2025/06/24

الجغرافيا الإيرانية: نعمة أم نقمة؟

في تغريدة لافتة على منصته (Truth Social) بتاريخ 22 حزيران/يونيو 2025 كتب الرئيس الأميركي دونالد ترامب: "قد لا يكون من المقبول سياسياً استخدام مصطلح "تغيير النظام"، لكن إذا كان النظام الإيراني الحالي غير قادر على "جعل إيران عظيمة مجدّداً"، فلماذا لا يحصل تغيير في النظام؟؟؟MIGA!!!»

 

وجاءت التغريدة بعد الضربات الجوية الأميركية على ثلاث منشآت نووية إيرانية أساسية ادّعى خلالها ترامب وكبار المسؤولين الأميركيين أنّ الهدف تعطيل البرنامج النووي الإيراني ومنع إيران من تصنيع قنبلة نووية، ورفضوا الاتهامات بأنّ الهدف هو تغيير النظام في إيران.

 

وفي هذا الإطار، يخشى الكثير من الأميركيين أن يكون أولادهم ضحية خدعة جديدة تشبه خدعة أسلحة الدمار الشامل العراقية، والتي استخدمت مبرّراً لاجتياح أميركي للعراق خارج إطار القانون الدولي. ومع الإدراك بحجم الاختلاف الجوهري الكبير جداً بين مقوّمات العراق ومقوّمات إيران من جميع النواحي الديموغرافية والعسكرية والعقائدية والسياسية إلخ، سنبحث تأثير جغرافية إيران على قوتها الحالية وقدرتها.

 

منذ الإمبراطوريات القديمة وحتى نشوء القوى العظمى الحديثة، أدّت التضاريس والمناخ والموقع دوراً محورياً في تحديد قوة الدولة وقدرتها على الحفاظ على أمنها. وفي هذا السياق، قد تبدو الجغرافيا "نعمة" تمنح الدول مزايا طبيعية، أو "لعنة" تستجلب تدخّلات خارجية وتحوّل الدولة الى ساحة تجاذب وصراع. مع العلم أنّ الجغرافيا وحدها ليست عاملاً حاسماً، فالموقع الاستراتيجي يتحوّل إلى نعمة إذا كانت الدولة قوية ولها مقوّمات الحفاظ على نفسها، بينما الموقع الجغرافي نفسه يتحوّل نقمة إذا كان الحكم المركزي ضعيفاً والشعب منقسماً على ذاته.

 

توفّر الجغرافيا للدولة تحصينات طبيعية وموارد وفيرة وموقعاً استراتيجياً، فالدول التي تمتلك حواجز طبيعية كالجبال أو الصحاري الواسعة أو تفصل بينها وبين العالم محيطات (كالولايات المتحدة الأميركية) تنعم غالباً بأمن أكبر حيث يصعب على الدول التوسّعية غزوها. بالمقابل، تؤدّي الجغرافيا دور النقمة، حيث تشكّل قلقاً للدول التي لا تمتلك موانع طبيعية تمنع الغزو خاصة إذا كانت في منطقة مليئة بالتحدّيات والأطماع الاستعمارية.

 

أما في إيران، فقد شكّلت الجغرافيا الإيرانية سيفاً ذا حدّين طبع التاريخ الإيراني، فبالرغم من أنّ تضاريس إيران تشكّل درعاً واقية طبيعية حيث يُوصَف هذا البلد بأنه حصن طبيعي، تحيط به سلاسل جبلية شاهقة وصحارٍ شاسعة قاسية، شهدت إيران عبر تاريخها الطويل العديد من الغزوات، ترك كلٌّ منها بصماته التي لا تُمحى على العقل الجمعي الإيراني وإدرامه للمخاطر والتهديدات. وأدرك الإيرانيون مبكراً أنّ الجغرافيا مهما بلغت من تحصين لا تحمي دولةً، لذا حرصت النخب الحاكمة، على اختلاف العصور، على تعزيز التماسك الاجتماعي، وبناء عمق ديموغرافي في قلب الهضبة، وتوجيه التنمية والعمران نحو المناطق الوسطى بعيداً عن نقاط الضعف الحدودية.

 

يكمن جوهر القوة الجغرافية لإيران في أطرافها الجبلية. إذ تمتد جبال زاغروس على طول حدودها الغربية والجنوبية الغربية، مُشكِّلةً حاجزاً وعراً أعاق تاريخياً الغزوات المقبلة من الغرب. وفي الشمال، تحرس جبال البرز سواحل بحر قزوين، مما يجعل التوغّلات من الشمال صعبة بالقدر نفسه. أمّا الهضبة الإيرانية الوسطى، فتسيطر عليها صحراء ملحية شاسعة، هما دشت كوير ودشت لوت، واللتان تشكّلان كابوساً لوجستياً لأيّ عملية عسكرية واسعة النطاق. وقد جعلت هذه العوامل، عبر القرون، احتلال إيران بشكل كامل والسيطرة عليها أمراً بالغ الصعوبة، كما تشهد على ذلك معاناة حتى أعظم الغزاة مثل المغول والعثمانيين.

 

أما الخاصرة الرخوة الإيرانية فهي منطقة خوزستان في الجنوب الغربي، وخاصة السهول الخصبة المتاخمة للعراق، والتي كانت المناطق التي هاجم صدام حسين إيران عبرها. تعتبر هذه المنطقة أقلّ وعورة مقارنة ببقية إيران، مما جعلها أكثر المناطق ضعفاً، مع العلم أنّ لها أهميتها الاستراتيجية أيضاً إذ إنها غنية بحقول النفط وتطلّ على الخليج. وقد أدّت استراتيجية إيران الحديثة، وتحالفها مع العراق بعد سقوط صدام حسين، دوراً كبيراً في تقليص التهديدات الأمنية على البلاد والتي قد تتأتّى من تلك الخاصرة الرخوة.

 

وهكذا، إن قدرة إيران على الصمود اليوم في وجه التهديدات، لا تكمن في جغرافيّتها وحدها، بل في قدرتها التاريخية على توظيف هذه الجغرافيا ضمن استراتيجية دفاعية مُحكمة تُزاوج بين قسوة التضاريس وصلابة الإرادة الوطنية، وقوة العقيدة التي تطبع نظامها وقواتها المسلحة ونظام حكمها.

 

لقد نجحت إيران، في تطوير عقلية سياسية وأمنية تجعل من تضاريسها الوعرة خطوط صدّ طبيعية، مدعومة بشبكة دفاعية بشرية وعسكرية متجذّرة في الوعي الجمعي للإيرانيين، الذين باتوا يعتبرون الحفاظ على وحدة أرضهم واستقلال قرارهم وردّهم للعدوان على بلادهم، مسألة كرامة ووجود لا تقبل المساومة. 

2025/06/17

"الالتفاف حول العلم": دراسة الظاهرة الإيرانية

تصاعدت التوترات الإقليمية ووصلت المواجهة بين "إسرائيل" وإيران إلى ذروتها بعد قيام "إسرائيل" بعدوان استهدف مواقع حيوية داخل الأراضي الإيرانية، واغتيال قيادات وعلماء نوويين، أعاد إلى الأذهان ذكريات الحرب العراقية – الإيرانية، وأثار الخوف والقلق لدى الشعب الإيراني.

 

وفي خضم هذا التصعيد، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدعوة مباشرة للإيرانيين يحثّهم فيها على الانتفاض ضد حكومتهم وإسقاط النظام، وبدأت الصحف ووسائل الاعلام الغربية تشير إلى إمكانية «تغيير النظام» في إيران والدعوة للعودة إلى الملكية واستقبال المعارضين الإيرانيين.

 

غير أنّ تلك الدعوات لم تلقَ القبول المتوقع، بل على العكس، فقد أسهمت الهجمات والدعوات الخارجية في إحياء مشاعر الوطنية لدى شريحة واسعة من الإيرانيين، فتجلّى أمام العالم من جديد مفهوم «الالتفاف حول العَلَم» الذي يوحّد الشعوب في وجه التهديد الخارجي مهما كانت خلافاتهم الداخلية عميقة.

 

ما هي ظاهرة "الالتفاف حول العلم"؟

في جوهرها، تشير عبارة "الالتفاف حول العَلَم" إلى ميل المواطنين للاتحاد وإظهار قدر أكبر من الوطنية والدعم لحكومتهم في أوقات التهديد الخارجي أو الطوارئ الوطنية. يستمد المصطلح رمزيته من الصورة المجازية للمواطنين الذين يتجمعون فعليًا حول عَلَم بلادهم كإشارة إلى الوحدة في مواجهة الشدائد.

 

صاغ "جون مولر" هذا المصطلح في السبعينات، حين درس كيف أن تأييد الرأي العام الأميركي للرئيس يرتفع عادةً خلال النزاعات والأزمات الدولية، واعتبر أن فكرة "الالتفاف حول العَلَم" تجسّد جانبًا أساسيًا من السلوك الاجتماعي البشري: وهو غريزة الاتحاد في مواجهة التهديد المشترك، ففي أوقات الخوف أو عدم اليقين، يسعى الناس بشكل طبيعي إلى التضامن وإلى قيادة واضحة.

 

درس العديد من الخبراء أسباب هذه الظاهرة؛ إذ نسبها "تاجفيل" إلى "نظرية الهوية الاجتماعية"، والتي تعني أن الانتماء الوطني يدفع الناس إلى دعم المؤسسات والرموز الوطنية في أوقات الأزمات. وركز بعض الباحثين على التهديد نفسه، معتبرين أن حاجة الناس لتعزيز أمنهم تدفعهم إلى الالتفاف والدعم المتزايد للمؤسسات الوطنية.

 

وتناول آخرون الظاهرة من منظور عاطفي، موضحين أن الغضب وانعدام الأمان والقلق تؤدي إلى ظهور آثار الالتفاف. وفي دراسة شملت ما يقرب من 200 حرب شارك فيها الجيش الأميركي، توصلت الدراسة إلى أن هذا التأثير لا يمكن أن يحدث من دون رسائل مؤثرة تصوغها النخب، إذ توصّلت إلى أن "مدى قوة تأثير الالتفاف في الولايات المتحدة يعتمد إلى حد كبير على رسائل النخب ذاتها".

 

في التطبيق، وبالرغم من أن المبدأ يشير إلى ظاهرة وطنية صحية، فإن الحال ليست دائماً كذلك.

 

في بعض الأحيان، قد يستغل القادة السياسيون هذا الميل، فيندفعون إلى تصدير أزماتهم إلى الخارج والقيام بحروب خارجية، وذلك طمعاً بتعزيز الوحدة الوطنية بتعزيز القلق الوجودي وتصوير المعارضة غير وطنية، وبالتالي تمكّن الحكومة من تجاوز حدودها القانونية، أو تُستخدم كوسيلة لإلهاء الرأي العام عن مشاكل داخلية. هذا بالضبط ما يفعله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يندفع في سياسة الهروب إلى الأمام، كلما تصاعدت الانقسامات الداخلية في "إسرائيل" وكادت تطيحه أو تطيح حكومته اليمينية المتطرفة.

 

دراسة الحالة الإيرانية

وفي إيران، أدت الحرب إلى حالة من "الالتفاف حول العلم"، حيث رُفِعت الأعلام الإيرانية والرموز الوطنية بكثافة، وأُقيمت تجمعات التضامن مع الدولة، وعبّر متظاهرون خلالها عن غضبهم، واعتبروا أن المقاومة والردّ على "إسرائيل" مسألة كرامة وطنية وبقاء. كما عبّر متظاهرون إيرانيون في مدن أوروبية عن تضامنهم، مستنكرين الأفعال الإسرائيلية ورافعين الأعلام الإيرانية.

 

وقوبلت دعوة نتنياهو إلى الإيرانيين للانتفاض ضد حكومتهم برفض واسع، إذ رفض كثير من الإيرانيين، بغض النظر عن موقفهم من النظام، خطابه، معتبرين إياه منافقًا، وقال أحد سكان طهران: "إسرائيل" تستهين بحبنا لبلدنا؛ قصفنا لن يدفعنا للخروج إلى الشوارع ضد حكومتنا." وفي وسائل التواصل الاجتماعي، عبّر الكثير من الإيرانيين عن غضبهم، وتحدث معارضون سابقون عن أنهم بالرغم من معارضتهم للحكومة فإن المسألة الآن، هي مسألة وطن وليست مسألة "نظام".

 

وهكذا، يتّضح أن مفهوم "الالتفاف حول العَلَم" يظلّ حاضرًا وفعّالًا عند تعرّض الدول لتهديد خارجي، كما شهدنا في الحالة الإيرانية عقب الهجمات الإسرائيلية الأخيرة. ورغم الانقسامات الداخلية والآراء المتباينة تجاه النظام، فإن التهديدات الخارجية وحالة الخطر عزّزا مشاعر التضامن والانتماء الوطني لدى شريحة واسعة من الإيرانيين، فتوحّدوا خلف رمز الدولة وسيادتها. 

2025/06/13

الصراع في أميركا: أبعد من قانونَي "التمرد" و"بوسيه كوميتاتوس"

تتحضر التيارات المعارضة لدونالد ترامب، سواء من الديمقراطيين أو سواهم، لتظاهرات حاشدة بعنوان "يوم- لا ملوك"، وذلك خلال الاستعراض العسكري الذي سيقام في 14حزيران/ يونيو 2025، بالتزامن مع ذكرى 250 عاماً على تأسيس الجيش الأميركي. ويهدف هؤلاء من الاستعراض العسكري (وهو نادر الحدوث في الولايات المتحدة الأميركية) إلى إظهار "النزعة الملكية الجديدة" لدونالد ترامب، وتحويل رمزية الجيش إلى أداة سياسية تُستخدم في ترهيب الخصوم وتكريس النزعة السلطوية، وإسكات المعارضين في الداخل.

 

وتشهد الولايات المتحدة موجة احتجاجات وإخلال بالأمن، عقب مداهمات نفذتها إدارة الهجرة والجمارك، استهدفت مهاجرين غير نظاميين، خصوصاً في مدينة لوس أنجلوس في كاليفورنيا.

 

وفرضت السلطات المحلية حظر تجوّل في عدد من المدن، ووقعت اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة. وقامت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنشر قوات الحرس الوطني ومشاة البحرية في لوس أنجلوس، الأمر الذي وصفه حاكم كاليفورنيا، غافين نيوسوم، بأنه تجاوز سلطوي وانتهاك لسيادة الولاية.

 

- الإطار القانوني للنزاع بين ترامب وحاكم كاليفورنيا:

 

الإطار القانوني الذي يحكم هذا الخلاف هما قانونان مترابطان، ولكن مختلفان وهما: قانون التمرد (1807) وقانون بوسيه كوميتاتوس (1878).

 

الفرق بين قانون التمرد وقانون بوسيه كوميتاتوس

من المهم توضيح أن هناك خلطاً شائعاً بين قانون التمرد (Insurrection Act) وقانون بوسيه كوميتاتوس (Posse Comitatus Act)، رغم أنهما قانونان منفصلان ويؤدي كل منهما وظيفة مختلفة تماماً في النظام القانوني الأميركي.

 

قانون التمرد، الذي أُقرّ عام 1807، يتيح للرئيس الأميركي استخدام القوات المسلحة الفيدرالية داخل الولايات المتحدة في حالات التمرد أو العنف الذي يعوق تطبيق القانون، ويمكن تفعيله حتى من دون موافقة حاكم الولاية في ظروف محددة.

 

في المقابل، قانون بوسيه كوميتاتوس، الصادر عام 1878، وُضع للحد من استخدام الجيش في الشؤون المدنية، ويُعدّ بمنزلة حامٍ لمبدأ فصل السلطات والحريات المدنية، إذ يمنع القوات الفيدرالية - ولا سيما الجيش الأميركي- من المشاركة في تطبيق القانون داخل البلاد إلا بموجب استثناءات قانونية محددة، مثل تلك التي يمنحها قانون التمرد.

وبالتالي، فإن القانونين لا يتعارضان من حيث المبدأ، لكن استخدام أحدهما (قانون التمرد) هو ما يسمح قانونياً بتجاوز قيود الآخر (قانون بوسيه كوميتاتوس).

 

حدود القانون العسكري: قانون بوسيه كوميتاتوس

يحظر هذا القانون استخدام الجيش في إنفاذ القوانين داخل الأراضي الأميركية. ومع ذلك، يمكن للرئيس تجاوزه عبر:

 

قانون التمرد.

 

دعم حماية الممتلكات الفيدرالية، وهو ما استخدمه ترامب لتبرير نشر المارينز.

 

وينص قانون التمرد أنه "عندما يحدث تمرد في أي ولاية ضد حكومتها، يجوز للرئيس، بناء على طلب مجلسها التشريعي أو حاكمها، إذا لم يتمكن المجلس التشريعي من الانعقاد، استدعاء قوات من ميليشيا الولايات الأخرى إلى الخدمة الفيدرالية، بالعدد الذي تطلبه تلك الولاية، واستخدام القوات المسلحة التي تراها ضرورية لقمع التمرد".

 

وخوفاً على الحريات الفردية التي يقدسها الأميركيون، يحظر "قانون بوسيه كوميتاتوس" على القوى العسكرية الفيدرالية – في الأوقات العادية- المشاركة في إنفاذ القانون المدني في الولايات. وبالرغم من هذا الحظر، فإن قانون "التمرد" استخدم 30 مرة منذ 1807، من أبرزها:

 

أ‌- الحرب الأهلية الأميركية بأمر من الرئيس لينكولن (1861- 1865).

 

ب‌- حماية الطلاب السود في ليتل روك، أركنساس بأمر من الرئيس أيزنهاور (1957).

 

ت‌- حماية مسيرة الحقوق المدنية في ألاباما بأمر من الرئيس ليندون جونسن (1965).

 

ث‌- قمع أعمال الشغب في لوس أنجلوس (1992) بناءً على طلب حاكم الولاية.

 

ج‌-  هدد الرئيس ترامب باستخدامه عام 2020 خلال احتجاجات جورج فلويد، لكنه لم يُفعّله.

 

وحالياً، استند ترامب إلى المادة 10 U.S.C. § 12406 التي تخوّل الرئيس نشر الحرس الوطني (من دون موافقة حاكم الولاية) في حالات تمرد أو تعذر تنفيذ القوانين بالقوات النظامية.

 

 السياسة أبعد من القانون

لا شكّ، تعكس هذه التظاهرات الاستقطاب السياسي الحاد الذي يطبع المجتمع الأميركي، والخلاف الذي بات يتخطى الانقسام الحزبي التقليدي في الولايات المتحدة، حيث يستفيد ترامب من "الموجة الحمراء" الساحقة التي حصلت في الانتخابات الأخيرة، لتركيز السلطات في يديه، ومحاربة خصومه ومنعهم من تكرار ما قاموا به خلال فترته الأولى.

 

يقوم ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض بخطة واضحة لتقليص الاعتراض داخل إدارته، ولتحسين قدرته على فرض أجندته السياسية، ويظهر ذلك ليس من خلال تحدي حكام الولايات ونشر القوات الفيدرالية من دون إذنهم فحسب، بل في عملية التطهير الواسعة التي حصلت في المؤسسات الفيدرالية، وفي اشتباكه مع الجامعات وآخرها جامعة هارفارد، وما تمّ نشره حول إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي، حيث جرت إقالة مستشار الأمن القومي مايك والتز مع عدد من الأعضاء الذين لا يتفقون تماماً مع أجندته، بمن فيهم من يعدّون من أبرز داعمي "إسرائيل" وبنيامين نتنياهو.

 

في المقابل، يتحرك الديمقراطيون وتيار العولمة، مدعومين بأجنحة من "الدولة العميقة" والمتضررين من سياسات ترامب، في محاولة لعرقلة هذا التوجه ومنعه من تنفيذ أجندته بالكامل، في تكرار لما استطاعوا فعله خلال فترته الأولى حين أغرقوه بالدعاوى القانونية والمظاهرات والاتهامات بالتعامل مع روسيا وغيرها بحيث كبّلوا يديه ومنعوه من تحقيق أجندته في السياسة الخارجية والداخلية.

 

وبالنتيجة، تشكّل المظاهرات التي انطلقت من كاليفورنيا أكثر من مجرد احتجاجات على الهجرة، بل مؤشراً على اشتباك داخلي حول شكل النظام الأميركي ذاته: هي رأس جبل الجليد في صراع أجنحة داخل الدولة العميقة، وصراع بين ترامب وتيار العولمة، يتخذ عنواناً إعلامياً: "النزاع بين النزعة السلطوية الترامبية من جهة، والتعددية والحريات والفصل بين السلطات من جهة أخرى"، لكنه في الحقيقة صراع أعمق من ذلك بكثير.

  

2025/06/05

"إسرائيل": الابتزاز كسياسة عامة

يعد تشكيل حكومات أغلبية (من حزب واحد) في "إسرائيل" أمراً نادراً جداً ويكاد يقال إنه لم يحدث في تاريخ الكيان. ولعل لذلك أسباباً متعددة أبرزها اعتماد نظام انتخابي يعتمد التمثيل النسبي ومقياس الدائرة الواحدة، وتُوزع مقاعد الكنيست بحسب نسبة الأصوات التي يحصل عليها كل حزب.

 

إضافة إلى ما سبق، تسهم التعددية الحزبية في "إسرائيل" في تشتيت المقاعد والأصوات. وبناء ًعلى هذين المعيارين، يصعب على أي حزب بمفرده أن يحصل على أغلبية النصف زائداً واحداً.

 

وهكذا، يعتمد الحكم على ائتلافات تجمع أحزاباً متعددة يتعين عليها التفاوض والتوصل إلى تسويات لتحقيق أغلبية تشريعية. لكن الحكومات الائتلافية، ورغم ضرورتها في أنظمة الأحزاب المتعددة، هي عرضة بطبيعتها لعدم الاستقرار الناتج أما عن المناورات السياسية للأحزاب المشاركة فيها، أو عن "الابتزاز السياسي"، حيث تلجأ الأحزاب الصغيرة، وغالبًا ما تكون أيديولوجية، إلى استغلال موقعها الحاسم لانتزاع تنازلات سياسية كبيرة تحت تهديد حلّ الائتلاف.

 

ويُعدّ مفهوم "إمكانات الابتزاز" الذي طرحه جيوفاني سارتوري عام 1976 أساسًا في فهم هذه الديناميكية. حيث أشار إلى أن أهمية الحزب في النظام السياسي لا تُقاس فقط بحجمه أو "إمكاناته الائتلافية"، بل أيضًا بقدرته على التأثير في ديناميكيات التنافس السياسي، وخصوصًا عندما يغيّر هذا التأثير اتجاه المنافسة. بعبارة أخرى، يمكن لحزب يمتلك "إمكانات الابتزاز" أن يجبر الأحزاب الأخرى، خاصة تلك المشاركة في الحكم، على تعديل استراتيجياتها لتفادي نتائج سلبية، مثل انهيار الحكومة.

 

تتأثر مصداقية وفعالية تهديدات الابتزاز أيضًا بدوافع الأحزاب. حيث تُصنف الأحزاب عادةً إما على أنها تسعى للمناصب (تركز على الحصول على مناصب وزارية ومزاياها) أو تسعى للسياسات (تركز على تحقيق أهداف أيديولوجية محددة). وغالبًا ما تكون الأحزاب التي تمثل مصالح أيديولوجية أو طائفية محددة مستعدة للمخاطرة بانهيار الحكومة إذا لم تُلبَّ مطالبها الأساسية، ما يجعل تهديدها أكثر مصداقية، وهي الحال في قضية تجنيد الحريديم في "إسرائيل".

 

أزمة تجنيد الحريديم في "إسرائيل"

منذ تأسيس "إسرائيل"، تم إعفاء الرجال الحريديم من الخدمة العسكرية الإلزامية بهدف التفرغ للدراسة الدينية. ومع مرور الوقت وتزايد أعدادهم، أصبح هذا الإعفاء نقطة خلاف رئيسية داخل المجتمع الإسرائيلي، لأنه يخلّ بمبدأ المساواة بين المواطنين.

 

تزايدت حدّة الأزمة، مع استمرار الحرب الدائرة في غزة، وتركيز المجهود العسكري على جنود الاحتياط، مع ما في ذلك من خسائر على الاقتصاد وعلى العائلات. وتفاقمت القضية بين نتنياهو وحلفائه من اليمين، بعد تأكيد قرار المحكمة العليا بعدم قانونية الإعفاء، والطلب من الجيش القيام بالتجنيد.

 

وتضغط الأحزاب الحريدية على الائتلاف الحاكم لإقرار قانون يعفي عددًا كبيرًا من الشباب الحريدي من الخدمة العسكرية، مهددين بالانسحاب من الحكومة ما لم يتم إحراز تقدم بشأن الإعفاء، ما يجعل نتنياهو والليكود أمام معضلة الخيار بين احتمالين أحلاهما مرّ:

 

أ‌- الخضوع للأحزاب الدينية والإعفاء من التجنيد من أجل الحفاظ على الحكومة، وبالتالي مخالفة قرار المحكمة العليا وتوصيات الجيش بالتجنيد... وهو أمر يرفضه العديد من شرائح المجتمع، وقد صدرت أصوات داخل الائتلاف الحكومي تنتقد التنازل في هذا الملف والخضوع لابتزاز الأحزاب الدينية.

 

وكانت صحيفة معاريف قد نقلت أن يولي إدلشتاين، رئيس لجنة الدفاع في الكنيست، من بين نواب الليكود الذين يُصرّون على وجوب تجنيد الحريديم وأن يواجه المتهربون من الخدمة عقوبات قانونية. ودافعت المتحدثة باسمه، مايان سامون، عن هذا الموقف، فكتبت على موقع X: "نحن في واقع النضال من أجل وطننا، بينما يترنح إخواننا تحت وطأة خدمة الاحتياط، وتنهار عائلاتهم ويلجأ الأزواج إلى الطلاق بسبب هذا الضغط".

 

ب‌- عدم الرضوخ لابتزاز الأحزاب اليمينية، مع ما ينتج عن ذلك من أخطار تهدد الائتلاف الحكومي. تشير تقارير صحافية إلى أن حزب يهدوت هتوراة قد ينضم إلى تصويت حجب الثقة، والتي قد تؤدي، في حال إقرارها، إلى حل الكنيست والدعوة إلى انتخابات مبكرة. مع العلم، أن هناك أكثر من 15 مشروع قانون لحل الكنيست قيد النظر حاليًا، بعضها من المعارضة والبعض الآخر طرحه أعضاء كنيست من الائتلاف سعيًا وراء نفوذ سياسي مع تقدم الدورة الصيفية.

 

وهكذا، وفي ضوء ما تكشفه أزمة تجنيد الحريديم في "إسرائيل"، يتضح أن الابتزاز السياسي بات سِمة متأصلة في بنية الحكم الائتلافي الإسرائيلي، لا مجرد استثناء ظرفي، ويبدو أن الصراع على قانون التجنيد بات يتجاوز حدود الخلاف السياسي المعتاد، ليصبح اختبارًا حاسمًا لبقاء الحكومة نفسها.

 

وتكشف هذه الأزمة وما حولها واستمرار الحرب على قطاع غزة، عن مؤشرات السياسة الداخلية الإسرائيلية، والتي تفيد:

 

أولًا، بأن السياسات العامة تعمل لمصلحة مصالح فئوية ضيقة، كما يتجلّى في الإصرار على إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية رغم المعارضة الواسعة، وعلى استمرار الحرب على غزة بالرغم من تزايد نسبة المؤيدين لانتهائها وأولوية الإفراج عن الرهائن.

 

ثانياً، بتآكل الثقة الشعبية في ديمقراطية النظام الإسرائيلي، إذ يرى كثيرون أن القرار السياسي بات رهن قرار إما المرجعيات الدينية المتطرفة أو نتنياهو وزوجته.