2025/08/31

خيارات إيران للرد على تفعيل "آلية الزناد"

أرسلت بريطانيا وفرنسا وألمانيا رسالة إلى مجلس الأمن الدولي، تطلب فيها تفعيل "آلية الزناد" لإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران بسبب برنامجها النووي. واتخذت الدول الثلاث القرار للضغط على إيران للعودة إلى طاولة المفاوضات، بالرغم من أن الأميركيين والإسرائيليين استغلوا التفاوض بين إيران والولايات المتحدة الأميركية لشنّ حرب على إيران وقصف محطاتها النووية. 

تزايد الضغوط الدولية يفرض على إيران إعداد رد استراتيجي متعدّد الجوانب، فالردّ الدبلوماسي المجرد، والتهديد بوقف التفاوض مع الأوروبيين لا يبدو أنه سيجدي نفعاً، خصوصاً أن "الترويكا الأوروبية" تبدو أنها تعمل بدفع من "إسرائيل" والولايات المتحدة لدفع إيران إلى تقديم تنازلات مؤلمة تمسّ سيادتها ومكانتها القانونية.

كيف يمكن لإيران أن ترد؟

1- على الصعيد الدبلوماسي

من الطبيعي أن ينظم الإيرانيون حملة دبلوماسية متعددة الأهداف، تهدف إلى مواجهة خصومها وحشد دعم حلفائها الرئيسيين. وقد بادرت الخارجية الإيرانية بالفعل إلى ذلك معتبرة أن لجوء الدول الأوروبية الثلاث إلى "آلية الزناد" "غير قانوني وغير مبرر" نظرًا لإخفاقاتها السابقة في الالتزام بخطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 (JCPOA) بعد الانسحاب الأميركي عام 2018.

وأعرب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي عن استعداد بلاده لاستئناف المفاوضات الدبلوماسية، لكنه اشترط أن تظهر الأطراف الأخرى "الجدية وحسن النية". وكتب عراقتشي على منصة "أكس" أن "تفعيل آلية العقوبات الأممية سيحوّل الترويكا إلى قوة عديمة التأثير في ما يتعلق بإيران، وسيجبر إيران على اتخاذ رد مناسب، ونلفت انتباه أوروبا التي همشتها أميركا من الملفات العالمية بعدم خداع نفسها بتفعيل آلية إعادة العقوبات". 

ولا شكّ، يريد الأوروبيون استخدام "آلية الزناد" كأداة ضغط في المفاوضات، وقد وضعوا ثلاثة شروط أساسية:

1استئناف المفاوضات المباشرة مع الولايات المتحدة

2امتثال إيران لالتزاماتها تجاه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بما في ذلك السماح للمفتشين الدوليين بزيارة جميع المنشآت النووية.

3الكشف عن مصير كميات اليورانيوم عالية التخصيب ومواقعها، لا سيما تلك التي استُخرجت من المواقع النووية التي ضم ضربها من قبل الأميركيين.

وعلى الصعيد المقابل، يمكن لإيران أن تُصعّد دبلوماسيًا بالتهديد بالانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، لكنها خطوة محفوفة بالمخاطر، ومن شأنها أن تتسبب بتصعيد قد لا يرغب به الإيرانيون، وقد يستغلها الإسرائيليون لتحريض ترامب على شنّ حرب جديدة على إيران.

وبالرغم من المحاولات الصينية والروسية للدفع ضد تفعيل آلية العقوبات في الأمم المتحدة، فإن الخيارات في هذا الصدد تبدو محدودة. قدمت روسيا، بدعم من الصين، مشروع قرار في مجلس الأمن لتمديد العمل بالقرار 2231 لستة أشهر مع سحب آلية «سناب باك»، معتبرة أن قرار «الترويكا» الأوروبية، «يخلق حالة من الصراع لا يمكن التنبؤ بعواقبها". وبالرغم من ذلك، من غير المتوقع أن يمر القرار الروسي بسبب الفيتو الغربي المرجح جداً استخدامه.


2- على الصعيد العسكري

منذ الحرب الإسرائيلية -الأميركية على إيران، بات هناك حديث متصاعد داخل إيران بشأن الآليات الأمثل لردع الأعداء، ومن هذه الآليات تغيير العقيدة النووية الإيرانية، على اعتبار أنه لو كان لإيران قدرات نووية كالتي تمتلكها كوريا الشمالية لما تجرأ أعداؤها على شنّ حرب عسكرية عليها.

3- على الصعيد الاقتصادي

بالرغم من أنه من غير المتوقع أن يكون هناك التزام عالمي واسع بالعقوبات على إيران، خصوصاً بعدما قوّض الغربيون نظام العقوبات (بعد حرب أوكرانيا) إذ وضعوا الدول أمام خيارين: الالتزام بالعقوبات الغربية على روسيا وتقويض مصالحهم القومية، أو اختيار مصلحتهم الخاصة واختيار الحياد، وهو ما اختارته معظم الدول خارج الغرب الجماعي.

اقتصاديًا، من المرجح أن يركز الرد الإيراني على محاولة تجاوز العقوبات الجديدة وزيادة تكامل اقتصادها مع شركائها غير الغربيين. وعلى الرغم من أن عودة العقوبات سوف تؤدي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي المتردي أصلًا في إيران، والذي يتميز بارتفاع التضخم وانهيار العملة، فإن إيران، كما الروس وغيرهم، باتوا أكثر قدرة على التهرب من العقوبات والقدرة على بيع النفط والغاز في السوق العالمي.

  

2025/08/25

الأمن الأوروبي: إعادة التعريف لا تعني استقلالاً

بعد قمّة ألاسكا بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، واللقاء الأوروبي ـــــ الأميركي ـــــ الأوكراني الذي تمّ عقده في البيت الأبيض، ورفض ترامب المقترحات الأوروبية وإصراره على السير بما تمّ الاتفاق عليه بينه وبين بوتين، يمكن القول إنّ أوروبا باتت تواجه عدّة تحدّيات، ستؤدّي إلى تبدّل في تصوّرات التهديد خاصة أمام الطبيعة المتغيّرة للتحالف عبر الأطلسي والحاجة الملّحة الجديدة لتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية.

 

بالرغم من محاولة الأوروبيين إدخال بنود جديدة على اتفاق ألاسكا، أو أقلّه دفع الأمور في أوكرانيا إلى وقف مؤقت لإطلاق النار، كما طالب ترامب نفسه في وقت سابق، تخلّى ترامب عن هذا المطلب بعدما تبيّن له أنّ الروس يرفضونه بشدّة، ويعتبرونه نوعاً من الخداع الاستراتيجي الذي سيؤدّي الى إعادة تسليح أوكرانيا ودعمها لمواصلة القتال. وهكذا انحاز ترامب إلى موقف بوتين الذي يرى أنّ المفاوضات يجب أن تركّز على تسوية سلمية طويلة الأمد مع استمرار الأعمال العدائية من دون توقّف.

 

ومع موقف ترامب المستجدّ، تبدّلت تصوّرات التهديد الأوروبية، وتوسّعت بتغيّر المعادلات الجيوسياسية، وبالتالي بات التهديد للأمن الأوروبي متعدّد الطبقات، ويحتاج مقاربة مختلفة عمّا كانت عليه سابقاً.

 

 يعدّ فهم تصوّرات التهديد أمراً بالغ الأهمية لتحليل سلوك الدولة والتنبّؤ به. فالدول تبني قرارات سياستها الخارجية على تصوّراتها للتهديدات، وليس بالضرورة على الحقائق الموضوعية. وهكذا، يمكن أن تؤدّي التصوّرات الخاطئة لنوايا الخصم، التي غالباً ما تغذّيها التحيّزات المعرفية ونقص المعلومات الموثوقة، إلى حروب مكلفة ومدمّرة.

 

وتعمد الدول إلى وضع تصوّراتها الخاصة للتهديد، عبر دراسة البيئة الدولية والإقليمية والمحلية. وفي حين تؤخذ العوامل المادية مثل القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والقرب الجغرافي في الاعتبار، إلّا أنّ تفسير "النوايا" يبقى مهماً، بالرغم من أنّ هذه التفسيرات تتأثّر بتاريخ الدولة وجغرافيّتها، وثقافتها السياسية، والأيديولوجيات السائدة فيها.

 

وعلى هذا الأساس، لم يعد الأوروبيون ـــــ بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض وسلوكه العدائي معهم ـــــ ينظرون إلى التهديد على أنه متجذّر فقط في العدوان العسكري الروسي، بل في روسيا التي أصبحت أكثر جرأة وتعمل وفقاً لشروطها الدبلوماسية المفضّلة، مدعومة بشريك أميركي على استعداد لإعطاء الأولوية "لإعادة الاصطفاف مع روسيا" على حساب الغرب الجماعي، وكذلك في نظرته إلى حلفائه على أساس المصالح الاقتصادية المجرّدة ولو على حساب التحالف العميق المستمرّ منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.

 

واستجابة لهذا التهديد متعدّد الطبقات، بدأت الدول الأوروبية التوجّه إلى العسكرة وهو ما سيكون "نقطة تحوّل" أوروبية شاملة، تشبه إلى حد بعيد "نقطة التحوّل الألمانية" التي أعلنها المستشار الألماني أولاف شولتز بعد حرب أوكرانيا مباشرة.

 

وهكذا، زاد الإنفاق الدفاعي الأوروبي في كلّ دولة من الدول، وتعهّدت الدول الأوروبية في قمة حلف الناتو لعام 2025، بهدف طويل الأمد يتمثّل في استثمار 5% من ناتجها المحلي الإجمالي في متطلّبات الدفاع الأساسية بحلول عام 2035.

 

وعلى صعيد الاتحاد ككلّ، تمّ إطلاق خطة "إعادة تسليح أوروبا" (ReArm Europe) و "الاستعداد 2030" (Readiness 2030) لإعادة تسليح القارة من خلال زيادة الإنفاق الدفاعي وتسهيل النشر السريع للأصول العسكرية. ويشمل ذلك تفعيل بند استثنائي في ميثاق الاستقرار والنمو للسماح للدول الأعضاء بزيادة الإنفاق الدفاعي وإنشاء أداة قروض بقيمة 150 مليار يورو، وهو "الإجراء الأمني لأوروبا" (SAFE)، لتمويل مشاريع دفاعية رئيسية. يضاف إلى ما سبق، إقرار الاتحاد الأوروبي استراتيجية جديدة للبحر الأسود للتحوّل من موقف "ردّ الفعل" إلى موقف أكثر استباقيةً ضدّ "العدوان الروسي" في تلك المنطقة الحيوية.

على الرغم من هذه الإجراءات الملموسة والهامّة، وزيادة الإنفاق الدفاعي، والاستثمار في الصناعات الدفاعية، وتوقيع صفقة تاريخية مع ترامب لاستمرار الحماية الأمنية الأميركية، إلا أنّ تناقضاً استراتيجياً يميّز البيئة الأمنية الأوروبية.

تفتقر أوروبا إلى "استراتيجية أوسع تجاه روسيا"، كذلك تطغى الانقسامات الداخلية على ما يجب فعله تجاه "روسيا"، وتباين النظرة إلى "التصوّرات الأمنية " بين الدول الأعضاء ما يقوّض أيّ نهج "موحّد واستشرافي" لمواجهة المستقبل.

هذا التناقض يعني، أنه حتى في الوقت الذي تستشعر فيه الدول الأوروبية خطورة المرحلة المقبلة، خاصة في ظلّ التقارب الروسي الأميركي، ورغبة ترامب في إخضاع الحلفاء والمنافسين على حدّ سواء، فإنّ أوروبا كانت، ولا تزال، تعمل في إطار من عدم اليقين الاستراتيجي خاصة فيما يتعلّق باعتمادها طويل الأمد على الحماية الأمنية التي توفرّها الولايات المتحدة، وهو ما يثير الشكوك حول نجاح الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي. 

2025/08/20

هل يمكن للسويداء الانفصال عن سوريا في ضوء القانون الدولي؟

تحت شعار "حق تقرير المصير" شهدت مدينة السويداء جنوب سوريا، مظاهرة للدروز القاطنين في المدينة، حيث رفع المحتجون الأعلام الدرزية، ولافتات تطالب بالقصاص والمحاسبة، وحمل البعض علم "إسرائيل" في حين اعترض آخرون على رفع العلم الإسرائيلي، مؤكدين أنه "لا يمثل جميع المحتجين".

وهكذا، وتحت عنوان محق، وهو "تقرير المصير" وفي نطاق المطالبة بالمحاسبة والمواطنية واحترام التنوع في سوريا، يتدحرج الوضع السوري في مسار نحو تهديد بالانفصال والتفكيك.

 فما هو تقرير المصير في القانون الدولي، وهل يمكن للسويداء أن تنفصل عن سوريا ضمن إطار مرجعية القانون الدولي؟

1- تطور مفهوم حق تقرير المصير

لم يتم الاعتراف بهذا الحق "قانونياً" إلا بعد تأسيس الأمم المتحدة، بالرغم من دعوة الرئيس الأميركي ويدرو ويلسون إلى إعطاء شعوب منطقة المشرق العربي حق تقرير المصير خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى.

أدرج هذا الحق صراحة في المادة 1 (2) من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على مبدأ "تساوي الشعوب في الحقوق وحقها في تقرير المصير"، ثم في المادة الأولى المشتركة في كل من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك للتأكيد أن لجميع الشعوب الحق في أن تحدد بحرية وضعها السياسي وتسعى إلى تحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

بداية، حين تمّ إقرار هذا المبدأ في ميثاق الأمم المتحدة، لم يكن واضعوه يريدون منه أن يشكّل تضارباً مع سيادة الدول التي هي حجر الأساس في القانون الدولي وفي ميثاق الأمم المتحدة، بل كان يُعدّ بمنزلة "تكريس للسيادة" حيث يعطي الشعب (وهو مصدر السيادة) حق اختيار ما يراه مناسباً لدولته، سواء سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً الخ.. وبالتالي، ليس هناك أي حق في التدخل في شؤونه أو فرض "نظام حكم سياسي أو اقتصادي" معين عليه. وتأتي أهمية هذا التأكيد، أن العهود الدولية تلك أتت في خضم الحرب الباردة التي كان يتنازعها تصوّران أيديولوجيان للعالم.

تطوّر هذا المبدأ وتوسّع مع موجة التحرر من الاستعمار، حيث استخدمته الشعوب المستعمرة أساساً قانونياً للدفع نحو إنهاء السيطرة الاستعمارية. وقد عزز إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة (القرار 1514) هذا المبدأ كحق قانوني ينطبق على جميع الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي. في هذا النموذج، كان حق تقرير المصير بمنزلة أداة لتفكيك الإمبراطوريات الاستعمارية وإنشاء دول جديدة ذات سيادة استنادًا إلى مبدأ "حيازة ما كان يمتلكه القانون" (uti possidetis juris)، الذي احترم الحدود الإدارية الاستعمارية السابقة، فتشكّلت الدول الحديثة على حدود استعمارية سابقة، وهو ما أدّى إلى العديد من التوترات في ما بعد.

 

2- حق تقرير المصير الداخلي مقابل الخارجي

ومع تطور المفهوم، بدأ القانون الدولي يفرّق بين البعدين الداخلي والخارجي للمبدأ:

- تقرير المصير الداخلي: يستند إلى حق الشعب في السعي إلى تحقيق تنميته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ضمن إطار دولة قائمة. وهذا يشمل الحق في وجود حكومة تمثيلية، وانتخابات حرة، والحفاظ على الهوية الثقافية واللغة والخصوصيات للجماعات المختلفة. تعترف معظم الدول بهذا البعد الداخلي، لأنه يتماشى مع المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.

- حق تقرير المصير الخارجي وهو الأكثر إشكالية في القانون الدولي، لأنه يعني الحق في الانفصال وتشكيل دولة مستقلة.

لعبت محكمة العدل الدولية (ICJ) دورًا حاسمًا في تشكيل الأبعاد القانونية لحق تقرير المصير من خلال فتواها الاستشارية، وأكدت أن القانون الدولي لا يمنح حقًا أحادي الجانب في الانفصال لشعب ما لم يكن شعبًا مستعمرًا أو مضطهدًا.

وبسبب إشكاليته وخطورته على سيادة الدول القائمة، ضيّق القانون الدولي إطار هذا الحق، فحدد أن ممارسة هذا الحق (الانفصال) خارج إطار الاستعمار أو الاحتلال (كما في حالة فلسطين)، مسموح به في ظروف استثنائية محددة جداً، ومع قيود شديدة، كالتعرض للاضطهاد الممنهج أو انهيار الدولة، ومنها – على سبيل المثال- التأكد من أن المطالبين بالانفصال هم بالفعل يشكّلون "شعباً" يحق له تقرير مصيره.

3- حالة السويداء و"تقرير المصير"

قانونياً، ولدراسة مدى انطباق حق تقرير المصير الخارجي على قضية السويداء، يجب معالجة أسئلة رئيسية:

أولاً، يجب تعريف "الشعب"، وهو المجموعة التي تمتلك حق تقرير المصير.

ثانياً، من ينتمي إلى الشعب؟ هذا السؤال يطرح إشكالية كبرى، خاصة عند اقتراح إجراء استفتاء لتقرير المصير. فهو يثير قضية أهلية الناخبين وكيفية التعامل مع التحولات السكانية، سواء كانت قسرية أو طوعية، مثلاً أن يتم تهجير عرقي قبل حصول الاستفتاء وغير ذلك...

ثالثاً، كيف تتم ممارسة حق تقرير المصير؟ هل الانفصال عن سوريا هو الطريقة الوحيدة لممارسته؟ هل يمكن المطالبة بحكم ذاتي، بدستور جديد، بحكم تشاركي؟ الخ...

في النتيجة، يُعدّ حق تقرير المصير إنجازًا تاريخيًا للقانون الدولي الحديث، وهو حق أساسي حرر الملايين من الحكم الاستعماري.

ومع ذلك، يتضمن تطبيقه إشكالية كبرى كونه مبدأ من "المبادئ الآمرة" يتضارب مع مبدأ آخر من المبادئ الآمرة في القانون الدولي وهو "سيادة الدولة ووحدة أراضيها". والأخطر، أنه بات يعتمد في استراتيجية الدول التوسعية، حيث تتذرع دولة بحق شعب في تقرير مصيره، للتدخل في شؤون وسيادة دولة أخرى وتقويض استقرارها.

وعليه، بالنسبة إلى السويداء، بما أن هناك أطراً مختلفة لتطبيق حق تقرير المصير، فالذهاب إلى "الخيار الجراحي – الانفصالي" يجب أن يكون آخر الخيارات لا أولها بالنسبة إلى السوريين 

2025/08/12

استراتيجية ترامب في أوكرانيا: إنهاء الحرب… وإطالتها؟

تُشكّل القمة المرتقبة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا في 15 آب/أغسطس الجاري لحظة محورية في الصراع الدائر في أوكرانيا. هذا الاجتماع، الذي يهدف إلى التوصّل إلى اتفاق سلام، يسلّط الضوء على تباين كبير في الاستراتيجية الأميركية التي تتراوح بين دعم استمرار الحرب، والسعي إلى السلام في آن واحد.

 

من وجهة النظر الأوروبية، الخطر الأكبر لا يكمن في الحوار الأميركي ـــــ الروسي نفسه، بل في الثمن الذي قد يُدفع للوصول إلى اتفاق. تتخوّف العواصم الأوروبية من أن يلجأ ترامب إلى تقديم تنازلات استراتيجية لروسيا بهدف إغلاق الملف الأوكراني بسرعة، ومن أبرز هذه التنازلات المحتملة:

 

أ‌- التنازلات الإقليمية: عرض ترامب في وقت سابق أنّ السلام قد يتضمّن "تبادلاً للأراضي"، حيث تتنازل أوكرانيا عن مناطق معيّنة لروسيا. تطالب روسيا بالاعتراف القانوني الدولي بضمّها لشبه جزيرة القرم، وكذلك الأقاليم الأربعة التي أعلنت ضمّها في عام 2022 (دونيتسك، لوغانسك، خيرسون، وزابوروجيا).

 

ورغم أنّ روسيا لا تسيطر بالكامل على جميع هذه المناطق، فهناك احتمال أن يوافق ترامب على منحها السيطرة الكاملة على منطقة دونباس والتي تتشكّل بشكل أساسي من مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك في شرق أوكرانيا، والتي تعرف بأهمية مواردها من الفحم.

 

ب‌- حياد أوكرانيا وعدم انضمامها إلى الناتو: من المطالب الروسية الجوهرية أن تتبنّى أوكرانيا وضع الحياد وتتخلّى عن مسعاها للانضمام إلى الناتو. قد يكون عدم الموافقة على انضمام أوكرانيا إلى الناتو من الأمور الأسهل بالنسبة لدونالد ترامب وسيكون انتصاراً دبلوماسياً كبيراً لروسيا.

 

ج‌- رفع بعض العقوبات: قد يكون هذا من الحوافز المهمة، على الرغم من أنّ الاقتصاد الروسي قد تكيّف إلى حدّ ما مع العقوبات، وفتح الروس أسواقاً جديدة بديلة. وفي مجالات معيّنة ساهمت العقوبات بتحفيز إعادة التصنيع الداخلي، واستفادت الشركات المحلية من غياب الشركات الأجنبية فحلّت محلّها. كما ساهمت العقوبات على الأوليغارشية الروسية بعدم تهريب الأموال من روسيا.

 

د- تجميد خطوط القتال: يمكن أن تتضمّن الصفقة وقف إطلاق نار يجمّد خطوط القتال الحالية. ورغم أنّ هذا لن يكون حلاً دائماً لأوكرانيا، فإنه سيسمح لروسيا بترسيخ مكاسبها الإقليمية وتجنّب حرب استنزاف طويلة ومكلفة.

 

المشكلة التي ستواجه ترامب هي المواقف الأوكرانية والأوروبية. يرفض الرئيس الأوكراني التنازل عن الأرض ويقول إنّ هذا يتعارض مع الدستور الأوكراني.

 

وكذلك، يأتي الموقف الأوروبي بدرجة كبرى من الأهمية، خاصة وأنّ الأميركيين اتفقوا مع الأوروبيين على الاستمرار بتمويل المجهود الحربي الأوكراني كما أعلن نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في 10 آب/أغسطس. أكد فانس في مقابلة مع فوكس نيوز أنّ الولايات المتحدة لن تموّل بعد الآن المجهود العسكري الأوكراني بشكل مباشر، ولكن بإمكان أوروبا مواصلة شراء الأسلحة من الشركات المصنّعة الأميركية لتلبية احتياجات أوكرانيا الدفاعية.

 

وبالفعل، وفي مقابلة صحافية في نهاية الأسبوع، أكد الأمين العامّ لحلف الناتو، مارك روته، أنّ الحلفاء الأوروبيين وكندا سيموّلون من الآن فصاعداً المساعدات العسكرية والأمنية لأوكرانيا، في خطوة تتماشى مع مطالب إدارة ترامب بزيادة تقاسم الأعباء.

 

أما العنصر الرئيسي في هذه الخطة الأوروبية فهو بنك الدفاع والأمن والمرونة (DSRB) المقترح إنشاؤه بدعم من الناتو والبرلمان الأوروبي والبنوك الكبرى عبر الأطلسي، وذلك لتوفير تمويل طويل الأجل ومنخفض التكلفة للمشتريات الدفاعية للدول الحليفة. ولهذا البنك هدفان: تمكين الدول الأوروبية من تحقيق أهدافها المتعلّقة بالإنفاق الدفاعي، وتعزيز قاعدة صناعية دفاعية أوروبية قوية ومعتمدة على الذات.

 

وهكذا يبدو أنّ الاستراتيجية الأميركية في موضوع أوكرانيا تسير على خطين متناقضين: الدفع نحو السلام ووقف الحرب عبر لقاء ترامب بوتين واقتراح صفقة سلام، بينما تقوم في الوقت نفسه بتوفير آليات لاستمرار الحرب، وذلك بدفع حلفائها الأوروبيين لتحمّل العبء التمويلي والاستمرار بإمداد أوكرانيا بما تحتاجه من أدوات عسكرية وسياسية للاستمرار بها.

  

2025/08/07

الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط: من "الموازن الخارجي" إلى "الانخراط الانتقائي"

أدّت الحرب الإسرائيلية على غزة إلى إعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية الأميركية، وتحديداً في الشرق الأوسط. وبينما كانت إدارة الرئيس بايدن تسعى لتقليص الانخراط العسكري المباشر في المنطقة، جاءت هذه الحرب لتُحدث شرخاً في مسار الاستراتيجية الأميركية الكبرى، وتفرض إعادة النظر في فرضيّات "التوازن من الخارج" التي كانت تعوّل عليها في الشرق الأوسط للتفرّغ لاحتواء التهديدات الاستراتيجية الكبرى المتأتية من الصعود الصيني المتزايد عالمياً، وللاستمرار في إنهاك روسيا واستنزافها في أوكرانيا.

 

وقد أدّت الحرب الإسرائيلية المستمرة في الشرق الأوسط إلى تبدّل العديد من الافتراضات في الاستراتيجية الأميركية المتّبعة منذ إعلان الرئيس باراك أوباما استراتيجية "التوجّه نحو آسيا"، وذلك على الشكل الآتي:

 

أولاً: فشل فرضية "القيادة من الخلف"

أظهرت الحرب في غزة محدودية سياسة "القيادة من الخلف"، التي ارتكزت على تمكين الحلفاء المحليين من تحمّل المسؤوليات الأمنية، وتخفيف العبء الأميركي المتأتي من تأمين المظلة الأمنية للحلفاء في الشرق الأوسط.

 

دفع هجوم حركة حماس على "إسرائيل"، وردّ الفعل الإسرائيلي بحرب شعواء تنتقل من منطقة الى أخرى في الإقليم، الأميركيين إلى إعادة الانخراط المباشر سياسياً وعسكرياً ولوجستياً في المنطقة. انخرط الأميركيون خلال فترة جو بايدن مباشرة بالحرب الإسرائيلية على غزة، وبعدها انتقلت المهمة إلى إدارة دونالد ترامب التي زادت عليها بالانخراط في ضرب إيران وشنّ حرب عليها، وهو ما لما لم تكن الإدارات السابقة تتجرّأ على فعله.

 

ثانياً: انكشاف الفراغ الاستراتيجي

كشفت الحرب المستمرة منذ سنتين أنّ خروج الولايات المتحدة من المنطقة سيولّد فراغاً استراتيجياً تملؤه قوى إقليمية ودولية، فالجميع بات يدرك أنه من دون الدعم الأميركي لما استطاعت "إسرائيل" أن تصمد هذه المدة، ولما حصلت كلّ هذه التطوّرات الدراماتيكية في المنطقة.

 

مع العلم أنّ من أحد أسباب الردّ الفعل الإسرائيلي المفرط على ما حصل في 7 أكتوبر، قد يكون رغبة إسرائيلية بإعادة الانخراط الأميركي في المنطقة، وخشية من فراغ تستغله إيران وحلفاؤها لتوسيع نفوذهم بعدما ظهر أنّ الحلفاء الإقليميين غير قادرين على ملء هذا الفراغ من دون قيادة أميركية مباشرة.

 

ثالثاً: هشاشة التحالفات التقليدية

قبل الحرب على غزة، وخلال السعي الغربي لعزل روسيا، رفضت الدول الخليجية السير بالعقوبات الغربية على الروس، كما رفضت زيادة إنتاج النفط، وأكدت التزامها باتفاق أوبك بلاس. كذلك، فتحت تلك الدول أبواب التعاون الاقتصادي الواسع مع الصين، التي ساهمت بتقريب وجهات النظر بين إيران والسعودية الذي أدى الى توقيع اتفاق بكين عام 2023.

 

بعد اندلاع الحرب في غزة، اضطرت واشنطن للعودة إلى تفعيل تحالفاتها في المنطقة بهدف احتواء تداعيات حرب الإبادة على الفلسطينيين. أعاد هذا الواقع للأذهان الدور التقليدي للولايات المتحدة كـ "شرطي المنطقة"، القادر على تأدية دور المفاوض والرادع في آن واحد.

 

رابعاً: صعود الرأي العام العالمي كعامل استراتيجي

أدّت الحرب على غزة الى احتجاجات غير مسبوقة في الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، وتصاعد الانتقادات الرسمية وغير الرسمية في العالم، وتحويل "إسرائيل" إلى محكمة العدل الدولية، وصدور مذكّرات اتهام بحقّ المسؤولين الإسرائيليين في المحكمة الجنائية الدولية، وينتظر أن يكون كذلك في العديد من المحاكم الأوروبية.

 

أظهرت هذه التداعيات أنّ دعم "إسرائيل" من دون قيد أو شرط مكلف للولايات المتحدة وللأوروبيين. واجهت إدارة بايدن اعتراضات من قبل الجناح التقدّمي والفئات الشبابية التي تعتبر أنّ سياسة واشنطن تجاه "إسرائيل" تتناقض مع المبادئ التي تدّعي الدفاع عنها. كذلك، أدّى انخراط إدارة ترامب في مشاريع "إسرائيل" التوسّعية في الشرق الأوسط إلى ارتفاع أصوات داخل حركة "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى" تنتقد ترامب نفسه، وتتحدّث عن جرائم "إسرائيل" بحقّ الفلسطينيين، وتدعو إلى ضرورة وقف الدعم المطلق لـ "إسرائيل".

 

هذه التداعيات، وإن ضرب بها المسؤولون الأميركيون حالياً عرض الحائط، لكنها تشكّل معياراً جديداً سيؤخذ بعين الاعتبار خلال تقرير السياسات حول الشرق الأوسط في المستقبل، وهو ما بدأ الأوروبيون يدركونه ويعملون به.

 

خامساً: غياب روسيا والصين

قبل حرب غزة، اعتبرت الولايات المتحدة أنّ الصين بدأت تنافسها فعلياً على الهيمنة في الخليج، خاصة بعد رعاية الاتفاق السعودي-الإيراني في آذار/مارس 2023، وكان يؤخذ بعين الاعتبار أنّ الروس لاعب أساسي يجب أن يؤخذ رأيه في الشرق الأوسط.

 

لكن مع اندلاع حرب غزة، وحتى قبل سقوط النظام السوري، امتنع كلّ من روسيا والصين عن تأدية أيّ دور حاسم في وقف النار أو إدارة الأزمة أو حلّها. وبهذا، تكون الولايات المتحدة قد استعادت دورها بوصفها القوة الوحيدة القادرة على التحرّك الفعّال، وإن جاء ذلك على حساب أولوياتها في شرق آسيا أو أوكرانيا.

 

في المحصّلة، أثبت حروب السنتين الماضيتين، أنّ الولايات المتحدة ليست قادرة على الانسحاب الكامل وتوكيل الأمن للحلفاء، لكنها غير راغبة في الغرق مجدداً في حروب طويلة ومكلفة في المنطقة تسمح بصعود الصين. لذلك، من المرجّح أن يقوم الأميركيون بعد انتهاء الحروب الحالية ببناء بنى أمنية واقتصادية جديدة تعتمد على الشراكات مع الحلفاء وتوكيلهم بمهام محدّدة، لكن مع بقاء القيادة الفعلية بيدهم.

 

فشلت تجربة "الانكفاء" وتأدية دور "الموازن الخارجي" التي بدأت مع أوباما واستمرت بعده، وبات على الأميركيين صياغة استراتيجية جديدة هجينة تجمع بين "الانخراط الانتقائي" و"الردع الموسّع"، تأخذ بعين الاعتبار التطوّرات والتداعيات التي نتجت عن حروب الشرق الأوسط.