2014/05/08

قراءة هادئة لزيارة الراعي الى الأراضي المقدسة

د. ليلى نقولا الرحباني
شكّل الإعلان عن الزيارة المرتقَبة للبطريرك الماروني بشارة الراعي مناسبة لتظهير الانقسام اللبناني وتبادل الاتهامات والتخوين، وهي العادة التي يألفها بعض العرب ويشتهرون بها، وقد أعلن البطريرك الماروني أن مرافقته للبابا هي زيارة رعوية وليست سياسية، فالأراضي المقدسة في فلسطين تابعة لبطريركية أنطاكيا وسائر المشرق، وبالتالي من الطبيعي أن يكون فيها، لاستقبال البابا، ولزيارة رعاياه هناك.

وما أن تمّ تسريب خبر الزيارة، حتى اشتعلت الساحة الإعلامية اللبنانية مخوِّنة البطريرك ومعتبرة أنه أخطأ "الخطيئة الكبرى"، وتبارز البعض في اتهامه بالخيانة والعمالة والتطبيع، مقابل أساقفة وسياسيين دافعوا عن البطريرك وحريّة خياره.

وبغض النظر عن الرأي بالزيارة، من المفيد قراءتها بهدوء عقلاني، بعيداً عن خطاب التشنج والتخوين والاتهامات المتبادلة:

أولاً: في موضوع اتهام الراعي بخرق القانون اللبناني، ووصول البعض إلى التخوين والاتهام بجرم الاتصال بالعدو، يجب الإشارة إلى أن البطريرك الراعي لا يخرق القانون، فقانون العقوبات اللبناني يجرّم التعامل مع "إسرائيل" والاتصال بالعدو، لكن ما يقوم به الراعي لا يُعتبر تعاملاً ولا اتصالاً من الناحية القانونية، بل عملاً كهنوتياً أجازته الأعراف القانونية، فمنذ بدء العمل باتفاق الهدنة عام 1949 ولغاية عام 1996، كانت الأراضي المقدسة تتبع أبرشية صور المارونية في جنوب لبنان المارونية، وكان الاكليروس الماروني يتنقل بين جنوب لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة عبر معبر الناقورة الحدودي، وبعد العام 1996 فُصلت الأراضي المقدّسة عن أبرشية صور، لتصبح مستقلة باسم أبرشية حيفا والأراضي المقدسة المارونية، ويشرف عليها مطران تعيّنه البطريركية المارونية.

ثانياً: في موضوع التطبيع مع "إسرائيل": تتباين الدراسات الأكاديمية وآراء المفكرين حول تعريف "التطبيع"، ويمكن أن نعرّفه بأنه "أي تصرف أو عمل، مادياً كان أو معنوياً، فردياً كان أو جماعياً، من شأنه جعل الاحتلال "الإسرائيلي" أمراً طبيعياً، بما يعني ذلك من تخلٍّ نهائي عن الحقوق المشروعة للشعوب العربية".

انطلاقاً من هذا التعريف، لا تشكّل زيارة الراعي إلى الأراضي المقدسة تطبيعاً مع "إسرائيل"، فهو لا يتخلى عن الحقوق المشروعة، ولا يجعل وجود الاحتلال في القدس أمراً طبيعياً، وقد يكون من الأحقية بمكان الخشية التي أوردها البعض بأن تكون هذه الزيارة فاتحة للمسيحيين للذهاب إلى الأراضي المحتلة، بما يفيد التأقلم مع الاحتلال ووجوده، لكن هذه الخشية لا تجد لها مبرراً قانونياً، فما يجوز على الراعي كرجل دين لا يجوز على باقي المسيحيين الذين يسري عليهم قانون العقوبات اللبناني بتجريم كل من دخل أراضي العدو أو اتصل به، وهذا يحدّ من رغبتهم أو قدرتهم على زيارة الأراضي المقدسة في فلسطين.

هذا من الناحية القانونية، أما من الناحية السياسية، فيمكن لوجهتي النظر أن تحملا بعضاً من الصحة؛ فالذين عارضوا زيارة البطريرك للقدس اعتبروا أنه لن يستطيع تحاشي الإحراج "الإسرائيلي"، خصوصاً أن "إسرائيل" تبدو مصرّة على إحراجه وتركيز الإعلام عليه، ومحاولة الاستفادة منها إعلامياً.

لكن وجهة النظر الأخرى تشير إلى الحصار الذي تمارسه سلطات الاحتلال على الفلسطيني، وسياسة تغييب الهوية الوطنية الفلسطينية، بالإضافة إلى منهجية الاحتلال في إفقار القدس وسكانها، ودفعهم إلى البحث عن لقمة العيش خارج المدينة لإكمال حلقات التهويد عبر تضييق الخناق على النشاط الاقتصادي للمقدسيين، وتعزيز اقتصاد المحتلين.

من هنا، فإن زيارة البطريرك تأتي لتكسر حلقة الحصار "الإسرائيلي" على القدس، في محاولة لتهويدها ونزع الطابع المسيحي الإسلامي عنها، لذا يجب عدم اتهام الراعي، بل تجنيد القدرات المسيحية والإسلامية لمواكبته في كسر مشروع التهويد الذي تريده "إسرائيل".

أصحاب هذه النظرية يحاولون إثبات وجهة نظرهم من خلال الإشارة إلى أن خبر الزيارة تم تسريبه من قبل "الإسرائيليين" إلى الإعلام، لحشر الراعي لعدم القيام بها، وعندما أصرّ عليها غير آبه بالانتقادات، سرّب "الإسرائيليون" خبراً باسم مصادر دبلوماسية أنهم "أبلغوا دوائر الفاتيكان أن لديهم بعض الشروط على زيارة البطريرك للأراضي المقدسة في مواجهة الالتزامات التي أعلنها سابقاً، ومنها عدم مصافحة أي مسؤول إسرائيلي"، وهذا إن دلّ على شيء فعلى عدم رغبة "إسرائيل" بزيارة الراعي، وقيامه بتفقد الرعايا المسيحيين، والاستماع إلى مطالبهم وهواجسهم ونقلها إلى البابا.

ويتساءل هؤلاء: أمَا آن الأوان لدراسة جديّة لجدوى مقاطعة زيارة الأراضي المقدسة، التي تركت الفلسطينيين لمصيرهم في مواجهة سياسات التهويد، خصوصاً المقدسيين منهم الذين يتناقصون يوماً بعد يوم؟

بكل الأحوال، مهما يكن من وجهات النظر المتباينة حول جدوى الزيارة وصحتها، يبقى أن استسهال التخوين والاتهام بالعمالة هو أمر معيب، ولا يجوز إطلاقاً مع أي كان، فكيف مع شخص البطريرك الراعي الذي لم يقصّر يوماً في دعم المقاومة والقضايا العربية المحقة، ومنها وقوفه ضد الإرهاب الذي يحاول أن يقوّض الدولة السورية ويلغي التعددية فيها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق