شكّلت قارتي آسيا وأفريقيا خلال فترات ما قبل القرن العشرين، مجالاً للتنافس الاستعماري بين الدول الأوروبية الاستعمارية، التي استخدمت نفوذها وجيوشها لفرض سيطرتها على تلك الدول، فقامت بنهب ثرواتها، واستغلالها، واستخدامها أسواق لتصريف الإنتاج.
وخلال القرن العشرين، أدّى التنافس الاستعماري ورغبة ألمانيا في دخول
نادي الأقطاب العالميين (بعد توحيدها) الى حربين عالميتين بين القوى الأوروبية
نفسها، انخرطت فيها لاحقاً الولايات
المتحدة الأميركية. كانت نتيجة تلك الحروب أن الدول الاوروبية الاستعمارية فقدت
هيمنتها على المستعمرات رويداً رويداً، وحلّ النفوذ الأميركي والسوفييتي مكان
النفوذ الاوروبي السابق.
اليوم، نجد أن الذهنية الاستعمارية الأوروبية القديمة عادت لتبرز من جديد
ويمكن أن نشير الى اتجاهين على سبيل المثال لا الحصر:
-
الاتجاه الأول: التعامل
مع الحرب الأوكرانية
اعترف العديد من القادة الأوروبيين بأنهم كانوا – منذ عام 2014- يعدّون
العدّة لحرب مع روسيا في أوكرانيا. وأثبتت الوثائق المنشورة أن الأميركيين
والأوروبيين كانوا بالفعل قد أعطوا تعهدات لغورباتشوف والمسؤولين السوفييت بعدم
توسع الناتو والاقتراب من الأراضي الروسية وذلك خلال فترة التفاوض على توحيد
ألمانيا
(انظر صفحة أرشيف
الأمن القومي، جامعة جورج واشنطن الأميركية).
وبالرغم من الأسئلة والشكوك المطروحة حول مسؤولية الناتو والاوروبيين والأميركيين في دفع روسيا دفعاً الى تلك الحرب من خلال الاعلان عن ضمّ أوكرانيا الى الناتو مرات عديدة، يحاول الاوروبيون التعامل مع روسيا كما تعاملوا مع ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى وخاصة في مؤتمر فرساي.
عام 1919، حمّل الأوروبيون
ألمانيا مسؤولية الحرب كاملة بصورة منفردة (وهو ما كان يعارضه الأميركيون)، وفرضوا
عليها تعويضات هائلة لإعادة إعمار ما تهدم والخسائر التي لحقت بالدول الأخرى
المشاركة في الحرب. وهذا بالضبط ما يبدو أن الاتحاد الاوروبي يريد أن يفعله، وذلك
عبر التصريحات التي تلقي المسؤولية كاملة على روسيا في تلك الحرب، وعبر مصادرة
الأموال الروسية والبحث عن وسائل قانونية للتصرف بها واستخدامها في إعادة اعمار
أوكرانيا (كما يقولون).
-
الاتجاه الثاني: التعامل
مع الشرق الأوسط وأفريقيا
كما بات واضحاً، يحاول الاوروبيون الهرولة الى الشرق الأوسط للتسابق على
النفوذ وتثبيت ما يمكن الحصول عليه من مكاسب، بعدما أعلنت الولايات المتحدة أنها
بصدد الاتجاه نحو آسيا لإحتواء الصعود الصيني، ما يعني انتقال منطقة الشرق الأوسط
الى درجة اقل أهمية في الاستراتيجية الأميركية مما كانت عليه خلال العقدين
الماضيين.
وهكذا، تحاول كل من فرنسا وبريطانيا لعب أدوار في المستعمرات السابقة
في المشرق العربي وأفريقيا ومنع الروس والصينيين من توسيع نفوذهم في تلك الدول،
بينما تحاول ألمانيا الاستفادة من قوتها الأوروبية المتصاعدة للمنافسة الاستعمارية
حيث نجد تدخّل السفراء الألمان في العديد من الدول، كتشاد مثلاً التي طردت السفير الألماني، مشيرة الى أنه
يتصرف بشكل فظّ، ولا يحترم القواعد الدبلوماسية ويتدخل بشكل مفرط في الشؤون
الداخلية للبلاد.
وبالمثل، وفي حنين الى ماضٍ استعماري "مجيد"، يهرع الفرنسيون الى
لبنان للتدخل وفرض تسويات سياسية من هنا، وفرض حاكم مركزي من هناك، ودخول الشركات
الفرنسية الى سوق الطاقة ومحاولة احتكار المشاريع الاستثمارية الأخرى، تماماً كما
فعلوا خلال فترات متعددة منذ الاستقلال ولغاية اليوم.
تدرك فرنسا وغيرها من الدول الاستعمارية السابقة، أن المفتاح الأساسي للنفوذ
هو الطبقة السياسية الحاكمة في تلك البلاد التي تستخدم النفوذ الأجنبي لتثبيت
نفسها وسلطانها على المواطنين وللاستقواء على خصومها، بينما يعمل السياسيون
المحليون كسماسرة أو وكلاء لذلك النفوذ الأجنبي في البلاد، فيسهّلون له مصالحه، عبر
منحه الاستثمارات وفتح الأبواب لشركاته وإغلاقها على المنافسين....
وبهذا الإطار، نفهم الاندفاعة الفرنسية لتعويم الطبقة السياسية اللبنانية
تحت ستار التسوية وتجنّب الفراغ، بعدما أتت التطورات المتلاحقة خلال الاعوام التي
تلت 17 تشرين الاول 2019، والانهيار الذي تبعها، لتكشف ارتكاباتها المالية
والاقتصادية وفسادها.
تطمح فرنسا اليوم الى تحقيق استفادة متبادلة في لبنان،عبر تعويم الطبقة
السياسية نفسها التي حكمت لبنان في التسعينات، بينما ستستغل تلك الطبقة الدعم
الخارجي لمنح نفسها عفواً عاماً مالياً يشبه العفو العام الجنائي الذي منحوه
لأنفسهم بعد تسوية الطائف. وهكذا، تبدأ مرحلة جديدة لطبقة سياسية لبنانية تدوم
وتدوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق