2025/09/08

فرضيات حرب غزة: "بين "الفشل الاستخباراتي"... و"الاستدراج الاستراتيجي"


مع اقتراب نهاية السنة الثانية من حرب الإبادة على غزة، لا شيء يشي بإمكانية قبول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انهائها قبل ربيع أو صيف سنة 2026، وذلك للاستفادة مما يعتبرها "انتصارات" حققها لمشروع إسرائيل الكبرى، لتوظيفها في الانتخابات الإسرائيلية في تشرين الأول/ أكتوبر 2026.

مع توسع التحقيقات حول أحداث 7 أكتوبر 2023، تبرز ثلاث فرضيات:

1.    إسرائيل فوجئت بعملية "طوفان الأقصى".

2.    إسرائيل كانت لديها معلومات مسبقة عن استعداد حماس لهجوم أو اختراق للحدود، لكنها قللت من أهميتها ولم تتعامل معها بجدية، كما ذكرت تقارير صحفية مثل صحيفة هآرتس.

3.    المسؤولون الإسرائيليون، بمن فيهم نتنياهو، كانوا على علم بالهجوم لكن غضوا النظر، ربما لاستغلاله كذريعة لشن الحرب على غزة.

الفرضية الأولى والثانية تعكسان فشلاً استخبارياً وأميناً اسرائيلياً، وهو ما تم التركيز عليه اسرائيلياً سابقاً. لكن إذا أردنا البناء على الفرضية الثالثة، فما هي الأهداف التي أرادها الإسرائيلي من تلك الحرب؟

1.    إنهاء القضية الفلسطينية وتهجير أهل غزة

لطالما سعت إسرائيل إلى إيجاد سبل لإنهاء القضية الفلسطينية الى الأبد. وعليه، إذا شنت حماس هجومًا واسع النطاق، فقد تُبرر إسرائيل عمليات عسكرية كبيرة، بما في ذلك إعادة احتلال غزة أو تدميرها بالكامل.

2.   فخ لمحور المقاومة

يشير البعض، الى انه قبل 7 أكتوبر، كانت قوة الردع الإسرائيلية قد تآكلت (تعاظم قوة حزب الله، نفوذ إيران، صمود حماس). وعليه، بالسماح (أو عدم منع) هجوم حماس، يمكن لإسرائيل حينها تبرير رد فعل ساحق يُعيد ضبط قوة الردع ضد جميع الخصوم.

وهكذا، تقوم اسرائيل باستدراج حماس إلى حرب لا يمكنها الفوز بها، وجرّ حزب الله أو إيران إلى مواجهة، بشكل مفاجئ ومباغت، في ظل ظروف مواتية لإسرائيل. ودفع الشعوب العربية الى التطبيع على أساس أن "حركات المقاومة" لا تجلب سوى الدمار، بينما التحالفات مع إسرائيل تجلب الأمن والاستقرار والازدهار الاقتصادي.

بهذا المنطق: ألم قصير المدى مكسب استراتيجي طويل المدى.

3.   خطط استراتيجية مُعدّة منذ فترة طويلة

لطالما أراد الإسرائيليون تغيير الشرق الأوسط، وفرض سيطرتهم على المنطقة. منذ حرب تموز عام 2006 استثمرت إسرائيل بكثافة في الاستعداد لمواجهات واسعة النطاق: أنظمة الدفاع الصاروخي، وحرب الطائرات بدون طيار، والقدرات السيبرانية، والعقائد العسكرية "متعددة الأبعاد". ولأنها باتت مستعدة لها، وللسير في مخطط ضرب "محور المقاومة، ذهبت اليها.

وهكذا، قد تُبرّر الحرب في غزة اتخاذ إجراءاتٍ أكثر عدوانيةً في لبنان وسوريا، وحتى إيران، تحت شعار "هزيمة الإرهاب". وهذا يتماشى مع فكرة رغبة إسرائيل في إعادة رسم خطوط الأمن الإقليمي قبل أن تُعزّز إيران أو حلفاؤها نفوذهم أكثر.

4.   التحول الاستراتيجي الأميركي نحو آسيا

بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، وانشغال الأميركيين ومعهم حلف الناتو باستنزاف روسيا، بدأ الأميركيون مرحلة استفزاز الصين لدفعها الى "فخ" الهجوم على تايوان. وبالتوازي، أوحت الأجواء، قبل هجوم حماس، أن التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل يسير بتقدم لافت.

وعليه، أدرك الإسرائيليون أن الأميركيين سيتخلون عن الاهتمام بالمنطقة لصالح الانخراط في شرق آسيا لمواجهة الصين، وفي أوروبا لمواجهة روسيا، معتمدين على ترتيبات السلام والتطبيع والاستثمارات الاقتصادية التي يعتبرون انها تؤمن لإسرائيل الأمن، ولهم النفوذ، وتترك المنطقة مستقرة.

وعليه، بإثارة حرب، قد تدفع إسرائيل الولايات المتحدة إلى إعادة الانخراط عسكريًا ودبلوماسيًا في المنطقة، وتزيد موقع إسرائيل في الاستراتيجية الأميركية، ما يضمن استمرار الدعم والأسلحة والمساعدات المالية.

5. التوقيت الاستراتيجي والانتخابات الأميركية

غالبًا ما يكون للحروب في إسرائيل بعد سياسي أميركي. مع اقتراب الانتخابات الأميركية (عام 2024 آنذاك)، ربما حسبت إسرائيل أن الحرب ستُلزم الحزبين الأميركيين بدعمها دون قيد أو شرط، خوفاً من ضغوط اللوبي وخشية خسارة الانتخابات.

6. الانقسامات الداخلية وخطر الحرب الأهلية

خلال صيف 2023، وبسبب الإصلاحات القضائية، بلغ الانقسام في الداخل الإسرائيلي حداً كبيراً، لدرجة أن العديد من المسؤولين الإسرائيليين توقعوا حرباً أهلية.

وهكذا، يمكن أن تكون الحرب وسيلة "لتوحيد" مجتمع مُجزأ من خلال خلق خطر خارجي، وحرب تطمس الخلافات الداخلية.

7. بقاء نتنياهو الشخصي

كان لنتنياهو، على وجه الخصوص، مكاسب كبيرة من الأزمة، فقد صرفت الانتباه عن الفضائح السياسية وخففت ضغط المعارضة الداخلية، ومنحته القدرة على تأجيل المحاكمات بذريعة الاستهداف الأمني.

وبعد أن كان نتنياهو يواجه مشاكل قانونية وتراجعًا في شرعيته. يمكن للحرب أن:

-  تحشد الدعم حوله كـ"قائد في زمن الحرب". وتجعل المجتمع الإسرائيلي يلتف حوله.

- تؤخر أو تُخمد حركات المعارضة، وتعطيه دفعاً لدى أحزاب اليمين.

- تسمح له بادعاء أهميته في مواجهة التهديدات الوجودية لإسرائيل.

 

في الخلاصة، تبقى هذه فرضية من الفرضيات التي من المبكر تأكيدها.

 لكن، على الأكيد، تكبدت إسرائيل خسائر فادحة، حيث عادت القضية الفلسطينية الى الواجهة العالمية والدولية، وتكبدت إسرائيل كلفة هائلة مركبة الأبعاد: الخسائر البشرية بين الجنود واستنزاف الجيش والإمكانيات العسكرية، التكاليف الاقتصادية الهائلة، التدهور الكبير في الصورة الدولية لإسرائيل واتهامها بارتكاب إبادة جماعية في محكمة العدل الدولية، تأجيج المشاعر المعادية لإسرائيل في المنطقة والعالم الخ...

 

2025/09/06

نظرية الدوائر الأربع: كيف تتعامل الصين مع الشرق الأوسط؟

شهدت الصين حدثين استثنائيين مهمين الأسبوع الماضي، وضعا الصين في ضوء الاهتمام الدولي، قمة منظمة شنغهاي التي انعقدت في تيانجين، والاحتفالات بالنصر على اليابان والعرض العسكري وخطاب الرئيس الصيني تشي جينبينغ بالمناسبة، والذي تضمن رسائل دولية متعددة وأهمها تجاه الولايات المتحدة الأميركية.

 

وفي هذا المشهد الصيني الذي يشي بتعاظم القوة، يتطلع العديد من شعوب الجنوب العالمي، وخاصة شعوب الشرق الأوسط، إلى صعود صيني يوازن القوة الأميركية، التي يراها العديد في المنطقة بأنها منحازة، خاصة في ظل الدعم المطلق وغير المسبوق لـ"إسرائيل"، التي تمارس حرب الإبادة في غزة بدعم أميركي واضح.

 

فهل تستطيع الصين أن تقوم بهذا الأمر، وهل هناك أمل لشعوب المنطقة بصعود صيني موازٍ يسهم في توازن يحصّل لهم حقوقهم وتطلعاتهم؟

 

"العالم" في النظرة الأمنية الصينية

بعد وصول الشيوعيين إلى الحكم عام 1949، بات المحفز الأساسي للسياسات الخارجية الصينية ينبع من رؤية الصين للتهديدات المحتملة، بحيث تمّ تقسيم العالم إلى "دوائر أربع"، على النحو التالي:

 

- تشمل الدائرة الأولى أراضي الصين نفسها، بما في ذلك تايوان والتيبيت وشينجيانج. في هذه الدائرة تحدد الصين التهديدات لأمنها من الجهات الفاعلة الأجنبية، وتقلبات الاقتصاد العالمي، ونمو المنظمات غير الحكومية في الداخل الصيني، وانتقادات حقوق الإنسان.

 

- الدائرة الثانية وهي المحيط المباشر للصين. وتنبع المخاوف الأمنية الصينية في هذه الدائرة من عشرين دولة مجاورة، بما في ذلك سبع من أكبر دول العالم، وخمس دول مزقتها الحرب، وتسعة أنظمة غير مستقرة. وتقع تايوان في الدائرتين الأولى والثانية.

 

- تتكون الدائرة الثالثة من أنظمة إقليمية مجاورة عددها ستة، ويتضمن كل نظام اقليمي عدة دول.

 

- تشمل الدائرة الرابعة العالم كله خارج نطاق الجوار الصيني المباشر والأنظمة الإقليمية المجاورة.

 

تعتبر هذه المنطقة أساسية للمصالح الاستراتيجية للصين في تأمين الاستقرار، حيث تهدد سياسات الحرب أو تغيير النظم مصالح الصين الاقتصادية وعلاقاتها الدبلوماسية. لكن الصين تفتقر إلى الموارد اللازمة لتعزيز الأيديولوجيات، ودعم الأنظمة الحليفة، أو بناء وجود عسكري كبير في هذه الدائرة.

 

العلاقة الصينية مع الشرق الأوسط

تعود علاقة الصين بالشرق الأوسط الى التاريخ القديم، مع وجود روابط تجارية واقتصادية تعود إلى أكثر من ألفي عام. وخلال عهد أسرة تانغ (القرن السابع)، سافر التجار والكهنة البوذيون الصينيون عبر طريق الحرير، ما أرسى الأساس لتفاعلات معقدة ومتنوعة تميزت بالتبادل الثقافي والتجارة والدبلوماسية. وازدهرت التجارة البحرية خلال عهد أسرتي مينغ وتشينغ، حيث وصلت السفن الصينية إلى موانئ المنطقة وبالتحديد ما يعرف حالياً بإيران والعراق ومصر.

 

أما سياسياً واستراتيجياً، كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا "خارج نطاق اهتمام الصين"، وذلك استنادًا إلى "النظرة الصينية القديمة للعالم المتمثلة في" الدوائر المركّزة "، والتي كانت تعتبر منطقة الشرق الأوسط بمنزلة "المناطق الداخلية الغربية لمحيطها الغربي".

 

عملياً، انتقلت الصين إلى الدائرة الرابعة، مع بدايات القرن الحادي والعشرين، لتلبية العديد من الاحتياجات: فتح أسواق جديدة، تأمين إمدادات الطاقة، وتعزيز آفاق الاستثمار، والسعي لكسب الدعم الدبلوماسي.

 

وبعد إطلاق "مبادرة الطريق والحزام"، أصبح الشرق الأوسط منطقة استراتيجية وحيوية للاقتصاد الصيني كمفترق طرق عالمي لا غنى عنه، مع آثار جيو-استراتيجية كبيرة على تلك المبادرة. وقبل حرب أوكرانيا كان حوالى 50٪ من واردات الصين من النفط تأتي من الشرق الأوسط، لكنها انخفضت لاحقاً بعد تركيز الصين على استيراد النفط الروسي.

 

وعليه، هل ستأتي الصين لمنافسة الأميركيين وفرض نفسها لاعباً موازياً في الشرق الأوسط؟

 

لفهم استراتيجية الصين الحالية في الشرق الأوسط، يجب أن نلحظ الحقائق التالية:

 

أولاً: الصين دولة براغماتية تهدف إلى تحقيق مصالحها (خاصة الاقتصادية) في الشرق الأوسط، وبالتالي هي تقيس تدخلاتها بحسب "الجدوى".

 

وبقياس الجدوى، يترابط سلوك الصين وسياستها الخارجية بشكل وثيق مع تصورات الصين للتهديدات الأمنية، وهكذا تبرز متغيرات ثلاثة ذات أهمية قصوى في تشكيل استراتيجيات وبرامج الصين في الخارج:

 

أ) العنصر السياسي الذي يعتمد على ثلاثة مكونات: تعزيز النظام السياسي في الصين، وحماية تماسك الدولة داخل الحدود البحرية والإقليمية، ومواجهة التهديدات الخارجية والداخلية.

 

ب) القوة العسكرية اللازمة لحماية الدولة وتعزيز مصالحها.

 

ج) تقدم الاقتصاد الصيني وازدهاره.

 

ثانياً: ترتبط سياسة الصين في الشرق الأوسط بهواجسها واستراتيجيتها في الدائرة الأولى والثانية، وبالتالي سياستها الشرق أوسطية ليست متغيراً مستقلاً، بل هي متغير تابع يجب تفسيره على أساس تصوّر الصين للتهديدات والمصالح في شرق آسيا.

 

في المرحلة الراهنة، تفضل الصين "إعادة انخراط" الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. إن "الانخراط العميق" للولايات المتحدة في أوروبا (لمواجهة روسيا) والشرق الأوسط (للحفاظ على نفوذها وأمن "إسرائيل") من شأنه أن يؤخر أو يقلل من انخراط الأميركيين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لاحتواء الصين.

 

وانطلاقاً مما سبق، تبدو الصين- حتى الآن- غير راغبة في تغيير البنية الأمنية التي أنشأتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أو في منافسة الأميركيين على النفوذ في الشرق الأوسط. لذا، لن تكون الصين في المدى القريب بديلاً عن الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بل ستظل لاعباً اقتصادياً مؤثراً أكثر من كونها قوة تسعى إلى الهيمنة.