2024/02/01

الصراع في البحر الأحمر: السعي لـ "الهيمنة العالمية"


في وقت تستمر فيه عمليات التحالف الاميركي في البحر الأحمر، أعلن مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عن مهمة مماثلة ولكن مستقلة للاتحاد الأوروبي اطلق عليها اسم  "أسبايرز"، مهمتها "حماية السفن في البحر الأحمر"،  كما قال بدون تحديد الدولة الاوروبية التي ستقود تلك العملية.

واللافت في هذه المهام العسكرية البحرية، قيام الاميركيين والاوروبيين بمهام بحرية عسكرية في البحر الأحمر، لمواجهة جماعة "انصار الله" الحوثية التي قالت أنها ستفرض حظراً على السفن المتجهة لاسرائيل أو التي يملكها اسرائيليون، بهدف وقف الحرب الاسرائيلية على غزة،  علماً أنه كان من الاجدى أن يعالج الاميركيون والاوروبيون سبب المشكلة وجذورها لا نتائجها.

واقعياً، ترتبط العمليات البحرية في البحر الأحمر الى حدٍ بعيد بالسيطرة على ممرات وطرق الملاحة الاستراتيجية، لانها تشكّل المفتاح الأساسي للسيطرة العالمية. علماً أن التاريخ العالمي يشير الى السيطرة على البحار والطرق الملاحية كانت سبباً رئيسياً في هيمنة بريطانيا على العالم وسبباً في نجاح ما يسمى  "السلام البريطاني Pax Britannica".

كان يُنظر إلى "السلام البريطاني" (1815-1914)، أو قرن "السلام الأوروبي"، حيث بلغت بريطانيا ذروتها كقوة مهيمنة، على أنه دليل على أن لعب دور "الموازن من خارج الصراع"  يمكن أن يكون استراتيجية كبرى ممتازة لقوة مهيمنة.

أما الامور التي ساهمت في ارساء "السلام البريطاني" أو الهيمنة البريطانية على العالم فهي:

1. الانتصار في الحروب ضد نابليون.

2. قدرات اقتصادية وعسكرية هائلة لتحقيق مكانة القوة العظمى.

3. تفوق بحري وتكنولوجيا عالية وقوات برية هائلة للمساهمة في توازن القوى الأوروبي.

4. الاعتراف العالمي بوضع بريطانيا كقوة عظمى.

وتشير الدراسات الى إن قدرة بريطانيا على بناء إمبراطورية عالمية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت ممكنة بفضل تفوقها البحري. خلال تلك الفترة، اعتمدت السياسة الخارجية البريطانية بشكل كبير على ما يسمى استراتيجية "حكم الأمواج"، وهي استراتيجية تستلزم تطوير أسطول قوي للدفاع عن المصالح البريطانية على مستوى العالم، وخاصة مستعمراتها وخطوطها التجارية، بالاضافة الى قيام البحرية الملكية بالتحكم والسيطرة على الطرق المائية الاستراتيجية لدعم المصالح البريطانية. وعليه، باتت بريطانيا قادرة على فرض شروطها في جميع أنحاء العالم  وهو أمر ضروري للحفاظ على هيمنتها ونفوذها في العالم.

 

وبنفس التصور، إن انتشار الولايات المتحدة العسكري في مياه الشرق الأوسط، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية، خاصة في الخليج وباب المندب، المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، والمحيط الهندي، مدفوع باهتمامها بالحفاظ على طرق التجارة البحرية وحرية الملاحة، يشي بمحاولتها السعي الى ممارسة نفوذ عالمي شبيه بنفوذ بريطانيا العظمى خلال فترة "السلام البريطاني".

لكن الفارق بين السلام البريطاني، ومحاولة الولايات المتحدة فرض نموذج مشابه بعنوان "السلام الأميركي"، يتجلى في الانخراط الاميركي المكلف عسكرياً في العالم ومحاولة السيطرة على العالم عبر المواجهة المباشرة مع القوى الكبرى في النظام، وهو ما لم تفعله بريطانيا خلال فترات سيطرتها التي أدركت كلفة الانخراط العسكري المكلف وتوسعه.

وتذكر الدراسات التاريخية أنه حتى خلال الحروب النابليونية، وعندما اضطرت بريطانيا إلى مواجهة وكبح جماح الصعود المحتمل لقوى أوروبية عظمى أخرى، حافظت على استراتيجية "الانعزال" التي ساعدتها في الحفاظ على نفوذها. وقد لخص نايجل جونز، أحد المؤرخين المهمين في هذا الاطار، الاستراتيجية البريطانية الكبرى في القرن التاسع عشر قائلاً إن "بريطانيا، التي كانت تحكم أمواج العالم، كانت راضية بأن تهتم بشؤونها على هامش أوروبا، وتركّز جهودها واهتمامها على الثراء والبحبوحة ودعم الصناعة الفيكتورية، فاتسعت إمبراطوريتها حتى حكمت ربع الكرة الأرضية" في حين كان الأوروبيون مشغولون بالاقتتال وتوازن القوى فيما بينهم.

وهكذا، وخلال القرن التاسع عشر، لم تكن الهيمنة البريطانية مبنية على استراتيجية «توازن القوى» التي تحاول الولايات المتحدة الأميركية أن تطبقها اليوم، فتقوم بمحاولة منع أي قوة من الظهور على المسرح العالمي، بل استفاد البريطانيون من السلام الذي تحقق نتيجة لتسويات «الوفاق الأوروبي» عام 1815، ولعبوا دور "الراكب بالمجان  free rider على حساب الدول الاوروبية الأخرى. وهكذا استفاد البريطانيون ووسعوا نفوذهم وصناعتهم ونعموا بالبحبوحة على حساب الدول الأخرى التي اقتتلت مع بعضها وعانت من تكاليف الحروب.

في النتيجة، ان الاستراتيجية التي تتبعها إدارة بايدن، والتي سعت الى الانخراط في صراع بالوكالة مع الروس، واندفعت الى احتواء الصين عبر تأسيس تحالفات في محيطها الجغرافي، وتطويقها بقواعد عسكرية، بالاضافة الى الانخراط المكلف في الشرق الاوسط للدفاع عن اسرائيل وترسيخها كقاعدة غربية متقدمة للهيمنة الغربية ومحاولة "السيطرة على الأمواج" بالقوة العسكرية.. كل هذه الامور تجعل من قدرة الأميركيين على فرض نمط امبراطوري شبيه بالامبراطورية البريطانية، وفرض "السلام الأميركي Pax Americana والسيطرة العالمية أصعب لأن الانخراط  العسكري مكلف ويحتّم مواجهة مقابلة ستكون تكاليفها كبيرة أيضاً على الأميركيين والعالم.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق