2021/06/21

مَن يضع المسيحيين بين خيارين: التقوقع أو الهجرة؟


فجأة ظهرت على الساحة الاعلامية والسياسية أحاديث وخطب وبيانات تتحدث عن دور المسيحيين ووجودهم في لبنان، فادّعى البعض أن الوجود المسيحي في لبنان يمكن أن يختصر بقريتين، وادعى البعض الأخر أن ممثل المسيحيين الأول في النظام، وهو رئيس الجمهورية، لا يحق له بأي مشاركة في السلطة التنفيدية، لا تمثيلاً ولا تصويتاً ولا مجرد رأي، وذلك في تنكّر واضح للدستور اللبناني والمادة 53 منه.

وبكل الأحوال، وفي النظر الى السياق التصاعدي للخطابات المتعلقة بتشكيل الحكومة، نجد أهدافها الداخلية كما يلي:

-      محاولة الحصول على تنازلات تتعلق بالتدقيق الجنائي ومكافحة الفساد ونهب المال العام. لذا فإما أن يكون سعد الحريري رئيساً للحكومة، فيدفن التدقيق الجنائي بواسطة الاكثرية التي يمتلكها هو وحلفائه من الترويكا، أو أن يتم المقايضة على الحريري بتسوية، يتم فيها التضحية بسعد مقابل التنازل عن التدقيق الجنائي.

-      وفي إطار آخر، يبدو أن السياسيين وبعدما أمعنوا في نهب المال العام، يعمدون اليوم ضمن سياسة الهروب الى الامام، على تخويف الطوائف، والتي ستندفع بدافع الخوف الى أن تكون أمام حلّين: التقوقع والانعزال او الهجرة.

ولعل أكثر المستهدفين اليوم في هذا التخويف، هم المسيحيون الذين يشعرون بأن هناك مَن لم يتقبل أن يعود دورهم في النظام، فلطالما قامت قوى الترويكا بهضم حقوقهم وتعيين ممثلين للمسيحيين موظفين لدى الحريري الأب، أو ممن يرضى عنهم الأطراف الأخرون.

والمؤسف أن هذا الخطاب الطائفي يعطي دفعاً للقوى اليمينية لدى المسيحيين، والذين نادوا دائماً بضرورة تأسيس "كونتون" يسكنون فيه لوحدهم ووذلك بسبب خوفهم من الذوبان في محيط اسلامي طاغٍ، فينادون بالتقوقع والانغلاق انطلاقاً من باب حفظ الوجود والذات.

في المقابل تتراجع مع هذه الخطابات قدرة المسيحي المنفتح على الصمود، وهو الذي يرفض اعتباره "بقايا جالية صليبية" في هذا الشرق، ويؤكد دائماً أنه جزء لا يتجزأ من قضايا الأمة العربية، وأن مصيره مرتبط بشكل وثيق بمصير الأمة ككل، وينادى بوحدة المصير مع المسلمين.

بات من الصعب على هذا الجزء الأخير من المسيحيين أن يصمد، وهو الذي يعتبر ان وجوده كأقلية لا يشكل له تهديداً من المسلمين، وأن حفظ دوره ووجوده يقضي بالانفتاح على المحيط والالتزام بقضاياه مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية والتعددي. ففي ظل هذا السعار الطائفي لا مكان للانفتاح ولا لاحترام حق الآخر في الاختلاف ولا لعيش مشترك حقيقي.

فعلياً، كشفت الأزمة الحكومية زيف كل شعارات التعايش، ومعانقة الصليب والهلال، والنفاق الذي يعيشه اللبنانيون منذ زمن، فكل الادعاءات السابقة بأن لبنان لا يستطيع أن يحلّق إلا بجناحيه، لم تكن سوى دعايات ممجوجة من قبل سياسيين وأفراد تشرّبوا الطائفية والمذهبية منذ الصغر.

لقد دمرت الميليشيات الدولة خلال الحرب، ونهبت ما تبقى من مقدراتها ومدخرات اللبنانيين بعد الحرب، للافلات مما اقترفته والحصول على عفو عام مالي، يبدو أن هذه الطبقة السياسية مستعدة لإحراق لبنان وتدمير الهيكل على مَن فيه. 

2021/06/20

مصير الاتفاق النووي بعد الانتخابات الايرانية


 نجحت ايران في تخطي الانتخابات الرئاسية التي كانت تقريباً معروفة النتائج، إذ توقّع الجميع أن يفوز السيد ابراهيم رئيسي في الانتخابات الرئاسية بفارق كبير، بالاضافة الى أن نسبة المشاركة وهي الأدنى في تاريخ الجمهورية الاسلامية كانت متوقعة أيضًا، لأسباب عدّة منها عدم وجود مرشحين جديين يستطيعون التأثير على وصول رئيسي الى السلطة، واعتقاد الايرانيين أن أصواتهم لن تكون ذا تأثير على النتائج.

 

وفي ظل وصول محافظ الى السلطة في ايران، تطرح مسألة العودة الى الاتفاق النووي، والتفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية، وهنا يطرح على بساط البحث سيناريوهين:

 

السيناريو الأول: الوصول الى اتفاق بين إيران والولايات المتحدة قبل تسلم رئيسي السلطة رسمياً في شهر آب / اغسطس المقبل

 

في هذا السيناريو الأول والذي قد يرغب به الاميركيون وحكومة روحاني على حد سواء، يعني أن يقوم المفاوضون الايرانيون ومعهم الدول المشاركة في مفاوضات فيينا، بتسريع الاتفاق على رفع العقوبات الأميركية، مقابل عودة إيران الى الالتزام بكافة مندرجات الاتفاق النووي، والاتفاق على آلية لذلك.

 

ويهدف هذا السيناريو للتخلص من الاشكاليات المرتبطة بتغيير الوفد المفاوض، والمقاربة الايرانية "المحافظة" الجديدة التي ستكون أكثر تشددًا في قبول الشروط الأميركية، وذلك سيؤدي الى إطالة أمد المفاوضات والدخول في مراوحة من الأفضل تجنبها.

 

من جهة الولايات المتحدة الأميركية، قد يكون من الافضل للإدارة الجديدة أن تصل الى اتفاق خلال الاسابيع القادمة، قبل تسلّم رئيسي  السلطة والمجيء بوفد تفاوضي جديد، ما يعقّد مسألة التفاوض وكأنها سوف تبدأ من نقطة البداية مع ما يعني هذا من تأجيل وتفاوض بشروط مضادة جديدة هي بغنى عنها.

 

تحتاج الإدارة الأميركية الجديدة، الى أن تحقق اتفاقاً مع ايران وتقيم ترتيبات مفترضة في الشرق الاوسط لتتفرغ لبرنامجها لاحتواء الصين، وهذا يعني أن تعطّل على الصين امكانية المنافسة في منطقة حيوية جديدة، ولقد بات تحقيق الاستقرار النسبي في الشرق الاوسط أكثر إمكانية في ظل خروج نتنياهو من السلطة في اسرائيل.

 

السيناريو الثاني: عدم الوصول الى اتفاق، واستكمال التفاوض بعد تسلم رئيسي السلطة

 

هذا السيناريو يبقى مطروحاً، ولا يعني عدم القدرة على الوصول الى اتفاق بعد شهر آب/ أغسطس القادم موعد تسلم رئيسي السلطة قانونياً.

 

وبالرغم من أن السيد رئيسي وضع نصب عينيه حلّ المسألة الاقتصادية الداخلية، والوصول الى الاقتدار الداخلي والاكتفاء، فإن تحقيق هذا الهدف يرتبط الى حدٍ بعيد بإعادة إحياء الاتفاق النووي والتخلص من العقوبات المفروضة على ايران. كما إن نجاحه في الداخل وتحقيق الاستقرار والرفاه الاقتصادي سيعزز فرصه بأن يكون الوريث الفعلي للسيد علي خامنئي في منصب القائد الأعلى.

 

علماً أن السيد ابراهيم رئيسي أو اي رئيس آخر لم يعد يستطيع التراجع عن الاتفاق النووي، إذ أن السياسة الخارجية، وفقًا للدستور، عادة ما ترتبط من بالقائد الأعلى في النظام، فلا يمكن لوزارة الخارجية أو الحكومة أن تسير في معاهدة لا تحصل على رضى المرشد الأعلى، وعليه لا يمكن لأي رئيس أن يبطل الاتفاق النووي طالما هذا الاتفاق وتطبيقه ما زال يحظى بموافقة ومباركة المرشد.

 

وكان رئيسي قد أعلن خلال الحملة الانتخابية، أن "الاتفاق النووي ببنوده التسع التي نالت موافقة القيادة العليا في إيران كغيره من المعاهدات يجب الالتزام بها، ولكن تطبيق الاتفاق يحتاج إلى حكومة قوية في الداخل، فالاقتدار الخارجي ينبع من الاقتدار الداخلي".  وهذا يعني أن حكومة رئيسي القادمة لن تتخلى عن الاتفاق او عن المسار التفاوضي، لكنها ستستخدم آليات – تعتبر برأيه – أكثر فعالية وقوة وصلابة في التعامل مع "الأعداء"، وما هو قد يطيل أمد المفاوضات ويعقّدها قبل الوصول الى اتفاق نهائي مع الولايات المتحدة الأميركية.

 

وبين هذين السيناريوهين، يبقى الأمر رهن الموقف الأميركي، حيث هناك اتجاه جدّي لدى الدول المفاوضة عبّر عن كل من الروس والأميركيين والإلمان يميل الى التخلص من التعقيدات التفاوضية مع وفد مفاوض جديد، والمسارعة الى عقد اتفاق مع الحكومة الايرانية الحالية خلال الشهرين القادمين، لأن إطالة أمد التفاوض لن يفيد أحداً، وسيعقّد الأمور، فلما لا يتم التوصل الى اتفاق خلال الأسابيع القادمة طالما أن اي اتفاق يتم عقده مع الحكومة الايرانية الحالية، سوف يتم الالتزام به من قبل الحكومة الايرانية القادمة عملاً بمبدأ استمرارية السلطة[1].

 

وهناك اتجاه أخر، عكسته تصريحات رافائيل جروسي، مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، والذي اعتبر أن الجميع يدرك أنه يجب انتظار الحكومة الجديدة في ايران[2].

 

بالنتيجة، من المؤكد ان ما لم تستطع أن تحصل عليه الولايات المتحدة من حكومة روحاني المعروفة بتمسكها بالخيار التفاوضي والدبلوماسية، لن تستطيع أن تحصل عليه من حكومة يشكّلها المحافظون، فالأفضل أن يتم التوصل الى اتفاق خلال الاسابيع القادمة قبل آب المقبل. علماً أن الانتظار سوف يخلق مشاكل إضافية للولايات المتحدة متعلقة بالعقوبات على رئيسي نفسه، لذا من الافضل الوصول الى اتفاق يسمح للادارة بإزالة العقوبات التي فرضها ترامب على الشخصيات والكيانات الايرانية، وذلك قبل التعامل مع الحكومة الايرانية الجديدة لتجنّب الاحراج الداخلي في الولايات المتحدة الأميركية، خاصة مع الجمهوريين في الكونغرس وفي الاعلام. وهكذا، إن الوصول الى  اتفاق مع حكومة روحاني يبقى الخيار الأمثل، إلا اذا دخل الشيطان في التفاصيل. 

2021/06/15

"قمة السبع" تتحدّى الصين: "طريق حرير" مُوازٍ

تخطّى الأميركيون والأوروبيون المشاكل التي طبعت ضفتي الأطلسي على مدى أعوام أربعة، بعد أن قام ترامب بممارسة تسلُّطه على الأوروبيين وتوبيخهم، واعتبرهم منافسين وأعداء، في أغرب تصريح لرئيس أميركي منذ الحرب العالمية الثانية.

 

ردَّد بايدن مراراً، في عدد من المناسبات سابقاً، وفي لقائه شركاءَه في "مجموعة السبع"، عبارة صريحة وواضحة "أميركا عادت"! وأصرّ، خلال لقائه الرئيسَ الفرنسيَّ، على أن يقوم ماكرون بتأكيدها بنفسه. و"عودة أميركا" تعني عودة الأميركيين إلى الهيمنة على العالم، ومحاولة إعادة عقارب الساعة إلى حقبة التسعينيات من القرن العشرين، بحيث انتقلت الولايات المتحدة من زعامة العالم الغربي إلى زعامة العالم، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

 

ولعودة أميركا فعلاً إلى الزعامة العالمية، يحتاج بايدن إلى موافقة حلفائه في الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو" وشراكتهم ودعمهم، قبل أيّ شيء، وهو ما جعله يتوجَّه إلى أوروبا في أول زيارة خارجية له، للمشاركة في "قمة السبع"، ثم في قمة حلف "الناتو"، ويلتقي بعدهما الرئيسَ الروسي فلاديمير بوتين.

 

ولتطبيق الخطة الأميركية الطموحة من أجل العودة إلى زعامة العالم، تسعى الولايات المتحدة لتعزيز تحالفاتها وشراكاتها، والتركيز على التهديدات المشتركة، والتي من المفترض أن تدفع الولايات المتحدة وأوروبا إلى العمل معاً لمواجهتها. وكانت أماندا سلوات، مسؤولة أوروبا في البيت الأبيض، أكَّدت أن قمة الناتو ستركّز على التهديدات المشتركة التي تشكّلها كل من روسيا والصين، والأمن السيبراني، وتغير المناخ، وخفض القوات في أفغانستان.

 

الواضح أنه، قبل القمة، كان هناك كثيرٌ من الانقسامات والتباينات في الرؤى بين الطرفين بشأن التعامل مع التهديدات الاستراتيجية التي حدَّدها الأميركيون. بالنسبة إلى روسيا، تجلّى التباين في الموقف من أنبوب "نورد ستريم 2"، بحيث تراجع الأميركيون عن العقوبات التي تمّ فرضها سابقاً على الشركات العاملة فيه، بعد أن أكد الألمان إصرارهم على المُضيّ في المشروع مهما بلغت التكاليف. كما تتباين نظرتا الأوروبيين والأميركيين بالنسبة إلى الموقف من الصين، فالدول الأوروبية كانت تبدو حَذِرة من السير خلف الولايات المتحدة في منافسة غير محدودة مع الصين.

 

وفي ظلّ هذا الجو، استطاع جو بايدن أن يحقق إنجازاً يُحسَب له، سيدفع التنافس العالمي مع الصين إلى مستوىً غير مسبوق: إقرار خطة تنمية عالمية، موازية لطريق الحرير الجديد الصيني (خطة الطريق والحزام) ومنافِسة لها، أُطلق عليها اسم مبادرة "إعادة بناء عالم أفضل" Build Back Better World (B3W) Partnership

 

ماذا تتضمَّن المبادرة الغربية التنموية؟

يتحدَّث البيان الذي وزَّعه البيت الأبيض عن مبادرة إيجابية "جريئة" لتلبية حاجات البنية التحتية الهائلة للبلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. وهي شراكة بنية تحتية شفافة وذات معايير عالية، وتقودها الديمقراطيات الكبرى، بالاشتراك مع القطاع الخاص للمساعدة على تأمين ما يزيد على 40 تريليون دولار من حاجات البنية التحتية في العالم النامي، والذي تفاقم بسبب جائحة كورونا.

 

وكما هو واضح، تركّز خطة التنمية هذه، المُنافِسة للخطة الصينية، على معايير قيمية (الشفافية، الحكم الرشيد، استفادة اجتماعية لمواطني الدول المستهدفة، مكافحة الفساد، دعم المرأة... إلخ)، في ردٍّ واضح على خطة الصين التنموية، والتي لا تتدخل في سلوك الدول وطريقة الحكم فيها، بل تعتمد، في صورة أساسية، على الاستفادة المتبادلة بين البلدين، مالياً واستثمارياً.

 

وهكذا، سيكون العالم النامي، في المرحلة المقبلة، أمام منافسة شرسة، قوامها مشروعان عالميان للتنمية، يتنافسان في مساحة جغرافية واحدة، وسيستعمل كل طرف جميع معايير القوة والإغراء والتهديد، لكسب العقود الاستثمارية.

 

وعليه، ستكون الدول النامية أمام مشهد يتراوح بين النعمة والنقمة:

 

- النعمة: أن تحصل الدول النامية على فرص حقيقية للتنمية، عبر تنافس المشاريع الدولية، من أجل التنمية والاستثمار، فتستطيع أن تحصل على عروض أفضل، وإمكان للاستثمار وتطوير البنى التحتية، من دون رهن أصولها السيادية. لكن، كم من الدول النامية تمتلك القوة الكافية للمقايضة والصمود أمام الإغراءات والتهديدات؟

 

 - النقمة: أن تتحوّل الدول النامية إلى ساحات صراع جديدة، قوامها التنافس الاستثماري بين جبابرة اقتصاديين، فيتمّ التدخل في شؤون تلك الدول، وتأليب الرأي العام الداخلي، وتجييش"المجتمع المدني" لإطاحة الحكّام الرافضين توقيع الشراكات. ولنا في عدد من الدول، التي تمت إطاحة حكّامها في البلقان وأوروبا الشرقية، عِبْرة. فحين عُرضت شراكات متنافِسة، اقتصادياً واستراتيجياً واستثمارياً، على تلك الدول (روسيا وأوروبا)، تحوّلت البلاد إلى مرتع لتدخلات خارجية، ومسرح لـ"ثورات ملوَّنة". ودخلت في حالة من عدم الاستقرار والاحتراب الداخلي.

 

هكذا إذاً، يبدو العالم أمام مشهد جديد من السباق نحو القمة العالمية، تشكّل التنمية والاستثمار أحدَ أوجهه. فهل ستجلب هذه المشاريع المتنافِسة، تنميةً ونهوضاً فعلياً لدول العالم الثالث، أم مزيداً من الحروب والفقر والتخلُّف؟ من الصعب تصديق حُسن نيّات الدول العظمى 

2021/06/14

قمة السبع: الشرق الاوسط لم يعد أولوية

 

ليلى نقولا

 

تتجه منطقة الشرق الأوسط الى خلط أوراق متعددة الأوجه في الاشهر القادمة وذلك مرتبط الى حد بعيد بالتغيّر في الأولويات العالمية وخاصة التغير في الأولويات الأميركية بعد رحيل ترامب عن البيت الأبيض، وبعد استشعار الغرب بشكل عام خطورة سيطرة اليمين على الحكم في تلك البلدان والتحولات التي يمكن أن تنشأ عن ذلك.

 

ويبدو من نتائج قمة السبع أن الدول المشاركة وعلى رأسها الولايات المتحدة تعطي الأولوية لإحتواء الصين، ولذا وضعت خطة طموحة لمنافسة الصين في مشروع تنموي للبنى التحتية سمي الشراكة من أجل "إعادة بناء عالم أفضل" (B3W)، وسيتم دفع ما يزيد على 40 تريليون دولار لهذا الغرض. والأهم، إن المناطق المستهدفة بالتنمية تلك هي الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل في العالم، وبالأخص في "أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، بالاضافة إلى أفريقيا ومناطق المحيطين الهندي والهادئ"، بحسب بيان البيت الأبيض.

 

ماذا يعني هذا؟

 

إن عدم ورود منطقة الشرق الأوسط في مشروع الشراكة وتمويل البنى التحتية للدول النامية، يعني أن المنطقة لم تعد في سلم أولويات الدول الفاعلة، وعليه إن الأمن في المنطقة سيكون عرضة لتلزيمات لدول إقليمية فاعلة، تؤمن الاستقرار فيها وتمنع الفوضى من أن تتمدد وتصل الى أوروبا، أو أن تؤدي الى مشاغلة الأميركيين في منطقة استنزفتهم منذ عام 2001 ولغاية اليوم.

 

واللافت أن انخراط الأميركيين في الحرب على الارهاب، وتوجيه قدراتهم نحو الشرق الأوسط تزامن مع دخول الصين الى منظمة التجارة العالمية (2001). هذا الانخراط الأميركي الطويل الأمد في الشرق الأوسط سمح للصين بزيادة قدراتها الاقتصادية والمالية، وصعودها الى مرتبة المنافس الجدي والحقيقي للولايات المتحدة الأميركية.

 

وعليه، سيكون على الأميركيين، وفي عزّ انشغالهم باستراتيجية احتواء الصين، أن يقوموا بترتيبات تؤمن الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وتحفظ لهم مصالحهم، بدون انخراط تام، وقد بدأت مؤشرات التغيير تظهر، وذلك على الشكل التالي:

 

-      التغيرات في اسرائيل، وسقوط نتنياهو الذي استمر في محاولة دفع الأمور الى حرب في المنطقة، ومحاولة الهروب الى الامام بعدوان على ايران، أدى الى استياء أميركي كبير. وكان واضحاً منذ وصوله أن بايدن لا يستسيغ نتنياهو (صديق ترامب وبوتين).

 

وهكذا، توحدت التناقضات في حكومة اسرائيلية جديدة وأسقطت نتنياهو الساعي الى الحفاظ على سلطته عبر الحروب ودفع المنطقة الى عدم الاستقرار. ولا يستبعد أن يكون هناك مساهمة أميركية في إسقاطه.

 

 

 

-      الانتخابات الإيرانية، والتي – على ما يبدو- سوف تؤدي الى وصول المحافظين الى السلطة. وبالرغم من ذلك، فإن الأولوية ستكون للتفاوض على إزالة العقوبات قبل أي تفاوض جديد، وهو ما بدأت تباشيره تظهر بإعلان الرئيس روحاني في 23 أيار / مايو الماضي، ان الاتفاق تمّ في فيينا على إزالة العقوبات الأميركية عن قطاع النفط والبتروكيميائيات والمصرف المركزي الايراني، وستليها رفع للعقوبات المتبقية والتي فرضها ترامب بصورة آحادية.

 

-      إنهاء حرب اليمن، والسير نحو حلّ سياسي يقدم فيه الجميع تنازلات مقبولة ومعقولة، وتعكس ميزان القوى على الأرض.

 

-      عودة سوريا الى الجامعة العربية بما يعني تحفيف الحصار المطبق عليها مرحلياً، والسماح بعودة اللاجئين، والبدء بمسيرة الاعمار ولو تأخر الحلّ السياسي النهائي.

 

-      أما في لبنان، فإن نضوج الظروف الاقليمية سوف تؤدي الى اعتذار الحريري والوصول الى تسوية تأتي بحليف للسعوديين (ومقبول من جميع الأطراف) كرئيس لحكومة وحدة وطنية، تقوم بوضع مسار لتحقيق الاصلاحات اللازمة المطلوبة من الدول المانحة وصندوق النقد الدولي.

 

 

 

هذه التسويات المرحلية سوف تؤدي الى حصول استقرار نسبي في المنطقة، وستؤدي الى ارتياح معقول لدى شعوب المنطقة، بعد 4 سنوات عجاف، تعرّض فيها لبنان وسوريا والعراق واليمن وايران والاردن وغيرها الى حرب تجويع حقيقية، لم تؤدِ الى تحقيق اي من الأهداف التي وضعتها إدارة ترامب.

 

لكن، بالتأكيد إن نضوح تلك الترتيبات التسووية يحتاج الى بعض الوقت لكي تتبلور ملامحه النهائية خاصة في ظل محاولة الأطراف تحصيل أوراق قوة إضافية قبل الوصول الى طاولة المفاوضات، والسعي من قبل الدول الاقليمية الفاعلة الحصول على الحصة الأكبر من تلزيمات الاستقرار الأمني المنشود بما يزيد من نفوذها في المنطقة. 

2021/06/07

نتيناهو: لحرب مع إيران أم سفك دماء داخل اسرائيل؟

 

خُلطت الأوراق في "اسرائيل" بعد إعلان المعارضة الاسرائيلية نجاحها في تشكيل حكومة جديدة، وذلك قبل نحو 30 دقيقة من نهاية المهلة الممنوحة لها للتشكيل.

 

ولأول مرة منذ 12 عاماً، تنجح المعارضة في أن تشكّل تهديدًا حقيقيًا لسلطة نتنياهو المتربع على عرش السلطة والذي عُرف عهده بتوسيع الاستيطان، حروب غزة، صفقة القرن، والتطبيع، والفساد. ولأول مرة في التاريخ الاسرائيلي، يتم توجيه اتهام بالفساد لرئيس وزراء في منصبه. ففي 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وجّه المدعي العام الإسرائيلي اتهامات بالفساد وخيانة الأمانة لنتنياهو في 3 قضايا مختلفة، وبدأت محاكمته في أيار/ مايو 2020.

 

وأمام خطر خروجه من السلطة، وتعرضه للسجن، يبدو أن نتنياهو سيقاتل الى النهاية ولن يستسلم، وكما هو واضح، نجد أنه يحاول دفع الأمور الى الامام للحفاظ على سلطته، في حال لم يستطع أن يقنع الأحزاب اليمينية بعدم التصويت للحكومة. أما خياراته التصعيدية  فنجدها على الشكل التالي:

 

- التهديد بحرب مع إيران:

 

لم تلبث معركة "سيف القدس" أن انتهت بهدنة مذّلة، حتى أعلن نتنياهو أنّه إذا وُضعت "إسرائيل" بين خيار "الحفاظ على علاقتها بالولايات المتحدة" وبين "معالجة تهديد وجودي" كالذي تشكّله إيران، لاختارت الثاني بدون تردّد.

 

واقعيًا، وبعد عجز الاسرائيليين الواضح عن الدخول في معركة برية في قطاع غزة، وعجز القبة الحديديةعن منع كافة الصواريخ التي أطلقت من قطاع غزة الى الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا يمكن لأي مسؤول اسرائيلي عاقل أن يهدد بضرب إيران أو بالذهاب الى حرب إقليمية. وهذا يعني أن نتنياهو،  وانطلاقاً من مصلحته الشخصية، مستعد للذهاب الى حرب خارجية للحفاظ على السلطة.

 

ولا شكّ أن التحذير الأميركي الشديد تجاه أي خطوة تصعيدية في المنطقة، بالإضافة الى أن القرار يعود - بشكل أساسي- للجيش الاسرائيلي، ومدى "جهوزيته" للذهاب الى حرب إقليمية، ما يجعل تصريح نتنياهو مجرد تهديد لفظي ولن يتحوّل الى إي إجراء عسكري فعلي، ولو أراده نتيناهو، إلا بموافقة الجهات العسكرية المعنية.

 

- سفك الدماء داخل اسرائيل:

 

منذ شعوره بقرب خسارة السلطة، يمارس نتنياهو وحزبه التحريض ضد أعضاء الائتلاف المعارض الذي يتوجه لتشكيل حكومة.

 

وحذر رئيس جهاز الأمن العام "الاسرائيلي"- "الشاباك" نداف أرغمان، من أن الأجواء التحريضية داخل اسرائيل ضد الحكومة الجديدة، قد يؤدي الى سفك الدماء، معتبراً أن "مناخ التحريض الحالي قد يؤدي إلى سفك دماء مأساوي في إسرائيل، وحذّر من إمكانية حصول حالات "اغتيال سياسي".

 

وبالرغم من أن هذه التحذيرات عادة ما تكون سرية، إلا أن صحيفة "جيروزاليم بوست" اعتبرت أن هذا التحذير العلني النادر من أرغمان يؤشر الى خطورة الوضع داخل "اسرائيل". وبالفعل، كشفت القناة السابعة الإسرائيلية، أن "زعيم حزب "يمينا" الإسرائيلي، ورئيس الوزراء المتوقع في البلاد، نفتالي بينيت، قد تلقى تهديدات بالقتل" ولفتت إلى أن "الأجهزة الأمنية الإسرائيلية رصدت تهديدات واضحة بحق بينيت، وتأخذ هذه التهديدات على محمل الجد".

 

وهكذا، يكون نتنياهو، والذي صعّد ضد الفلسطينيين وأشعل حرباً بين الاسرائيليين والفسطينيين خلال الأسابيع المنصرمة، بهدف الحفاظ على السلطة، انتهت بخسارة له، لم يبقَ أمامه سوى خيارات التصعيد الخارجي أو الداخلي:

 

وبما أن التصعيد ضد إيران دونه عقبات عدّة، أولها الموقف الأميركي الحاسم بهذا الشأن، ثم الموقف الاسرائيلي الداخلي الذي لم يتعافَ بعد من الحرب مع غزة، فيكون التصعيد الداخلي مرجح أكثر، وحتى لو لم يصل الى حدّ ممارسة الاغتيالات وتصفية الخصوم السياسيين. 

2021/06/05

القلق الاسرائيلي: فقدان الشرعية الدولية!

كان التأييد الذي حظيت به القضية الفلسطينية مؤخرًا غير مسبوق عالميًا، وخاصة في الولايات التحدة الأميركية، حيث شهدت العديد من الولايات تظاهرات مؤيدة لفلسطين، وعلت أصوات في الكونغرس الأميركي تطالب بمنع اسرائيل من ضمّ الأحياء الفلسطينية في القدس ووقف معاناة الفلسطينيين.

وكتب السناتور بيرني ساندرز مقال رأي في صحيفة نيويورك تايمز يدعو الأميركيين الى عدم خلق الذرائع لتأييد اسرائيل، فالفوضى التي اندلعت في الأسابيع الأخيرة كانت بسبب الاستفزازات التي قام بها المتطرفون اليهود في القدس، وكذلك المحاولات غير القانونية الإسرائيلية لإجلاء السكان الفلسطينيين قسرًا من أحد أحياء المدينة المقدسة.

ولا شكّ أن داعمو فلسطين استفادوا من انتشار الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والاعلام الفضائي، وعدم القدرة على احتكار الخبر والصورة، وهو ما ساهم في خلق رأي عام عالمي مساند لحق الشعب الفلسطيني، وكاشف لحجم المجازر التي قامت بها اسرائيل.

لكي لا نفرط في التفاؤل حول هذه الظاهرة ولأن دروس التاريخ تعلمنا أنه حين تقاعس العرب والفلسطينيون عن الاستثمار في حركات التأييد تلك، والبناء عليها ورفدها بالتقارير الدائمة، وبالمقابل قامت اسرائيل بحملات إعلامية وسياسية ودبلوماسية هجومية مرتدة، تقلّص حجم دعم الرأي العام العالمي المؤيد لفلسطين.

منذ البدايات، استطاعت الحركة الصهيونية العالمية ترويج روايتها المزورة حول حقّ مزعوم في فلسطين، واستطاعت أن تطوّق الرأي العام الدولي بأكاذيبها وتضليلها، لتحدث شروخاً عميقة في حركة التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني وقضيته، لنزع مشروعية الكفاح المسلح الفلسطيني ووصمه بالعمل التخريبي أو الإرهابي.

 وحتى عندما نجحت نضالات الشعب الفلسطيني في انتزاع اعتراف عالمي بمقاومته وباعتبار الصهيونية مرادفاً للعنصرية، تحركت الآلة الإعلامية والسياسية الصهيونية والقوى المساندة لها على المسرح الدولي، وخاصة الولايات المتحدة لتفريغ هذا الاعتراف من محتواه الإيجابي، ولإلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية.

ولكي يستطيع الفلسطينيون الاستثمار في ما تحقق والبناء المستقبلي على حملات التضامن مع قضيتهم وللوصول الى مساحة تفقد فيها اسرائيل شرعيتها الدولية مما يفقدها أحد أهم أركان قوتها، لا بد لنا من الإدراك ان التيارات المساندة لفلسطين هي مزيج فسيفسائي يحمل تنوعاً في المنطلقات ووسائل التعبير والمفردات المستخدمة، وحتى في الاهداف المراد الوصول لها.

وتتراوح منطلقات وأهداف هذا التيارات، بين الحدّ الاقصى الذي يؤيد تحرير فلسطين من النهر الى البحر واستعادة كل الاراضي المحتلة منذ عام 1948 (وهي التيارات المنضوية  في محور المقاومة)، وبين الحدّ الأقصى في الجهة المقابلة الذي يكتفي بانتقاد السياسات الاسرائيلية ومطالبتها بـ "أخلاقيات أكثر" في التعامل مع الفلسطينيين، وما بين هذين الحدّين، هناك تيارات وناشطون وأفكار ورؤى، ويمكن اختصارها بما يلي:

- تيار يعتبر اسرائيل كيانًا غير شرعي، يجب إزالته. وعلى مرّ السنين، ومع توقيع اتفاقيات أوسلو، وموجات التطبيع وموجات الربيع العربي، تراجع حجم هذا التيار ليقتصر بشكل أساسي على قوى محور المقاومة وداعموها.

- تيارات حقوقية قانونية، تعترض على قيام اسرائيل بانتهاك القانون الدولي، من خلال الجرائم والفرز العنصري والاستيطان وغيره، وهي تقوم بتقديم تقارير قانونية بشكل دائم يمكن للفلسطينيين البناء عليها وتسويقها.

- بعض تيارات اليسار القديم، الذي ما زال يؤمن بضرورة مواجهة الامبريالية. وهؤلاء يجدون في الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، والدعم الأميركي لإسرائيل امبريالية يجب محاربتها.

- تيارات السلام، وهؤلاء يرفضون الحروب، ويدعون للسلام في العالم، وتجدهم في الخط الأمامي للتظاهرات المناوئة للحرب، بغض النظر عن البقعة الجغرافية.

- ناشطون يساندون القضية الفلسطينية، إنطلاقاً من رفضهم للهيمنة والاحتلال والعنصرية كافة، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.

- ناشطون يتحركون بدافع "كره الصهيونية" وأدواتها، ولكنهم مع حق اسرائيل في الوجود وفي الامن، ويدعون  الى حل سلمي شامل بين الطرفين.

- تيارات تؤيد حلّ الدولتين، لذا تدعم الشعب الفلسطيني وتؤيد حقه في الحرية وفي اقامة دولة يعيش فيها بسلام جنبًا الى جنب مع دولة اسرائيل.

ولقد أثبتت التجارب أن مجموع هذه الحركات يشكّل قيمة معنوية عالمية هائلة لا يستهان بها، وإن لها تاثيرات ايجابية - ولو محدودة- في الضغط على صنّاع القرار في الغرب. ولكنها، بالرغم من ذلك، تبقى في إطار التأييد الانساني الموسمي، الذي لا يلبث أن يخفت ويتلاشى ولم يستطع أن يصل يومًا إلى مستويات مُرضية تعبّر عن تأييد دائم وفعال ومستدام.

ولقد علمنا التاريخ، وخاصة تجارب شعوب العالم التحررية بِأن ما اصطلح على تسميته بالرأي العام الدولي، لا يتحرك مؤازراً ومسانداً إلا على وهج الانتصارات الميدانية التي تتحقق أو على وقع فظائع ومجازر كبرى يندى لها جبين البشرية، وهذا يعني أن عدالة القضية وأحقيتها التاريخية والانسانية والقانونية بحد ذاتها ليست محركاً كافياً للارتقاء بوعي وتعاطف الرأي العام الدولي، للانخراط في التأييد المتنامي والمستدام.

 لذلك لا يمكن الاتكال على تحرك الرأي العام العالمي من تلقاء نفسه ولا على ابقاء الحس التضامني قائمًا ما لم يقم داعمو فلسطين بخطوات فاعلة للتواصل معه بشكل مستمر وفعّال ودائم، وقبول التنوع الذي يحمله، وعدم التخلي عن أي جزء من أجزائه مهما اختلفت تعابيره ووسائله.

إن صياغة استراتيجية إعلامية وسياسية للبناء على ما تحقق، يبدو ضرورة ملّحة، خاصة إذا ما لاحظنا أن الاسرائيليين يخشون أن تتحوّل المقاومة من "استراتيجية تدمير اسرائيل" الى استراتيجية "الانهيار من الداخل" كما حصل مع الاتحاد السوفياتي ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والتي تحتاج بشكل أساسي الى تحويل إسرائيل إلى دولة منبوذة وفاقدة الشرعية على الصعيد الدولي.

لا شكّ أن نزع الشرعية عن الممارسات الاسرائيلية، يجب أن يكون جزء لا يتجزأ من الجهد الذي يبذله الناشطون المؤيدون لفلسطين،ولعل أبسط تعبير عما يمكن أن تعيشه اسرائيل من خطر وجودي في ظل تآكل شرعيتها الدولية، هو ما عبر عنه الصحفي الاسرائيلي آري شافيت يوماً بقوله، أن الخطر على اسرائيل أن تتحوّل من حركة قومية تملك "شرعية بدون كيان" الى "كيان بدون شرعية".