1- تحديد المفهوم
لا يمكن الحديث عن العروبة بدون أن نحدد هذا المصطلح
الذي حُمّل من المعاني والايديولوجيات ما يفوق طاقته بكثير.
بادئ ذي بدئ، من الجوهري القول أنه في حال كان المقصود
بـ "العروبة"، الحالة الإنسانية التي تتمظهر في كل خصائص الإنسان الذي
يعيش في مجال جغرافي معيّن، فلا مشكلة مع العروبة تلك. لكن من الطبيعي أنه عندما
تدخل الأيديولوجيا في العروبة، ستكون المسألة موضوع النقاش هي الأيديولوجيا التي
تحملها هذه العروبة لتقدمها إلى الواقع العربي من دون أن يكون لها ارتباط عضوي بها.
"أدلج" القوميون العرب مفهوم العروبة حتى بات
كل من يقول انه عربي يوصف بأنه "قومي"، وقد وصل الحال بأن كل منتمٍ أو
مقتنع بفكر سياسي "غير قومي"، عليه أن يتنكر للعروبة، كدليل على عدم
انتمائه لتلك الايديولوجيا. وقد تفاقم الحال بعدما تحولت تلك الايديولوجيا الى
مقولات تبريرية لأنظمة ديكتاتورية، لا يهمها من "شعار العروبة والوحدة"
الا بقائها في السلطة.
تاريخيًا، بدأت المشكلة مع العروبة عندما حملت الكلمة الكثير
من المفردات وترادفت مع الكثير من المفاهيم، ففي اربعينيات القرن الماضي حمل أصحاب
الطروحات العروبية شيئًا من العنصرية في خطابهم، فقد كان هناك من يقول "العرب
فوق الجميع".
وفي فترات أخرى، صارت العروبة مرادفًا لمشاريع الوحدة
"القهرية" التي لم تنبثق من الشعوب والتي أتت لتحاول إلغاء الدول التي
نشأت، فتحت ستار "الوحدة العرببة" انبثقت مشاريع هيمنة وابيحت تدخلات في
شؤون الدول العربية الأضعف.
ثم حملت العروبة طابعًا اسلاميًا وارتبطت الى حد بعيد
العروبة بالاسلام وصارا مصطلحًا واحدًا لاغيًا لكل ما سبقه، ولاغيًا لكل التنوع
الموجود في هذه العروبة، بالرغم من أن العروبة انطلقت ليكون خيارها الأساسي
العلمانية، باعتبار أنها فصلت الدين عن الدولة، وأنه لا علاقة بين الدين والدولة.
برأينا، إن اضافة شيء اخر أو أي مصطلح آخر يتم لصقه
بالعروبة يفقدها معناها كحالة إنسانية. فالعروبة هي الإطار، والمسيحية والإسلام
وكل التنوع الحضاري الموجود في هذا المشرق هو الصورة داخل هذا الإطار. وكما ان الإطار
والصورة لا يمكن أن يتنكرا بعضهما لبعض، لا يمكن للعروبة أن تختصر بمكون واحد من
مكوناتها والغاء العناصر الاخرى، لانها حينئذ تفقد جوهر وجودها وقيمتها. لكن يكون
من واجب هذا الإطار "العروبة" أن لا يحصر الصورة في داخله، بل يسمح لها
بأن تتآخى مع أطر أخرى قد لا تحمل خصوصية العروبة.
العروبة بهذا المعنى تمثل حركة حضارية، إنسانية، منفتحة
على الثقافات والحضارات، بل هي النافذة التي يطل من خلالها الانسان العربي على
العالم الأشمل وعلى الخصوصيات والمكونات الحضارية غير العربية المتجاورة معه في
الحيز الجغرافي نفسه. وهكذا لا تقوم العروبة بحبس الإنسان العربي داخلها، بل تنفتح
على الإنسانية كلها، لتقول للإنسان الموجود على هذه الارض إنها المنطلق الذي يفتح له
الأفق لكل المواقع الأخرى.
إذًا، العروبة بهذا المفهوم هي العروبة الحضارية
المنفتحة، انها انتماء حضاري ثقافي تاريخي وليست
انتماء عرقيًا صرفًا على الاطلاق بالرغم من أهمية القومية المرتكزة
في الاصل على رابطة الدم، والمؤكدة بتاريخ وجغرافيا واحدة.
2- عناصرها
وهكذا، وبعد أن قمنا بتحديد العروبة التي نؤمن بها بأنها
"العروبة الحضارية المنفتحة على الثقافات كافة"، نأتي لنحدد مقومات هذه
العروبة وشروطها. فالعروبة التي نراها تجسدنا، يجب أن تؤمّن وأن تحافظ على ما يلي:
أولا وهو الاهم: الحرية
لا يمكن للعروبة أن تستمر وأن تبقى على قيد الحياة الا
اذا ارتبطت اتباطًا عضويًا بالحرية واحترام حقوق الانسان الاساسية، وأهمها الحق في
الحياة وحق الاختلاف، بالاضافة الى حرية الصحافة، حرية التعبير، حرية المعتقد
الديني... بدون هذه الحريات والحقوق الاساسية لا يمكن لأي عروبة أو أي إطار آخر أن
يستمر، فعندما تصبح العروبة هي الغطاء للديكتاتورية والتخلف وقمع الحريات والتخاذل
فانها تغدو سجنًا كبيرًا يهرب منه ابناؤه، ويبحثون عن اي إطار آخر قد يكون أوسع أو
أضيق من إطار العروبة، كالاطر الاثنية او الدينية أو القبلية أو الجغرافية...المهم
إطار يحفظ لهم الحد الادنى من الكرامة الانسانية ومعايير الانتماء والحماية.
ثانيًا: التنوع الديني
عظمة العروبة هي في كونها ملتقى ومزيج من الحضارات
وتفاعلها في بقعة جغرافية صغيرة نسبيًا، وانها تنوجد في حيز جغرافي تفاعل فيه كل
من المسيحية والاسلام منذ مئات السنين.
ان التفاعل
الحضاري والتجاور الثقافي خلق دينامية ثقافية جديدة لا تشبه غيرها ولا يمكن فكاكها
، لذا على، العروبة أن تحافظ على خاصيّتها، بحفظ التنوع ضمن الوحدة، إذ عندما تنفسخ
المسيحية عن الإسلام في العالم العربي، تزول القيمة الحضارية الاسمى وينتفي معنى
العروبة.
ثالثًا: التعددية الحضارية والاثنية واللغوية
بالإضافة إلى التراث الحضاري الديني المتراكم، العروبة
تحمل تحت مظلتها وضمن اطارها الجغرافي المشترك مزيج حضاري رائع، وفسيفساء من
التنوع الاثني واللغوي.
تتنوع الشعوب التي تنتمي إلى حيز العروبة الخاص دينيًا
ولغويًا وثقافة وقومية، ولكنها- بشكل عام-
تشعر بوحدة المصير وتتعرض لتحديات ومخاطر واحدة، لذا إن مصلحتها المشتركة تفرض
عليها التوحد في العمل العام المشترك دون أن يؤدي ذلك الى سيطرة أو إلغاء أو تهميش
الفئات غير العربية أو غلبة الجزء على الاجزاء الاخرى على اساس ديني أو تاريخي أو
كمّي او جغرافي. هذا يفرض على العروبة الاعتراف بالخصوصيات
الثقافية في حال توافرها، وتأمين المساواة بين عربي القومية وغير العربي، وحفظ حقه
في الاختلاف وفي الوجود وفي الابداع والتطور.
ليس على العروبة المحافظة على هذا التنوع فحسب، بل جعله
مصدر غنى واستفادة لا طمسه تحت ستار "الوحدة العربية"، ومن واجبها تشكيل
"نافذة رحبة" لكل مكون حضاري أو اثني للاطلالة على العالم.
رابعًا: رفض الاستتباع
بالرغم من كل ما شهده العرب خلال تاريخهم، وبالرغم من
النهضة الثقافية والفكرية التي عاشوها عندما كانت اوروبا تغرق في عصور الظلام، إلا
إن العرب في ايامنا الراهنة تحولوا الى مستهلكين للثقافات الغربية، يتناولون
قشورها ويغرقون في التخلف والامية.
على العروبة الحضارية المنفتحة أن تتحول حافزًا لشعوبها
الى الابداع الفكري والثقافي، والى رفض كل أشكال الاستتباع السياسي والاقتصادي
والثقافي واللغوي الخ.
3- دور لبنان فيها
بالنسبة للبنان، نؤمن بأن للبنان دورًا رائدًا وأساسيًا
في تكريس هذه العروبة الحضارية المنفتحة وفي تطورها وقيامها. أما ما الذي يجعل
لبنان الاكثر أهلية لهذا الدور، فيعود الى ان لبنان يتمتع بانتماء عربي خصوصي
حضاري، ولقد تميزت العروبة اللبنانية بالانفتاح على معظم الحضارات الشرقية
والغربية ذات العقائد الدينية والتقاليد المتنوعة، فتفاعلت معها تفاعلاً إنسانيًا
ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا واسعًا.
لقد تمسّك لبنان تمسكاً رسوليًا عميقًا بلسانه العربي،
ودافع دفاع المؤمن الواثق عن اللغة العربية والتراث العربي، ولا حاجة في هذا
المجال الى إبراز إنجازاته الظاهرة أو تقويم رسالته القائمة، التي قهرت أساليب
التتريك والسلجقة والمملوكية أكثر من سبعة قرون، وهي لا تزال الى اليوم تواجه أي
افتراء يأتي من الشرق او من الغرب لتقويض معالم هذه اللغة وهذا التراث.
يضاف الى ذلك أن لبنان كان أول بلد في آسيا وأفريقيا حقق
الاندماج المثالي بين مبدأ الشورى العربي الذي أوصى به الإسلام، والمبادئ الديمقراطية
الإغريقية الجذور التي انتصرت في العالم المسيحي حتى في صلب الأنظمة الملكية، فكان
صاحب نظام شوري وديموقراطي منذ عهد الإمارة المعنية والشهابية، ونظام برلماني لا
يجاريه، بالرغم من علله وشوائبه العديدة، أي نظام سياسي آخر في المنطقة.
وفي إطار هذه الرسالة الوساطية الناجحة، كان لبنان في
الاربعينيات من القرن الماضي، داعية فاعلاً وعضوًا رئيسيًا مؤسسًا لجامعة الدول
العربية وصانعًا لميثاقها، وما زال يعمل بكل نشاط وقوّة لإنشاء البرلمان العربي
المشترك، وتوحيد المؤسّسات الثقافية العربية والمصطلحات اللغوية العربية المشتركة،
وإرساء التعاون العربي في مختلف المجالات والميادين.
وانطلاقاً من هذا الواقع الذي تدعمه الحقائق التاريخية، على لبنان تقوم مهمة الاضطلاع بدور تاريخي رائد في الاسهام بتحقيق وتفعيل هذه العروبة الحضارية المنفتحة، فهو الأقدر على ذلك نظرًا لاحتوائه شروطها الاساسية، واثبات قدرته على امتلاك مقومات القوة بالرغم من صغره وضعف امكانياته نسبة الى الدول العربية الأخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق