بالرغم من القدرة المعقولة للاتحاد الأوروبي على لملمة
الجراح التي خلّفتها السياسات الوطنية والحمائية التي اعتمدتها كل دولة على حدى في
مواجهة أزمة كورونا، تعيش أوروبا اليوم على وقع تحديات ومشاكل متعددة تتعلق بالانكماش
الاقتصادي المتوقع، وإفلاس الشركات الأوروبية الكبرى، والخشية من العودة الى المطالبات
اليمينية بسياسات أكثر "وطنية وقومية" مما يهدد الاتحاد الاوروبي بمزيد من
التشرذم والانقسام.
وفي ظل هذا الوضع الصعب، تتحضر إلمانيا لرئاسة الاتحاد
لمدة ستة أشهر تبدأ في 1 تموز / يوليو 2020، ولغاية نهاية العام الحالي، ما يفرض عليها
التعامل مع كل التحديات الآنفة الذكر، بالاضافة الى التحديات التي تواجه الاتحاد في
تصوّره المستقبلي لعالم ما بعد كورونا، ولعالم متغير دوليًا حيث تشهد العلاقات بين
ضفتي الأطلسي تشنجًا حقيقيًا لم تعرفه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
في دراسة ملامح الاستراتيجية الاوروبية القادمة للتعامل
مع التحديات العالمية، نجد اختلافًا بين النظرة الفرنسية الهجومية التي تريد أن ترسم
إطارًا مستقلاً وفاعلاً لدور أوروبي عالمي بغض النظر عن موقف الولايات المتحدة الأميركية،
بينما يطغى التردد والحذر على موقف الإلمان ورؤيتهم لهذا المستقبل.
يطمح ماكرون الى "حكم أوروبي ذاتي استراتيجي"،
يتلخص بالاستقلالية الأوروبية الدفاعية أي القدرة على الدفاع عن القارة دون الاعتماد
على الولايات المتحدة، وتفعيل "السيادة على المستوى الأوروبي".
وحدد ماكرون رؤيته للأهداف الأوروبية في العشر سنوات
القادمة، بالإهتمام بما تريده الطبقات الوسطى، والسير بسياسة دفاعية فعّالة، وموازنة
مالية أكبر وأسواق رأسمالية متكاملة، والتخلي عن حق النقض الذي يبطئ عملية صنع القرار
في الهياكل الأوروبية العليا.
وكان ماكرون في شباط/ فبراير الماضي قد دعا ميركل الى
"حوار استراتيجي" لرسم سياسة مستقبلية للاتحاد تأخذ بعين الاعتبار المستجدات
على الساحة الدولية والتراجع الأميركي، لكن الإلمان لم يرسلوا جوابًا على الطرح الفرنسي
كما أعلن ماكرون نفسه.
والمفارقة، أن التردد والضعف الذي لمسه دونالد ترامب
من المستشارة الإلمانية أنجيلا ميركل، جعله يندفع بسياسته الهجومية ضدها، فأعلن رغبته
بسحب 9,500 جندي أميركي من القواعد الأميركية المنتشرة في في إلمانيا، الأمر الذي ردّت
عليه ميركل بحذرٍ أيضًا، فأكدت أن وجود الجيش الأميركي مفيد لإلمانيا والقسم الأوروبي
من الناتو بالتأكيد، ولكنه مهم ومفيد للولايات المتحدة الأميركية أيضًا.
وفي تحذير ناعم للأميركيين، قالت ميركل: " لقد نشأنا
على فكرة أن الولايات المتحدة أرادت أن تكون قوة عالمية. إذا رغبت الولايات المتحدة
الآن في الانسحاب من هذا الدور بإرادتها الحرة ، فسنضطر إلى التفكير مليًا في ذلك".
إذًا تتباين دول الاتحاد الأوروبي الكبرى (فرنسا - إلمانيا)
في نظرتها الى مستقبل الاتحاد وعلاقته مع الولايات المتحدة الأميركية، بينما تتفق كل
من نظرة ميركل وماكرون الى ضرورة الحوار مع الصين وروسيا، وأن قطع العلاقات مع الصينيين
غير مطروحة في قاموس الأوروبيين كما أكدت ميركل نفسها.
وعليه، يبدو أن الاتحاد الأوروبي لن يحسم خياراته الاستراتيجية
قبل إنكشاف نتيجة الانتخابات الأميركية، وذلك على الشكل التالي:
-
إن عاد ترامب الى الرئاسة لمدة أربعة أعوام إضافية، ستنتصر وجهة النظر الفرنسية. وسيكون
هناك دافع قوي لدى الاوروبيين لمزيد من الاستراتيجيات الاستقلالية، وستطغى وجهة نظر
ماكرون على تردد ميركل التي ستجد نفسها مجبرة على الدفاع عن بلادها وعن الاتحاد. وهكذا
ستؤدي سياسات ترامب الى مزيد من عزلة الأميركيين في العالم وانفكاك العديد من الحلفاء
من حولهم.
-
أما إذا نجح بايدن في الوصول الى الحكم، فسيكون رئيسًا أميركيًا تقليديًا يطبق نفس
سياسات أوباما السابقة وأهمها التركيز على التعددية، والتشبيك مع الحلفاء، وعودة السياسة
التقليدية في الشرق الأوسط، ومواجهة روسيا، واحتواء الصين بطرق أقل هجومية، وسترتاح
ميركل من اتخاذ خيار استقلالي هجومي لا تريده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق