تقوم الاستراتيجية الأميركية الحالية على اعتماد مبدأ
"المُوازن الخارجي" offshore balancing، بحيث تقوم قوة عظمى باستخدام قوى إقليمية حليفة (مفضَّلة لديها)
من أجل كبح صعود قوى معادية محتملة. وهكذا، يجب على الدولة العظمى، التي تسعى
لتحقيق التوازن من الخارج، أن تسعى أولاً لنقل المسؤولية إلى القوى الإقليمية،
والتدخُّل فقط إذا كان التهديد أكبر من قدرة القوى الحليفة في المنطقة على التعامل
معه.
بعد فشل إدارة أوباما في أن توَكِلَ إلى طرف واحد
ورئيسي منطقةً متشعبة ومتشابكة، كالشرق الأوسط الكبير (في الخريطة الاميركية)،
تتَّجه إدارة بايدن إلى تحقيق الهدف نفسه، لكن عبر توزيع للأدوار، والاعتماد على
حلفاء متعدِّدين للقيام بتلك المهمة. وكنا، في مقالين سابقين، تحدَّثنا عن الدورين
التركي والإماراتي، وتراجع الدور السعودي. وسنتحدّث، في هذا المقال، عن دور كل من
قطر في أفغانستان، ومصر والأردن في الجغرافيا المشرقية.
- قطر
تحتكر الدور في أفغانستان
لا شكّ في أن قطر دفعت كثيراً من الأثمان نتيجة فشل
مشروع التغيير في العالم العربي، والخلافات الخليجية الخليجية، والرؤية الأميركية
المتباينة تجاه الحلفاء الخليجيين، بين الإدارتين الديمقراطية والجمهورية، في
الولايات المتحدة الأميركية.
عرف النفوذ القطري في المنطقة توسُّعاً مفرطاً أكبر من
حجم الدولة الخليجية الصغيرة، مع بداية الربيع العربي. وانخرطت قطر في محاولات
إطاحة الحكّام في تونس ومصر واليمن وسوريا وغيرها، وأسّست تحالفاً وثيقاً مع تركيا
برعاية أميركية (إدارة أوباما) يهدف إلى الاستفادة من "الربيع العربي"
من أجل فرض تغيير شامل في المنطقة.
لكنّ السفن لم تَجرِ كما يشتهي الأتراك والقطريون،
ودخلت الدول الخليجية، متأثّرةً بصراع الإسلام السياسي على تزعّم المنطقة، في حرب
كبرى ضدّ بعضها البعض، وصلت إلى حدّ فرض حصار خليجي شامل على قطر في حزيران/يونيو
2017، مدعوم من الرئيس الأميركي دونالد ترامب (لمّح إلى مسؤولية قطرية عن رعاية
الإرهاب).
كان التهديد الخليجي بتدخُّل عسكري خليجي
لـ"تأديب" قطر، محفّزاً على تدخل كل من تركيا وإيران في القضية.
التطورات تلك أدّت إلى تعزيز العلاقات التركية - القطرية على المستوى العسكري، إذ
دخلت اتفاقية التعاون العسكري، الموقَّعة عام 2014، حيّزَ التنفيذ، بعد تصديق البرلمان
التركي عليها.
دفعت حاجة الأميركيين إلى الرحيل عن أفغانستان، إلى
الاستعانة بقطر من أجل رعاية حوار أميركي – أفغاني في العاصمة القطرية الدوحة،
أطلقه الرئيس دونالد ترامب. وقبل رحيل ترامب عن البيت الأبيض، أُعيدت المياه إلى
العلاقات الخليجية، وحصلت المصالحة، ورُفع الحصار عن قطر.
اليوم، بعد الخروج الأميركي الفوضوي من أفغانستان،
تحتكر قطر (تقريباً) الوكالة الأميركية للنفوذ في هذا البلد. وعلى الرغم من أن تلك
الدولة الصغيرة تحاول أن تعطي نفسها أدواراً أخرى عبر أداء دور الراعي في عدد من
الدول، كالصومال ولبنان وغيرهما، فإن الظاهر، من الحركة السياسية الأميركية، أن
الدور الأساسي لقطر، والمطلوب أميركياً، هو أفغانستان.
- مصر والأردن لدور
مشرقي
بعد وصول الكاظمي إلى رئاسة الوزراء في العراق، وبعد
زيارة قام بها لواشنطن عام 2020، تحرّكت عجلة الشراكة التكاملية بين العراق ومصر
والأردن، تحت عنوان "مشروع الشام الجديد"، والذي يساهم في إعادة إعمار
العراق، عبر الشركات الأردنية والمصرية (منافسةً الشركات الإيرانية)، وتوقيع
اتفاقيات شراكة اقتصادية ونفطية، تؤدي إلى تصدير الغاز إلى أوروبا عبر مصر.
اليوم، بعد قيام السفيرة الأميركية في لبنان بإعطاء
الضوء الأخضر لمدّ لبنان بالغاز المصري والكهرباء من الأردن عبر سوريا (لمنافسة
العروض الإيرانية)، بدا أن "مشروع الشام الجديد" بدأ يتوسّع ليشمل،
بالإضافة إلى الدول المؤسِّسة، كلاً من لبنان وسوريا، ويعطي القدرة لدول عربية
مشرقية على منافسة النفوذ الإيراني، عبر إعادة الروح إلى خط الغاز العربي، وتخفيف
حزمة العقوبات المفروضة أميركياً على سوريا.
لماذا اختيار مصر والأردن؟
أولاً - إن التقارب الجغرافي، والعلاقات والروابط
التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين دول المشرق العربي، تجعل تلك الدول
قادرةً على أن تتعامل بفعّالية وواقعية مع شبكة التعقيدات في كل من لبنان وسوريا
والعراق، أكثر من الدول الأوروبية والخليجية.
ثانياً - فشلُ السياسة السعودية في المنطقة، وخصوصاً
الأدوار التي مارستها في كل من سوريا والعراق، بالإضافة إلى سياسة
"الحرد" التي تمارسها السعودية في لبنان، والغضب الذي لا ينطفئ لدى وليّ
العهد السعودي تجاه - ما يسميه - "خذلان اللبنانيين للمملكة"، تجعل من
الصعب على دول الخليج الانخراط، بصورة واسعة، في ممارسة نفوذ في تلك الدول،
سياسياً واقتصادياً، مع العلم بأن لا أحدَ يتوقّع رفضاً من الدول الخليجية الأخرى،
في حال اتخذ الأميركيون قراراً بتمويل بعض مشاريع البنى التحتية في لبنان، من أجل
منع الإيرانيين من التغلغل أكثر في الساحة اللبنانية.
ثالثاً- يمكن لمصر والأردن، على نحو عام، الانفتاح على
كل من العراق وسوريا ولبنان، بسبب عدم انخراط البلدين، بصورة مباشِرة وفجّة، في
تشكيل رأس حربة من أجل إسقاط النظام في سوريا، ودعم الإرهاب وتمويله في الدول
الثلاث.
بالطبع، ستستفيد سوريا من العودة الخليجية ومشاركة الخليجيين في إعادة إعمارها بمباركة روسية، بعد أن يُعطى الضوء الأخضر الأميركي لذلك. لكنّ حساسية وجود النفوذ الإيراني المتجذّر (كفضاء طبيعي)، في كل من لبنان والعراق، تجعل من الأفضل للأميركيين الاتكال على دول مشرقية لتحفظ لها مصالحها في مساحة الجغرافيا المشرقية، على أن يتمّ دعمها مادياً عبر البنك وصندوق النقد الدوليَّين ودول الخليج الميسورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق