كان زئيف جابوتنسكي أحد منظّري الصهيونية في بداية القرن العشرين، الذي أعلن لاحقاً انشقاقه عن الصهيونية التقليدية، ليؤسس ما عُرف فيما بعد باسم "الصهيونية التصحيحية"، والتي اعتبر فيها أنه يجب تأسيس "اسرائيل" بين "النهرين" وحيث تمتد الى الاردن وسوريا، رافضاً فكرة تقسيم فلسطين بين "دولتين".
ومن أهم أفكار جابوتنكسي، هي فكرة "جدار الحديد" التي تعني أن "اسرائيل" يجب أن تكون محاطة بجدار من الحديد الصلب (بصورة مجازية)، أي أنها يجب أن تتمتع بالقوة العسكرية الفائقة، بحيث أن من يحاول مقاومتها يضرب رأسه بالجدار من الحديد الصلب ويفشل. هذه القوة تسهم في الحرب النفسية والاعلامية، التي تزرع في قلوب العرب والفلسطينيين فكرة أن "اسرائيل لا تقهر"، وبالتالي على كل فلسطيني أن يذعن لما تريده اسرائيل لأنه اضعف وأعجز عن هزيمتها وعن تغيير الواقع.
ولخصت "الصهيونية التصحيحية" مشروعها بشعار بث الخوف واليأس، أي أن يقوم المشروع على زرع اليأس في نفوس الفلسطينيين عبر ترهيبهم وتخويفهم والتعامل معهم "بالسيف" وبالشدة، وتكبيدهم خسائر كبرى وآلام لا تطاق كلما حاولوا اقتحام "جدار الحديد"، حتى يفقدوا كل أمل بإمكانية طرد الإسرائيليين من فلسطين، وبالتالي يختارون سبيل الاستسلام بدل المقاومة، لأنه أقل كلفة. ويعتقد جابوتنسكي أن الفلسطينيين وتحت تأثير اليأس من امكانية تحقيق أي شيء عبر المقاومة، وبسبب الكلفة الباهظة، سيختارون في النهاية قادة "معتدلين" (بالتوصيف الصهيوني).
وفيما بعد، طوّر الاسرائيليون هذه الافكار وأطلق عليها اسم "كي الوعي" الذي يعني عدم اقدام الفلسطينيين والعرب على قتال اسرائيل بسبب الإيمان بالعجز عن ذلك، والخوف والهلع من ردة الفعل الانتقامية التي يمكن أن تقوم بها اسرائيل ضد كل من يفكر في قتالها.
- تطبيق نظرية "جدار الحديد" في غزة ولبنان
لا شكّ أن أفكار نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، هي نسخة عن أفكار زئيف جابوتنسكي وتطبيقاً لها، بحيث قامت اسرائيل بردة فعل انتقامية غير مسبوقة في غزة، بحيث دمرت ما يقارب 60 بالمئة من العمران في غزة، وقتلت ما يزيد على 15 ألف فلسطيني منذ بدء حربها الانتقامية بعد 7 تشرين الأول/ اكتوبر.
وكانت الصحف الأميركية في بداية الحرب، قد نقلت عن مسؤولين أميركيين زاروا اسرائيل بعد 7 تشرين الأول / اكتوبر أن "الاسرائيليين قد جنّوا" وهي عبارة الهدف منها التغطية على رد الفعل الانتقامي الذي تمارسه اسرائيل في غزة.
إن هذه الحرب التدميرية التي تقوم بها اسرائيل في غزة، عبر قصف جوّي غير مسبوق وإلقاء مئات آلاف الاطنان من القنابل، تشبه الى حد بعيد ما طبقه الاسرائيليون في حرب تموز / يوليو 2006، وما أسموه "عقيدة الضاحية"، فبعدما انتهى "بنك الأهداف" التي كان الاسرائيلي يريد ضربها، بات القصف عشوائياً بقصد التدمير وليس لتحقيق أهداف عسكرية.
لهذه الحروب الانتقامية أهداف أبعد من أن تكون عسكرية محض. هي تهدف لزرع الفرقة والشقاق بين المقاومة وأهل المدن التي يتم قصفها عشوائياً، كما تهدف الى اقناع الفلسطينيين واللبنانيين أن المقاومة مكلفة وغير مجدية، وأن كلفة الاستسلام والاستقرار النسبي الذي كانوا يعيشونه، أفضل من حالتهم الحالية بعدما تسببت أعمال المقاومة بتدمير بيوتهم وقتل أطفالهم.
- من "جدار الحديد" الى "بيت العنكبوت":
لكن ما لم يحسب الاسرائيلي حسابه، هو أن سياسة "كي الوعي" أو "جدار الحديد" التي طبقها في الحروب العربية الاسرائيلية في القرن العشرين، لم تعد تجدي نفعاً مع فشل الحروب الاسرائيلية وبدء الانتصارات العربية منذ عام 2006، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي قامت برد سياسة "كي الوعي" و "ادعاء الجنون" على أصحابه.
وهكذا، حين أدركت اسرائيل أنها بدأت تخسر حربها النفسية، انقضت على الصحفيين والصحفيات وعلى الأطفال والمدنيين العزّل تغتالهم. وحين لم يعد يستطيع الاسرائيلي ممارسة "كي الوعي" الفلسطيني، ولم يعد يستطيع إقناع الجمهور العربي والفلسطيني خاصة، بأن لا جدوى من المقاومة وان المقاومة مكلفة- انتقل للسير في مسارين: ترهيب الأكاديميين والمفكرين والمؤثرين المعارضين لإسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي، والتواصل مع مؤثرين لرشوتهم لتسويق الدعاية الإسرائيلية.
هذا في ما خص فكرة "جدار الحديد"، أما الأعمال الانتقامية الشديدة الضراوة فقد انقلبت أيضاَ الى عكس ما يريده الاسرائيلي منها، حيث كانت مشاهد الأطفال والمجازر والقصف التدميري غير المسبوق لغزة، حافزاً لخروج المظاهرات في كافة أنحاء العالم لرفض ما تقوم به اسرائيل، ورفض حجة الدفاع عن النفس التي حاول المسؤولون في الغرب تسويقها.
لقد خرقت حرب غزة، وما رافقها من تفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي الحديث، مبدأ احتكار الإعلام واحتكار السردية الاسرائيلية وسمحت بتسويق سردية فلسطينية موازية، وقوّضت نظرية "جدار الحديد" الاسرائيلي، واظهرت اسرائيل بأنها فعلاً "أوهن من بيت العنكبوت" كما وصفها الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في وقت سابق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق