2021/02/14

الارهاب الفكري: "ثورة 17 تشرين" في لبنان نموذجاً

 


 

يعاني لبنان من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية منذ ما قبل "الثورة" في 17 تشرين الأول من عام 2019، والتي ما زالت مستمرة لغاية اليوم، والتي سببها الفساد المستشري والسياسات الاقتصادية الرعية والنهب المنظّم للخزينة العامة، والتي ازدادت حدّة بعد أزمتي كورونا ووقوع لبنان تحت تأثير سياسة "الضغوط القصوى" التي مارسها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

 

وبالرغم من بشائر الأمل التي حملتها الثورة، كان الأخطر الذي رافقها، هو الترهيب الفكري الذي مورس في الاعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، من قبل "نخب" تقود عملية تحفيز الجماهير و"الغوغاء" للهجوم على أي مخالف للرأي لإسكاته.

 

واذا كان لا بد من تفنيد هذه الظاهرة بسبب أهميتها، فإننا نرصد ما يلي:

 

أولاً - في التعريف

 

 بداية، وكما في حالة الارهاب بشكل عام، يختلف الباحثون في تعريف ظاهرة الارهاب الفكري. ويشير العديد منهم الى الارهاب الفكري يقوم على مبدأ محاولة فرض فكرة أو إيديولوجية معينة، وعدم قبول أي رأي مخالف لها، ولا يجب ظهوره بالأساس، ومصادرة حرية الآخر (المختلف) في الرأي والتعبير.

 

ويعتقد كثر من الباحثين أن الارهاب الفكري يعدّ أخطر من الارهاب العسكري الذي تمّت إدانته في العالم ومكافحته، ولاستخدامه وسائل غير مرئية معظم الاحيان. علماً أن الاثنان ينطلقان من منطلق واحد (امتلاك إطلاقية الحقيقة) ولو اختلفت أساليبهما، فالارهابي التكفيري يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة وأن لا حقيقة سواها، وبالتالي أن قتل أي فكرة معارضة أو مخالفة هو حق مشروع باسم إطلاقية الحقيقة التي يملكها.

 

تاريخياً، عرف العالم خلال فترات متعددة من الارهاب الفكري، خاصة خلال قرون الظلام الاوروبية، حين انتشرت محاكم التفتيش وساد التكفير والقتل والاتهامات الجاهزة بالهرطقة ضد كل مخالف لرأي الكنيسة. ثم مع الثورة الفرنسية، ترافق الارهاب والقتل مع موجة من الارهاب الفكري بحجة الحفاظ على قيم الثورة ونقاوتها.

 

أما اليوم، ومع انتشار وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وشهرتها، يمكن تعريف الإرهاب الفكري بأنه محاولة لإقصاء "الآخر المختلف في الرأي"، ومنعه من التعبير بحرية عن رأيه وأفكاره، عن طريق ممارسة الضغط الشعبي عليه وترهيبه، عبر إطلاق "موجة مبرمجة" لترهيبه عبر شيطنته، وإفلات مجموعة من "الغوغاء" والحسابات الوهمية للهجوم عليه وشتمه وتحقيره، من أجل إخافته وإسكاته.

 

ثانياً - الظاهرة في لبنان

 

واقعياً، هي ليست المرة الأولى التي يحصل فيها ترهيب فكري إعلامي وسياسي في لبنان، فقد شهدنا موجة مماثلة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حين استعمل تيار المستقبل وقوى 14 آذار عموماً، الترهيب الفكري ضد الآخرين، واصفين كل معارض لهم أو مختلف بالرأي، بأنه "صنيعة" أو موالٍ "للنظام الأمني السوري اللبناني"... ولم يكتفِ تيار المستقبل بذلك، بل أدرج ضمن حملته الانتخابية عام 2005 في عكار (شمال لبنان) والتي تلت عملت الاغتيال بأشهر، شعاراً مثيراً بعنوان "كل من ينتخب اللوائح المنافسة، فهو ينتخب قتلة الحريري"!.

 

ولا شكّ إن "ثورة 17 تشرين"  في لبنان، اقتبست معظم أساليب معظم "الثورات الملونة" في العالم، والتي تعتمد استراتيجيات إعلامية وإعلانية شعبوية، لتحقيق التغيير السياسي المنشود عبر:

 

- السيطرة عبر عملية ممولة لقيادة الوعي السياسي والاجتماعي وتغييره ليأخذ منحى جديداً يختلف عن المنحى السائد سابقاً، وذلك عبر اعتماد تقنيات إعلامية وإعلانية حديثة لتقويض ثقة الشعب بمؤسساته، ليس السياسية فحسب، بل والاجتماعية والأمنية (الجيش) أيضاً.

 

- التمكين وهو ما سماه غرامشي "الهيمنة الثقافية"، أي تقويض كل القيم التقليدية السائدة، سواء الأخلاقية أو أو الثقافية أو الدينية أو الاجتماعية أو السياسية الخ.. لخلق إطار بديل عنها يسوّق للافكار "الثورية" الجديدة وترسيخها في الوعي الاجتماعي والثقافي.

 

ويعتبر غرامشي أن الهيمنة الثقافية ضرورية من أجل نجاح أية سلطة، فلا يكفي للطبقة الجديدة التي تستلم الحكم أن تسيطر بالسياسة والعسكر والاقتصاد، بل عليها أن تخلق طبقتها الخاصة من المثقفين والفنانين والادباء ورجال الدين لتكريس تلك السيطرة وترسيخها، وهو ما نلاحظه في جميع الثورات الشعبوية في العالم.

 

وهكذا، نجد أن "ثورة 17 تشرين" في لبنان، وبالرغم من أنها لم تستطع أن تسيطر على السلطة وتشكّل إطاراً سياسياً بديلاً عن الطبقة السياسية الحاكمة، إلا أنها استمرت في استخدام نفس أسلوب الثورات الأخرى، أي الترهيب الفكري وشيطنة كل معارض للرأي وتخوينه. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، إطلاق صفات "الغنم والعبيد" على كل مواطن مناصر للأحزاب، ثم اتهام مناصري الأحزاب بدعم "القتلة" بعد انفجار المرفأ في 4 آب الخ...

 

ومع استخدام النعوت البذيئة والتحقيرية بهدف منع كل لبناني من المجاهرة برأي مخالف، على قاعدة " أو تكون مثلنا تماماً، أو لا يحق لك أن تكون"، تقلّص شعار "كلن يعني كلن"، واستمر بالتراجع والاستثناءات، حتى باتت الغالبية العظمى من "النخب" المنوطة بمهمة القيادة الفكرية للثورة، تركّز على طرفين وحيدين هما التيار الوطني الحر وحزب الله لشيطنتهما.

 

علماً أن هذا الانحراف ليس الوحيد الذي وقعت فيه "ثورة 17 تشرين" خلافاً لكل المعايير المعتمدة لنجاح الثورات الملونة في العالم. فمن أبرز عوامل النجاح في تلك الثورات، هو القدرة على الحصول على أوسع تأييد ممكن من شرائح المجتمع كافة، وهذا ما لم يتقنه "نخب الثورة.

 

الخطأ الذي وقع فيه "نخب الثورة" في لبنان مؤخراً والذي يتناقض مع "وصفات الثورات الملونة" هو العنصرية ضد فئة شعبية واسعة من المواطنين اللبنانيين. فلقد تحوّل "الخطاب الثوري" بعد مقتل لقمان سليم، من شيطنة الأحزاب السياسية الى شيطنة بيئة وطائفة بكاملها، عبر تقسيم عنصري للشيعة في لبنان "الشيعة المثقفون (جماعتنا) والشيعة المتخلفون (من هم ضدنا)".

 

بكل الأحوال، هي ليست معركة جديدة مع الارهاب الفكري والعنصرية، فمنذ القرون الوسطى ولغاية اليوم، عانت الكثير من الفئات المجتمعية من المآسي والظلم والترهيب والتنميط الثقافي، ومن أجل كسر ثقافة الإلغاء ضمن تنميط عنصري عنوانه "نحن الأخيار وهم الأشرار "، أو كما يقول سارتر "الآخرون هم الجحيم".

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق