يومًا بعد يوم، يجد اللبنانيون أنفسهم عالقين في أزمة
اقتصادية واجتماعية وسياسية خانقة، بدون أي آفاق ملموسة للحل أو لتغيير الوضع القائم.
وفي خضّم تلك الأزمة، يتناتش السياسيون المسؤولية
وإلقاء التهم على بعضهم البعض بدون أي اجراءات ملموسة أو تصوّر لحلّ الأزمة التي يتحمل
السياسيون أنفسهم الجزء الأكبر من مسؤوليتها. وتبدو الحكومة "بطيئة" ماشية
كالسلحفاة في وقت تحتاج الأمور الى سرعة وديناميكية وقرارات جريئة، تبدو الحكومة بتركيبتها
الحالية أعجز من أن تقوم بها.
وفي خضّم هذه المصاعب، يطرح على بساط البحث على طاولة
مجلس الوزراء أمر التدقيق الجنائي المالي، الذي بات مطلبًا حيويًا ينطلق منه الاصلاح
الحقيقي والجدّي وبدونه لا يبدو أن هناك إمكانية فعلية للتقدم الى الامام في مجال بناء
الدولة، والحفاظ على المال العام.
لا شكّ ان هذا التدقيق هو المفتاح لبدء إصلاح جدّي وحقيقي،
يبدأ بالاعتراف بأن هناك مسؤولين متورطين في نهب المال العام وسرقته، وأن أي محاولة
لفتح صفحة جديدة بدونها، والتخلي عن تحميل المسؤوليات الجنائية لمرتكبيها، يعني تحميل
المواطنين مرة جديدة وزر ما ارتكتبته الطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ 30 عامًا
وتعاملت مع الدولة كأنها "بقرة حلوب".
لقد اعتادت السلطة السياسية اللبنانية على انتهاك القانون
والافلات من العقاب بشكل مستمر، فها هم يتفاوضون لإقرار قانون عفو عام عن الجرائم التي
ارتكبت من عمالة واتجار بالمخدرات وارهاب وقتل الجيش اللبناني وغيرها، وذلك بعدما تمّ منح معظم أركان السلطة الحالية عفوًا
شاملاً عام 1991 عن كل القتل والمجازر التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية، والتي مورس
فيها التعذيب والإخفاء القسري والخطف والقتل على الهوية.
ويبدو أن منح العفو العام صار عادة متبعة في لبنان ومشجعًا
للسياسيين وأزلامهم لمخالفة القانون، إذ صدر قانون عفو شامل عام 1958، ومنح العفو عن
كل الجرائم المرتكبة خلال "ثورة ربيع 1958" لغاية 15تشرين الأول 1958. وبعد
المشاكل والجرائم التي حصلت على أثر حرب حزيران 1967، صدر القانون رقم 8/69 بتاريخ
17/2/1969 الذي منح عفوًا عامًا عن الجرائم المرتكبة قبل 1/1/1968. أضف الى ذلك، قانون
العفو الذي أقرّه مجلس النواب عام 2005، والذي منح العفو عن قائد القوات اللبنانية
سمير جعجع، وعن ارهابيي الضنية الذين قتلوا ونكّلوا بالمواطنين والجيش اللبناني.
وتبقى الخشية الفعلية من أن يطالب السياسيون بقانون عفو
عن الجرائم المالية المرتكبة والتي أدّت الى إفلاس الخزينة العامة، كما يُخشى أن يعمد
بعض المتضررين الى محاولة ابتزاز الحكومة عبر التهديد بخلط الأوراق السياسية برمّتها
وإسقاط الحكومة أو القيام بما يمسّ بالسلم الأهلي، ودفع الأمور الى مكان لا يعود بعدها
هناك قدرة على المطالبة بالتحقيق المالي.
وهنا، تبدو الخشية مضاعفة من أن يجد اللبنانيون أنفسهم
امام معضلة كبرى مردها قدرة الدولة العميقة على المسّ بالاستقرار كلما تعرضت مصالحها
للخطر أو كلما اقترب القانون من "جماعاتها". وهنا نستذكر - على سبيل المثال
لا الحصر- قول الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله (في مقابلة اعلامية في أيار
2020) ان موضوع الفساد كبير ويحتاج الى وقت طويل جدًا، وأنه قد يسبب حربًا أهلية، وأن
الطبقة السياسية بلا قلب!... بالرغم من أنه كان قد وعد بإطلاق "مقاومة الفساد"
في آذار عام 2019، واعتبر ان "الفساد بات أشبه بالخطر الوجودي على لبنان واللبنانيين"
معتبرًا أن هذه المعركة هي "الشق الآخر من معركة المقاومة" (راجع خطاب السيد
نصرالله في 14 آذار 2019).
في المحصلة، لا بدّ للبنان من المواجهة وكما انتصر اللبنانيون
في معركة كبرى هي معركة تحرير الأرض واستطاعوا هزيمة أعتى جيش في الشرق الأوسط وطرده
مذلولاً، يمكنهم الانتصار في معركة الفساد الداخلي، فقط إذا توفرت الجرأة والإرادة
بخوض معركة "بناء الدولة" بالفعل لا بالقول.
الله يفك هذه الازمة على خير دكتورة.
ردحذف