، فسيؤدي سقوطه الى إضعاف اليمين في الغرب، وبالتالي إعطاء فرصة لليبراليين اليسار لاستفراد كل زعيم على حدى، وسيكون من المتوقع سقوط بولسونارو في الانتخابات البرازيلية القادمة عام 2022.

2020/05/11

بين بهاء وسعد: كيف يمكن تعويم الحريرية السياسية؟

في ظل الحديث عن عودة مرتقبة لموجة ثانية من تفشي وباء كورونا، وفي ظل قلق اللبنانيين ودعوة المسؤولين الى اللبنانيين للتقيّد بالحجر المنزلي وعدم تخطي إجراءات التعبئة العامة، تحدثت أنباء عن اشتباكات بالسلاح الأبيض بين أنصار رئيس الحكومة السابق سعد الدين الحريري، وأخاه بهاء الدين الحريري، بعدما برز الخلاف بين الشقيقين الى العلن عبر بيانات وبيانات مضادة، وعبر تجنيد الانصار والاعلاميين بالردّ وتوجيه التهم والشتائم.

وبغض النظر عن جوهر الخلاف الحقيقي بين الشقيقين، لا شكّ ان ما يحصل اليوم على الأرض يبدو من مفاعيل ثورة 17 تشرين التي أطاحت بسعد الحريري، بعدما حاول استثمارها وقيادة انقلاب على حلفائه كان مصيره الفشل وخروجه من السلطة خائبًا، والاتيان برئيس حكومة جديد من خارج "النادي" الذي يحرّكه مايسترو واحد.

وعليه، ما سيكون عليه مصير الحريرية السياسية، في ظل اشتباك الأخوة؟.

لا شكّ ان مصير الحريرية السياسية مرتبط الى حد بعيد بنجاح الحكومة وصمود تحالف الرئيسين عون - دياب لمكافحة الفساد وبناء الدولة، وعليه يمكن ان نفترض السيناريوهات التالية:

السيناريو الأول:

استمرار حكومة حسان دياب في تحقيق نجاحات تؤدي الى مكافحة جديّة للفساد ولجم سعر صرف الليرة، والقدرة على الصمود في وجه آلة الدولة العميقة التي تقاتل للعودة الى السيطرة على مفاصل الدولة.

في ظل نجاح هذا السيناريو، سيكون من الصعب على بهاء وسعد إعادة تعويم الحريرية السياسية، وبالتالي سيسبب الانقسام بين الشقيقين، مزيدًا من التشرذم وبالتالي خسارة مزيد من النفوذ لصالح قوى سنية أخرى، قد يكون منها حسان دياب أو سواه.

السيناريو الثاني:

نجاح الحريرية السياسية في استعادة مشهد إسقاط عمر كرامي، وهو ما تحاول فعله باستخدام شبكاتها المتعددة، منها رفع سعر صرف الليرة وتقويض الاستقرار الأمني والغذائي وسواها.

في هذا السيناريو، يحتاج الاخوة الاعداء، وفي صراعهما للوصول الى الحكم، للأخذ بعين الاعتبار، قدرتهما على إقناع أكثر من طرف:

- السعودية التي لها الكلمة الفصل في مصير تلك الزعامة. فبالرغم من كل الكلام النابي والاستفزازي الذي يوجهه سعد الحريري لجبران باسيل وتحميله مسؤولية الخروج من الحكم (وقد يكون بجزء منه صحيح)، إلا أن سعد وإعلامه يتجاهل دور السعودية في عدم عودته بدليل رفض سمير جعجع تسميته لرئاسة الحكومة.

- الثنائي الشيعي، والذي يبدو لغاية الآن متعاطفًا مع سعد الحريري، بدون مساعدته جديًا على العودة على حساب حسان دياب وحكومته التي بدأت تأخذ رضى اللبنانيين. علمًا أن الثنائي استمر - للحظات الأخيرة- يقدم التنازلات والتسهيلات لسعد الحريري للعودة الى السلطة!

- الرئيس عون، والذي قال يومًا لأنصاره "الحريرية حبل مشنقة، فاقطعوها قبل أن تؤرجحكم". واليوم، وبعد أن بدأ الرئيس عون مسيرة انقاذ عهده الذي كان مكبلاً بالتسوية لمدة سنوات ثلاث، بات من الصعب جدًا على الرئيس عون وأنصاره، القبول بالعودة الى الوراء وتعويم الحريرية السياسية (سواء عبر سعد أو بهاء)، مع ما تعنيه من إعادة دفن ملفات الفساد، وغضّ النظر عن الصفقات والسمسرات المحمية سياسيًا ومذهبيًا، والتي قوّضت الدولة ونهبتها، وكبّلت العهد بالصلاحيات الواسعة التي يملكها رئيس حكومة ما بعد الطائف.

2020/05/05

كيف سترد الصين على تهديدات ترامب؟


تسعى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الى اتهام الصين بتصنيع فيروس كورونا في مختبر البيولوجيات في ووهان وضرب العالم بوباء، وأنها، أي الصين، بالحد الأدنى قد تسترّت على خطورة الفيروس وحجبت المعلومات مما أدى الى تحوّله الى جائحة عالمية.

ولا شكّ أن ترامب يحاول أن يحقق أهدافًا عدّة من هذا الاتهام، لعل أبرزها:

- تشتيت الانتباه عما يقوله الديمقراطيون بأن ترامب لم يتعامل بشكل جيد مع الوباء، وأنه ضيّع الوقت في الادعاء بأن الموضوع "خدعة"، الى أن ضرب الوباء الأميركيين بدون هوادة.

- منذ مجيئه يركّز ترامب على الصين باعتبارها تهديدًا استراتيجيًا. صنّفت استراتيجية الأمن القومي الأميركي، الصين وروسيا كمنافستين استراتيجيتين. ولقد قام ترامب بمحاولة فرض قيود جمركية واستثمارية على الصين واتهامها بسرقة الملكية الفكرية من الولايات المتحدة. وبنتيجة الحرب الاقتصادية والتجارية مع الصين، استطاع ترامب أن يحصل على موافقة الصين على اتفاق تجاري تشتري بموجبه الصين من الولايات المتحدة بقيمة 200مليار دولار إضافة الى 40 مليار دولار ثمن المواد الزراعية التي كانت تشتريها سابقًا. واليوم، وبالرغم من ركود الاقتصاد الصيني، يهدد ترامب بإلغاء المرحلة الأولى من الاتفاق إن لم تفِ الصين بوعدها وتقوم بالشراء بحسب الإتفاق.

- محاولة تعويم الاقتصاد الأميركي الذي ضربته الجائحة بقوة، عبر فرض عقوبات (تحت عنوان التعويضات) على الصين، يحصّل بموجبها مليارات الدولارات. يأمل ترامب أن يستخدم هذا الأمر كما استخدم سابقًا الاموال التي فرضها على السعودية فرضًا تحت بند الاستثمارات أو شراء الأسلحة.

وفي كل الأحوال، وسواء استطاع ترامب تجديد ولايته أم لا، فإن ما سيعتمده من إجراءات عقابية ستفيد أي رئيس يأتي الى البيت الأبيض، إذ أن هناك إجماع حزبي في الولايات المتحدة على احتواء الصين.

ولقد أعلن الرئيس السابق باراك أوباما صراحة استراتيجيته "التوجه نحو آسيا"، ورغبته في إرسال الجيش الأميركي الى بحر الصين الجنوبي، والتي اعتبرت في ذلك الحين تحوّلاً استراتيجيًا كبيرًا يرد على التهديد الصيني المتزايد خاصة بعد الإعلان الصيني عن "مبادرة طريق الحرير الجديد". واقعيًا، كانت السياسة التي اعتمدها باراك أوباما تجاه الصين مزيجًا من الاحتواء containment، والتعاون والانخراط engagement، إلى حد دفع الباحثين إلى اعتبار سياسة أوباما تجاه الصين هي سياسة congagement.

وبينما قرر أوباما الاعتماد على الخيار العسكري بالدرجة الأولى، وتأليب المجموعات الداخلية الانفصالية لاحتواء التهديد الصيني، سعى ترامب الى اعتماد خيار الإقتصاد وتخفيف إعتماد الاقتصاد الأميركي على البضائع الصينية، وسحب الشركات الأميركية من السوق الصيني عبر إغرائها بتخفيف الضرائب.

وهكذا، يبدو أن مبدأ احتواء التهديد الصيني،  بات من الثوابت المستجدة في "الاستراتيجية الكبرى" الأميركية، علمًا أن الانخراط الأميركي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ تسمح للجيش الأميركي باللعب في نقاط قوته: القوات الجوية والبحرية الموجّهة نحو القوى الكبرى الأخرى.

وعليه، كيف يمكن أن ترد الصين؟

في مقابل التهديدات الأميركية المتزايدة، وبالرغم من قيام الصين بسياسة دبلوماسية - إعلامية هجومية مختلفة عما اعتمدته الصين في السابق، إلا أنه من المرجح ان لا تبادر الصين الى الهجوم في المجالات الاقتصادية والعسكرية، وأنها ستستمر في سياستها الدفاعية المعتمدة بشكل كبير على إخفاء القدرات، والتي تهدف الى إراحة الخصوم والحلفاء سعيًا وراء مزيد من اكتساب القدرات وبسط النفوذ بدون مقاومة.

2020/05/04

مقاربة مختلفة للأزمة اللبنانية


يعيش اللبنانيون على وقع الانهيار الحاصل اقتصاديًا وماليًا، وحجز أموالهم في البنوك، وارتفاع مخيف في أسعار السلع الغذائية، ما ينبئ بكارثة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، ويرجح أن تؤدي الى مظاهرات متجددة من الممكن أن تحشد أكثر بكثير من الحشود التي نزلت الى الساحات في 17 تشرين الاول 2019.

ومع هذه المقاربة السوداوية للوضع اللبناني، يمكن أن نجد بصيص أمل سياسي اقتصادي، إذا استطاع اللبنانيون تحويل التهديد الى فرصة، وفيما لو أرادوا التفكير جديًا بحلول عملية خارج إطار "الندب" الحاصل وتبادل الاتهامات بين أركان الطبقة السياسية، وهنا بعض الاقتراحات على سبيل المثال لا الحصر:

- تغيير الذهنية الاقتصادية التي تشجع الاستيراد على حساب الانتاج:

 ان ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة، وحجز العملات الصعبة في البنوك، يجب أن تشجع الزراعات والصناعات المحلية، وتطيح بالفلسفة الاقتصادية التي أرساها رفيق الحريري في التسعينات من القرن الماضي، حين قضى على الصناعات اللبنانية بحجة فتح الحدود وتخفيض الجمارك والوصفات الرأسمالية المتوحشة، في بلد غير مؤهل للمنافسة العالمية.

ويمكن أن نستذكر، في هذا الإطار، حوار جرى بين المطران الراعي، والرئيس رفيق الحريري في 23 تشرين الأول 1997، أورده النائب السابق نجاح واكيم في كتابه "الأيادي السود". ويورد واكيم أن الراعي أتى شاكيًا للحريري أن السنيورة ودمرجيان يستوردان حديد غير مطابق للمواصفات من أوكرانيا، ويعرضونه في السوق بسعر أقل بكثير من "كلفة" تصنيع الحديد في لبنان. وان معمل الحديد في عمشيت (الأول في الشرق الأوسط) قد قلّص عماله من 1500 عامل الى 250، وسيفلس في حال استمر الوضع على ما هو عليه... وبالفعل هذا ما حصل.

نعيد التذكير بهذه القصة، لأن قصصًا عديدة مشابهة حصلت، في قطاعات الألبسة والتصنيع الغذائي والسجاد وغيره، إذ باتت كلفة التصنيع في لبنان تفوق بأضعاف سعر القطع المستوردة، مما اضطر كثير من الصناعيين اللبنانيين الى الاقفال والاكتفاء بالاستيراد.

- أما بالنسبة للزراعة، فقد تدفع هذه الأزمة الى تشجيع الزراعة اللبنانية بشكل كبير، ليس للتجارة فحسب بل للاستهلاك الشخصي للعائلات أيضًا.

خلال الحرب، كان اللبنانيون يزرعون حول بيوتهم، ورويدًا رويدًا بعد انتهاء الحرب بات الجميع يشتري الخضروات والبقول وتصحّرت الأراضي الريفية.

إن الأزمة الحالية وارتفاع الأسعار، يجب بالتالي أن تشجّع أهالي القرى للعودة الى أراضيهم وزرعها، كما من المفترض أن تعيد الاعتبار للزراعات الخفيفة حول المنازل، والتي كانت دائمًا تتقاسمها العائلة مع جيرانها بسبب وفرة المحصول.

- أما على الصعيد السياسي، إن انهيار الوضع كليًا وعدم قدرة الطبقة السياسية الى الهروب الى الامام والترقيع، يجب ان تدفع القضاء الى الاطلاع بدوره في محاسبة الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة. الأمل كبير في حكومة من غير السياسيين، وفي دعم خارجي لهذه الحكومة بعدما تمّ الاقتناع أن الاستمرار في الرهان على طبقة سياسية غارقة حتى أذنيها في الفساد والسرقات لن تحقق للخارج مصالحه المفترضة في لبنان.