لم يَسْلَم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من
الانتقادات الأميركية والأوروبية، ومن تعليقات الصحف الأميركية بسبب تصريحاته،
التي أدلى بها خلال زيارته الصين، وذلك في مقابلة مع "بوليتيكو" وصحيفة Les Echos الفرنسية اليومية، وفي
البيان المشترك بينه وبين الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بحيث عبّرا عن طموحهما إلى
نسج "شراكة استراتيجية عالمية" وترحيبهما بـتشكّل "عالم متعدد
الأقطاب".
وكان ماكرون قال، في المقابلة، إن "السؤال الذي
نطرحه نحن الأوروبيين على أنفسنا هو ما يلي: هل من مصلحتنا الإسراع عندما يتعلق
الأمر بتايوان؟ الجواب هو لا". وأضاف "أسوأ شيء هو الاعتقاد أننا، نحن
الأوروبيين، يجب أن نصبح أتباعاً بشأن هذا الموضوع، وأن نأخذ إشارتنا من أجندة
الولايات المتحدة ورد الفعل الصيني المبالغ فيه".
وأكد ماكرون أنه يتعين على أوروبا عدم التورط في
الصراع في تايوان، وأن عليها أن تصبح "قطباً ثالثاً" مستقلاً عن واشنطن
وبكين، وإلّا فإن أوروبا تواجه الآن خطر "الوقوع في أزمات ليست لها، الأمر
الذي يمنعها من بناء استقلالية استراتيجية".
في التدقيق في كلام ماكرون، يمكن ملاحظة أنه يتضمن
شقيّن مهمَّين:
-
الأول تحذيري من أن أوروبا ستجد نفسها غارقة في صراعات
ليست لها، وستدفع فيها أثماناً كبيرة.
-
والثاني استراتيجي، يتضمّن دعوة إلى استقلال أوروبا عن
الصراع القطبي المقبل.
عملياً، هي ليست المرة الأولى التي يُطلق فيها ماكرون
تنبؤات تحذيرية، أو يعبّر فيها عن رغبته في أن تتخذ أوروبا موقفاً استراتيجياً
استقلالياً عن الولايات المتحدة.
1-
بالنسبة إلى التنبؤ التحذيري
لطالما أطلق ماكرون تنبؤات تحذيرية للأوروبيين، فلقد
حذّر، في عام 2018، من أخطار ستواجهها أوروبا مستقبلاً.
حينها، تخوّف ماكرون من أن تجد أوروبا نفسها في نهايات
العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، في وضع مشابه لحقبة الثلاثينيات من القرن
العشرين. وقال إن أوروبا تواجه أخطاراً متعدّدة، أهمها: خطر أن تتفكك بسبب آفة
القومية، وأن تثير قوى خارجية البلبلة فيها، وأن تخسر بالتالي سيادتها؛ أي أنه
يتوقف أمنها على الخيارات الأميركية وتبدلاتها، وأن يكون للصين حضور متزايد في
البنى التحتية الأساسية، وأن تميل روسيا أحياناً إلى التدخل، وأن تتخطى المصالح
المالية ومصالح الأسواق الكبرى أحياناً مكانة الدول.
2-
الدعوة إلى استقلال أوروبا
خلال ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، استغل
ماكرون طريقة ترامب الاستعلائية والعدائية تجاه أوروبا، وإعلانه (أي ترامب) أن حلف
الناتو بلا فائدة، ليدعو المستشارة الألمانية (حينها) أنجيلا ميركل إلى تحقيق نوعٍ
من الاستقلال عن الولايات المتحدة، سياسياً وأمنياً.
وأعرب ماكرون حينها عن طموحه إلى "حكم أوروبيّ
ذاتي استراتيجي"، يتلخّص في الاستقلالية الأوروبية الدفاعية؛ أي القدرة على
الدفاع عن القارة من دون الاعتماد على الولايات المتحدة، وتفعيل "السيادة على
المستوى الأوروبي"، وذلك عبر إنشاء "جيش أوروبي" مستقل.
وكان ماكرون، في شباط/فبراير 2020، دعا ميركل إلى
"حوار استراتيجي" من أجل رسم سياسة مستقبلية للاتحاد الأوروبي، تأخذ في
الاعتبار المستجدات في الساحة الدولية والتراجع الأميركي، لكنّ الألمان لم يرسلوا
جواباً عن الطرح الفرنسي، كما أعلن ماكرون نفسه.
وردّت ميركل على ذلك الطرح بالقول إن الأوروبيين نشأوا
على فكرة أنَّ الولايات المتحدة هي قوة عالمية، فإذا رغبت الولايات المتحدة في
الانسحاب من هذا الدور، بإرادتها الحرّة، فحينها يمكن أن يفكر الأوروبيون في الأمر.
هذا كان موقف ميركل، المستشارة الصلبة والقوية، فكيف
سيكون عليه موقف المستشار الألماني الحالي، أولاف شولتز، بشأن دعوات ماكرون
الحالية، وهو الذي وافق على التخلي عن "نورد ستريم 2"، بعد أن عارضت
ميركل التخلي عنه طوال أعوام، وتحملت تنمُّر ترامب وتهديداته المستمرة.
ولا يُعرف المستشار الألماني الحالي بقوة الشخصية
وصلابتها، فهو عارض إمداد أوكرانيا بدبابات ليوبارد الألمانية، ثم عاد ووافق بعد
الضغوط. وهو مثال من أمثلة كثيرة يمكن تعدادها، للتأكيد أن دعوات ماكرون
الاستقلالية لن تجد لها صدىً في الآذان الأوروبية بصورة عامة، والألمانية بصورة
خاصة.
3-
مشكلة ماكرون الحقيقية
قد تكون تصريحات ماكرون، التي عبّر عنها في زيارته
الصين، أو اعتراضاته على السياسية الأميركية التي أعرب عنها خلال زيارته واشنطن،
تنبؤات لما يمكن أن تصبح عليه حال أوروبا في حال لم تتخذ لها مساراً استقلالياً
يحفظ مصالحها.
لكن، تكمن مشكلة ماكرون الحقيقية، ليس في وجود رغبة
فرنسية استقلالية، لطالما عبّرت عن نفسها في تحدّي إرادة الولايات المتحدة، وليس
في اقتناع النخب الفرنسية بما يقوله، لكن في قوة بلاده المتراجعة أوروبياً، وعدم
قدرته على تسويق تصوراته داخل الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الإطار يجد ماكرون نفسه
مكبّلاً بعدة عوامل:
-
أولاً: آليات التصويت واتخاذ القرار داخل الاتحاد
الأوروبي، بحيث تتمتع جميع الدول بحق النقض.
- ثانياً: شكلياً، تتشاطر فرنسا وألمانيا الهيمنة على
الاتحاد الأوروبي، لكنّ ألمانيا، عملياً، هي الدولة الأقوى في الاتحاد الأوروبي،
بعد خروج بريطانيا منه. لذلك، فإن أي توجّه استراتيجي فرنسي للعلاقات داخل
الاتحاد، أو لعلاقات الاتحاد مع الخارج، يبقى محكوماً بالإرادة الألمانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق