2024/01/26

قرار محكمة العدل الدولية: جريء لكن ناقص

أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها المبدأي في قضية جنوب أفريقيا ضد اسرائيل، حول قيام اسرائيل بانتهاك اتفاقية "منع ابادة الجنس" الصادرة عام 1951، والتي تشترك فيها كل من اسرائيل وجنوب أفريقيا.

وفي قراءة أولية للحكم الصادر عن المحكمة يمكن الاشارة الى ما يلي:

1-     قبلت المحكمة الاختصاص في النظر في هذه القضية،  وقالت انه لا يمكن قبول طلب إسرائيل برفض النظر في القضية. ووجدت أنه يحق لجنوب أفريقيا مساءلة إسرائيل بشأن عدم التزامها باتفاقية منع الإبادة الجماعية، وبالتالي، للمحكمة السلطة في اتخاذ تدابير ضد أي ضرر وخطر قائم، ويمكنها إصدار حكم نهائي.

وهذا يعني أن اسرائيل ستخضع للمحاكمة في القضية وهذه اشارة ايجابية، اذ لأول مرة في تاريخها – ومنذ اعمال القتل المنهجي من عام 1948- تكون اسرائيل عرضة للمساءلة أمام القانون الدولي.

وهكذا، ونظراً للمحاولات الغربية الدائمة لحماية اسرائيل، سيكون القانون الدولي والمؤسسات الدولية على المحك، لان الضغوط التي ستتعرض لها المحكمة وقضاتها ستكون كبيرة لمنع قرار نهائي بتجريم اسرائيل بارتكاب ابادة في غزة.

 

2-     أقرّت المحكمة أن الفلسطينيين هم "جماعة" محمية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، كما ارتكزت الى أحاديث رسمية من قبل مسؤولين اسرائيليين تثبت "النية الاسرائيلية" بإبادة الفلسطينيين في غزة.

وهذا الاقرار بأن الفلسطنيين "جماعة"، بالاضافة الى تأكيد المحكمة "وجود نية اسرائيلية" تثبتها التصاريح الرسمية الاسرائيلية من قبل الرئيس الاسرائيلي ووزراء ومسؤولين اسرائيليين، تكون المحكمة قد قطعت نصف الطريق المطلوب لتجريم اسرائيل بتهمة الابادة في غزة.

وكانت المادة 2 من اتفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعية، التي تستند اليها المحكمة في قرارها والنظر في القضية اليوم، تعرِّف الإبادة الجماعية على أنها أي من الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:

 

(أ) قتل أعضاء من الجماعة؛

 

(ب) إلحاق أذى بدني أو معنوي جسيم بأعضاء من الجماعة؛

 

(ج) إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا؛

 

(د) فرض تدابير تهدف إلى الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛

 

(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.

 

وبالنظر الى ما أوردته رئيسة المحكمة من أعمال قامت بها اسرائيل في غزة، والاقتباسات التي نقلتها عن مسؤولين في الامم المتحدة والوكالات الدولية، فإن اسرائيل ارتكبت "عمداً" معظم هذه الاعمال، وكانت لديها "النيّة المسبقة" للقيام بتلك الاعمال "لاهلاك الجماعة كلياً أو جزئياً".

هذا القرار وهذه الحيثيات التي أوردتها المحكمة اليوم، تعتبر تاريخية وجريئة، وستكون علامة فارقة ومرتكزاً قانونياً، اذا انها ستشكّل معياراً لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية التي تنظر في قضية فلسطين من ناحية المسؤولية الجنائية أن تتخطاها. وسيكون من الصعب على المحكمة الجنائية الدولية (اذا استمرت في القضية ضد اسرائيل) أن تتنكر للاثباتات التي أوردتها محكمة العدل الدولية.

وكان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية "كريم خان" قد زار اسرائيل وأطلق تصريحات أقل ما يقال فيها أنها ساوت الضحية بالجلاد، وسلط على ما سماه "الارتكابات التي قامت بها حماس والتي تنتهك القانون الدولي الانساني" بدون ان يشير بالمثل الى ما قامت به اسرائيل مؤكداً  لاسرائيل التزامه مبدأ "التكامل" اي ان المحكمة قد تتذرع بقيام المحاكم الاسرائيلية بالنظر في ارتكابات قام بها الجيش الاسرائيلي ليدعي بعدم اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

3-     أمرت المحكمة في حكمها اليوم، أن تقوم إسرائيل "باتخاذ إجراءات لمنع أعمال الإبادة الجماعية في قطاع غزة، ويجب تقديم تقرير عنها خلال شهر واحد"، وإنه يتعين على إسرائيل منع ومعاقبة التحريض على الإبادة الجماعية في القطاع، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وباتخاذ المزيد من الإجراءات لحماية الفلسطينيين.

اللافت في القرار أيضاً، أن المحكمة تخاذلت بينما لم تأمر اسرائيل بوقف العمليات العسكرية في القطاع (فوراً)، أمرت حماس وباقي المجموعات الفلسطينية باطلاق سراح الرهائن فوراً.

هذا القرار يثبت بما لا يقبل الشك انحياز المحكمة الى اسرائيل. ففي حكم صادر من قبل المحكمة في نزاع أوكرانيا ضد روسيا، أمرت المحكمة روسيا "بضرورة أن تعلّق روسيا العمليات العسكرية في أوكرانيا على الفور".

 

وجاء الحكم ضد روسيا رداً على دعوى رفعتها أوكرانيا في 27 شباط/فبراير، متهمة روسيا بالتلاعب بمفهوم الإبادة الجماعية لتبرير عمليتها العسكرية. وخلال اعلان القرار ضد روسيا، قالت رئيسة محكمة العدل الدولية: "في الواقع، فإن أي عملية عسكرية، وخاصة على النطاق الذي ينفذه الاتحاد الروسي على أراضي أوكرانيا، تؤدي حتماً إلى خسائر في الأرواح، وإلحاق أضرار نفسية وجسدية، وإلحاق أضرار بالممتلكات والبيئة."

وفي المقارنة بين الحكمين، وبين ما اوردته الرئيسة من حيثيات القرارين، فإن الدعوة لروسيا جاءت لوقف العملية (فوراً) لانها ستؤدي حتماً الى خسائر في الارواح، بينما قالت الرئيسة في قضية غزة "ان عمليات اسرائيل قتلت العشرات من آلاف الفلسطيينين، وهجرتهم وجعلت غزة مكاناً غير قابل للعيش"، وبالرغم من ذلك فإن القرار لم يطالب اسرائيل بوقف عدوانها (فوراً) بل اعطاها مهلة شهر لتقديم اثباتها أنها لا ترتكب اعمالاً تعتبر من أعمال الابادة في غزة.

 

في النتيجة، لم يكن قرار محكمة العدل الدولية على قدر التوقعات المأمولة منه، لكنه شكّل سابقة دولية قانونية، وتاريخية تدين اسرائيل على أعمالها ضد الفلسطينيين وهو قرار يمكن الاستناد الى حيثياته للدعاوى ضد اسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية، وفي المحاكم الوطنية في الدول التي تتيح قوانيها تطبيق مبدأ "الولاية القضائية العالمية".


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق