2018/12/27

هل يحفر ترامب فخًا لأردوغان؟

بشكل مسرحي مفاجئ أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب نيّته سحب جنوده من سوريا، ما استدعى استقالات من داخل إدارته وانتقادات من سياسيين واعلاميين أميركيين وأوروبيين. وكان اللافت ما نقلته شبكة سي أن أن الأميركية وقالت أنه مقتطفات من مكالمة هاتفية دارت بين ترامب، والرئيس التركي أردوغان، حيث قال ترامب لنظيره التركي: "سوريا كلها لك.. لقد انتهينا".
وتبدو هذه الخطوة والمكالمة لافتة ومفاجئة لجميع المراقبين، خاصة في أمرين:
الأول: إن إطلاق يد أردوغان في سوريا والقول "سوريا كلها لك"، يعني أن ترامب تخلى بشكل كلي عن الأكراد الذي استخدمتهم الولايات المتحدة كجيش برّي لقتال داعش، وتركهم فريسة لأردوغان، وهم الذين كانوا يعوّلون على الأميركيين لدعمهم في مطالبهم الإنفصالية. لطالما لعب الأميركيون دور الموازن بين الطرفين - الحليفين، أما اليوم فكأنما الولايات المتحدة تطلق يد أردوغان لينتهي من الظاهرة الكردية السورية، فيكونون أمام خيارين: أما الاستعانة بالأسد أو الاستسلام لأردوغان.
أما الأمر المفاجئ الثاني، فهو قيام ترامب بالإشادة بأردوغان. فمن المعروف أن الكيمياء مفقودة بين الرجلين، فبالإضافة الى تفضيله المملكة العربية السعودية، ومقايضته المال السعودي مقابل الدعم والمظلة الأمنية، كان الرئيس ترامب مستاء الى حدٍ بعيد من وقوف الأتراك ضد سياسته الشرق أوسطية وخاصة وقوف أردوغان ضد نقل السفارة الأميركية الى القدس، بالإضافة الى التصعيد اللفظي الذي مارسه أردوغان ضد الأميركيين خاصة في معرض قضية برونسون.
يجمع الأميركيون من الحزبين، أن شخصية أردوغان وغروره مسبب للكثير من التوتر على صعيد العلاقات الثنائية، ففي غياب مؤسسات قوية وفي احتكاره للسلطة، إن نظرة أردوغان إلى العالم والضرورات السياسية المحلية تدفعه الى تصعيد المواجهة  مع الولايات المتحدة وأوروبا. وبنتيجة الشحن الذي يقوم به أردوغان، والتصعيد اللفظي الذي يمارسه فإن 18 % فقط من الإتراك ينظرون نظرة ايجابية الى الولايات المتحدة ، و72% يعتبرونها تهديدًا كبيرًا لبلدهم ، علمًا أن استطلاعات الرأي تلك حصلت في وقت سابق (2017) لقضية برونسون وانهيار الليرة التركية كنتيجة للعقوبات الأميركية المفروضة على بلدهم.
كما يأخذ الأميركيون على تركيا، بحسب السفير الأميركي السابق في تركيا، بأنها تدير الدبلوماسية، باستخدام سياسة "اللوم، العار، ثم المطالبة" blame, shame and claim approach .
في المقابل، يدرك الأميركيون الاعتبارات الايديولوجية لأردوغان وتأثير السياسة المحلية على علاقاته الخارجية، لذا يحاذرون دائمًا من أي عمل يسعى الى إحراجه لإخراجه. كما يدركون أن السياسة الاستقلالية التي ينتهجها أردوغان لن تعود الى الوراء، لذا عليهم أن يبقوا على العلاقة معه، مع الأخذ بعين الاعتبار تأمين بدائل عن التعاون التركي في كل من العراق، وآسيا الوسطى والبلقان.
أما أهداف ترامب من توكيل حليفه اللدود أردوغان، فقد تكون متعددة، نذكر منها ما يلي:
- لا شكّ أن ترامب، ومن خلال الاعلان عن نيّته الانسحاب من سوريا وأفغانستان يريد حرف الأنظار عن الاحراج الذي يعانيه في الداخل خاصة في الأمور القضائية، لذا هو يحتاج الى أردوغان لتحميله مسؤولية مكافحة الارهاب بغياب الجنود الأميركيين، وذلك خوفًا من أي نتائج معاكسة وعودة داعش الى سوريا وتحمّله المسؤولية عن ذلك، كما حصل مع أوباما وانسحابه من العراق.
- برمي الكرة الى أردوغان، يعتقد ترامب أن الجيشين التركي والسوري (المدعوم من الايرانيين) قد يتقاتلان على بقعة الجغرافيا السورية التي سيتركها الأميركيون، وهذا يفيده ويفيد الاسرائيليين أيضًا. يدرك ترامب جيدًا أن الايرانيين والأتراك سيهرعون لسدّ الفراغ الاستراتيجي، ما يعني صدامهم الحتمي.
وبرأيي، إن الخيار الذي اتخذه ترامب بالخروج من سوريا لا عودة فيه، وسيتم تنفيذه، مع الإبقاء على قواعد عسكرية قريبة من الحدود العراقية السورية، ليبقى للجيش الأميركي قدرة على السيطرة على تدفقات السلاح والرجال ولإحتواء النفوذ الإيراني الممتد بين البلدين. بالطبع، لن يخلي الأميركيون الأجواء السورية بل سيقصفون الأهداف التي يعتقدون أنه ستمسّ بتوازن القوى، وسيتم سحب بعض الجنود الى الداخل العراقي معوّلين على قدرة دول التحالف الدولي (الغربية) والجيش التركي على سدّ الفراغ الذي ستخلّفه إعادة إنتشار جنودهم.
- أما الأهم، فيبدو الى أن كل ما يقوم به ترامب في سياسته الخارجية والداخلية هو تحضير للانتخابات الرئاسية القادمة عام 2020، لذا يبدو حريصًا على تنفيذ كل ما وعد به في حملته الانتخابية، بالاضافة الى توفير الأموال التي يتم صرفها في الحروب الخارجية وتحويلها لتحفيز النمو في الداخل وتشجيع الدورة الاقتصادية. وبالفعل فإن الارقام التي نشرتها وزارة الدفاع الأميركي تبدو مقلقة، إذ قدّرت حجم الكلفة العسكرية المباشرة للحروب الأميركية منذ عام 2010 بأنها بلغت 1.77 تريليون دولار؛ منها 756 مليار للحرب على العراق وسوريا، 730 مليار في الحرب على أفغانستان...

2018/12/20

صمت أوباما أو صراخ ترامب: من خدم الروس أكثر؟



يسود إعتقاد لدى العديد من الأكاديميين العرب والروس أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو أكثر حدّة ومواجهة للروس في سوريا، وأن الروس استفادوا من "تردد أوباما وعجزه"، ليفرضوا أنفسهم لاعبًا أساسيًا - بل اللاعب الأساسي- في سوريا، وأن الأمور قد تتغير بعدما تخطى ترامب ما سموه "الخطوط الحمراء" في المواجهة مع الروس بقصفه منشآتٍ سورية، وهو ما تردد أوباما في القيام به.
الواقع، إن هذه المقاربة تنظر الى الميدان السوري من زاوية ضيقة، وتغفل عن العديد من الحقائق الميدانية على الأرض، ونجد أنه من المفيد مناقشتها، خاصة بعد تردادها من أحد الدبلوماسيين الروس في مؤتمر الدوحة الإقليمي 2018 الذي انعقد نهاية الاسبوع المنصرم. عليه، سنعيد التذكير ببعض الأمور التي تثبت عدم واقعية هذه النظرة:
في آب 2011، بات هدف أوباما المعلن تغيير النظام في سوريا بكافة الوسائل، باستثناء الإنخراط العسكري المباشر للجيش الأميركي في القتال. إن إعلان استراتيجية "إسقاط النظام السوري" هذه من قبل أوباما كان دعوة صريحة للحلفاء والمؤسسات الأميركية الأمنية والسياسية والإعلامية ومنظمات المجتمع المدني للعمل لتحقيق هذا الهدف بشتى الوسائل؛ ففُرضت العقوبات الإقتصادية على سوريا، وبدأت برامج تدريب المسلحين السوريين، وتأمين وصولهم الى الداخل السوري عبر دول الجوار....
ومع الدخول العسكري الروسي المباشر الى الميدان السوري في 30 أيلول 2015، انتقل أوباما الى استراتيجية "الاستنزاف"، من خلال تحقيق توازن قوى، بحيث يقوم الأميركيون بإمداد المجموعات المسلّحة بالأسلحة والعتاد والتدريب، وتأمين مصادر تمويل، ليس بهدف إسقاط الأسد، بل بهدف الاستمرار بالقتال إلى ما لا نهاية، حيث يُنهك الجميع (الارهابيون، والروس، والإيرانيون، والجيش السوري، وحزب الله)، فيستفيد الأميركيون و"الإسرائيليون" من استنزاف الكل في "حرب الكل ضد الكل".
ولعل التهديدات الأميركية بأن حلفاءهم الخليجيين والسعوديين، وحتى الأتراك، قد يقومون بإمداد فصائل المسلحين السوريين بصواريخ مضادة للطائرات قد تكون جزءاً من التفكير الاستراتيجي الأميركي بتحويل الساحة السورية إلى "مستنقع" للروس، مستعيدين التجربة الأفغانية.
اعتقد الأميركيون خلال عهد أوباما أنهم يستطيعون ذلك، كما قال رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال جوزيف دانفورد، خلال جلسة استماع أمام لجنة القوات المسلَّحة في مجلس الشيوخ، حين اعتبر أنه ما زال من غير الواضح إن كانت روسيا قد باتت في مستنقع في هذا الوقت في سوريا، قبل أن يستدرك ويُطمئن بأن الأميركيين وحلفاءهم يملكون مجموعة واسعة من الخيارات العسكرية التي يمكن أن تساعد في تغيير الحسابات الروسية في سوريا.
وبالرغم من أوباما لم يقم بتدخل عسكري شامل ولا حتى محدود، في معرض ردّه على اتهام الجيش السوري باستخدام الكيماوي كما فعل ترامب (حيث قصف منشآت فارغة ولم يسقط أي ضحايا)، لكن أوباما لم يتردد في قصف الجيش السوري في جبل الثردة في أيلول 2016 حيث قامت طائرات التحالف (بالخطأ كما أعلن) بقصف مواقع للجيش السوري في دير الزور ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى في صفوفه، ومكّن "داعش" من السيطرة على جبل ثردة بمحيط مطار المدينة.
وفي بداية عام 2017، وبغض النظر عن الأسباب التي دفعت تركيا الى السير بمسار آستانا، إلا أن الملاحظ أنها حصلت وطُبقت في عهد ترامب، ولم يتم الإعتراض عليها أو تهديد الأتراك للخروج منها بالقوة كما حصل في معرض قضية القس برونسون... كما أنه في عهد ترامب بالذات، وبالرغم من لهجته الخطابية العالية النبرة، استطاع الروس تكريس نفوذهم في سوريا، والسماح للجيش السوري والحكومة السورية بالسيطرة على 75 بالمئة من الجغرافيا السورية، بينما كان أوباما يسير بسياسة عدم السماح بسقوط أي بؤرة للمعارضة المسلحة أو الإرهابيين في الداخل السوري.
وقد يكون لترامب أسبابه الخاصة في تطبيق هذه السياسة في سوريا، فهو يضع نصب عينيه - بعكس أوباما- احتواء ايران مهما كلفت الأثمان، ولو كان في ذلك إعطاء الروس مكاسب في سوريا مقابل الاتفاق معهم على تحجيم الدور الايراني داخل سوريا، بينما كان أوباما يرى الخطر الايراني أقل تهديدًا للمصالح الأميركية من عودة الروس الى الساحة العالمية عبر البوابة السورية، لذا اندفع الى توقيع الاتفاق النووي.
وهكذا، يكون الفارق بين قوة ترامب وقوة أوباما في الشرق الأوسط، هو القدرة على الصراخ وإطلاق التهديدات والشتائم، ويتطابقان في عدم الانجرار الى مواجهة مباشرة مع الروس. في الواقع، تتسم سياسة ترامب بالعدائية والشدّة ضد الايرانيين والفلسطينيين فحسب، بينما في عهده، تحقق للروس السيطرة شبه التامة على التفاعلات الاقليمية حول سوريا، ولم يعد بإمكان أي طرف إقليمي أو دولي أن يقرر أي شيء بدون موافقتهم.

2018/12/13

الحرب النفسية على لبنان: من يقوم بها؟ وما الهدف؟

حاولت اسرائيل وعبر ما زعمت أنه اكتشاف أنفاق لحزب الله ممتدة من بلدات جنوبية لبنانية ومتوغلة في أراضي فلسطين المحتلة، أن تمارس إرهابًا معنويًا على اللبنانيين عبر تأليب الرأي العام العالمي ضد لبنان وضد حزب الله. وقد سعى نتنياهو من خلال استدعائه اليونيفيل للتحقيق في قضية الأنفاق الى تأكيد صحة مزاعمه عبر بيان رسمي من قبل اليونيفيل بأن هناك فعلاً أنفاقًا في تلك المنطقة بدون أن تحدد من قام بها.
وكان لافتًا تعامل حزب الله الاحترافي مع القضية حيث استعمل سياسة الغموض البنّاء، وقام بتصوير الجنود الاسرائيليين في وضعيات متعددة، وتمّ الاستيلاء أسلحة من الجنود الاسرائيليين المتواجدين على الحدود مع لبنان، في أكثر الحروب النفسية احترافًا ودقة.
وتعتبر الحرب النفسية من أخطر من الحروب التي تُشنّ على عدو، وقد تفوق بخطورتها الحرب العسكرية المباشرة؛ وقد اعتبر نابليون بونابرت؛ أن حرب العقول أقوى من حروب الأسلحة، إذ إن "هناك قوتان في العالم فقط: العقل والسيف؛ وعلى المدى الطويل؛ العقل دائمًا ما ينتصر على السيف".
        تعرّف الحرب النفسية بأنها ممارسة التأثير النفسي بغرض تقوية وتدعيم الروح المعنوية لشعب الدولة مقابل تحطيم الروح المعنوية لشعب العدو، أي أنها المحاولات التي تقوم بها لتجعل عدوك يفقد الثقة، ويتخلى عن الأمل، ويتملك منه الخوف؛ حتى تتاح لك فرصة الفوز بسهولة. وتعرّفها موسوعة المعارف البريطانية بأنها استخدام الدعاية ضد عدو بهدف إضعاف الروح المعنوية لديه، وكسر إرادته في القتال أو المقاومة... وتستخدم لتعزيز موقع الحلفاء أو مقاتلي الجهة التي تقوم بها .
وعادة ما تترافق الحرب النفسية ضد العدو مع الدعاية السياسية، لإظهار تفوق النفس على الأعداء، ويكون أهم أهداف هذه الحرب ما يلي:
1.     إقناع السكان المحليين بدعم العملية العسكرية ضد حكومتهم أو على الأقل عدم إبداء الرغبة في المقاومة، إنطلاقًا من فكرة عدم القدرة على المواجهة.
2.     رفع المعنويات وسط صفوف الجيش والمجموعات المحلية العسكرية الصديقة عبر الدعاية السياسية المكثفة.
4.     خلق جو عام من النزاع الداخلي وسط صفوف العدو وإحداث فتنة وانقلاب بينهم، وتأليبهم على بعضهم البعض بحيث يسهل اختراقهم.
5.     إضعاف الروح المعنوية لدى العدو وإشعاره بالذلّ والخضوع والإنهيار الإدراكي.
وتقوم الدول من خلال الدعاية السياسية، بتسويق قدرتها على الانتصار على العدو، وإمكانية هزيمته بسهولة، وهو ما انفك الاسرائيليون يقومون به من خلال تهديدهم للبنان وغزة، والدعاية لجيشهم بأنه الجيش الذي لا يقهر والذي يستطيع أن يكبد الآخرين آلامًا وخسائر موجعة.
في مجال الاستراتيجيات الدعائية يمكن أن نميز بين نوعين من الاستراتيجيات: استراتيجية "الحقيقة"  واستراتيجية "الكذبة الكبرى".
استراتيجية "الحقيقة" تعني تقديم المادة الإعلامية للمستمع أو القارئ بشكل إخباري يراعى فيه أكبر قدر من الدقة والموضوعية، مع تمرير بعض الرسائل المفخخة ضمن سياق حقيقي وواقعي الى حدٍ كبير. أما استراتيجية "الكذبة الكبرى" فهي تعني تحريف أو تشويه المادة الإعلامية من أجل التلاعب بالرأي العام، وإغراقه بكمّ من الإشاعات بحيث يتعذر عليه تمييز الحقيقة أو معرفة حجم الكذب في الموضوع.
وفي هذا الإطار، يبدو لافتًأ تعامل بعض الاعلاميين اللبنانيين والعرب بطريقة التهويل على اللبنانيين، وقيام هؤلاء بممارسة حرب نفسية لصالح العدو، مدّعين "الحرص على لبنان" وتسخيف كل من يقول بأن اسرائيل غير قادرة على شنّ الحرب، طالبين من الجمهور "عدم الانجرار وراء أوهام عدم قدرة اسرائيل على شنّ الحرب"، وهم - سواءً بحسن نية أو سوء نية- يقومون بالتسويق للعدو والمساهمة في حربه النفسية علينا.
إن التسويق الذي يقوم به هؤلاء لاسرائيل، والتهويل بحرب كبرى ستشنّها اسرائيل على لبنان، وإن الوضع اليوم مختلف عما كان عليه في الأعوام السابقة حيث انخرط العرب في عداء مع ايران وحزب الله، وباتوا في وضع أكثر دعمًا لاسرائيل، هو بالضبط جزء من التسويق والحرب النفسية التي تخدم العدو، لكن هؤلاء تغاضوا عن حقيقة أن المقاومة اليوم أكثر قوة من ذي قبل واسرائيل أكثر وهنًا من ذي قبل، وأن بيئة العدو الداخلية غير مجهّزة للحرب، وأن ظروف ما بعد حرب سوريا ليست كما قبلها.
عمليًا، يحاول هؤلاء استعمال استراتيجيات كان قد استعملها النازيون والبريطانيون في الحرب العالمية الثانية....لقد استعمل الإعلام النازي هذه الاستراتيجيات بفعالية معتمدًا على الفكرة التي عرضها هتلر في كتابه "كفاحي" وهي أن الكذبة الكبرى التي يتم تردادها بشكل مكثف ووافٍ، سوف تصدقها الجماهير، جزئيًا إن لم يكن كليًا، إذ أن أكثرية الناس يفتقرون إلى سعة الأفق اللازمة لإدراك أن ترداد تصريحات بشكل مكثف وعلى لسان أكثر من جهة لا يعني صحتها....
لكن، مع اللبنانيين، وبعد الحروب التي تعرضوا لها، لم تعد تجدي هذه الحروب، وسيخرج الاسرائيليون ومن معهم ومن وراءهم من حربهم النفسية مع لبنان خاسرين كما في حروبهم العسكرية.

2018/12/06

مظاهرات فرنسا: هل تطيح النزعة القومية بالاتحاد الاوروبي؟

بدأت تظاهرات أصحاب "السترات الصفراء" منذ أسابيع ثلاث في فرنسا، احتجاجًا على ارتفاع أسعار الوقود، لتمتد في وقت لاحق للمطالبة باستقالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون احتجاجًا على السياسة الاقتصادية العامة لحكومته. وقد اتهم أعضاء من حكومة ماكرون اليمين المتطرف باستغلال تلك الاحتجاجات.
وبالتزامن، شهدت الانتخابات الإسبانية سابقة تاريخية، بوصول حزب "فوكس" اليميني المتطرف إلى البرلمان، وحصوله على 12 مقعدًا نيابيًا، وبذلك ضَمن الحزب لليمين الإسباني الأكثرية اللازمة لإنهاء أكثر من ثلاثة عقود من هيمنة اليسار الإسباني، أي منذ الإطاحة بحكم الديكتاتور فرانسيسكو فرانكو عام 1975، وخسارة آخر برلماني يميني مقعده في البرلمان عام 1982.
وشهدت الأعوام الأخيرة، صعودًا غير مسبوق لقوى اليمين المتطرف في جميع أنحاء أوروبا، بالتوازي مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ونجاح المتشائمين من مستقبل الاتحاد الاوروبي في إخراج بريطانيا من الاتحاد عام 2016.
وقد انتقل المدّ اليميني المتطرف الى كل من ايطاليا والنمسا وهولندا حيث حلّ حزب "الحرية"، في المركز الثاني في الانتخابات، وبات ثاني أكبر قوة في البرلمان بعد حصوله على 20 مقعدًا. والسويد التي تعاني من عدم قدرة الأحزاب على تشكيل حكومة منذ انتخابات أيلول 2018، وذلك بسبب عدم قدرتها على تخطي اليمين المتنامي شعبيًا. أما في إلمانيا فقد ارتفعت أسهم اليمين مع صعود تاريخي لحزب "البديل من أجل إلمانيا" ودخوله البرلمان الألماني إثر تحقيق 12.6 في المئة من الأصوات، ولقد أدّت الانتخابات الأخيرة وصعود كل من حزب "البديل" اليميني وحزب "الخضر" الى إنهاء مستقبل أنجيلا ميركل السياسي.
ويبدو اليوم أن المدّ اليميني القومي يأتي نتيجة لأمرين: الإسلاموفوبيا وكره الأجانب، وكرد فعلٍ على العولمة النيوليبرالية.
واقعيًا، لطالما شكّل مفهوم الهوية القومية عاملاً مقلقًا للأنظمة الأوروبية، وقد أدّى الى الإطاحة بالأنظمة الدولية التي عرفها العالم، كما أدّى الى حروب كبرى خاصة إذا ما ترافق المدّ القومي مع أزمات إقتصادية ساهمت في تعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء، ومزيد من التهميش للمجتمعات، ويمكن أن نذكر في هذا الإطار، ما يلي:
- ساهمت ثورات أوروبا أو ما يعرف بربيع الشعوب الاوروبية الذي بدأ عام 1848، بسقوط نظام "الوفاق الاوروبي" الذي تأسس كأول نظام دولي عام 1815. ثم ساهم ارتفاع أسهم الأحزاب اليمينية (النازية والفاشية) بين الحربين العالميتين، بالإضافة الى عدة أسباب سياسية وإقتصادية (أزمة الكساد العالمي 1929) الى قيام الحرب العالمية الثانية.
- من جملة الأسباب التي أدّت الى سقوط الاتحاد السوفياتي، كان يقظة القوميات في أوروبا الشرقية، التي برزت كردّ على محاولة طمس الهوية الثقافية والاجتماعية والسياسية لتلك الدول والاستعاضة عنها بفكر أممي اشتراكي عابر للحدود.
أما اليوم، وبعد سيادة عصر العولمة النيوليبرالية، التي حاولت أن تفرض نمطًا آحاديًا من الثقافة على جميع العالم، كما اعتبرت أنه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بات بالامكان فرض المفاهيم الليبرالية على جميع الشعوب والأمم، وباتت الخصوصيات الثقافية والاجتماعية أمرًا من الماضي... عادت العصبيات القومية الى الظهور، كردِ فعلٍ على محاولة فرض "شمولية ليبرالية" تنكر على ما عداها إي إمكانية للتميّز أو مخالفة "الأمر السائد" mainstream، والإدعاء بالصوابية السياسية  المطلقةpolitical correct حتى باتت تشبه الى حدِ بعيد الشمولية الثيوقراطية.
إن يقظة القوميات الأوروبية باتت تهدد مستقبل الإتحاد الاوروبي برمّته، في ظل انتشار فكر عنصري، يجد في السيادة والخصوصية الثقافية والقومية أمرًا يدفعه الى التمييز ضد الإجانب بغض النظر عن مدى اندماجهم في المجتمعات الأوروبية ومدى حاجة تلك المجتمعات لهؤلاء الطاقات "المهاجرة" من دول العالم الثالث، خاصة المسلمين منهم. والسؤال المقلق فعلاً، هل يكرر الاوروبيون تاريخهم فيكون مصير مسلمي أوروبا  في القرن الحادي والعشرين كمصير يهود أوروبا في القرن العشرين؟.