في خضم التهديدات الإسرائيلية
المتزايدة للبنان، يخرج محللون وسياسيون يحذّرون من مغبة إثارة "جنون الإسرائيلي"،
ويبدي كثيرون قلقهم مما يسمونه عدم قدرة إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، على الاستمرار
في ضبط "ردة الفعل الإسرائيلية" تجاه الهجمات المتزايدة لحزب الله، وفي ضبط
"جنون نتنياهو".
وكان عدد من الإعلاميين والسياسيين
في الغرب قام، في وقت سابق، بتبرير ردة الفعل الإسرائيلية الانتقامية، والتي وصلت إلى
حد ارتكاب الإبادة في غزة، وادّعى هؤلاء أن "الإسرائيليين أُصيبوا بالجنون مما
حدث لهم من صدمة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر"، وأن هذا الجنون تجلّى في القصف
التدميري غير المسبوق لقطاع غزة وللمدنيين والمستشفيات وسوى ذلك.
واقعياً، هذه التبريرات الغربية
بشأن الإصابة الإسرائيلية بـ "الجنون" ليست جديدة، وتمّ استخدامها في معظم
الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، لأنها في الواقع هي عقيدة إسرائيلية يتم استخدامها
إسرائيلياً منذ خمسينيات القرن العشرين، لتبرير الفظائع التي يتم ارتكابها بحق الفلسطينيين
والعرب، والتي لا تتسم بالتناسب مع الخطر الفعلي، الذي يشكلّه هؤلاء للأمن الإسرائيلي.
عقيدة "ادعاء الجنون"
على مدى عقود، طوّر الإسرائيليون،
بصورة كبيرة، ما يسمى عقيدة "ادّعاء الجنون"، وهي سياسة ابتدعها الجنرال
الإسرائيلي السابق ووزير الأمن، موشيه ديان، ذات يوم، حين قال إنه "يجب أن يُنظَر
إلى "إسرائيل" على أنها كلب مسعور، وأنها خطيرة للغاية، بحيث لا يتجرأ أحد
على إزعاجها".
وسرعان ما اعتنق الإسرائيليون
سياسة الادعاء أو الإصابة بالجنون، بعد أن تبيّن أن التظاهر بـ "عدم العقلانية/
الجنون" يعطي الإسرائيلي فوائد عسكرية ونفسية، بحيث يخلق الرهبة في نفوس الأعداء.
ويقول نعوم تشومسكي، في مقال
له بشأن هذه العقيدة، إن "هذا التهديد بـ "الجنون"
(أو “nishtagea")"، أي قيام الإسرائيليين برد فعلٍ صادم عنيف، هو مبدأ متجذر بعمق في
الفكر الصهيوني، ويعود إلى حكومات حزب العمال في الخمسينيات، جنباً إلى جنب مع
"عقدة شمشون" ذات الصلة، والتي تفيد: "إذا حاول أحد تجاوزنا فسوف نهدم
الهيكل على مَن فيه".
ويقول تشومسكي إن عقيدة
"الإصابة بالجنون" تهدف فعلياً إلى إنزال أشدّ الألم بالمدنيين، لأنّ الإسرائيليين
"يتبنّون ضمناً المنظور التقليدي للذين يحتكرون عملياً وسائل العنف: يمكن لقبضتنا
المدرّعة أن تسحق أيّ معارضة، وإذا سقط نتيجة هجومنا المسعور كثير من الضحايا المدنيين
فيكون ذلك أفضل، لأنه بذلك يتمّ تلقين من بقي درساً ملائماً".
وفي كتاب "غزة في أزمة"،
الذي كتبه المفكران اليهوديان المعاديان للصهيونية، نعوم تشومسكي وإيلان بابي، عام
2010، يكتب بابي أن "إلحاق الألم بالمدنيين هو مبدأ سياسي قديم للإرهاب الحكومي
الإسرائيلي، بل إنه المبدأ التوجيهي لهذا السلوك".
وفي تحليل الحربين الإسرائيليتين
على قطاع غزة في عامي 2008 و2009، والقتل والدمار المتعمدَين والمنهجيَّين، واللذين
قامت بهما "إسرائيل" خلالهما عبر استهدافها المدنيين عمداً، يقول بابي
"لقد عدّت إسرائيل أن من المفيد أن تظهر كأنها "مجنونة"، الأمر الذي
يتسبب بإرهاب غير متلائم إلى حد كبير". واستشهد بابي بالمحلل العسكري زئيف شيف،
الذي قال "لقد كان الجيش الإسرائيلي يضرب السكان المدنيين دائماً، عمداً وبوعي".
حزب الله لا يخشى الجنون
في التطبيق العملي، يمكن
النظر إلى الحروب الإسرائيلية مع لبنان وقطاع غزة لنجد أن الإسرائيلي لطالما طبّق تلك
السياسة، وحتى قبل ذلك، أي خلال فترة العصابات اليهودية، بحيث استخدم قادة هذه العصابات
المجازر والفظائع سياسةً منهجية لترهيب الفلسطينيين في القرى، والذين فرّوا من الجحيم
القادم إليهم بعد حدوث فظائع يندى لها الجبين.
ويكتب المحلل العسكري الإسرائيلي،
يوروم بيري، مشمئزاً من تلك السياسات، قائلاً إن مهمة الجيش الإسرائيلي، على ما يبدو،
لم تكن الدفاع عن "إسرائيل"، بل "هدم حقوق الأبرياء لمجرد أنهم عربوشيم
(لقب عنصري قاسٍ) يعيشون في الأراضي التي وعدنا الله بها".
وبقيامه بالتصعيد المتدرج في جبهة لبنان الجنوبية، واستمراره في إطلاق الصواريخ والمسيّرات على الرغم من كل التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة، يرسل حزب الله رسالة إلى الإسرائيليين، مفادها أن الصراخ والتهديدات لا تخيف اللبنانيين، ولا يتعاملون معها بخوف، وإن حدث وأُصيب الإسرائيليون بالجنون أو ادّعوا بذلك، فإن لبنان مستعد لحفلة الجنون الإسرائيلية، وأعدّ العدّة الملائمة لمواجهة هذا الجنون، وإن "الكلب المسعور"، الذي يستخدمه الإسرائيلي للتخويف، لم يعد يُخيف أحداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق