2016/12/29

مقابلة حول مفاوضات آستانة والدور التركي

ما بعد حلب... تحوّل في الاستراتيجية الأميركية؟


د. ليلى نقولا
لم تتضح بشكل مفصّل السياسة الخارجية التي سينتهجها الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، وما زال من المبكّر الحكم على مدى التزامه بالوعود التي قطعها في حملته الانتخابية فيما خصّ سياسته الخارجية، خصوصاً الشرق أوسطية.

من خلال اختياره للشخصيات في إدارته، ومن خلال دراسة سيرة المرشحين لتبوء مناصب رفيعة في الإدارة الأميركية، ومن خلال دراسة تصريحات ترامب ومستشاريه، يمكن القول إن الرئيس الأميركي سينتقل من استراتيجية "الاستنزاف" التي اتبعها الرئيس السابق باراك أوباما، إلى استراتيجية "تفكيك الأحلاف".

خلال عهد الرئيس باراك أوباما، كان واضحاً أن الولايات المتحدة الأميركية لا تريد الانخراط العسكري المباشر في الحرب السورية الدائرة، لكنهاالتزمت بتقديم الدعم السياسي واللوجستي والتقني والإعلامي لما تسميه "المعارضة المعتدلة"، بهدف إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، وفيما بعد، وبعد تعذّر تحقيق الهدف المنشود خلال "أشهر معدودة"، كما وعد الرئيس أوباما ومعاونوه مراراً، وبعد تيقّن الإدارة عدم إمكانية تحقيق هذا الهدف بعد التدخُّل العسكري لكل من إيران وروسيا وحزب الله، وعدم وجود بديل "مقبول" للحكم في سورية تستطيع تسويقه في سورية والعالم، انتقل الأميركيون إلى استراتيجية "الاستنزاف"، من خلال تحقيق توازن القوى، بحيث يقوم الأميركيون بإمداد المجموعات المسلّحة بالأسلحة والعتادوالتدريب، وتأمين مصادر تمويل، ليس بهدف إسقاط الأسد، بل بهدف الاستمرار بالقتال إلى ما لا نهاية، حيث يُنهك الجميع (الارهابيون، والروس، والإيرانيون، والجيش السوري، وحزب الله)، فيستفيد الأميركيون و"الإسرائيليون" من استنزاف الكل في حرب الكل ضد الكل.

لكن وصول ترامب الى السلطة، واختيار فريق إدارته، وإعلانه المستمر عن نيته التعاون مع الروس، يشير إلى أن الهدف سيكون "تفكيك الأحلاف"، خصوصاً تلك التي ساهمت إدارة أوباما بتمتينها وتقويتها انطلاقاً من وحدة المصالح والمخاطر، فما هي الأحلاف التي قد يحاول ترامب تفكيكها؟

أولاً: الحلف الروسي - الصيني

يشير اختيار الثلاثي؛ وزيري الخارجية "تيلرسون" والدفاع "ماتيس" ومستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي "فلين"، والمعروفين بتعاطفهم وتأييدهم للتقارب مع الروس،إلى أن الرئيس الأميركي المقبل سيكون جدياً في سياسة التعاون مع روسيا، وفي فتح صفحة جديدة في العلاقات الروسية الأميركية، لطالما نادى بها الروس خلال عهد أوباما، لكن إدارة الأخير والبنتاغون كانا ضدها.

أما بالنسبة للصين، فلترامب نظرة مختلفة، وتسيطر على فكر مرشحي إدارته؛ هاجس "احتواء" الصين كونها مرشحة لتنافس الولايات المتحدة على الساحة العالمية، وقد أعلن ترامب مسبقاً عزمه على إعادة التفاوض مع الصين حول قضايا التجارة المتبادلة.

من هنا، فإن ترامب قد يستخدم التقارب مع الروس للضغط على الصين، وكما استفادت الصين - في وقت سابق - من قيام الروس بإشغال الأميركيين في الشرق الأوسط، لتأخيرهم عن تنفيذ استراتيجية "الاستدارة نحو آسيا"، قد يستفيد ترامب من التقارب مع الروس وتوفير الجهد العسكري المبذول في كل من العراق وسورية، وتحويله إلى بحر الصين الجنوبي، للقيام باحتواء الصين عسكرياً، للضغط عليها في مجلات أخرى كالاقتصاد والتجارة وغيرها.

ثانياً: الحلف الروسي - الإيراني

شخصيات ثلاث في إدارة ترامب مهيّأة لتنفيذ سياسة ترامب العدائية تجاه إيران: مستشار الأمن القومي "فلين"، ووزير الدفاع"ماتيس"، ومدير سي أي أي "بومبيو".

بشكل عام، لم تكن العلاقات التاريخية بين كل من إيران وروسيا موسومة بالثقة، لكن المصالح المشتركة في تحدي المشروع الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعد الحرب في سورية، جعلت هذه العلاقة تختلف عما سبق، ما يعني أن الاميركيين (خلال عهد أوباما) ساهموا بشكل أو بآخر بتمتين العلاقة الروسية - الإيرانية ونقلها إلى إطار استراتيجي مختلف عما قبله.

قد يفكّر الأميركيون بأن التعاون مع الروس في القضية السورية، وأولوية محاربة "داعش" على إسقاط النظام السوري، وإعطاء روسيا ما تريد من نفوذ في أوروبا الشرقية، سيجعلون روسيا تعيد النظر في تحالفها الاستراتيجي مع إيران، باعتبار أن ما يريد الروس تحقيقه من مصالح من خلال هذا الحلف قد أعطتها إياه الولايات المتحدة مباشرة، فلماذا تُبقي على حلفها مع إيران، خصوصاً أن للدولتين مصالح اقتصادية متباينة ستظهر تباعاً بعد حل الأزمة في سورية؟

قد يكون هذا ما يفكّر به ترامب، ولا شكّ أنها استراتيجية ذكية، لكن ليس بالضرورة أن تنجح في تنفيذ الأهداف الأميركية المرسومة، فمنذ الحرب الأميركية على العراق ولغاية اليوم، تعاني الاستراتيجيات الأميركية في الشرق الأوسط من مشاكل في التنفيذ، لكن هذا لا يعني أن الأميركيون لا يمتكلون أدوات القوة الكافية لفرض نفوذهم في الشرق الأوسط، والانتقال من خطة إلى أخرى لتحقيق الأهداف المرجوّة.

2016/12/15

تحرير حلب وسقوط تدمر!... كيف ولماذا؟


د. ليلى نقولا
بانتصار الجيش السوري وحلفائه في حلب، تكون قد فُتحت صفحة جديدة من صفحات الحرب السورية، عنوانها قدرة الدولة السورية على استرجاع الأراضي من سيطرة المسلحين، أو كما وعد الرئيس السوري بشار الأسد: تحرير كامل الأراضي السورية بدون استثناء.

ولعل المفاوضات الروسية - الأميركية التي رافقت الحملة العسكرية السورية في حلب، أظهرت عدم قدرة الأميركيين على السيطرة على قرار المسلحين، بدليل أنهم رفضوا دعوات جون كيري للانسحاب، بينما استمر الأتراك في المفاوضة حتى اللحظات الأخيرة، وهو ما أثمر اتفاقاً يقضي بخروج المسلحين إلى الأرياف.

لكن، بلا شكّ، كانت لعودة "داعش" للسيطرة على تدمر، نتائج سلبية على مسار الحرب الدائرة في سورية ضد الإرهاب، وعلى الانتصار الذي حققه الجيش السوري وحلفاؤه في حلب، ويتبين من التصريحات الروسية بعد سقوط تدمر مرة أخرى بيد "داعش"، أن الروس كانوا الأكثر استياءً من سقوط تدمر، وفي تبريرهم لأسباب السقوط، ركّز الروس - بحسب إعلامهم - على عاملين:

أولاً: فشل الاستخبارات العسكرية السورية، فقد دخل المئات من مقاتلي "داعش"إلى الرقة في شهر تشرين الثاني كمدنيين، وهؤلاء استطاعوا السيطرة بسهولة على مراكز الجيش السوري على المرتفعات،والتي لم تكن محميّة بشكل جيد كما يؤكد الروس، بالإضافة إلى تأخُّر الاستخبارات العسكرية السورية في إيصال المعلومات حول أرتال "داعش" المهاجمة إلى الروس في قاعدة حميميم وقيادة السفن الروسية في البحر الأبيض المتوسط، ما تسبب في العجز عن توجيه ضربات قبل دخولهم إلى المدينة الأثرية.

ثانياً: يشير الروس إلى قيام التحالف الدولي بفتح ممر خاص سُمح لمقاتلي "داعش" المحاصَرين في الموصل بالخروج منه، وتمّ توجيههم فوراً نحو تدمر.

إن صحّت التبريرات الروسية، وإن ثبُت بالفعل أن التحالف الدولي قد وجّه "داعش" نحو الرقة لاحتلالها، فهذا قد يشير إلى معطيات هامة أبرزها ما يلي:

1-      أن صلاحية استخدام "داعش" كورقة للاستنزاف لم تنتهِ بعد، وأنه ما زال بيَد الأميركيين الكثير من الأوراق للعبها، حتى لو انفردت تركيا بورقة المسلحين من المجموعات المسلحة الأخرى. ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى تقدم "داعش" والسيطرة على تدمر بهذه السهولة، كما قتاله على مشارف مدينة الباب لصدّ الأتراك ومجموعاتهم المسلّحة، بينما قام في وقت سابق بتسليم مناطقه تسليماً لقوات "درع الفرات" التركية.

2-      كما تشير إلى أن الأميركيين، وبالرغم من تصريحات الرئيس المنتخَب دونالد ترامب الواعدة حول التعاون مع الروس وقيامه بتشكيل إدارته من المؤيّدين لعلاقات أفضل مع الروس، يحاولون في هذه الفترة الفاصلة اكتساب أوراق تفاوضية إضافية يقدمونها للرئيس، لاستخدامها خلال المفاوضات المقبلة حول تقاسم النفوذ في سورية.

3-      قد يهدف البنتاغون إلى إرسال رسالة مزدوجة إلى الرأي العام الأميركي وإلى الرئيس المنتخَب دونالد ترامب، الذي اعتبر أن استراتيجية مكافحة الإرهاب فاشلة، وأن المعركة ضد "داعش" كارثية وتحتاج إلى إعادة نظر.

سقوط تدمر مرة أخرى يشير إلى فشل الاستراتيجية الروسية لمكافحة الإرهاب، خصوصاً بعدما تباهى الروس مراراً بنجاحهم في مكافحة الإرهاب، بدليل تحرير تدمر بعد وقت قصير نسبياً من تدخّلهم العسكري المباشر في سورية، وعدم قدرة الأميركيين على استعادة المدن العراقية من "داعش" بسرعة.

وقد يكون الأميركيون قد استفادوا  إعلامياً من سقوط تدمر، للقول إن الحفاظ على الانتصار وتثبيت الاستقرار بعد تحرير مدينة من الإرهاب، أصعب من التحرير نفسه، وإنه باستطاعة جيش ما أن يسيطر على مدينة عسكرياً، لكن استكمال السيطرة وفرض الاستقرار هو التحدي الأساسي، وإن "داعش" لم يستطع استعادة أي مدينة عراقية بعد تحريرها، وذلك بسبب استراتيجتهم المعتمَدة على دراسة المعطيات وتثبيت مقومات الدفاع بعد نجاح الهجوم.

بالنتيجة، تحرير حلب وتزامنها مع سقوط تدمر يكشف - بشكل أساسي - أن انتصار الجيش السوري واستعادة مدينة كبرى مثل حلب، لا يمكن أن يشكّل نهاية للحرب السورية، باعتبار أن الدول الكبرى والدول الإقليمية ما زالت مستعدّة للقتال حتى آخر سوري،إلى أن تحقق مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وأن جميع القوى ما زالت قادرة على التحشيد وإمداد المعارك السورية بالمقاتلين الذين لا يملكون سوى الاختيار بين الموت في الأراضي السورية أو الاعتقال في بلدانهم،ويخطئ من يعتقد أن الحلّ في سورية هو حلّ عسكري، بل هو حلّ سياسي بالضرورة، وما الميدان إلا وسيلة يهدف من خلاله كل طرف إلى تحقيق مكاسب ونفوذ في منطقة سيتغيّر شكلها بعد الحرب السورية لمئة سنة مقبلة.

2016/12/08

هل سيؤدي تعاون ترامب مع الروس الى حل سوري؟


د. ليلى نقولا
قد تتعدد الأسباب التي أدّت إلى انهيار المسلحين في حلب، وفرارهم أو تسليم أنفسهم للجيش السوري الذي يتقدم بسرعة غير مسبوقة في أحياء حلب لتحريرها، لكن اللافت في الأمر أن المسلحين فوّضوا الأتراك بالتفاوض على خروجهم من حلب بعد يوم واحد من إعلانهم أنهم لن يخرجوا، وذلك في ردٍّ واضح وصريح على جون كيري الذي كان يفاوض الروس على خروجهم، وكأنهم بذلك يقطعون على الأميركيين أي إمكانية للاستفادة من هذا الخروج، ويمنحون الأتراك ورقة تفاوضية تضاف إلى الأوراق التي يجمعها التركي في سوريا.



أساساً، لم تكن أطراف الإدارة الأميركية الفاعلة على الأرض السورية متّفقة على المفاوضات التي يُجريها وزير الخارجية مع الروس، وأتت تصريحات المسلحين لتعمّق الإحراج الذي يشعر به جون كيري، ففي سيناريو مكرر عن حادثة دير الزور التي قطعت الطريق على تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي عقده كيري مع لافروف، وما أن انتشرت أخبار عن لقاء مرتقَب بين كيري ولافروف للاتفاق على إخراج المسلحين من حلب، حتى تمّ استهداف المستشفى الميداني الروسي، حيث يذكر الكرملين أن إحداثياته أُعطيت للمسلحين بدقة.

واقعياً، تبدو جميع الأطراف الضالعة في الحرب السورية على عجلة من أمرها، لمحاولة تغيير موازين القوى على الأرض، ويجنح أطراف الإدارة الأميركية الحالية إلى فعل شيء ما يحفظ المجموعات المسلحة السورية، وذلك قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض، خصوصاًأن الأسماء التي يختارها ترامب لإدارته تؤشّر إلى تغيير حقيقي في السياسة الأميركية في سوريا، خصوصاً بالنسبة لدعم تلك المجموعات.

بالتأكيد، تخشى الإدارة الحالية ومعها صقور البنتاغون من تأثير مستشاري ترامب والوزراء الجدد، خصوصاً مايكل فلين؛ مستشار الرئيس للأمن القومي،والذي سيكون له تأثير كبير على سياسة ترامب السورية، فمن المعروف أن فلين كان رئيساً للاستخبارات العسكرية الأميركية بين 2012 و2014، واستقال بعد نشوب خلافات بينه وبين فريق الرئيس الأميركي باراك أوباما حول سوريا بالتحديد.

وقد نشبت تلك الخلافات بعدما أصدرت وكالة الاستخبارات العسكرية بقيادة فلين وهيئة الأركان المشتركة في الجيش الأميركي بقيادة الجنرال مارتن ديمبسي تقريراً عام 2013، تشير فيه إلى "عدم وجود معارضة معتدلة قابلة للحياة في سوريا"، وأن "الولايات المتحدة بالتالي تسلّح المتطرفين". كما توقع التقرير أن يؤدي سقوط الأسد إلى الفوضى، وربما سيطرة "الجهاديين" على سوريا؛ كما حصل في ليبيا. ويُعتبر فلين من أكثر المؤيدين لخيار التعاون والتنسيق مع الروس للقضاء على "المتطرفين"، وفي مقابلات صحفية بعد استقالته، اعتبر فلين أن الادارة تجاهلت عمداً تقرير الاستخبارات العسكرية، واعتبر أن "ذلك كان قراراً مدروساً"، وأن الخطأ الأكبر الذي ارتكبته إدارة أوباما هو الاستمرار بدعم المجموعات المسلحة السورية.

انطلاقاً مما سبق، يمكن القول إنّ توجُّه الإدارة الجديدة بمحاربة الإرهاب يبدو جدياً لغاية الآن، خصوصاً بعدما أعلن رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال جوزيف دانفورد، أن البنتاغون يقوم حالياً بمراجعة استراتيجيته لمحاربة الإرهاب بتوجيهات من الرئيس المنتخَب دونالد ترامب، وعلى هذا الأساس يحاول كل من البنتاغون ووكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إي) ووزارة الخارجية الأميركية في الفترة الانتقالية بين عهدَي ترامب وأوباما، أن يحافظوا على المجموعات السورية المسلحة، والاستفادة منها قدر المستطاع.

لكن هل يعني هذا الحل السوري بات قريباً بعد مجيء ترامب؟

من خلال ما رشح من أسماء الإدارة الجديدة للرئيس ترامب، يبدو الرئيس الأميركي جدياً في تطبيق ما جاء في عناوين حملته الرئاسية من أنه يريد أن يتعاون مع الروس في القضية السورية، وأن أولويته القضاء على "داعش"، وأن مشكلته ليست في بقاء بشار الأسد، ولعل تلك المعايير تُنهي الإشكاليات الرئيسية التي عطّلت جنيف وأفشلت الحوار السوري - السوري، لكنّ عداءه لإيران قد يمنع الوصول إلى حلٍ سريع في سوريا، إذ إن الاتفاق على فكرة التعاون مع الروس من أجل الوصول إلى حل سياسي في سوريا لا يعني بالضرورة أن الاتفاق على أسس هذا الحل السياسي قد تمّ، بالإضافة إلى أن تصوُّر الحل الذي قد يرضي الروس والأميركيين قد لا يرضي الإيرانيين، وهم فاعل أساسي في القضية السورية، ولا يمكن تجاهله أو المسّ بمصالحه في سوريا.

المشكلة التي قد يواجهها الوصول إلى حل في سوريا، هو محاولة ترامب تحجيم الإيرانيين ومنعهم من تحقيق مكاسب ونفوذ في سوريا، ومحاولة إلغاء الاتفاق النووي، أو على الأقل تحجيم قدرة الإيرانيين على الاستفادة من هذا الاتفاق، بالإضافة إلى مستقبل الوجود العسكري الأميركي والتركي في الشمال السوري، ناهيك عن مستقبل القواعد العسكرية الأميركية في تلك المنطقة. في المقابل، سيجد الروس أنفسهم أمام إشكالية التوفيق بين مصلحتهم الاستراتيجيةبالتعاون مع الأميركيين وتقاسم النفوذ في الشرق الأوسط، وبين مصالح السوريين ومصالح حلفائهم الإيرانيين، الذين سيتعرّضون لمحاولة احتواء من الإدارة الجديدة.

2016/12/01

كيف سيتعامل العهد الجديد مع المبادرة السعودية؟


د. ليلى نقولا
منذ بداية ما سُمِّي "الربيع العربي"، تجد المملكة العربية السعودية نفسها في بيئة استراتيجية مختلفة عمّا عرفته منذ عقود، إذ إنها تواجه أزمات اقتصادية، معطوفة على استنزاف عسكري في اليمن، بالإضافة إلى عدم استقرار علاقاتها مع مظّلتها الأمنية الأميركية. ولعل السياسة التي استخدمتها السعودية للردّ على هذه التحديات، أدّت إلى تردّي الأوضاع المالية في المملكة، والتي حذّر صندوق النقد الدولي من أنها قد تؤدي إلى إفلاس السعودية.
بالغت المملكة في الإنفاق وشراء صفقات أسلحة لأهداف سياسية، ومحاولة القيام باستثمارات مالية دولية لمقايضتها بمواقف سياسية لم تؤدِّ إلى تبدُّل موازين القوى لا في اليمن ولا في سورية، كما أنفقت المبالغ الطائلة على تأسيس "لوبي سعودي" في الولايات المتحدة لتسويق أفكار المملكة، والتي لم تحصد سوى قانون "جاستا" الذي أيده الكونغرس بأغلبية ساحقة تقارب الإجماع، إضافة إلى كلفة تمويل الحروب العسكرية، خصوصاً تمويل المجموعات المسلحة في سورية، وكلفة حرب الاستنزاف في اليمن، والتي بلغت مئات مليارات الدولارات.
أما في قرار سياسة إغراق أسواق النفط بزيادة الإنتاج، لإلحاق الضرر بالاقتصادَين الروسي والإيراني، ولإفلاس شركات إنتاج النفط الصخري في أميركا، فبدت السعودية كمن يطلق النار على رجليه، فانهيار أسعار النفط أضرّت باقتصاد المملكة أيضاً، إذ إن 90 بالمئة من الدخل القومي السعودي يعتمد على النفط.
إذاً، تعيش المملكة في بيئة استراتيجية تتسم بالقلق على المستقبل، فلم تحقق أي انتصار عسكري لا في اليمن، ولا في سورية، ولم تستطع أن تجعل مصر تدور في فلكها، ويبقى لبنان الساحة التي لها نفوذ تاريخي فيه، والتي تحاول إعادة تعويم دورها فيه بعد عودة الرئيس سعد الحريري إلى الحكم، وتجلّى ذلك في مبادرتها للتقارب مع الرئيس عون ودعوته إلى السعودية، فكيف يمكن أن يتصرف العهد؟
تبدو الخيارات المتاحة أمام الرئيس عون على الشكل الآتي:
1- الانقطاع عن السعودية والانخراط كلياً في "محور المقاومة"، الذي يحقق انتصارات هامة في الإقليم، خصوصاً في سورية، والمساهمة اللبنانية في إضعاف النفوذ السعودي إقليمياً من البوابة اللبنانية. هذا الخيار الذي يطالب به بعض الصحافيين والسياسيين المقرَّبين من المقاومة، خصوصاً بعد وصول العماد عون إلى الرئاسة، دونه عقبات كبيرة وخطيرة تجعله مُضراً بلبنان ووحدته وسلمه الأهلي، فقد يؤدي إلى المسّ بالاستقرار الداخلي، وإغراق لبنان بأزمات داخلية متتالية، نتيجة شعور طائفة بالغبن والتهميش، بالإضافة إلى تعطيل العهد الجديد قبل أن يبدأ.
2- إعادة تعويم الدور السعودي في لبنان، ومحاولة انتشال السعودية من مأزقها الإقليمي بجذبها لأداء دور هام في لبنان يشبه إلى حد بعيد نفوذها السابق، وهذا ضرب من الخيال، ولا يمكن لأي طرف لبناني أن يتحمّل تبعاته، خصوصاً بعدما أدرجت السعودية حزب الله على لائحة الإرهاب، وأقرّت عقوبات على اللبنانيين المرتبطين به.
3- الحفاظ على نوع من التوازن الحكيم والمدروس في علاقات لبنان الإقليمية بين المحورين المتصارعَين، بالتوازي مع احترام الميثاقية التي تمنع إلغاء أي طائفة من منطلق أن إلغائها يعني إلغاء لبنان. وهكذا، يحترم لبنان تعهداته الدولية وقرارات الأمم المتحدة، ويلتزم بما أعلنه رئيس الجمهورية في خطاب القسم لناحية التزام لبنان ميثاق الجامعة العربية حول عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول العربية الأخرى، وعدم السعي لتغيير الأنظمة بالقوة، وهذا الخيار المفترَض لا يعني ألا يكون للبنان موقف من القضايا الإقليمية، ولا أن يكون محايداً في الصراع العربي - "الإسرائيلي"، بل أن يؤمّن لمواطنيه حرية الرأي السياسي والتعبير عنه، وألا ينخرط كلياً في محور ضد آخر، مما يجعل لبنان ساحة لصراع الآخرين على أرضه.
وعليه، قد تكون السعودية متجهة إلى الخسارة في الإقليم، خصوصاً بعد مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض واتجاه أوروبا إلى "اليمين"، وبعد قلب موازين القوى العسكرية في سورية والاستنزاف في اليمن، لكن هل من مهمة اللبنانيين زيادة هذه الخسارة، وحتى لو كلّفتهم استقرارهم الداخلي؟ وهل يجب أن يسير لبنان وراء الرؤوس الحامية في المحورين المتصارعين التي تريد دفع لبنان إلى أتون حرب أهلية؟ وهل يتخيل عاقل أن الرئيس عون الذي دفع أثماناً كبيرة نتيجة تفاهمه مع المقاومة، والذي يدين للسيد حسن نصر الله بمقاومته للضغوط الإقليمية والداخلية، مما أوصله إلى رئاسة الجمهورية، قد يقفز إلى السفينة الغارقة لإنقاذها؟ وهل يقبل السيد حسن نصر الله، الذي أعلن يوماً "فلنحيّد لبنان ونتقاتل في سورية"، بإدخال لبنان في صراع محاور لن يُبقي ولن يذر؟
بالنتيجة، لا يمكن للرئيس عون إلا أن يلتزم الثوابت اللبنانية التي أعلنها دوماً، وهي أن على اللبنانيين أن يكونوا "أبعاداً لبنانية في الخارج لا أبعاداً خارجية في لبنان"، ما يعني السعي للحفاظ على لبنان، وعلى الاستقرار فيه، وإخراجه من دوامة الأزمات السياسية المتكررة التي أفقرت الشعب وعطّلت بناء الدولة.

2016/11/17

رسائل الشمال السوري الى ترامب


د. ليلى نقولا
يعيش الشمال السوري مرحلة مصيرية هامة، باعتبار أن الأشهر المقبلة التي تفصل الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب عن البيتالأبيض تشكّل أكثر من مسافة فاصلة بين عهدين في السياسة الأميركية، إذ أنها قد تكرّس - إن صدقت وعود ترامب الانتخابية - عهداً جديداً من التعاون بين الأميركيين والروس في سورية.

ويواجه الأميركيون مشاكل عدّة في الشمال السوري ينبغي حلّها في هذه الفترة الفاصلة، أهمها:

1-      السباق بين الأميركيين والروس على قلب موازين القوى الميدانية: يبدو من الواضح أن البنتاغون يسعى لتحقيق مكاسب عسكرية كاسرة للتوازن مع الروس وحلفائهم في سورية، خصوصاً في الشمال السوري، وذلك بعدما أفشل في وقت سابق اتفاق لافروف - كيري، وعطّل إمكانية عقد أي تفاهم بين وزارة الخارجية الأميركية والروس خلال الأشهر المتبقية من عهد أوباما.

في المقابل، يسعى الروس للحفاظ على تفوّقهم العسكري وقلب موازين القوى العسكرية لصالحهم، لفرض وجهة نظرهم على الإدارة الأميركية المقبلة، مع العلم أن المسار العسكري الروسي يقف إلى حد بعيد عند خطوط حمراء دولية لا يريد الروس أن يتجاوزوها، وهي الإبقاء على إطار للتعاون مع الأميركيين،وأن يصلوا في النهاية إلى أهدافهم السياسية برضى الولايات المتحدة وليس ضدها.

2-      الابتزاز التركي للأميركيين، من خلال الصراع بالوكالة، عبر المجموعات المسلحة السورية، بين الأميركيين والأتراك داخل الأراضي السورية؛ فالاقتتال بين الفصائل المنضوية في "درع الفرات" في مدينة "أعزاز" للسيطرة على المعابر، وإن لم يكن مفاجئاً في حصوله، لكنه هام في توقيته وأهدافه قبيل انطلاق الحملة التركية نحو مدينة "الباب" السورية. أما السبب المعلن لهذه المعارك فهو اتهام "أحرار الشام" (الموالية للأتراك) لبعض الفصائل الأخرى بالخيانة، من خلال تمرير السلاح والمعلومات لـ"وحدات حماية الشعب الكردية"، وهذا الاقتتال والسيطرة على المعبر يُعدّ انقلاباً على تفاهمات سابقة بين الأتراك والأميركيين بتسهيل مرور السلاح والعتاد إلى الفصائل المدعومة أميركياً، والتي تقاتل باسم "قوات سورية الديمقراطية".

وقد يكون الأتراك في هذه اللحظة قد استوعبوا أن الأميركيين محرَجين اليوم بين عهدين متناقضين، لذا يحاولون الضغط عليهم عسكرياً وابتزازهم من خلال معادلة: إما القبول بالاحتلال التركي لمدينة الباب ثم الرقة، وإلا تحريض الفصائل السورية على إخراج الأميركيين عسكرياً من الريف الشمالي لحلب بكاملها؛ تماماً كما فعل أردوغان مع الأوروبيين حين نجح في ابتزازهم من خلال الضغوطات الإنسانية وتدفُّق اللاجئين.

3-   الإحراج الأميركي بالتقاتل بين الحلفاء (الأتراك والأكراد)، والسباق المحموم لكل منهم نحو مدينة الباب الاستراتيجية لتحريرها، إذ يحتاج الأكراد للسيطرة على "الباب" لتحقيق التواصل الجغرافي بين كانتونَي "عفرين" و"عين العرب"، بينما تحقق تركيا من خلال الوصول إلى "الباب" والسيطرة عليها هدفين: الأول، منع الأكراد من تحقيق ربط جغرافي للإقليمين الكرديين اللذين تسيطر عليهما "وحدات الشعب الكردية"، أما الثاني فيكون في فرض الجيش التركي كمحرّر للرقة من "داعش"، ما يعني تحقيق المنطقة الآمنة التي لطالما نادى بها أردوغان، والتي تقدَّر مساحتهابنحو 5 آلاف كيلومتر.

وضمن هذا الصراع بين الحلفاء، لا يستطيع الأميركيون التخلّي عن "قوات سورية الديمقراطية"، التي أظهرت أنها قد تكون الحليف الأفضل للقتال البرّي، كما لا يستطيع الأميركيون أن يتخلوا عن الأكراد بالذات بعدما أقاموا قواعد عسكرية في مناطق الأكراد في الشمال الشرقي السوري، لكن في المقابل إن الأهمية الاستراتيجية لتركيا وقدرتها على الابتزاز وممارسة الضغوط من خلال تأثيرها على مسار الصراع برمّته في سورية، يجعل من الصعب تحدّيها بدون خسائر.

واقعياً، تُعدّ الأشهر الفاصلة بين انتهاء عهد أوباما وتسلّم دونالد ترامب مقاليد السلطة في الولايات المتحدة من الشهور الصعبة في سورية، فالجميع يسعى لأن يحجز له مكاناً مميَّزاً على طاولة المفاوضات، وأن يفرض وجهة نظره وتصوره للحلّ على الإدارة الأميركية الجديدة، والجميع ينطلق من فكرة أنه في حال سار قطار الحل السوري بقيادة أميركية - روسية، فمن الافضل أن يكون داخل القطار لا على سكة الحديد.

2016/11/10

ترامب رئيسًا.. ماذا عن الشرق الأوسط؟


د. ليلى نقولا
يعيش العرب والمسلمون قلقًا غير مسبوق بوصول دونالد ترامب الى السلطة في الولايات المتحدة الاميركية، بسبب تصريحات ترامب العنصرية تجاه المسلمين التي رافقت حملته الانتخابية والتي استاء منها الجميع وفضّلوا كلينتون التي عرفت بقدرتها على تدوير الزوايا أكثر.
وكما هومعروف دائمًا فإن خطاب المرشح يختلف عن خطاب الرئيس الذي يصبح رئيسًا مسؤولا عن شعب بكامله ولا يعود بحاجة للعب على الغرائز والعواطف لكسب الأصوات، لذا لن يكون هناك خوف على الأميركيين من أصول مسلمة الا لمن يثبت أنه يعيش بطريقة غير شرعية أو يقوم بأعمال غير مشروعة في الولايات المتحدة مثلهم مثل باقي المهاجرين غير الشرعيين الذين هددهم ترامب بمحاسبتهم وطردهم.
أما بالنسبة للشرق الاوسط، فيمكن التكهن بسياسة الولايات المتحدة في هذه المنطقة من خلال ما أعلنه ترامب عن سياسته الخارجية في وقت سابق خلال حملته، وبالاخص في ملفات ثلاث هي الاهم:
-الملف النووي الايراني: عارض ترامب الاتفاق النووي الايراني واعتبره مضرًا بالولايات المتحدة، وكسب بذلك تأييد اللوبي اليهودي في أميركا وتأييد نتنياهو أيضًا، ولكن تجدر الاشارة الى أن الاتفاق النووي الايراني هو اتفاق دولي صدر بموجبه قرار من مجلس الامن الدولي بموجب الفصل السابع أي انه ملزم لكافة الدول، كما يعني عدم قدرة الاميركيين على تعطيله، كل ما يمكن للأميركيين أن يقوموا به هو الضغط على شركاتهم لعدم الاستثمار في السوق الايراني، وهذا يضر بالشركات الأميركية بالدرجة الاولى، أو أن يقوموا بفرض عقوبات آحادية جديدة على ايران وهذا لن يؤثر كثيرًا على الايرانيين، لأن السوق العالمي مفتوح أمامهم.
-الموقف من الارهاب: تعتبر كلينتون أنه يمكن اعتماد "الصبر الاستراتيجي" مع الارهابيين في سبيل تحقيق مكاسب أكبر هي إعادة تشكيل الشرق الاوسط، والاطاحة بالنظام السوري و"منعه من قتل المدنيين" كما عبّرت هي في مناسبات عدة وكما عبرت المجموعات الموالية لها ضمن وزارة الخارجية الاميركية في رسالة اعتراضيةغير مسبوقة تمّ تسريبها الوسائل الاعلام لاحراج الرئيس الأميركي باراك اوباما.
بينما يعتبر ترامب ان كلينتون والادارة الاميركية هم من صنعوا الارهاب وقاموا بتكبيره الى أن أصبح وحشًا لا يمكن السيطرة عليه، لذا يجب القطع مع الممارسات السابقة ومحاسبة المسؤولين عن تمويل الارهاب من الدول الخليجية، والتي كما كشفت ويكليكس عن كلينتون"انها كانت تعرف ان الحكومات القطرية والسعودية نفسها هي من تموّل الارهاب، وليس بعض الافراد الاثرياء الخليجيين ولكنها غضت النظر وسهلت ذلك".
- الموقف من القضية السورية: أعلن ترامب صراحة أن أولويته القضاء على داعش وليس على الرئيس السوري بشار الاسد بعكس هيلاري كلينتون التي أعلنت أنها ستقطع مع سياسة اوباما المترددة، وستزيد من الدعم العسكري للمعارضة "المعتدلة" وخصوصاً الأكراد والمجموعات السنية كما أعلنت هي نفسها في تصريحاتها خلال الحملة، وقد ردّ ترامب خلال المناظرة التلفزيونية على كلينتون بقوله " من هم هؤلاء؟ أنت لا تعرفين من هي هذه المجموعات التي تريدين تسليحها، وهذا هو الخطأ نفسه الذي ارتكبتيه في السابق وساهم في نشوء داعش".
ويرى ترامب أن الحل في سوريا يجب ان يكون سياسيا بالتعاون مع الروس، وأن الأميركيين عليهم أن يتخلوا عن استراتيجية تغيير الأنظمة بالقوة.
انطلاقًا من كل ذلك، نجد أن القلق في منطقة الشرق الاوسط من وصول ترامب غير مبرر، بالعكس، فإن صَدَق ترامب في تنفيذ وعوده حول السياسة الخارجية في الشرق الاوسط، فقد يكون هذا الأمرمسهلاً للحل في سوريا،وقد نشهد حلاً للنزاع السوري في العام المقبل بالاتفاق بين الروس والاميركيين، لكن هذا التفاؤل قد يعرقله قدرة البنتاغون في هذه الفترة الفاصلة على قلب موازين القوى على الارض في سوريا، بحيث يصبح باستطاعته أن يفرض وجهة نظر مختلفة ضد روسيا على الرئيس الجديد. من هنا، فإن الأشهر الفاصلة بين 8 تشرين الثاني 2016 وشباط 2017، ستكون محفوفة بالمخاطر الميدانية في سوريا حيث سيعمد كل طرف الى محاولة قلب موازين القوى لصالحه، لكي يفرض وجهة نظره على الرئيس الأميركي الجديد.

2016/11/03

انتخابات الرئاسة: هل تكون 8 آذار الخاسر الأكبر؟

د. ليلى نقولا
وها قد انتهى الفراغ في سدة الرئاسة في لبنان، وبات العماد ميشال عون رئيساً للجمهوية اللبنانية، وكما في كل معركة انتخابية، سواء كانت رئاسية أو برلمانية أو غير ذلك، تنقسم الأطراف اللبنانية وتتحالف، وينتصر الأقوى شعبياً وتنظيمياً أو تحالفياً، ولا تنفصل معركة الرئاسة عن هذا المعايير.

ولعل المفارقة الأكثر غرابة في الانتخابات الرئاسية، هو تغيّر مسار الانقسام السياسي في البلد، فبعد أن اختلطت التحالفات السياسية بعد التفاهم الرباعي عام 2005 وتفاهم 6 شباط 2006 بين التيار الوطني الحر (القادم من تحالف 14 آذار)، وحزب الله (الركن الأساسي في قوى 8 آذار)، تعود الأمور اليوم لتختلط، فتقف قوى 8 آذار بمعظمها ضد وصول الرئيس ميشال عون إلى السلطة، بينما يُسجَّل الانتصار الفعلي لقوى أربعة على الساحة السياسية وهي: التيار الوطني الحر بوصول عماده، وحزب الله بإيصال مرشحه الأساسي والوحيد، والقوات اللبنانية التي رشّحت العماد عون ودعمته، والرئيس سعد الحريري، الذي سيعود إلى رئاسة الحكومة بعدما أُخرج منها سابقاً.

ومع الإشارة إلى أن الأزمة السياسية التي تضرب الكتل السياسية ليست وليدة اليوم، بل هي قد تآكلت خلال عقد كامل من الزمن، ثم أتت الانتخابات الرئاسية لتكشفها على حقيقتها، واقعياً، تشير المعركة الرئاسية الأخيرة إلى أن الخاسر الأكبر من تلك الانتخابات هي قوى 8 آذار، ليس لأن الرئيس الجديد ضدها، بل لأنها أصرّت على الوقوف في الموقع الخاسر، ولم تعرف كيف تقود معركة الرئاسة اللبنانية بحنكة وبراغماتية، وتبيّن أن مصالح كل طرف في تلك القوى أقوى من التحالف الذي ربطها ببعضها بعضاً منذ مظاهرة "شكراً سوريا" ولغاية اليوم، ولهذا مؤشرات عدّة، أهمّها:

1-   من المفترَض بقوى 8 آذار أنها تخوض معركة "وجودية" في سوريا، وأنها جزء لا يتجزَّأ من المعركة الدائرة في المنطقة، ومن المفترَض أيضاً أن وصول العماد عون يعني انتصاراً لهذه القوى، إذ يتحالف التيار الوطني الحر مع أهم مكوّن في هذه القوى ورافعتها (حزب الله)، لكن الواقع العملي يشير إلى أن "الرابط السوري" هو المعيار الوحيد الذي يجمع تلك القوى في إطار تحالف عريض، وأن العناوين اللبنانية لا تشكّل أي معيار يمكن التعويل عليه لبقاء هذا التحالف.

2-   بالرغم من إعلان بعض كتل 8 آذار النيابية عن رغبتهم بالتصويت للرئيس عون، لكن ذلك الإعلان يجب أن لايحجب فكرة أساسية، وهي أنهم أيدوا العماد عون بعد انسحاب فرنجية، وبعدما أعلنت الكتل الكبرى الأخرى دعمها للتسوية الرئاسية، وباتت المعركة محسومة لصالح العماد عون، ما يعني أنهم بالسياسة لم يساهموا فعلياً في المعركة الرئاسية، وأتى إعلانهم استلحاقياً لا يمكن صرفه إلا في احتساب الأصوات فحسب.

3-   بالنسبة للرئيس نبيه برّي، وبالرغم من أنه كان واضحاً بقوله إن مشكلته مع الرئيس سعد الحريري الذي خانه بعد الاتفاق بينهما على التنسيق في ملف الرئاسة، ولم ينسّق معه في إعلان ترشيحه للعماد عون، تتركّز حملات الجمهور السلبية على الرئيس عون وتياره، وتحيّد الحريري.

4-   بالرغم من أن الموقف من القضايا الجوهرية المشتركة، كالموقف من المقاومة والصراع مع "إسرائيل"، والموقف من القضية السورية، والإرهاب وغيرها، تجمع العونيين مع تلك القوى، إلا أن شعارات التخوين المتفلتة بدون ضوابط، والاتهامات بالعمالة، والتي ينشرها جمهور من 8 آذار بمجمله (من غير جمهور حزب الله)، تشير إلى أن هوّة سحيقة باتت تفصل جمهور التيار الوطني الحر عن تلك الجماهير، وإن استمرت تلك الحملات فقد تقوم بتدمير كل ما قام به العماد عون لوصل ما كان قد انقطع بين اللبنانيين خلال سنوات الوجود السوري في لبنان، خصوصاً بعدما مارست الوصاية السورية عبر عبد الحليم خدام وغازي كنعان وغيرهما، أشدّ أنواع التنكيل والتفرقة بين اللبنانيين، وبين اللبنانيين والسوريين.

يقول المثل الشعبي: "للنصر ألف أب، أما الهزيمة فيتيمة"، أما اليوم، فالنصر يبدو صافياً لأهله، ومن كان يمكنه الانخراط في الانتصار جعل نفسه خارجه دون أن يُخرجه أحد، وبهذا الموقف تعود بنا الذاكرة إلى الهدية - الانتصار الذي تحقق في تموز 2006، والذي أهداه السيد حسن نصرالله إلى جميع اللبنانيين، فقام بعض قوى 14 آذار برفضها وأصرّوا على الانهزام، واليوم تمارس بعض قوى 8 آذار نفس السياسة، بحيث تصرّ على الانهزام، بينما هي مدعوّة دائماً للاحتفال بالنصر، ولم تزل.

2016/10/27

هل يؤدي تباين المصالح الى تفكك الأحلاف في سوريا؟

د. ليلى نقولا
يوماً بعد يوم يتعقّد المشهد الممتدّ بين الساحتين السورية والعراقية، وتختلط الأوراق، وتتباين مصالح الدول على جبهتي المحاور المتقاتلة، بدون أن تتعثر أو أن يكون هناك خلط كبير في مشهد التحالفات. ويبدو التحالف الذي بنته الولايات المتحدة الأميركية أكثر إرباكاً من تحالف موسكو - طهران - دمشق - حزب الله، لكن الأخير لا شكّ يعاني من تبايُن مصالح بين أطرافه، قد يكون حلّها مؤجَّل، فماذا لدى الطرفين؟

1- حلف واشنطن:
صحيح أن الاستراتيجية الأميركية اليوم، وبعد حوالى سنوات ستّ على بدء النزاع في سوريا، تهدف إلى تحقيق "التوازن السلبي" بين جميع الأطراف، ودفعها لمقاتلة بعضها البعض بدون أفق إلى أن يُستنزف الجميع، فتربح واشنطن بدون تدخُّل عسكري برّي مباشر على الأرض، لكن استراتيجية الاستنزاف هذه لم تكن أساس الاستراتيجية الأميركية منذ بدء النزاع في سوريا، بل كانت الاستراتيجية الأميركية بالتأكيد تهدف إلى ربح سريع نسبياً، والإطاحة بالرئيس بشار الأسد، وتنصيب بعض المعارضين الموالين لواشنطن مكانه.

عانت الاستراتيجية الأميركية منذ بدء النزاع ولغاية اليوم، من إخفاقات بنيوية لم يكن بالإمكان تخطّيها، منها تباين مصالح حلفائها، واضطرار الأميركيين للتفريط بأحدهم عند الضرورة، وعدم وجود(وعدم القدرة على صنع) جيش برّي يقاتل للأهداف الأميركية حصراً، وأخيراً التدخُّل العسكري الروسي المباشر الذي قلب موازين القوى، في وقت كانت واشنطن وحلفاؤها قد بدأوا يحققون الانتصارات، خصوصاً عند تأسيس "جيش الفتح"، الذي قام بهجوم ساحق واستطاع احتلال مناطق هامة في الشمال السوري.

وبغض النظر عن هوية الفائز في الانتخابات الأميركية المقبلة، فإن الرئيس الأميركي المقبل ومهما كانت استراتيجيته المعتمَدة، وسواء كانت أولويته إسقاط الأسد (هيلاري كلينتون) أو محاربة "داعش" (دونالد ترامب)، فسوف يصطدم بالمعوقات البنيوية نفسها، أي الأجندة التركية المستقلة والمتفلتة، وعدم القدرة على تشكيل مجموعات مسلّحة "موثوقة وفعّالة" للقتال، بالاضافة الى الوجود الروسي في سوريا.

2- حلف موسكو:
بالرغم من أن الظاهر يشي بعدم وجود تباينات في هذا الحلف، لكن التدقيق في مصالح أطرافه تشي بالكثير:

بداية، إن ارتكاز هذا التحالف على قوات بريّة مقاتلة من الجيش السوري وحلفائه؛ من حزب الله وبعض الميليشيات العراقية، يجعل من الأسهل عليه تحقيق انتصارات ميدانية، وتخطي العقبة التي تعاني منها واشنطن، وهي "القتال البرّي الفعّال".

لكن مصالح الحلفاء في هذا الحلف تتباين على المدى المتوسط والطويل، وأبرزها ما يلي:

أ‌-       إن موسكو التي تطمح إلى أن تمد أنابيب الغاز عبر "السيل التركي" إلى أوروبا، والمتحالفة مع "إسرائيل"، لا يضيرها أن تنفّذ واشنطن استراتيجيتها بقطع التواصل الجغرافي بين إيران وسوريا- لبنان، عبر كونتونات تؤسس لها في الشمال والشمال الشرقي السوري، فذلك ينهي المشروع المنافس الذي يصل الغاز الإيراني إلى السواحل السورية، ويضيّق إمكانية وصول السلاح إلى المقاومة في لبنان.

ب‌-  كما الأميركيين، يجد الروس أنفسهم محرَجين بالاستراتيجية التركية التوسعية في سوريا، لكنّ الاثنين يدركان مدى الأهمية الاستراتيجية لتركيا في المنطقة ككل، وفي النزاع السوري بشكل خاص، لذا يصمتان على ما يقوم به أردوغان في سوريا، سواء على حساب سيادة الدولة السورية (حليفة الروس)، أو على حساب الأكراد(حلفاء الأميركيين).

ت‌-  تتلاقى مصالح الإيرانيين مع المصالح التركية في محاولة تحجيم الأكراد والقضاء على أحلامهم الانفصالية، بينما يدافع الروس عن حق الأكراد في الاشتراك في المحادثات السورية في جنيف، وكانوا سبّاقين في الاعتراف بالحقوق الكردية، من خلال فتح ممثلية للأكراد في موسكو، علماً أن الروس لم يحاولوا أن يتحدّوا أو ينافسوا الحضور الأميركي العسكري في مناطق سيطرة "وحدات حماية الشعب" الكردية، ولم يعمدوا إلى تجهيز قواعد عسكرية لهم في الحسكة والقامشلي رداً على قيام واشنطن باستخدام مطار "رميلان" شمالي الحسكة، بالإضافة إلى قاعدة عسكرية أخرى قرب عين العرب - كوباني. واللافت أن الروس اكتفوا بالوساطة بين الجيش السوري والأكراد حين حاول الأكراد السيطرة على الحسكة وطرد الدولة السورية منها.

بالنتيجة، تتشابك مصالح الأطراف المتدخلة في النزاع السوري وتتباين بحسب القضية والطرف المعني، لكن الأحلاف لا تتفكك، ولن نشهد أي انتقال من محور إلى آخر، لعدم قدرة أي طرف على تحمُّل تلك التكلفة. لذا، وبانتظار جلاء غبار المعارك الدائرة في كل من العراق وسوريا، ستستفيد تركيا من سباق النفوذ بين الأميركيين والروس، وحاجة كل منهما لها كدولة محورية في المنطقة، بينما تبدو إيران الضامن لعدم التقسيم؛ باستخدام نفوذها في كل من العراق وسوريا لمنعه، بينما لا يبقى مفر أمام السوريين إلا الثقة بكل من الإيرانيين والروس وما يقررونه، فلولاهم لما استطاعت الدولة السورية الصمود والتقدّم بهذا الشكل.

2016/10/06

هل يشنّ اوباما الحرب على الجيش السوري؟

د. ليلى نقولا
يوماً بعد يوم تُقرع طبول الحرب الكبرى في سوريا، وتزداد التصريحات المتشجنة بين كل من الروس والأميركيين، خصوصاً بعدما سقط الاتفاق الهشّ الذي عقده وزير الخارجية جون كيري مع الروس حول حلب ووقف العمليات العدائية، والذي لم يعمّر سوى أيام معدودة، خرق خلالها المسلحون الهدنة حوالى 300 مرة، وانتهت بقصف طائرات التحالف الدولي للجيش السوري في دير الزور، قابلها قصف روسي لغرفة عمليات حلب، والتي ذكرت تقارير إعلامية أنه قتل فيها ضباط "إسرائيليون" وغربيون وأتراك.

وبالتوازي مع قرع طبول الحرب وارتفاع وتيرة التهديدات بين الروس والأميركيين، يعتقد البعض أنه ما زال بإمكان الرئيس باراك أوباما - وبالفترة المتبقّية لديه -إصدار الأوامر بشنّ حرب على النظام السوري، أو على الأقل شنّ ضربات جوية قاسية لتعطيل قدراته الجوية، ويعطون مثالاً على ذلك قيام الرئيس الأميركي بيل كلينتون بقصف العراق في آخر يوم من ولايته، بينما يعتقد البعض الآخر أن الأميركيين باتوا محرَجين في سوريا، لذا يحاولون التعويض عن هذا الإحراج بالصراخ والتهديدات.

وبغض النظر عن مدى دقة أي من التكهنات الواردة أعلاه، فبلا شكّ هناك خلط أوراق كبيرة في المنطقة، والأشهر المقبلة ستكون مصيرية في مستقبل النزاع السوري ككل، والأميركيون أمام خيارات كبرى في حال قرروا زيادة تدخُّلهم العسكري في سوريا:

أولاً: خيار الحرب الدولية الشاملة هو خيار مستبعَد، لأنه لا الروس ولا الأميركيين مستعدون للدخول في حرب مباشرة في الشرق الأوسط، لما لهذا الخيار من نتائج كارثية على العالم أجمع.

ثانياً: خيار الحرب الأميركية المحدودة على الجيش السوري، وتعطيل قدراته الجوية، وهو خيار مطروح منذ زمن، خصوصاً أن المتابع لسياق التباينات داخل الإدارة الأميركية، يلاحظ ما يلي:

1-   منذ بداية الأزمة السورية كان هناك قرار رئاسي واضح، يدعمه البنتاغون الأميركي، بعدم التدخل العسكري المباشر في سوريا، لأن الأميركيين الذين ما زالوا لغاية اليوم يدفعون ثمن حروب بوش في العراق وأفغانستان، هم بغنى عن مغامرة عسكرية أخرى يُدخلون فيها الجيش الأميركي في حرب يعرفون كيف تبدأ ولا يعرفون كيف تنتهي.

2-   في المقابل، كانت وزارة الخارجية الأميركية خلال عهد هيلاري كلينتون - وكما كشفت نصوص عقيدة أوباما في "ذي اتلانتك" - تميل إلى مزيد من التدخُّل العسكري الأميركي، وإلى إعطاء المجموعات المسلّحة في سوريا ما تحتاج إليه للانتصار في المعركة ضد النظام السوري. أما في عهد جون كيري، وبالرغم من جولاته التفاوضية المستمرة مع الروس، فالغالب أنه وجزء هام من إدارة وزارة الخارجية كانوا يميلون لصالح الخيار العسكري، والدليل الوثيقة الاعتراضية المسرَّبة عن 51 مسؤولاً في الخارجية، والتي انتقدت سياسة أوباما في سوريا وطالبت بتدخُّل عسكري أكبر، بالإضافة إلى تهديدات كيري المستمرة بالخطة "ب"، وأخيراً كلام كيري المسرَّب عن لقائه مع معارضين سوريين على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، والذي عبّر فيه عن إحباطه لأن جهوده الدبلوماسية لإنهاء النزاع في سوريا لم يتم دعمها بعمل عسكري تشنّه الولايات المتحدة.

الأرجح أن جون كيري، في تفاهمه الأخير مع لافروف، كان يراهن على تكرار سيناريو الهدنة السابقة، أي إلزام الروس والسوريين بفعل لا شيء، بينما يُعطى الأميركيون وحلفاؤهم الوقت الكافي لإعادة تسليح المجموعات المسلحة ومدّها بالإمداد اللازم لاستئناف القتال، بينما يأخذ المسؤولون العسكريون الأميركيون على ذلك التفاهم أنه كان بصدد سحب ورقة هامة يملكها الأميركيون في استراتيجتهم العسكرية في سوريا، وهي ورقة القتال عبر الجماعات المسلحة، ففصل "النصرة" عن المجموعات المسلحة الأخرى يعني فعلياً إضعاف المجموعات المسلحة في مقابل الجيش السوري، فالقتال في سوريا يعتمد بشكل رئيسي على "النصرة"، ولا يمكن للبنتاغون أن يخسر ورقة رابحة في النزاع السوري بدون أن يطلب في المقابل مكاسب سياسية كبرى لم تكن موجودة في الاتفاق الأخير.

تحسُّباً لهذا الخيار، صعّد الروس من وتيرة تهديداتهم العلنية، وقاموا بتزويد الجيش السوري بصواريخ "أس 300"، للدفاع عن النفس "القانوني والمشروع في القانون الدولي"، في حال قرر الأميركيون المغامرة بهذا الخيار.

برأيي، وبناءً على دراسة المعطيات الشخصية للرئيس أوباما، والتاريخية المتعلقة بدروس الحروب في الشرق الأوسط، وكلفة أي خيار عسكري غير محسوب النتائج، وتأثيره على نتائج الانتخابات الأميركية، يمكن القول إن الأميركيين لن يذهبوا الى خيار الحرب مع روسيا ولا إلى خيار الضربات الجوية المحدودة للجيش السوري، فما لم يفعله أوباما خلال أزمة الكيماوي لن يفعله وهو يغادر البيت الأبيض، وقد تكون حادثة دير الزور تجربة أراد الأميركيون من خلالها اختبار مدى استعداد الروس للردّ، وأتتهم النتيجة واضحة.

لذا، سيركّز الأميركيون في هذه الفترة الانتقالية على الانتصار على "داعش" في الموصل أو الرقة، بينما يحرصون في المقابل على عدم السماح للروس وحلفائهم بقلب موازين القوى العسكرية، والإبقاء على التوازن السلبي بين جميع القوى في سوريا، مما يستنزفها جميعها؛على طريقة "عدو عدوي في الشرق الأوسط يبقى عدوي".

2016/09/29

الروس... وسيناريو "الأفغنة" في سوريا


د. ليلى نقولا
بدأت الحملة العسكرية للجيش السوري لتحرير حلب بعد انهيار الهدنة الروسية الأميركية التي كان واضحاً أنها لم تكن جدّية من الأساس، والتي نشر الروس بعض وثائقها، بينما سرّب الأميركيون في وقت سابق بعض بنودها.

ولعل التستُّر الأميركي على بنود الهدنة، ثم قيام مقاتلات التحالف الدولي بشنّ غارة على الجيش السوري في دير الزور، والتمهيد لـ"داعش" لاحتلال بعض المراكز الاستراتيجية، يشيرون إلى أن الاستنزاف - استنزاف الجميع - ما زال الخيار الأفضل بالنسبة للإدارة الأميركية والبنتاغون، وهو ما دفعهم إلى التصعيد العسكري والإعلامي والاشتباك الدبلوماسي مع الروس في مجلس الأمن.

ولعل التصريحات الأميركية حول أن انهيار الهدنة في سوريا قد يؤدي إلى قيام حلفائهم الخليجيين والسعوديين، وحتى الأتراك، بإمداد فصائل المسلحين السوريين بصواريخ مضادة للطائرات قد تكون جزءاً من التفكير الاستراتيجي الأميركي بتحويل الساحة السورية إلى مستنقع للروس، مستعيدين التجربة الأفغانية، ويعتقد الأميركيون أنهم يستطيعون ذلك، كما قال رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال جوزيف دانفورد، خلال جلسة استماع أمام لجنة القوات المسلَّحة في مجلس الشيوخ، حين اعتبر أنه ما زال من غير الواضح إن كانت روسيا قد باتت في مستنقع في هذا الوقت في سوريا، قبل أن يستدرك ويُطمئن بأن الأميركيين وحلفاءهم يملكون مجموعة واسعة من الخيارات العسكرية التي يمكن أن تساعد في تغيير الحسابات الروسية في سوريا.

فما هي الاحتمالات المتاحة أمام خيار "الأفغنة"؟

بداية، شكّلت أفغانستان - تاريخياً - بالنسبة للروس درساً عسكرياً مؤلماً يستفاد من خبرته ويُخشى من تكراره، تمامًا كما الدرس الفيتنامي للأميركيين، وهو درس عسكري استفادت منه جميع الدول الكبرى التي تقاتل في حروب لامتماثلة، حيث يغرق الجنود في حروب العصابات التي من الصعب جداً لأي جيش نظامي أن ينتصر فيها. من هنا، يدرك الأميركيون أهمية أفغانستان في الذاكرة الجماعية الروسية، لذا يحاولون بشكل دائم التهويل على الروس - إعلامياً وسياسياً - بالمستنقع السوري لثنيهم عن التقدُّم العسكري في سوريا.

أما عسكرياً، فتجزم الدراسات العسكرية أن سلاح الجو وحده لا يستطيع أن يحسم معركة، لذا تحتاج المعارك إلى جيوش برّية تقاتل على الأرض لكسب الحرب. من هنا، فإن ما يخفف من الخسائر الروسية وإمكانية استنزافهم بشرياً في سوريا، الاتكال على القوة البرية التي يشكّلها الجيش السوري وحلفاؤه للتقدم برياً في المعارك التي يمهّد لها سلاح الجو الروسي.

أما بالنسبة للصواريخ المضادة للطائرات المحمولة على الكتف، والتي تمّ بالفعل إدخال البعض منها إلى الساحة السورية، وهي التي ساهمت في إسقاط بعض الطائرات السورية في وقت سابق، والتي يهدد الأميركيون باحتمال مدّ المجموعات المسلحة بها لإسقاط الطائرات الروسية، فأمام هذا الخيار مصاعب عدة، أبرزها:

1-      تبدُّل ولاءات المجموعات المسلحة في سوريا، وتفلُّت بعضها من قبضة الراعي الإقليمي أو الدولي والالتحاق بتنظيم "داعش" أو "النصرة"، وللأميركيين تجربة مُرّة مع "نواة الجيش السوري" الذين حاولوا تأسيسه في تركيا ولم يبقَ لهم منه سوى خمسة عناصر، بينما استسلم الآخرون وسلّموا أسلحتهم الأميركية لـ"جبهة النصرة".

2-      سوق بيع الأسلحة الذي يدرّ ملايين الدولارات على المُتاجرين به، وإمكانية قيام المجموعات المسلَّحة ببيع هذه الصورايخ لجهات غير مرغوب فيها، تقوم بإطلاق تلك الصواريخ على طائرات التحالف الدولي في سورية والعراق، أو على الطائرات التركية التي تقاتل في الشمال السوري.

3-      يعمل الطيران الروسي بشكل أساسي في وسط وشمال سوريا أكثر من الجبهة الجنوبية (الحدود الأردنية - أو الحدود مع الجولان المحتل)، لذا يجب إدخال الصواريخ تلك بعد موافقة تركيا على إدخالها، فهل يغامر أردوغان بالسماح بإسقاط طائرة روسية أخرى في الشمال السوري؟

4-      احتمال أن يقوم بعض خبراء التحالف الدولي بإدخال بضعة صواريخ، وإطلاقها على الطائرات الروسية لإسقاطها، لإرسال رسالة تهديد للجيش الروسي، لكن أمام هذا الخيار مصاعب أخرى، أهمها شخصية فلاديمير بوتين، الذي سينتقم بشكل شديد، وإمكانية الرصد والاستطلاع المتطورة التي ستمكّن الروس من كشف مسار هذه الصورايخ ودخولها والجهة التي أطلقتها، والتي قد تسبب حرب مباشرة بين الغرب وروسيا، وهو خيار عالي الكلفة والمخاطر قد لا يتحمل أحد تكلفته.

في النتيجة، يبدو خيار استنزاف الروس من خلال "الأفغنة" صعباً في المدى القصير والمتوسط، بينما قد يكون متاحاً على المدى الطويل، ويدرك الروس جيداً هذا الأمر، لذا يهرولون إلى التفاهم مع الولايات المتحدة كلما سنحت لهم الفرصة، إذ تبقى كلفة أي حل سياسي أفضل بكثير من الاستنزاف الطويل الأمد، ولعل تجربة فشل الهدنة الأخيرة دفعتهم إلى الإيمان بأن لا حلّ متاح أمامهم للتخلص من سيناريو "الأفغنة" المرعب، سوى الذهاب إلى محاولة حسم عسكري يقلب موازين القوى السورية، ويدفع الرئيس الأميركي القادم إلى طاولة المفاوضات.

2016/09/22

بين عُقَد الهدنة السورية وإفشالها...مَن يحكم أميركا؟


د. ليلى نقولا
أثارت الضربات الجوية التي شنّتها طائرات التحالف الدولي على الجيش السوري في دير الزور نوعاً من الصدمة، لسببين؛ الأول: أن حبر التفاهم الروسي الأميركي حول الهدنة لم يجفّ بعد، والثاني: ما ظهر أنه نوع من "التعاون" بين التحالف الدولي و"داعش"، بعدما استفاد التنظيم الإرهابي من الضربة الجوية ليسيطر على بعض المناطق الاستراتيجية الهامة في سوريا.

وبالرغم من إعلان التحالف أن الأمر كان خطأ استخبارياً، وأنه يحقق في الموضوع، إلا أن كل ما حصل منذ إعلان الاتفاق ولغاية اليوم يثير العديد من التساؤلات حول آلية اتخاذ القرار في الولايات المتحدة، خصوصاً بسبب ما ظهر - إعلامياً على الأقل - من أن البنتاغون ساهم من خلال هذه الضربة الجوية في إفشال هدنة كانت وزارة الخارجية الأميركية قد اتفقت عليها مع الروس.

يُجمع الباحثون على أن دراسة صُنع القرار في الإدارة الأميركية هي مغامرة صعبة، فهناك العديد من العوامل والظروف الموضوعية والتاريخية والاجتماعية، بالإضافة إلى تعدُّد اللاعبين والقوى في صياغة والتأثير عليه، مع العلم أن أياً منها ليست له صفة الحسم في كل منها، فما يستطيعه طرف ما في قضية ما، قد لا يجعله المؤثر الحاسم في كل القضايا.

بشكل عام، تتأثر عملية صُنع القرار في أي دولة بأمرين: الطرف المقرِّر، والبيئة أو الظروف الموضوعية والزمانية والمكانية المتعلقة بالقرار، علماً أن الظروف التاريخية السابقة للقرار، والتأثيرات اللاحقة للقرار، تشكّل في ذهن صاحب القرار ومحيطه العديد من الدوافع السيكولوجية والموضوعية لاتخاذ القرار أو عدمه.

وفي تطبيق ذلك على الأميركيين والتفاهم مع الروس، لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نُغفل تأثير وتصوّرات الحرب الباردة وما لها من جذور نفسية وسيكولوجية في ذهن صانع القرار والجمهور الأميركي على حد سواء، ما يعني أن أي تفاهم يعقده الأميركيون مع الروس سيكون مطبوعاً بعدم الثقة والخوف من "العدو" التاريخي.

وتبدأ عملية صنع القرار عامة في السياسة الخارجية، بدوافع أساسية، أي الحاجة إلى اتخاذ قرار بسبب وجود تغيرات في البيئة الخارجية، والذي يتأثر بشكل أساسي وحاسم بتقدير للموقف "Definition of situation"، أي نظرة صاحب القرار ورؤيته للتطورات، ووعيه للأخطار. من هنا، ندرك أن البيئة العسكرية المتشكّلة في سورية بعد حصار حلب، جعلت الأميركيين يؤمنون بحاجة إلى عقد تفاهم - هدنة مع الروس يحفظ الستاتيكو الميداني في سورية خلال مرحلة انتقالية بين رئيسين أميركيين، لأن خسارة حلب في هذا الوقت بالذات كانت ستسبب انقلاباً في موازين القوى لصالح الجيش السوري وحلفائه.

ولعل تقدير الموقف هذا، هو التباين الأساسي بين كل من وزارة الخارجية الأميركية والبنتاغون، فالتصورات لحجم الخطر والتهديد وفُرَص نجاح الهدنة في سورية تأثروا بالتصورات العقائدية والخلفيات الفكرية والاجتماعية وأدوار كل منهما.

ظهر التباين واضحاً بين كل من البنتاغون ووزارة الخارجية في خيار التفاهم مع الروس، وتجلّى في عوامل عدّة، أهمها: الهدف من هذه الهدنة، وتأثيرها على الأهداف الأخرى التي يريد الأميركيون تحقيقها في سورية، والنتائج المترتبة عليها، وهل هناك بدائل أفضل من خيار التعاون مع الروس لتحقيق الأهداف الأميركية؟

كما يبدو من دراسة صنع القرار الأميركي في الذهاب إلى الهدنة، فإن الرئيس الأميركي ومعه الخارجية اتخذا صيغة "الخيار العقلاني" (Rational choice)، الذي يؤمّن المصلحة الأميركية، أي دراسة البدائل، واختيار الموقف الأقل كلفة والأكثر ربحاً، أي تحقيق الربح النسبي الأكبر بإطالة فترة الاستنزاف، ومنع "العدو" من تحقيق مكاسب ميدانية، مستغلاً انشغال الأميركيين بانتخاباتهم الرئاسية.

بينما يبدو أن البنتاغون الرافض بقوة لخيار التفاهم مع الروس، قد اختار "النموذج الإدراكي" (Cognitive model)، أي رفض الخيارات التي أثبتت عدم جدواها في السابق، والبحث عن البدائل التي تتفق مع التصورات والعقيدة الأميركية التي تجد في الروسي "خطراً دائماً" على الأمن القومي الأميركي، ويجب منعه من التحوُّل إلى قوة عالمية، أو على الأقل من التحوُّل إلى قوة تُقاسم الأميركيين النفوذ في الشرق الأوسط.

كل هذا مقبول خلال صناعة القرار، لكن المشكلة تكمن لدى الأميركيين في أن الانقسام داخل الإدارة الأميركية ظهر إلى العلن بعد اتخاذ القرار، وقامت الأطراف الأميركية بمحاربة بعضها على الأرض السورية، فالغارة الجوية في دير الزور أصابت جون كيري قبل أن تصيب الجيش السوري، وأضرّت بصورة أميركا في الشرق الأوسط قبل أن تضرّ بالروس، وشوّهت صورة الرئيس باراك أوباما المتَّهم بالتردد والعجر؛ بإظهاره غير قادر على فرض وجهة نظره على المعترضين داخل إدارته.. علماً أن هذا التحليل يبقى بناءً على فرضية أن الخارجية الأميركية كانت صادقة بالذهاب إلى التفاهم مع الروس، اللهم إلا إذا كان الموضوع كله توزيع أدوار داخل الإدارة الأميركية، لكنها فرضية مستبعَدة، بسبب الضرر الكبير الذي لحق بصورة الإدارة الأميركية، ولا ينسجم مع صورة الولايات المتحدة كدولة عظمى، آمَنَ الجميع في العالم بتجذُّرها بالمؤسساتية والديمقراطية.