لا ينفكّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن استعمال الوسيلة
الأحب الى قلبه في السياسة الخارجية وهي تطبيق العقوبات على المنافسين والأخصام السياسيين
والتجاريين، أو التلويح والتهديد بها، لجني مكاسب سياسية أو تجارية أو كليهما.
وفي جولة سريعة على الدول والشركات والمؤسسات التي شملتها
عقوبات ترامب، نجد الصين وروسيا وايران وكوريا الشمالية وسوريا وتركيا وفنزويلا الخ...
كما نجد المحكمة الجنائية الدولية، والشركة العملاقة الصينية هواوي، والشركات العالمية
العاملة في مشروعي جرّ الغاز الروسي الى أوروبا؛ "السيل التركي" و
"السيل الشمالي 2" الخ...
وتنقسم عقوبات ترامب على العالم في إطارين:
الأول- الإطار السياسي والذي يهدف الى ما يسميه ترامب
والإدارة الأميركية "تغيير سلوك" المستهدفين بالعقوبات، أي فعليًا إخضاع
الخصم وجرّه الى طاولة المفاوضات مكسورًا مفلسًا، ليسهل على ترامب إخضاعه وأخذ مكاسب
سياسية منه.
الثاني- الإطار التجاري، والذي يهدف من خلاله ترامب ممارسة
سياسة "تنافس غير مشروع" في التجارة العالمية. على سبيل المثال، يريد ترامب
من إلمانيا أن تشتري الغاز من الشركات الأميركية، وبدل من أن تقوم تلك الشركات بتقديم
أسعار تنافسية مقابل أسعار الغاز الروسي الذي يستورده الألمان، يقوم ترامب وإدارته
بتهديد الشركات الإلمانية والاوروبية بالعقوبات لمنع استجرار الغاز الروسي، وتأخير
إفتتاح أنبوب غاز "السيل الشمالي 2"، طمعًا بتوقيع إتفاقيات غاز مع إلمانيا
تحت وطأة التهديد بالعقوبات.
ونفس الأمر بالنسبة لشركات هواوي الصينية، واتفاقيات
التجارة مع الصين والتي استخدم ترامب سيف العقوبات والضرائب جمركية على البضائع الصينية،
ليفرض على الصين توقيع عقد مع الولايات المتحدة بشراء ما قيمته 200 مليار دولار سنويًا
من البضائع، وهو ما سيكون على حساب البضائع الأوروبية التي تستوردها الصين سنويًا.
لكن سلوك إدارة ترامب في سياستها تلك، لا يبدو دليل قوة،
فالقوي يفاوض في السياسية ويقدم تكنولوجيا بديلة وحوافز إقتصادية لتحقيق مكاسب وأفضلية
تجارية. وبالمحصلة، لا بد من أن ترتد تلك السياسة سلبًا على النفوذ الأميركي في العالم،
وعلى نظرة العالم للولايات المتحدة الأميركية:
-
فعليًا، ولغاية كتابة هذه السطور، لم نجد أن ترامب استطاع أن يُخضع الدول التي فرض
عليها العقوبات، فلم يتغيّر سلوكها الدولي، ولم يستطع جرّها الى طاولة المفاوضات، أو
يدفعها الى التنازل عن رغبتها في مقاومة النفوذ الأميركي. يمكن القول أنه قد نجح موضعيًا
في بعض الأماكن، كدفع تركيا - على سبيل المثال لا الحصر- الى إطلاق سراح القس برونسون
نتيجة للضغوط الأميركية والتهديد بالعقوبات والتي أدّت الى انهيار دراماتيكي في سعر
صرف الليرة التركية، ولكن بالمحصلة العامة لم يستطع ترامب تغيير السلوك التركي كليًا،
ولم يستطع منع تركيا من التعاون مع روسيا وشراء منظومة "أس 400".
-
وفي الإطار التجاري، إن العقوبات التي يفرضها ترامب بدأت تدفع العالم الى التفكير بالاعتماد
على النفس، سواء في الإطار التكنولوجي(الصين) أو في إطار الدعم الحكومي (روسيا مثلاً)
للشركات التي تتعرض للعقوبات الأميركية.
-
في الإطار الإنساني، باتت العقوبات الأميركية على الدول غير الخاضعة لمشيئة دونالد
ترامب، تؤثر على السكان المدنيين، وتحوّلت الى عقوبات جماعية، بالرغم من إدعاء إدارة
ترامب أنها عقوبات "ذكية وهادفة" وأنها لا تطال شرائح المجتمع في البلدان
المستهدفة، وهو ما أضرّ بالقوة الناعمة الأميركية وقدرة الأميركيين على تسويق نموذجهم
للحكم في العالم.
-
في الإطار القانوني، تنتهك العقوبات التي يفرضها دونالد ترامب لتحقيق أهداف تجارية
وإقتصادية قواعد التجارة العالمية واتفاقيات منظمة التجارة العالمية. كما تنتهك العقوبات
الاقتصادية المفروضة على الدول قانون حقوق الإنسان؛ والذي ينصّ على الحق في الحياة
والصحة والعيش الكريم والكرامة والتحرر من الجوع، وبالتالي ينبغي على أي عقوبات ألا
تُنزل مستوى معيشة شريحة كبيرة من السكان إلى ما دون مستوى الكفاف أو تحرمهم من الحقوق
الإنسانية الأساسية في الحياة والبقاء، كما يحصل في كل من فنزويلا وسوريا.
وعليه، يبدو أن الضرر الذي توقعه العقوبات الاقتصادية
الأميركية على الدول والكيانات المستهدفة ليس بدون ثمن، وسيكون الضرر الذي تلحقه إدارة
ترامب بالنفوذ الأميركي في العالم فادحًا، سيحتاج الى وقت طويل وجهد كبير لإعادة ترميمه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق