2025/10/28

تحوّل الدور الأميركي في لبنان: من الوساطة إلى إدارة الهيمنة

نقلت قناة "كان" الإسرائيلية عن مسؤولين إسرائيليين أنّ ضباطاً أميركيين موجودون حالياً داخل مقرّ القيادة الشمالية في صفد، ويتابعون العمليات على لبنان لحظة بلحظة، ما يعني أنّ العمليات العسكرية في لبنان تتمّ بالتنسيق مع الأميركيين.

 

شهد الدور الأميركي في لبنان خلال الأشهر الأخيرة تحوّلاً نوعياً، حيث انتقل من موقع "الوسيط الدبلوماسي" الذي يسعى إلى احتواء التصعيد بين "إسرائيل" وحزب الله، إلى موقع "الشريك المباشر" في إدارة ميزان القوى على الجبهة اللبنانية ـــــ الإسرائيلية، حيث تسعى الولايات المتحدة الى ترتيب مكوّنات النظام الإقليمي الفرعي (خاصة في المشرق العربي) ليتوافق مع هندستها الإقليمية الأوسع في الشرق الأوسط الموسّع الذي يمتد من إيران وصولاً إلى المغرب العربي، مروراً بالخليج.

 

ومنذ ما بعد إعلان وقف النار في غزة، بدأ الدور الأميركي يتخذ طابعاً ميدانياً واستراتيجياً أكثر انخراطاً، يمكن قراءته ضمن أربعة مسارات مترابطة:

 

1هندسة الردع والانتقال إلى "إدارة النظام"

يعكس الوجود الميداني للوحدات الأميركية في صفد، والإدارة الأميركية للجنة وقف النار (الميكانيزم)، ووجود جنود أميركيين على حدود القطاع مع غزة، وزيارات أميركية للمحافظة على الهدوء في غزة، انتقال الأميركيين من موقع المراقب إلى "مدير للنظام". لم تعد الولايات المتحدة تكتفي بدعم "إسرائيل" سياسياً وعسكرياً واستخباراتياً، بل أصبحت طرفاً فاعلاً في تنظيم قواعد الاشتباك ومراقبة وقف النار.

 

هذا الدور يتجاوز مفهوم "إدارة الأزمة" التقليدي إلى "هندسة البيئة الاستراتيجية" ذاتها، حيث تفرض القوة العظمى قواعد اللعبة وتحدّد المسموح به وغير المسموح.

 

ومن خلال الحضور العسكري والدبلوماسي والتهديدات بالعواقب، والضغوط على لبنان للتفاوض المباشر، تمارس الولايات المتحدة شكلاً من "الردع بالنيابة"، مما يرفع التكلفة المتوقّعة لامتناع اللبنانيين عن الخضوع للشروط الأميركية ونزع سلاح حزب الله، ويضمن بقاء التوتر تحت سقف السيطرة الأميركية.

 

2الدبلوماسية القسرية

تعتمد الولايات المتحدة في مقاربتها للبنان ما يُعرف في أدبيات العلاقات الدولية بـ "الدبلوماسية القسرية" (Coercive Diplomacy)، أي المزج بين التفاوض والضغط لتحقيق أهداف سياسية من دون اللجوء إلى الحرب.

 

تسعى الولايات المتحدة عبر مبعوثيها (توم برّاك ومورغان أورتاغوس) إلى فرض إيقاع تفاوضي جديد على لبنان، بحيث لا تكون المحادثات حول ترسيم الحدود أو تنفيذ القرار 1701 شأناً لبنانياً ـــــ إسرائيلياً فقط، بل جزءاً من رؤية أميركية أشمل. هذا المسار التفاوضي لا يعكس وساطة تقليدية، بل يتمّ استخدام التهديد الضمني بالقوة والحرب ودفع أثمان باهظة (بحسب تعبيرات توم برّاك) لدفع لبنان نحو قبول الشروط الإسرائيلية ـــــ الأميركية.

 

3التهديد كاستراتيجية هيمنة

ما زال لبنان ـــــ بنظر الأميركيين ـــــ جزءاً من استراتيجية أميركية ـــــ إسرائيلية لتقليص نفوذ إيران وإنهاء محور المقاومة. من هذا المنظار، فإنّ قيام الأميركيين بضبط التوازن بين "إسرائيل" وحزب الله يخدم استراتيجية "إدارة التهديد" لا القضاء عليه. هذه الاستراتيجية تشير إلى أنّ الولايات المتحدة لا تريد حرباً شاملة، لكنها في الوقت نفسه لا تسعى لسلام فعليّ في لبنان حالياً؛ بل تفضّل حالة التوتر المحسوبة.

 

هذا التوازن المقصود يندرج ضمن ما يسمّيه منظّرو العلاقات الدولية بـ "الهيمنة غير المباشرة"، حيث تُبقي القوة المهيمنة النظام الإقليمي في حالة توتر محسوب يسمح لها بالتحكّم في وتيرة الصراع واتجاهاته.

 

هذا النهج يحوّل لبنان إلى "ورقة ضغط" في الملفات الإقليمية الأوسع، وهو نموذج كلاسيكي للهيمنة غير المباشرة، حيث تُستخدم الدولة الضعيفة كأداة في صراع القوى الإقليمي والعالمي.

 

4هندسة الوعي كأداة للهيمنة

حالياً، يتمّ شنّ حرب نفسية وإعلامية شرسة على لبنان تلاقي العدوان الإسرائيلي المستمر منذ ما بعد وقف إطلاق النار، حيث يتمّ تهديد اللبنانيين بحرب إسرائيلية كبرى وعقوبات وعزل وحصار في حال لم يتمّ نزع سلاح حزب الله ـــــ وهو هدف إسرائيلي وشرط للبدء بعملية التفاوض. هذا النمط من الخطاب يهدف إلى خلق ما يسمّيه أنطونيو غرامشي بـ "اللحظة المهيمنة" (Hegemonic Moment)، أي تلك اللحظة التي تصبح فيها شروط القوة الكبرى مقبولة اجتماعياً بوصفها "الخيار الواقعي" أو "المنطقي".

 

وهكذا، يتمّ تقديم الشروط الأميركية في لبنان على أنها "منطقيّة" أو "الخيار الواقعي الوحيد"، مع العلم أنّ الأميركيين يسعون إلى إدارة الوعي العامّ من خلال خطاب مزدوج: إعلان دعم الاستقرار في لبنان، مع التغطية العملية على الضربات الإسرائيلية ووصفها بـ "الردّ الدفاعي". هذه السياسة تهدف إلى إبقاء البيئة اللبنانية في حالة ارتباك وضغط دائم، مما يجعل القبول بأيّ تسوية ترعاها واشنطن أمراً "واقعياً ومطلوباً"، وبالتالي إخضاع اللبنانيين للشروط الإسرائيلية.

 

في الخلاصة، منذ ما بعد وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2024، تحوّل الدور الأميركي إلى دور "المُنسّق-المدير" الذي يسعى إلى ضمان تفوّق "إسرائيل" التكتيكي من دون تفجير حرب، وإبقاء لبنان تحت سقف المراقبة والضبط لتحقيق ما يمكن تسميته "بالاستقرار التابع" وهو استقرار مصنوع ومُدار من الخارج، يخدم المصالح الجيوسياسية الأميركية ويحافظ على هيمنة "إسرائيل" الإقليمية، من دون أن يخدم بالضرورة مصلحة اللبنانيين أو يحقّق سلاماً عادلاً ومستداماً.  

2025/10/22

بين التأطير والغرس الثقافي: كيف يروّج الإعلام اللبناني للتفاوض مع "إسرائيل"؟

تتزايد محاولات بعض السياسيين اللبنانيين ترويج فكرة "التفاوض مع إسرائيل" كخيار واقعي في وسائل الإعلام اللبنانية، باستخدام آليات إعلامية محترفة، وذلك عبر الجمع بين نظرية التأطير الإعلامي (Framing Theory) ونظرية الغرس الثقافي (Cultivation Theory) وذلك لصوغ تصورات الرأي العام وتهيئته لقبول ما كان يعدّ سابقاً خطوطاً حمراء لبنانية يتفق عليها معظم اللبنانيين.

 

1-  نظرية التأطير الإعلامي

تركز نظرية التأطير الإعلامي على أن وسائل الإعلام لا تنقل الوقائع بشكل محايد، بل تقدمها من خلال "أطر تفسيرية" تختار الجوانب التي سيجري إبرازها وتهمش جوانب أخرى، وعلى هذا الأساس، فإن هذه الأطر تحدد كيفية فهم الجمهور للحدث وتؤثر في تفسيره له.

 

تعمد تلك الوسائل إلى تكرار هذه الأطر بشكل يجعل التفسيرات الإعلامية تبدو بديهية وطبيعية، وتخلق تصورات ثابتة لدى المتلقين. لاحقاً، يمتد التأطير ليشمل اختيار اللغة والمصطلحات، وتسليط الضوء على بعض القضايا، وإهمال قضايا أخرى بما يحقق أهدافاً سياسية أو اجتماعية محددة.

 

على سبيل المثال، تُصوّر وسائل الإعلام التفاوض مع "إسرائيل" على أنه حلّ عملي وضروري في ظل الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها لبنان، بينما يُقدّم أي رفض للتنازل على أنه عائق أمام "الاستقرار" و"الإنقاذ الاقتصادي".

 

 ويجري تأطير المفردات على هذا الأساس، فيتم استخدام "البحبوحة الاقتصادية"، "الازدهار" كنواتج مع تغييب الكلفة السياسية والاقتصادية وإغفال إقامة المقارنات مع دول أخرى، فمثلاً يُشار إلى "الانفتاح الدولي" على سوريا بسبب قبولها مبدأ التطبيع مع "إسرائيل" فيما يُغفل القصف الإسرائيلي المستمر للأراضي السورية، ورفض التخلي عن الجولان وجبل الشيخ والأراضي التي احتلتها "إسرائيل" بعد سقوط النظام.

 

2-  نظرية الغرس الثقافي

تركّز نظرية الغرس الثقافي على التأثير التراكمي طويل المدى لوسائل الإعلام في تشكيل تصورات الجمهور وقيمه، إذ يؤدي التعرض المستمر لرسائل إعلامية متشابهة إلى تبني الأفراد والمجموعات رؤية للواقع تتوافق مع الصورة المقدمة، حتى لو تعارضت مع تجاربهم الشخصية المباشرة.

 

ولذلك، فإن قوة الغرس الثقافي تكمن في تأثيره البطيء والمتراكم، الذي يغير الثقافة والسلوك الاجتماعي تدريجياً دون أن يشعر الأفراد بالتغيير الفوري.

 

وهكذا، تُكرّر وسائل الإعلام فكرة أن "التفاوض هو الحل" في مختلف البرامج والتحليلات، ما يجعلها أقرب إلى البديهية لدى الجمهور المتلقي. هذا التكرار يخلق ما يعرف بـ "تأثير الحقيقة الوهمية"، حيث يميل الناس إلى تصديق المعلومات التي يتعرضون لها باستمرار.

 

وفي مجال الغرس الثقافي، تُقدّم "إسرائيل" على أنها "شريك سلام" و"جارة طبيعية"، مع تجاهل الإبادة في غزة، والقصف المستمر وجرائم الحرب في لبنان واحتلال الأراضي اللبنانية، وانتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين الخ... ويُركّز على التطور الاقتصادي والانفتاح الدولي، ما يخلق صورة إيجابية جزئية تُطمس المخاطر الحقيقية.

 

وتُبث تقارير عن التعاون الاقتصادي في دول عربية أخرى لترويج فكرة أن التطبيع "حتمي" و"ليس تنازلاً"، ويتم استهداف الشباب عبر منصات التواصل الاجتماعي وبرامج الشباب، لتشكيل جيل يرى "إسرائيل" واقعاً يمكن التعامل معه بدلاً من كونها "عدواً وجودياً".

 

وعليه، يعمد التأطير الإعلامي الى تحديد زاوية العرض واللغة، وأي الجوانب يجب إبرازها وأيها يجب إخفاؤها، أما الغرس الثقافي فيعمل على تثبيت هذه الرسائل على المدى الطويل، ليصبح الجمهور متأثراً بشكل تدريجي بتلك العناصر المؤطرة.

 

يمكن اعتبار التأطير مرحلة فورية واستراتيجية لتقديم الفكرة، بينما الغرس الثقافي يمثل تأثيرًا بطيئًا ومستدامًا يغير الثقافة والسلوك الاجتماعي تدريجيًا. وهكذا، ومن خلال الجمع بين هاتين النظريتين، تسعى بعض وسائل الإعلام اللبنانية الى إعادة صوغ الخطوط الحمراء الوطنية تدريجيًا، تمهيداً للانتخابات النيابية القادمة حيث سيكون موضوع "إسرائيل" والتفاوض والتطبيع ونزع السلاح أحد أبرز العناوين الانتخابية القادمة.

   

2025/10/16

لماذا توقفت الحرب؟ قراءة خطاب ترامب في الكنيست

في خطاب مليء بالمعاني والرسائل والمفردات ذات الدلالات، وقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الكنيست الإسرائيلي وألقى خطاباً مطوّلاً، تحدّث فيه عن رؤيته للسلام ولمستقبل "إسرائيل" في المنطقة، وغيرها من الأمور التي تعتبر هامّة في فهم دوافع ترامب للضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لوقف الحرب في غزة.

 

وإذا كانت الأسباب التي دفعت ترامب لممارسة تلك الضغوط ما زالت غير معروفة بالكامل، يمكن أن نستنتج بعض المؤشرات من فحوى الخطاب، الذي نجد فيه رسائل للداخل الأميركي كما لـ "إسرائيل" والعالم.

 

ماذا يمكن أن نجد في الخطاب:

 

أولاً: رسائل إلى قاعدته المتديّنة (المسيحية الصهيونية)

احتوى الخطاب على الكثير من الرمزيات الدينية، مثل "الإله القدير- إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب"، و"عصر الإيمان والرجاء والله"، "هذه أرض - العهد، وشعب- العهد"، و"السلام، أعظم عطايا الرب" إلخ...

 

وهكذا، استخدم ترامب لغة توراتية صريحة ليُصوّر نفسه على أنه يعمل وفقاً للمشيئة الإلهية، وهو بهذا لا يغازل اليهود في "إسرائيل" (خاصة الأثرياء منهم) والعالم فحسب، بل يخاطب قاعدته من الإنجيليين – خاصة الصهيونية المسيحية- مؤكداً أنّ دعمه لـ "إسرائيل" ليس سياسياً فحسب، بل هو أمر روحي وإلهي، وهذا يتوافق مع اللاهوت الصهيوني المسيحي الذي يؤمن أنّ استعادة "إسرائيل" وبقاءها مقدّمة لعودة المسيح مرة أخرى.

 

ثانياً: رسائل إلى قاعدته (لنجعل أميركا عظيمة مجدداً)

في معظم ثنايا الخطاب، يُخبر ترامب قاعدته أنه "يوقف الحروب بدلاً من تمويلها إلى الأبد"، وأنه قويّ استطاع أن يطلب من نتنياهو وقف الحرب واستعادة الرهائن، وهذا يحاكي تطلّعات جزء كبير من ناخبيه الذين أظهرت استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة أنهم باتوا ينحازون أكثر إلى الفلسطينيين بعد صور المجازر، خاصة الأجيال الأصغر سناً.

 

أما العبارات التي رفض ترامب فيها "الحروب "الأبدية" فهي تلاقي شريحة واسعة من جمهوره الذي يتشكّك في العولمة، والإنفاق على الدفاع في الناتو، والمساعدات الخارجية، ويرى في تمويل الصراعات الخارجية عوامل تسحب الأموال من الداخل الذي يحتاجها بشكل أكبر.

 

ثالثاً: رسالة واضحة إلى قاعدته من "القوميين" رافضي تعدّد الولاءات

كانت لافتة إشارته إلى اليهودية الثرية ميريام أديلسون وزوجها، وحيث سألها إذا كانت تحبّ "إسرائيل" أكثر أو أميركا، وأنها رفضت الإجابة عن هذا السؤال، ما يعني أنها تحبّ "إسرائيل" أكثر... وبالرغم من ذلك كال لها المديح والثناء.

 

في هذه الرسالة التي غلّفها بالمزاح، يريد ترامب القول بشكل غير مباشر: قد تُحبّ ميريام أديلسون "إسرائيل" أكثر من أميركا، لكن لا بأس. يُقرّ ترامب هنا، ضمنيّاً، بعدم ارتياح حركة "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" للولاءات المزدوجة أو نفوذ الجهات المانحة في السياسة الأميركية، لكنه يوجّه رسالة واضحة أن "تقبّلوا هذا الواقع، حتى لو كان لا يعجبكم".

 

وفي هذه رسالة أيضاً إلى المانحين اليهود الأثرياء بأنّ ترامب لا يجبركم على اختيار ولاءاتكم، وبالتالي يمكنكم الاستمرار بالإنفاق من أجل التأثير على السياسة الخارجية (قام بشكرها علناً على التأثير في السياسة الخارجية)، وهكذا يسعى ترامب إلى الحفاظ على شبكات المانحين مع السعي إلى جذب الناخبين القوميّين الحذرين من انقسام الولاءات.

 

رابعاً- ترامب صانع السلام

في أجزاء كثيرة منه، لم يكن هذا الخطاب مُتعلّقاً بـ "إسرائيل" وحدها، بل تحدّث عن السلام "الإبراهيمي" وعن رغبته بإنهاء حرب أوكرانيا وحدّد شروطاً للتوصّل إلى اتفاق مع إيران، وانتقد الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه (بايدن الأسوأ وبعده أوباما).

 

في هذه الأجزاء يُصوّر ترامب نفسه على أنه "صانع الصفقات الخارجية" الذي يُنهي الفوضى التي سبّبتها النخب الحاكمة في الولايات المتحدة قبله.

 

خامساً: تبرير إيقاف الحرب

احتوى الخطاب عبارات واضحة موجّهة إلى الإسرائيليين وجمهور اليمين الإسرائيلي: "أظهرت إسرائيل قوتها؛ والآن أظهروا عظمتها."

 

وإلى نتنياهو تحديداً: "لقد انتصرت. لا يمكنك هزيمة العالم. حان وقت السلام" إضافة إلى "سيُذكرك الناس بهذا أكثر بكثير مما لو حافظت على هذا الوضع: اقتل، اقتل، اقتل".

 

تلك العبارات الصريحة تُبرز إصراره على أنّ "النجاح العسكري" يجب أن يُفسح المجال الآن للدبلوماسية، ويربط وساطته بمصير تاريخي "دخول إسرائيل عصراً جديداً"، حيث "السلام الإبراهيمي والتطبيع هو الجائزة الكبرى"، ويصوّر وقف إطلاق النار كفعلٍ غيّر العالم بفضل قيادته.

 

في النتيجة، كان خطاب ترامب مليئاً بالرسائل التي تشي بأنّ الضغوط التي مارسها لوقف الحرب، كانت نتيجة لتململ القواعد الشعبية في الولايات المتحدة خاصة جمهوره المخلص، ووقوف "العالم" ضدّ "إسرائيل" وبالتالي من الصعب "هزيمة العالم"، وأنّ "إسرائيل" ستخسر قدرتها على تحقيق "اتفاقيات التطبيع" إذا استمرت بالقتل، وأنّ " الانتقام لم يعد يحقّق شيئاً"... واذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ ترامب كان  قد دعا نتنياهو مراراً إلى "إنهاء المهمة"، فكما يبدو وصل ترامب إلى قناعة بعجز "إسرائيل" عن "إنهاء المهمة" أي القضاء على حماس وتهجير الفلسطينيين من غزة.  

2025/10/10

هندسة القبول: كيف حوّلت "نافذة أوفرتون" رفض التطبيع إلى قبول؟

يعجّ الإعلام العربي عامة واللبناني خاصة بأسئلة يومية ونقاشات حول "مسار التطبيع مع إسرائيل" وتطفو على سطح النقاشات العامة في لبنان، عناوين "سبقتنا سوريا الى التطبيع" لماذا لا يستفيد لبنان، أو ادّعاءات أنّ "لبنان سيبقى خارج الركب بينما التحقت به سوريا وسيكون الازدهار والاستثمارات من نصيبها" إلخ...

 

واقعياً، إنّ ما يحصل ليس مجرّد "ثرثرة" إعلامية أو أسئلة تطرح بهدف النقاش، بل هي حملة منظّمة تتضمّن أدوات معروفة في وسائل الاتصال وهندسة الرأي العامّ، وتعتمد نظريتين أساسيتين "نافذة أوفرتون" و"نظرية التحريض"، فما هما وكيف تستخدمان لهندسة الرأي العام؟

 

أولاً- "نافذة أوفرتون" (The Overton Window)

هي نظرية سياسية تصف مدى قبول الرأي العام للأفكار والسياسات. تُصوّر هذه النافذة طيفاً من السياسات المقبولة من قبل الجمهور في وقت معيّن، على الشكل الآتي:

 

1.سياسات مقبولة (Standard): سياسات عادية ومقبولة على نطاق واسع.

 

2سياسات مقبولة بحذر (Sensible): مقبولة، ولكن قد تكون مثيرة للجدل بعض الشيء.

 

3سياسات مقبولة هامشياً (Acceptable): ليست شائعة، ولكن يمكن مناقشتها.

 

4.سياسات غير مقبولة (Unpopular): غالباً ما يتمّ رفضها، ولكن يمكن طرحها للنقاش.

 

5سياسات متطرّفة (Extreme): مرفوضة تماماً من قبل الغالبية العظمى.

 

تقوم هذه النظرية على طرح "كيف يمكن تحريك النافذة لجعل الأفكار التي كانت مرفوضة تبدو مقبولة أو قابلة للنقاش؟". وتقترح النظرية الآلية الآتية:

 

1.التطبيع (Normalization): يتمّ تقديم الفكرة المتطرّفة بشكل متكرّر في الخطاب العامّ (غالباً عبر وسائل الإعلام أو منصات التواصل).

 

2.إطار جديد (Framing): تتمّ إعادة صياغة الفكرة بلغة أقلّ تطرّفاً أو من خلال ربطها بقيم مرغوبة (الازدهار والاستثمارات الخارجية).

 

3.التأييد (Endorsement): يقوم أشخاص ذوو مصداقيّة نسبية أو حسابات مؤثّرة (جزء من شبكة الذباب الإلكتروني) بمناقشة الفكرة وكأنّها خيار شرعي ( "لِمَ لا؟"/ أما آن الأوان للتفكير بها"؟)

 

4.القبول (Acceptance): مع التكرار، تصبح الفكرة مألوفة وتدخل تدريجياً في حيّز "المقبول مناقشته".

 

ثانياً- نظرية التحريض (Agitation Theory)

تركّز هذه النظرية على كيفيّة استخدام الرسائل الإعلامية المُحرّضة لاستثارة المشاعر السلبية (مثل الخوف، الغضب، الكره، القلق) لدى الجمهور لتحقيق أهداف محدّدة، مثل تفكيك التماسك الاجتماعي أو إضعاف الثقة في المؤسسات أو حشد التأييد لسياسة معيّنة.

وتقوم هذه السياسة على آليات أهمها:

1.التكرار (Repetition): تكرار رسائل بسيطة وعاطفية لتثبيت فكرة في العقل الباطن (تعبنا).

2.التبسيط (Simplification): تحويل قضايا معقّدة إلى ثنائيات بسيطة (نحن وهم، ثقافة حياة مقابل ثقافة موت).

3التشويه (Distortion): تضخيم التهديدات أو تصغيرها وفقاً للأجندة المطلوبة.

4التوجيه (Channeling): توجيه الغضب أو الخوف المشتعل نحو عدو أو كبش فداء محدّد (مثل فئة اجتماعية، حزب، دولة).

 

وعلى هذا الأساس، فإنّ نافذة أوفرتون هي الإطار الاستراتيجي طويل المدى لتغيير ما يعتبره المجتمع "غير مقبول"، أما نظرية التحريض فهي التكتيك التعبوي قصير المدى لخلق الفوضى العاطفية وكسر المقاومة ضدّ هذا التغيير.

 

ثالثاً- قضية التطبيع مع "إسرائيل"

لعقود طويلة، كان التطبيع مع "إسرائيل" من دون حلّ عادل للقضية الفلسطينية يقع في أقصى الهامش- "المرحلة المتطرّفة" في الرأي العامّ العربي (واللبناني) الرسمي والشعبي، وكان يعادل "الخيانة". بهدوء، وعلى مراحل، حصلت عملية تحريك لهذه النافذة بطريقة منظّمة:

 

1المرحلتان الأولى والثانية: نقلها من "المتطرّفة" إلى "المقبولة هامشياً"، حيث يتمّ ترويج مصطلحات مخفّفة: "التعاون من أجل الاستقرار الإقليمي"، أو "مصالح مشتركة في مواجهة تهديدات مشتركة" (إيران كعدو مشترك). لم يعد الأمر يعبّر عن "حبّ لإسرائيل"، بل عن "ضرورة" براغماتية.

 

2.المرحلة الثالثة: من "المقبولة هامشياً" إلى "المعقولة": ظهور شخصيات إعلامية و"خبراء" في قنوات عربية رئيسية يطرحون أسئلة "جريئة": "هل حان الوقت لإعادة النظر في موقفنا؟" أو "كم كلّفنا رفض التطبيع؟". في المقابل، يقوم الذباب الإلكتروني بمهاجمة أيّ معارض لهذه "الجرأة" ويصفه بأنه "خشبي" أو "ممانع" أو  من"حرس الثورة الإيرانية" إلخ..

وبعدها، تحوّل الخطاب إلى "الاقتصاد" أو "السلام من أجل الازدهار"، مع التركيز على المنافع الاقتصادية الموعودة (الاستثمارات، الازدهار) وإخفاء الثمن الباهظ (تفريط في الحقوق، والقبول باقتطاع الأرض لمناطق عازلة إلخ).

3.المرحلتان الرابعة والخامسة: من "المعقولة" إلى "الشائعة" ثمّ "السياسة":

لا يعود النقاش هنا يدور حول "إذا" كان يجب التطبيع، بل حول "كيف" نطبّع لتحقيق أقصى استفادة. ويصبح النقاش حول آليات التعاون (السياحة، التجارة، الأمن) بدلاً من الشرعيّة الأخلاقية.

وهكذا، يتمّ تحويل النقاش من مجال الحقوق والسيادة إلى مجال المصالح المادية الصرفة، مما يخلق انقساماً بين من يفكّرون "بقلبهم" أو "الممانعون" أو "الخشبيون"، ومن يفكّرون "بعقلهم" (المؤيّدون للازدهار الاقتصادي)، وبمصلحة بلدانهم وتقدّمها أو "مَن يحبّون الحياة".

 

في النتيجة، تفاوت نجاح هذه الآليات بين دولة وأخرى في العالم العربي، فبينما ما زال اللبنانيون في المراحل ما بين الأولى والثالثة، انتقل العديد في العالم العربي إلى المرحلتين الرابعة والخامسة، وانتقلت الدول التي قامت بالتطبيع فعلاً الى المرحلة الأخيرة: "السياسة". وفي النتيجة، تمّ كسر الحاجز النفسي والمعنوي لدى المواطن العربي، وحوّلت "نافذة أوفرتون" الخطاب من منطقة "التابو" إلى مناطق ما بين "المقبول" و"المقبول مناقشته".

   

2025/10/03

مقاربة مختلفة لإشكالية حصرية السلاح في لبنان

منذ ما قبل الحرب الإسرائيلية، يطرح موضوع سلاح حزب الله على بساط البحث في النقاش السياسي والإعلامي في لبنان. وقد ازداد هذا الأمر بعد إعلان البيان الوزاري مبدأ "حصر السلاح بيد الدولة"، وهو ما وافقت عليه الكتل اللبنانية المشاركة في الحكومة، بمن فيها وزراء الثنائي.

 

لا شكّ في أن هناك توافقاً عاماً بين اللبنانيين على تفعيل سيادة الدولة، وحصر السلاح بيدها، وإن اختلفت الأطراف حول السبل لذلك والتوقيت والآليات. من هنا، نجد أن النقاش حول السيادة يمكن أن يطرح العديد من المقاربات التي يغفلها النقاش العام، وخصوصاً ضمن تعريف السيادة ودور الدولة، إذ تنطلق معظم النقاشات من المفهوم التقليدي للسيادة وتغفل مفاهيمها الحديثة المتطورة.

 

النموذج الكلاسيكي: السيادة كسلطة واحتكار القوة

 يؤكد المفهوم التقليدي للسيادة، الذي انطلق من مؤتمرات وستفاليا (1648)، سلامة الأراضي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وقدرة الحاكم على أن يفعل ما يريد ضمن الأراضي التي يحكمها. ومن ضمن هذا المفهوم، كان هناك بعدان للسيادة: البعد الخارجي والبعد الداخلي.

 

لاحقاً، حصل تطور في مصدر السيادة الذي تحوّل إلى الشعب، ولم يعد للحاكم المطلق (بأمر إلهي)، وترسّخت فكرة أن الدولة هي المصدر الوحيد للنظام القانوني، وهي الكيان الوحيد المخول بممارسة "العنف الشرعي" (ماكس فيبر). وانطلاقاً من فكرة فيبر، فإن أي جهة فاعلة غير حكومية تحمل أسلحةً إنما هي تحدٍّ مباشر لسيادة الدولة.

 

 النموذج المتطور: السيادة كمسؤولية

 شهد أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين تطورًا ملحوظًا في مفهوم السيادة، وخصوصاً في التسعينيات من القرن العشرين، بعد حصول الإبادة الجماعية في رواندا وحروب البلقان، فبرز تضارب بين مفهومي حقوق الإنسان والسيادة.

 

ورداً على تدخل حلف الناتو في كوسوفو، والدعوات التي صدرت لتطوير مفاهيم عالمية تسمح بالتدخل تحت عنوان "التدخل الإنساني"، قامت الأمم المتحدة بمبادرة لمناقشة موضوع التضارب بين مبادئ حقوق الإنسان والسيادة.

 

صدر تقرير اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول عام 2001، وحمل عنوان "مسؤولية عن الحماية"، واعتبر أن سيادة الدولة تنطوي على مسؤولية مزدوجة: خارجيًا، احترام سيادة الدول الأخرى، وداخليًا، حماية سكان الدولة من المجازر والفظائع.

 

ومع هذا المبدأ، الذي تمّ إقراره في القمة العالمية عام 2005، تحوّلت السيادة من "حق وسلطة" للحاكم إلى "مسؤولية" الدولة تجاه مواطنيها. وقد طوّر مفكرو العلاقات الدولية هذا المفهوم في السياق الداخلي، فاعتبروا أن السيادة تستلزم "مسؤولية الحماية protect"، و"مسؤولية التزويد provide"، و"مسؤولية ضمان رفاهية وأمن جميع المواطنين" (دنغ وآخرون، 1996). وعلى هذا الأساس، عندما تعجز الدولة أو لا ترغب في الوفاء بهذه المسؤوليات، تتآكل شرعيتها بشكل جذري، ما يخلق فراغًا غالبًا ما تكون الجهات الفاعلة غير الحكومية على استعداد تام لملئه.

 

الحالة اللبنانية

منذ الاستقلال، عانت الدولة اللبنانية من ضعف في بسط سيادتها على كامل أراضيها، إذ واجهت تحديات مثل الوجود المسلح في المخيمات الفلسطينية وفي الجنوب (فتح لاند)، ثم تفكك السلطة المركزية في الحرب الأهلية مع صعود الميليشيات، والاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني (1982-2000)، وصولاً إلى مرحلة النفوذ السوري المباشر. هذا المسار التاريخي ساهم في إضعاف مفهوم الدولة كمرجعية وحيدة للشرعية، ومهّد تدريجياً لنشوء نظام سياسي موازٍ يستمد قوته من الولاءات الطائفية والحزبية أكثر مما يستمدها من مؤسسات الدولة.

 

حالياً، يُشكّل المنظور التقليدي للسيادة أساس الخطاب السياسي للأحزاب السياسية، وكذلك جزءًا كبيرًا من خطاب المجتمع المدني الذي انبثق من حركة احتجاجات عام 2019. تنطلق هذه المقاربة السياسية من أن سلاح حزب الله يشكّل تهديدًا لسيادة الدولة اللبنانية، والحل: يجب على الدولة بسط سلطتها، ونزع سلاح الحزب، ودمج جميع قدراته العسكرية في الجيش اللبناني الرسمي.

 

على الرغم من مبرراتها، فإن الرواية تلك، وإن كانت سليمة منطقيًا من منظور قانوني تقليدي، إلا أنها تنطوي على نقطة ضعف بالغة الأهمية، إذ تتعامل مع السيادة كمسألة سلطة وسيطرة فحسب، متجاهلةً التحول العميق في النظرية السياسية والقانون الدولي نحو فهم السيادة كمسؤولية من قبل الدولة اللبنانية تجاه مواطنيها وأرضها.

 

إن سيادة الدولة اللبنانية يجب أن تنطلق ليس فقط من احتكارها للعنف الشرعي وحصر السلاح بيدها فحسب (وهو مبدأ مقبول من الجميع)، ولكن يجب أن يمتد- إضافة الى ما سبق- إلى مسؤولية الدولة عن الحماية (حماية الأرض والمواطنين من الاعتداء وحماية حقوقهم من المعتدين عليها (مثلاً حمايتهم من السطو الذي حصل على ودائعهم)، ومسؤولية توفير (الرعاية والرفاهية) لمواطنيها بغض النظر عن مناطق سكنهم، وعن طوائفهم، وتوفير الخدمات الأساسية (الكهرباء، المياه، الاستشفاء) وتأمين الفرص الاقتصادية.

 

وعلى هذا الأساس، فإن التحدي الأساسي الذي يقوّض سيادة الدولة اللبنانية ليس من الناحية العسكرية ووجود سلاح خارج إطار الدولة فحسب، بل هو مجموعات مبادئ أساسية تخلت فيها الدولة عن مسؤوليتها تجاه مواطنيها، ما جعلهم يلجأون إلى الأحزاب أو الطوائف لتأمينها.